تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نداء الفطرة لدى الرجل والمرأة



aboumoujahed
03-12-2004, 11:12 PM
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمـالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

هذه معالجة سريعة لهذا الموضوع المهم (الفطرة)، وبيان لأهمية مراعاتها، وموقف الإسلام منها، وموقف الجاهلية الأولى، والجاهلية المعاصرة.
وهي محاولة قابلة للتعديل والإصلاح، والمؤمنون نصحة، فرحم الله امرءًا نبهني على خطأ أو نقص لاستدراكه بإذن الله.
والله الموفــق،،،
المؤلـف
أيها الإخوة والأخوات:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به أُتي بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقال: اشرب أيهما شئت، فأخذ اللبن فشربه، فقيل: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك"(1).

وفي لفظ: "الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك"(2).

وفي لفظ: " أصبت أصاب الله بك، أمتك على الفطرة"(3).

وهذا الحديث مدار موضوعنا هذا، فقد بيَّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فوائد:

الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، رُكِّب عليها، وهي ما يسمى بـ"الفطرة"، فالفطرة: هي ما جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها خروجًا عن الإنسانية، أو إخلالاً بها.

وهذا المعنى يُفهم من كلام كثير من الأئمة: كابن القيم، وابن حجر، وابن دقيق العيد، والسيوطي..، وغيرهم من المحدثين، والمفسرين.

يقول ابن القيم - رحمه الله -: "والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته، وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخصال (يعني المذكورة في حديث: "الفطرة خمس.."(4). فالأولى: تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن..".

الثانية: أن الرسالات السماوية جاءت موافقة للفطرة، مؤيدة لها، منطلقة منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ِ (الروم:30).

ويعبر عن ذلك في الحديث شربه - صلى الله عليه وسلم - للبن، فهو عبارة عن الإشباع الصحيح، والمنهج المنسجم مع الفطرة، وفي اللبن من الغذاء، والصحة، واللذة، والغناء عن غيره ما فيه، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: (إنه ليس شيء يجزي مكان الطعام أو الشراب غير اللبن)(5).

الثالثة: إن ثمة وسائل أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة، مخالفة لها، ويمثلها الخمر في الحديث، فهو رمز عن الإشباع المنحرف، وسلوك الطريق المصادمة للفطرة، وفي الخمر من الخبث، والطيش، والرجسية ما فيها، فهي تغتال العقول، والأموال، والأديان، والأبدان.

وسيكون حديثي في هذه الرسالة في ثلاث نقاط:

أولاهـا: ذكر الفطرة، والأشياء التي فُطر عليها الإنسان.

والثانيـة: موقف الإسلام من الفطرة.

والثالثـة: موقف الجاهلية والمناهج المنحرفة من الفطرة.

أولاً: الفطرة الإنسانية

الإنسان مفطور على أشياء كثيرة:

— مفطور على حب الحياة، والتعلق بالبقاء؛ ولذلك تجد أن الطفل -مثلاً- وهو صبي لا يعقل، لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار، أو في بئر، أو ترمي به من سيارة؛ فإنه يرتعد ويبكي خوفًا من الموت والفناء، وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى تعلمها؛ بل هي مخلوقة معه.

وكثيرًا ما تتحدث الإحصائيات عن نسبة الانتحار في العالم؛ لأنهم يعدُّون الانتحار تصرفًا شاذًًا، يدل على انحراف في تربية هذا المجتمع أو ذاك.

— مفطور على العبودية؛ فالإنسان -بطبيعته- ضعيف يحتاج إلى أن يتوجه إلى معبود يسد فقره، أيًّا كان هذا المعبود، سواء كان بحق أو بباطل.

— مفطور على حب الوطن، وحب الأرض التي نشأ فيها.

— ومن الفطرة: أن كلاًّ من الجنسين -الذكر والأنثى- يميل إلى الآخر بطبيعته.

— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الولد، ويحب المال.

— ومن الفطرة: أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتعرى أمام الناس؛ ولذلك يصف المتحدثون المجتمعات البدائية المتخلفة بأنها مجتمعات عارية، ليس فيها حجاب ولا لباس.

والطفل - منذ صغره - يحس شيئًا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أمام الآخرين.

— وكذلك غريزة حب الملكية -بكسر الميم-، فالإنسان منذ يولد يبدأ تعلقه بأشيائه التي يرى أنها خاصة، ويعدّ الاعتداء عليها ظلمًا له، فهو متعلق بلعبه، وحذائه، وملابسه، وفراشه! وقد تسوِّل له نفسه السطو على أشياء الآخرين، وادعاء ملكيتها.

والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد

ذا عفـة فلِـعِلَّةٍ لا يظلـم!

— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الاختلاط ببني جنسه ومعاشرتهم، فهو "مدني بالطبع"، كما يقول ابن خلدون نقلاً عن أرسطو.

وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جدًّا الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها قد تنمو مع نمو عقل الإنسان، ومع تربيته، ومع معايشته للمجتمع، لكنها موجودة في أصل الخلقة، بحيث لو لم يوجد شيء ينميها، ولا آخر يعارضها، لبرزت ونمت كما تنمو الشجرة من بذرتها؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة"(6).

وقال أهل العلم: لوتُرك مولود وشأنه وحيدًا في غرفة أو صحراء وكبُر؛ لنطق باسم "الله".

ثانيًا: موقف الإسلام من الفطرة

إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة، أن خالق هذه الفطرة هو منـزل هذا القرآن، وهو الله تعالى؛ فمن الطبعي أن نعلم يقينًا أن هذا الدين لابد أن يكون موافقًا للفطرة؛ إذ يستحيل أن يكون في دين الله،أو شـرعه أمر يخالف ويعارض ما فطره عليه، فالحكيم العالم بما خلق ومن خلق، يضع الشريعة المناسبة له، الملائمة لخلقه.

وكل أمر شرعي يخطر في بالك أنه يعارض الفطرة، فيجب أن تعلم أنه لا يخلو من أحد احتمالين:

- فإما أنه أمر شرعي، ولا يخالف الفطرة الصحيحة المستقيمة، فمخالفته للفطرة وهم.

- وإما أنه يخالف الفطرة فعلاً، ولكنه لا يكون أمرًا شرعيًّا، وإن نَسَبَهُ الناس إلى الدين بغير علم ولا هدى.

وألخص الكلام عن موقف الدين من الفطرة فيما يلي:

q إقرار الدين بالفطرة:

جاء الدين مقرًّا بالفطرة، غير متنكر لها، فمثلاً: حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يؤكد ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾(البقرة:196)، و (أَحْرَصَ) أفعل تفضيل تدل على اشتراك الناس جميعًا في الحرص على الحياة، ولكن اليهود أحرصهم عليها.

إذن فحب البقاء، والحرص على الحياة فطرة، يؤكد القرآن وجودها في الإنسان.

وكذلك غريزة: حب المال، وحب الزوج، وحب الولد، بيَّن الله تعالى وجودها في الناس: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾(آل عمران:14).

وهذا السياق بمجرده لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما هو إشارة إلى أنها فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعدُ ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة، ومتى تكون مذمومة؟ المهم أنها غريزة وفطرة.

ولذلك لما ذكر الله تعالى المؤمنين، ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون، عقَّب عليها بقوله: ﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(المعارج:30)، فكأن القضية قضية غريزة جبلِّية ليست -بذاتها- محل مدح أو ذم، ولكنها تُحمد أو تُذم بما يلابسها من القصد والنية، وطريقة الإشباع، وآدابه.

