تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : هل مصيبتنا في عدم اتباع العلماء؟ام في عدم اتّباع الحكم الشرع



عمر المقدسي
03-16-2004, 07:53 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

...هل مصيبتنا في عدم اتباع العلماء؟... ام في عدم اتّباع الحكم الشرعي؟

أثناء اتصال احد الاشخاص من امريكا ببرنامج الشريعة و الحياة، عاب هذا الشخص على من سبقوه بالاتصال انكارهم على الشيخ الضيف الذي كان يتحدث عن ان الاسلام دين اللاعنف و ان الجهاد كان دفاعياً دائماً و عن عدم تسمية الكفار كفاراً الى غيرها من المسائل.

هذا الشخص انكر و بشدة على من انكروا على الشيخ و اتهمهم بعدم العلم (مع انه لا يعرف اياً منهم)، و قال ان اساس مصيبتنا هي عدم احترامنا لمرجعياتنا و لعلمائنا و ان الشيعة هم افضل حالاً منا لما يكنوه من عميق احترامٍ و اتّباع لمرجعياتهم. و أضاف بأن الشيخ الضيف على درجة من العلم لا يباريه فيها هؤلاء و دعاهم الى الكفّ عن فعلهم هذا و اتّباع الشيخ فيما يقول.

لقد استوقفني هذا الكلام مع ان هذا الموضوع ليس بجديد لا بل هو قديمٌ متجدد و لا يفتأ العلماء قبل العامة يتحدثون عنه و هو موضوع "فقدان ثقة الامة بالمرجعيات و عدم احترامها".

و الموضوع فيه من الصحة الكثير و لكنني لست بصدد الحديث عنه هنا و انما الذي اريد التحدث عنه هو تعليقات الاخ المتصل. فهذا الشخص ليس واحداً من قلة بل انه يمثل نسبة كبيرة من ابناء الامة.

فما ان تناقش احدهم في مسألة معينة حتى يستشهد بقول فلانٍ من العلماء، و عندما تسأله عن الدليل تجده (على الاغلب) لا يعلم لديه به. فإذا كان كلام الشيخ خطأً و بينت له ذلك مسنوداً بالدليل الشرعي أجابك باجابات من نمط:

" ءأنت أعلم من فلان؟؟!"

و "أكيد فلان فلان يعلم ما يقول و عنده الدليل"

و"من أنت حتى تضع رأسك برأس فلان في علمه و معرفته؟!"

و هكذا فقد خلق لنا هذا النموذج من الناس طبقة من البشر لا يُسألون عمّا يقولون أو يفعلون و هم فوق كلّ تساؤلٍ أو استفسار.

كيف لا و هم من قد حازوا العلم و و حملوا القرآن و الحديث و عندهم من المعارف ما عندهم..

فكلّ ما علينا فعله هو أن نضع كامل ثقتنا بهم و نتّبعهم اتباعّاً "أعمى" لا نسأل فيه لا عن صغيرةٍ و لا كبيرة..

و لنا هنا أن نتساءل هل حقاً علينا الا نسأل و لا نطلب و لا نناقش؟

و مسألة أتباع العلماء في كل ما يقولون من غير نقاش ما أصلها؟

و هل ان مقدار ما يحمله الشخص من علم دليلٌ على علو مكانته عند الله؟

و هل هذا العلم يجعلُ كل ما يقول حكماً شرعياً؟

هناك فرقٌ كبير و بون شاسع بين "احترام" العلماء و "تقديسهم"، فالاحترام يقتضي من كل مسلم ان يسمع للعالم اذا قال و ان يتأدب في مخاطبته و ان يحترم رأيه حتى و ان خالفه طالما كان هذا الرأي شرعياً..

و لكن حين يصبح العالم (في أعين من يتّبعونه) بمثابة نبي مرسل لا ينطق عن الهوى و لا يخطئ و لا يناقش و لا يخالف فهذا هو التقديس بعينه..