وفي قضية الزواج والنكاح، قد يستقذر الإنسان الجانب الجسدي فيها، خاصة الإنسان الذي فيه سمو وإشراق وحياء؛ ولهذا جاء ذلك التعقيب يدفع هذا الشعور المترفع، ويبين أن كمال الإنسان في الاستجابة لفطرته وفق ما يرضي الله.

وها هم رسل الله وأنبياؤه ينكحون ويتزوجون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾(الرعد:38)

وقد روى أهـل السير -وهو في سـنن ابن ماجه- عن حمنة بنت جحش - رضي الله عنها - وكانت تحت مصعب بن عمير رضي الله عنه- أنه قد قُتل أخوها وزوجها في أُحُد، فقيل لها:( قُتل أخوك)، فقالت: (- رحمه الله -، وإنا لله وإنا إليه راجعون)، قالوا: (قُتل زوجك)، قالت(: واحزناه!)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشـيء)(7). والحديث في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف(8).

وهذا المعنى الدال على فطرة الترابط بين الزوجين ثابت في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(الروم:210)، وقوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾( الأعراف: 189).

وقل مثل ذلك في مسألة حب التستر والتصون، حيث يمتن الله على عباده باللباس الساتر الجميل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾(الأعراف:26)، وتأمل هذه المعاني نفسها في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف:46).

q موافقة الدين للفطرة:

وجاء الدين موافقًا لهذه الفطرة في عقائده وأحكامه؛ ولذلك سمي "دين الفطرة"، فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء كلهم، والعبادة التي أمروا بها، توافق فطرة التوجه لله والتذلل له، المغروزة في قلب كل مخلوق.

وقل مثل ذلك في قضايا التشريع، فمثلاً: شرع الإسلام الزواج الذي يلبي فطرة غريزية عند الإنسان، وهي إشباع الظمأ العاطفي لدى الجنسين، وليس إشباع الغريزة الجنسية فحسب.

وأصل خلق الأنثى هو من الذكر: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾(النساء:1)، فالإلف يحنُّ لإلفه، والفرع يحنُّ لأصله، وإذا لم تجد هذه العاطفة وهذه الغريزة الطريق الحلال، اتجهت إلى الطريق الحرام.

كما جاء الدين آذنًا بالكسب الحلال الذي يلبي حاجة الإنسان إلى التملك والاستقلال.

q تنظيم الدين للفطرة:

وجاء الدين منظمًا للفطرة، ففتح أمامها الأبواب والطرق السليمة التي تلبي حاجتها، وتشبع جوعها؛ لئلا تنحرف إلى غيرها.

ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(البقرة:275). فأمام الفطرة (فطرة حب الملكية) طريقان: حلال يتمثل في البيع بجميع صوره المباحة -وهو مفتوح-، وحرام يتمثل في الربا، وهو من أخبث ضروب المكاسب المحرمة.

ولذلك -أيضًا- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفـق عليه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)(9).

وقد قال كثير من أهل العلم: إن الزواج على القادر المحتاج إلى الزواج واجب، بدلالة هذا الحديث، خاصة عند خشية الفتنة، كما في هذا الوقت الذي أصبحت المثيرات فيه لا تكاد تفارق الشاب، حتى في بيته؛ بل في غرفته الخاصة.

وفي مقابل ذلك حرم الإسلام الزنا، وعدَّه من الفواحش العظام.

وهكذا... لا يغلق الله - تعالى - في وجه عباده بابًا من أبواب الحرام، إلا ويفتح بابًا من أبواب الحلال هو خير منه، وأيسر وأنظف، وأحمد عاقبة، ولا يُعرض عن الطريق النظيف المشروع إلا منحرف الفطرة، ممسوخ الباطن.

ولذلك جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الإسراء الطويلة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نـيّء خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبريل! من هؤلاء؟" قال: "هذا الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالاً، فيأتي المرأة الخبيثة، فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا، فتأتي الرجل الخبيث، فتبيت عنده حتى تصبح"(10).

والحديث رواه ابن جرير في التفسير، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والبزار، وغيرهم..، وفيه غرابة، ولكن يشهد لصحة هذا المعنى أن عقوبة الزاني المحصن أغلظ من عقوبة البكر.

q تزكية الدين للفطرة:

وجاء الدين مزكيًا للفطرة، موجهًا لها نحو الأفضل والأطهر، انظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة:24). إذًا فالإنسان يحب أباه، وابنه، وأخاه، وزوجه، وعشيرته، وماله، ومسكنه، ووطنه... لكن أن يصل ذلك إلى حد تفضيل هذه الأشياء على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، فهذا هو "الفسق" الذي يُهدَّد صاحِبُه، ويقال له: تربص وانتظر حتى يأتي الله بأمره!

ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾ (آل عمران:14، 15).

ولما ذكر أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا؛ عقب بقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(الكهف:46)

فرفع الإنسان من كونه حيوانًا يشبع غرائزه الفطرية، ثم يقف عند هذا الحد، إلى كونه مؤمنًا متطلعًا إلى اللذات الكاملة الدائمة في جنات النعيم. وشتان بين لذة الدنيا الفانية، ولذة الآخرة الباقية، شتان بين لذة عابرة خاطفة في هذه الدار، قبلها: الجوع، والعطش، والشبق، والحرمان، والبعد، وبعدها: الإعراض، والملل، والكراهية، وهي مشوبة بالأكدار والأحزان، والمخاوف، والآلام... وبين لذة في الجنة لا يسبقها حرمان، ولا يلحقها ملل، ولا يقارنها همّ ولا حزن.

وتأمل كل لذة في هذه الدنيا تجد قبلها، أو معها، أو بعدها، ما تستقذره النفس، وتشمئز منه، وهذه آية بينة لقوم يعقلون.

وحين كان المؤمنون يعون هذه المعاني ويتذوقونها اعتدلت الموازين في نفوسهم، فلم يُعرضوا عن المباح إعراض الرهبان، ولا أقبلوا عليه إقبال أهل الجحود والكفران؛ بل جعلوه سُلَّمًا لترقية النفس وتهذيبها، وضحَّوا به إذا دعا داعي البذل والجهاد.

وإذا كان حب الحياة من أعمق الغرائز في النفس، فانظر كيف استعلى المؤمنون على ذلك، فكانوا يحبون الموت في سبيل الله، كما يحب عدوهم الحياة.

فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما صدر من مِنى، أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: "اللهم كبرت سِنِّي، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرط.."، فما انسـلخ ذو الحجة حتى قتل - رحمه الله -(11). رواه مالك.

وكان يقول رضي الله عنهم -كما في البخاري-: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك"(12).

وما المواقف الشجاعة التي وقفها عمير بن الحمام، وأنس ابن النضر، ومصعب بن عمير، وعكرمة بن أبي جهل، والبراء ابن مالك - رضي الله عنهم -، ثم من بعدهم - على مدار التاريخ-... إلا حلقات في هذه السلسلة المتصلة.

ولقد كان الطرماح بن حكيم يتحدث باسمهم جميعًا حين قال:

وإني لمقتادٌ جـوادي فقـاذف

به وبنفسي العامَ إحدى المقاذفِ

فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن

على شَرْجعٍ(13) يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ(14)

ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبـةٍ

يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ

عصائب من شيبان ألَّف بينهـم

تُقى الله، نزَّالون عند التزاحـفِ

إذا فارقوا دنياهُم فارقـوا الأذى

وصاروا إلى موعود ما في المصاحفِ

فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمـي

كضغث(15) الخلا بين الرياح العواصفِ

ويصبح قبري بطن نسرٍ مقيلـه

بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ(16)




إن المـوت في سبيـل الله، مع هذه العصـابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله، وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف.

وهذا الوعد الموعود هو: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾. (آل عمران:15).