يُروى أن بعض علماء الهند و هم من الاحناف كانوا يقولون ( إذا خالف القرآن قول أبي حنيفة لأولناه بحسب ذلك القول) فأي تقديس بعد هذا؟

و هؤلاء نجد أمثالهم كثير في يومنا هذا ممن يتأولون اللآيات و الاحاديث الصريحة لتوافق "الفتاوى" المعوجّة التي جاء بها "علماؤهم"، فإذا ما غُلّقت امامهم السبل و لم يجدوا ما يؤولون به طالعونا بالقول " أكيد فلان يعلم ما يقول"..

يتبع

عمر المقدسي
03-16-2004, 07:54 PM
و اذا ما نظرنا الى فعل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و سلم معه (و هو النبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى) لنجد أنهم لم يكونوا يتوانون لحظة واحدة عن الاستفسار و السؤال و تحري الاسباب لقولٍ أو عملٍ صدر عن رسول الله صلّى الله عليه و سلم..

و من الامثلة الجلية على ذلك هو فعل الحباب بن المنذر يوم بدر حينما لم يعجبه المنزل الذي اختاره رسول الله صلّى الله عليه و سلم للجيش، فلم يسكت و يقول "هذا رسول الله و هو أعلم بما يفعل" و لكن بدلا من ذلك فقد سأله "أوحيٌ من عند الله أم الرأي و الحرب و المكيدة؟"، فلما كان الجواب الثاني أشار رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه و سلم أن يغير المكان و قد كان..

و من هذه الحادثة يمكننا ان نستشف امرين، الاول هو التأدب في الخطاب و قد رأينا كيف أن الحباب قد طرح تساؤله بمنتهى الادب..

اما الثاني فهو أن المسلم لا يتّبع بدون فهمٍ و لا بصيرة، فالحباب اراد ان يعرف ما اذا كان الامر من عند الله (أي حكم الله) فحينئذٍ يتّبع بدون تردد، أما اذا كان مجرد رأي فهو يحتمل الخطأ و الصواب و هو ما كان فعلاً..

هذا و الحادثة كانت مع رسول الله صلّى الله عليه و سلم فكيف اذا كانت مع بشر عادي حتى و ان كان عالماً؟

فمن الاولىأن يتحرى المسلم أقوال العلماء و افعالهم و ان يسأل عنها و يتبينها قبل قبولها أو رفضها.. إن العلماء هم بشرٌ أولاً و آخراً و هم يخطؤن و يصيبون فلا يجوز بأي حالٍ من الاحوال تقديسهم أو تقديس أقوالهم أو أفعالهم..

و قد وصف الله تبارك و تعالى اليهود و النصارى بالمشركين لاتّباعهم الاحبار و الرهبان على غير بصيرة (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)..

و في هذه الآية يقول الامام القرطبي رحمه الله :" قَالَ أَهْل الْمَعَانِي : جَعَلُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ كَالْأَرْبَابِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلّ شَيْء".

وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيب مِنْ ذَهَب . فَقَالَ : ( مَا هَذَا يَا عَدِيّ اِطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَن ) وَسَمِعْته يَقْرَأ فِي سُورَة ( بَرَاءَة ) " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه وَالْمَسِيح اِبْن مَرْيَم " ثُمَّ قَالَ : ( أَمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اِسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ ) .

و هذا و الله هو عين ما يجري اليوم، فكل يومٍ فتوى جديدة تبدأ بمقدمة طويلة عريضة عن حرمة أمرٍ معين و عظمه عند الله (و كأن العالم يريد أن يخبرنا سلفاً بأنه يعلم ما سنحاججه به) ثم تبدأ الانعطافة بكلمة "ولكن" ثم تنهال المصطلحات من "مصلحة المسلمين" و "الاضطرار" و "اخف الضررين" و "روح النص" و .... و .... قائمة لها أولٌ و ليس لها آخر..