فإذا كان وجودك في هذه الدنيا مهددًا بالموت في كل لحظة، فالبقاء الأبدي الذي لا يطرأ عليه الفناء هو في الدار الآخرة الموعودة. وإذا كان الحب بين الزوجين غريزة موجودة لحكمة مشهودة، فإن المنغصات بينهما كثيرة، والمكروهات الجسدية والنفسية قائمة، والحياة الزوجية السعيدة بكل معاني السعادة إنما هي في الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وفي هذا إشارة إلى وجوب تقديم ما عند الله على ما في الدنيا، والتضحية بهذه من أجل تلك -إذا اقتضى الأمر-.

ولذلك لما أراد أحد المسلمين -وهو النابغة الجعدي، الشاعر- أن يخرج في سبيل الله مجاهدًا، أمسكت به زوجه، وهي تبكي وتسأله: كيف تخرج وتتركني وحدي؟ فولىَّ، وهو يغالب عواطفه ويقول:

باتت تُذكـِّرني بالله قاعـدة

والدمع ينهلّ من شأنيهما(17) سبلا

يا بنت عمي كتاب الله أخرجني

كرهًا، وهل أمنعن الله ما فعلا؟

فإن رجعت فربُّ الناس يرجعني

وإن لـحقت بربي فابتغـي بدلا

ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني

أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا




ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان قد أسلم، فعلم به الروم فحبسوه، وأرادوه على الكفر، فأبى وأصر على الإسلام، فصلبوه إلى خشبة، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرجع بالقتل. ففي هذا الموقف الصعب يستمسك الرجل بعقيدته، وتمر في ذاكرته صورة المسلمين الذين لم ير منهم إلا أفرادًا قلائل، فيرسل إليهم السلام، ويبلغهم أنه صابر ثابت:

بلِّغ سـراة المسلمين بأنـني

سـلمٌ لربي أعظـمي ومقامي




نعم، أنا الآن أموت مسلمًا لله، قد خشع له لحمي وعظمي، وعصبي ومخي، إنه شعور عظيم لدى هذا المسلم المغترب.

ثم يتذكر حليلته وقرينة سفره، وحيدة متأيمًا، فيقول:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلهـا

على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يطرق الفحل أمها

مشذبـةٍ أطرافـه بالمناجـل




فهو مصلوب على ماء بفلسطين، اسمه "ماء عفراء"، على خشبه مشذبة أطرافها بالمناجل، وقد شبهها بالراحلة.

وهذا أبو طلحة الأنصاري، يسمع قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(آل عمران:92)، وكان أحب ماله إليه "بيرحاء"(18)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيّب، يأتي أبو طلحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برَّها وذخرها، فضعها حيث أراك الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (بخٍ بخٍ -وهي كلمة تعجّب- ذاك مال رابح، ذاك مال رابح..)(19) والحديث متفق عليه عن أنس.

وهكذا يستعلي المؤمن على ما يحب في هذه الدنيا من الأزواج، والشهوات، والأولاد، والأموال، والحياة؛ لإيمانه بأن الحياة ليست نهاية المطاف بل هي ساعات معدودة بالقياس إلى الخلود السرمدي الأبدي في الدار الآخرة.

وهل تظن أن المسلم الكريم وهو يضحي بهذه الأشياء لا يرغب فيها؟ كلا؛ بل هو يحب المال، فينفق مما يحب، ويحب الحياة، فيبذلها رخيصة في سبيل الله.

ومن الذي بذل الحياة رخيصـة

ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشترى؟




أتظن أن المسلم وهو يغالب شهواته، ويجاهد نفسه على الطهر والعفاف لا يجيش في نفسه الهوى؟ كلا؛ بل يتحرك في نفسه من النوازع مثل ما في نفوس الفجار أو أشد، ولكنه يخاف مقام ربه، فينهى النفس عن الهوى، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(النازعات:40 ، 41). وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتي قوة أربعين رجلاً في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة، ومع هذا تصفه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بأنه: (كان أملككم لإربه)(20) يعني لحاجته.

وهكذا يظهر كيف جاء الدين معترفًا بالفطرة، موافقًا لها، منظمًا لطريقة إشباعها، مزكيًا مهذبًا لها.



ثالثًا: موقف الجاهلية من الفطرة

ولقد أخذ الشيطان على نفسه عهدًا بقوله: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾(سوره النساء:118،119)

والله تعالى يأمر عباده أن يقيموا وجوههم للدين الحنيف الملائم للفطرة في قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ثم يعقب ذلك بقوله: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾(الروم:30).

فيحاول الشيطان تغيير هذه الفطرة بالمسالك المنحرفة، فيدعو الإنسان إلى ما يخالف فطرته الظاهرة والباطنة التي خُلق عليها، فيدعوه إلى الشرك بالله بجميع صوره وأشكاله، ويدعوه إلى اتباع الأحكام والتشريعات الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ومن ذلك ما كان يفعله في أهل الجاهلية الأولى من تقطيعهم لآذان الأنعام، علامة على أنها نَسَائِكُ للأوثان والأنداد.

ومما يؤكد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفطرة: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)(21).

وعلى هذا فأمر الشيطان لهم بتغيير خلق الله، هو أمره لهم بمخالفة الفطـرة الظاهرة والباطنـة التي جاء الدين ملائـمًا لها، فيأمرهم بالشرك في عبادة غير الله من الأوثان والطواغيت، سواء كانت من شجر، أو حجر، أو بشر، أو درهم ودينار، أو امرأة، أو رجل.. وهذا تغيير للفطرة الباطنة. ويأمرهم بالتصرف في أنفسهم، أو أهلهم، أو أموالهم بما لم يأذن به الله، كمن يشقون آذان الأنعام لأصنامهم، أو يحلقون شعورهم المحرمة.. وهذا من تغيير الفطرة الظاهرة.

ومحادة الشيطان لله تعالى في هذا -وفي غيره- معروفة مكشوفة، ولكن العجيب أن الناس ينساقون معها بوعي، أو بدون وعي.. وأعجب من ذلك أن ينساق معها المسلمون الذين يؤمنون بأن الشيطان موجود -فعلاً- ومسلَّط على ابن آدم!

تحدٍّ صارخ لشرائع الله: أن المرأة المأمورة شرعًا بالتستر صارت تتبرج يومًا بعد يوم، وتتحايل لإبراز زينتها بكل وسيلة، وتتنازل يومًا بعد آخر عن قدر من الحجاب الشرعي الذي جملها به الخالق العظيم، وعلى النقيض من ذلك الرجل الذي صار يطيل ثيابه، ويسحبها ذراعًا أو شبرًا.

وحين كانت المرأة تطيل ذيلها التزامًا بالأدب والستر، وُجد من يسخر منها، ويدعو إلى نزع الحجاب، ويقول:

سيري كسير السحب لا تأني ولا تتعجلي

لا تكنسي أرض الشوارع بالإزار المسبل




ولكننا لم نجد من يقول ذلك -بشجاعة- للمسبلين!

والمرأة أصبحت تنهك شعر رأسها بالقص الذي يشبه الحلق، حتى كأن رأسها رأس شاب ما طال شعره. وفي الشعر من التميز، والزينة، والجمال ما جعل القرون تطبق على مدح المرأة به، وعلى النقيض من ذلك أصبح الشاب يطيل شعر رأسه، ويقضي وقتًا طويلاً في تسريحه ودهنه..! وهذه من سخريات الشيطان الرجيم بمن يطيعونه في بعض الأمر!

وبالجملة فإن موقف الشيطان وحزبه من هذه الفطرة المركوزة في الإنسان متجدّد في أحد موقفين:

q الموقف الأول: مسخ الفطرة:

وذلك بتوجيهها الوجهة المنحرفة، ومناقضة ما أمر الله به ورسله، فيفتحون الباب المحرم للإشباع، ويغلقون الباب المشروع -ما استطاعوا-.