و على هذه الاسس طلعت علينا فتاوى "جواز شراء البيوت في الغرب بعقود ربوية" و "جواز خلع المحجبات لحجابهنّ في الغرب اذا ما تعرضن للمضايقة" و غيرها كثير، ثم كان الادهى و الامر قبيل الحرب الصليبية على افغانستان فكانت الفتوى بــ " جواز مشاركة المسلمين في الجيش الامريكي الغازي لانهم ان لم يشاركوا قد يحرمون من حقوق المواطنة و قد يوصفون بالخيانة" و لا حول و لا قوة الا بالله..

كل ذلك و أخواننا "المتّبعين المخلصين" يجدون العذر تلو العذر لهذا العالم او ذاك..

تبقى مسألة "هل ان مقدار ما يحمل العالم من علم دليل على عظم منزلته عند الله؟"

فكثيراً ما نُهاجَم اذا ما اردنا ان نتساءل عن شرعية فتوى عالمٍ من العلماء و يبادئنا المُهاجِم بالقول " احذر يا فلان فلحوم العلماء مسمومة"، و بالمناسبة فكثير ممن يحذروننا من "السموم" هم انفسهم من يهاجمون مخالفيهم من العلماء بأقذع الاوصاف و أشنع التهم و يجعلون المسألة شخصية بدلا من مناقشة الافعال و الاقوال..

و لأجيب على التساؤل أبدأ بآية لطالما استوقفتني لما فيها من معنىً عظيمٍ و مخيف في نفس الوقت، يقول الله تبارك و تعالى في سورة الاعراف (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)..

عن هذه الآية يقول الامام القرطبي رحمه الله " ذَكَّرَ أَهْل الْكِتَاب قِصَّة عَرَفُوهَا فِي التَّوْرَاة . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِين الَّذِي أُوتِيَ الْآيَات . فَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس : هُوَ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء , وَيُقَال نَاعِم , مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فِي زَمَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَكَانَ بِحَيْثُ إِذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْش . وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا " وَلَمْ يَقُلْ آيَة , وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ اِثْنَتَا عَشْرَة أَلْف مِحْبَرَة لِلْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ . ثُمَّ صَارَ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي أَنْ " لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِع " . قَالَ مَالِك بْن دِينَار : بُعِثَ بَلْعَام بْن بَاعُورَاء إِلَى مَلِك مَدْيَن لِيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَان ; فَأَعْطَاهُ وَأَقْطَعَهُ فَاتَّبَعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِين مُوسَى ; فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات . رَوَى الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ بَلْعَام قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّة , وَكَانَ مُجَاب الدَّعْوَة...".

فهذا الرجل قد بلغ من العلم مبلغا نادراً ما بلغه أحد في كل تاريخ البشرية (و اكاد اجزم ان لا احد من علماء اليوم يحمل مثله) و مع ذلك كان علمه وبالا عليه و لم يزده الا بعداً من الله (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).. أفبعد هذا الحديث هناك من يقول "فلان مكانته عظيمة عند الله لأنه يحمل من العلم الكثير الكثير مما لا يؤهلنا لمناقشته او مساءلته"؟

و نحن نقول لهؤلاء " إن الرجال يقاسون بالحق و ليس الحق يقاس بالرجال "..

فمتى ما وافق قول العالم و فعله الحق كنّا له تبعاً و فيما عدا ذلك فإننا نبرأ الى الله من كل قول او عمل ليس عنده فيه من الله برهان..

و الآن ما هو اساس مصيبتنا؟

اللهم انا نسألك أن تجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه..

و ممن يبحثون عن الحق فيمحصون الاقوال ابتغاء مرضاتك..

و ممن يحبون فيك و يبغضون فيك..

اللهم و لا تجعل لشياطين الانس أو الجنّ علينا سبيلاًً..

و لا لاهواء نفوسنا علينا سلطانا..

اللهم آميـــــــــــــــــــن..