— حب تقليد الآباء:

يستغل الشيطان حب الإنسان للتقليد -مثلاً-، أو حبه للوفاء لآبائه وأجداده؛ ليغريه بالتمسك بالتراث الموروث عنهم، والعادات والتقاليد المنحرفة، ورفض الجديد -ولو كان حقًّا-، وكم من إنسان حال بينه وبين الحق أنه لم يعهد عليه مجتمعه، وأباه، وأمه.

ولذلك لما أسلم "بجير بن مالك" أرسل إليه أخوه "كعب ابن مالك" الشاعر -قبل أن يسلم- قصيدة يعاتبه فيها على الإسلام، ويقول:

ألا بلِّغا عـني بجيـرًا رسـالة

فهل لك فيما قلت، ويحك هل لكا؟

فبيِّن لنا، إن كنتَ لست بفاعل

على أي شيء غير ذلك دلَّكـا؟

على خُلُقٍ لم تلـف أمًا ولا أبًا

عليه، ولم تدرك عليه أخًا لكـا




وهكذا سائر المشركين، رفضوا الحق الجديد، محتجين بأنهم ألفوا آباءهم على شيء، فهم لا يستطيعون مخالفته، كما قال الله – عز وجل - عنهم: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ . فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾(الصافات:69 ، 70).

إنها الحجة الداحضة، والطاغوت الأكبر الذي يغبر فيه المعاندون في وجه الحق: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ . بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(الزخرف:21-24)

وكم من الناس اليوم -من المسلمين- إذا دُعي إلى حق لا يعرفه، ولم يجد عليه أباه وأمه، قال: هذا دين جديد! هذا شيء ما عرفناه، أنا عمري تسعون أو ثمانون سنة، ما رأيت هذا ولا سمعت به!

وإذا كنت ما رأيت هذا ولا سمعت به، يكون ماذا؟! إذا كان العالِم يخفى عليه الكثير من العلم، فما بالك بأمثالك من الجهال الذين أضاعوا عمرهم في غير طائل؟!

وقد تجد من الناس اليوم من يهتم بما يسمى "الفلكلور" والتراث الشعبي أكثر مما يهتم بمعرفة الدين الذي ينتسب إليه؛ بل لعله لا يهتم بمعرفة الدين إلا بوصفه "جزءًا" من هذا التراث -كما يزعمون، ولهم الويل مما يصفون-.

— حب الوطن:

ويستغل الشيطان حب الإنسان للبلد، وإلفه له؛ ليحوِّل هذا الحب إلى تقديس، وعبادة صريحة، حيث نجد اليوم من يقول:

وطـني لو صـوروه لي وثـنًا

لهمـمتُ ألثـم ذلك الوثنا




أو يقول:

ويا وطني لقـيتك بعد يـأس

كأني قد لقيت بك الشـبابا

أدير إليك -قبل البيت- وجهي

إذا فهت الشـهادة والمتابا!




يا للعجب: رجل يفوه الشهادتين والمتاب، ويدير وجهه إلى وطنه قبل أن يديره إلى الكعبة!

وتجد من يدعو إلى التجمع تحت مظلة "الوطن" و "الوطنية" التي يلتقي في ظلها المسلم والكافر على حد سواء.. حتى ليهتف شاعر، فيقول:

هبوني دينًا يجعل العرب أمـةً

وسيروا بجثماني على دين "برهم"


وكم حَالَ التعلُّق بالوطن بين المسلم وبين الهجرة إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبينه وبين الانطلاق في الدعوة إلى الله، ودعاه إلى الذل، والركون، والاستسلام!!

وحب الوطن أمر جبلي لا يحمد بذاته ولا يذم، وحديث "حب الوطن من الإيمان"(22) حديث موضوع، ولوكره الوطنيون!

فإذا كان الحب للوطن مدعاة للدفاع عنه ضد العدو الظاهر الذي يريد احتلاله بالسلاح، وضد العدو المتستر الذي يريد احتلاله بالفكر والانحلال؛ فنِعِمَّا هو:

بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا

بالرقمتين، وبالفسطـاط جيـراني

ولست أبغي سوى الإسلام لي وطنًا

الشام فيـه ووادي النيـل سيـان

وحيثما ذُكر اسـم الله في بلـدٍ

عددت أرجــاءه من لب أوطاني




ويقول آخر:

أنـا عالمـيٌّ، ليــس لــي

أرض أ سميــهــا "بـلادي"

وطنـي هنـا، أو قـل هـنـا

لِكَ حيـث يبعثهـا المنــادي

فالقفـر أحلـى مـن ريــا ضٍ

في ربـاهـا القلـب صادي!




أما إن كان حب الوطن مدعاة للعبودية له، والتضحية بالدين في سبيله؛ فهي عندئذ "وثنية" بلا قناع!.

أما الحب الفطري الجبلي فلا يمدح ولا يذم، ولكنه كحب الزوج ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(المعارج:30).

— حب الحياة والبقاء:

ويستغل الشيطان حب الإنسان للحياة والبقاء؛ ليثنيه به عن الجهاد في سبيل الله خوفًا من نيل الشهادة!.. وهكذا يجيء للابن من الناحية التي كَادَ فيها للأب: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾(طه:120).

وهذا يحدث في حبه لماله، وزوجه، وولده، حيث يجعل منها الشيطان وسائل يعرقل بها سير العبد إلى ربه بالدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إما خوفًا عليهم، أو خوفًا من فراقهم.

وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى استغلال الشيطان لهذه الغرائز المركوزة في النفس، فقال في حديث سَبَرة بن أبي الفاكه - رضي الله عنه -: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه: فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم، وتذر دينك، ودين آبائك، وآباء أبيك؟ قال: فعصاه، فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر، وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول -يعني في الحبل-، قال: فعصاه، فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتُقتل، فتنكح الزوجة، ويقسم المال، قال: فعصاه فجاهد.. الحديث)(23). فهذا تهييج شيطاني لفكرة التقليد للآباء، والوفاء لتراثهم؛ ليمتنع عن الإسلام، ثم تهييج آخر لحب الوطن؛ ليمتنع عن الهجرة، وتهييج ثالث لحب البقاء، وحب الزوجة، وحب المال؛ ليمتنع عن الجهاد، ولكن الإنسان المؤمن يتمرد على وسوسة الشيطان، فيسلم، ويهاجر، ويجاهد، فيكون حقًا على الله أن يرضيه -كما في الحديث نفسه-.

— حب الجنس الآخر:

ومن صور تلعّب الشيطان بالإنسان في شأن الفطرة: أن الإنسان مفطور على الميل للجنس الآخر الذي يكمله، ففي الرجل ميل إلى المرأة، وفي المرأة ميل إلى الرجل، والشيطان وآله من شياطين الجن والإنس في كل عصر -وفي زمننا هذا خاصة- يحاولون أن يجعلوا من هذا الميل الغريزي خنجرًا يطعنون فيه الإسلام والمسلمين، وذلك من خلال الخطة التالية:

(1) العمل بكل وسيلة على تهييج الغريزة الجنسية و إثارتها:

وذلك من خلال:

— الصورة الجـذابة، الملونة، المثيرة.

— المسلسل الذي يتعاهد الأجيال -من الجنسين-؛ ليربيهم على كيفية الاقتناص، والحب الهابط، والخيانة، ويعطيهم الأسوة والقدوة بهؤلاء الممثلين.

— المجلة التي تتاجر بالمرأة، من مجلات الأزياء، والفن، والسينما، والرياضة، والجمال.. وغيرها، تُجبى إليه ثمرات كل شيء!.

— الأغنية الهابطة التي تخاطب في الإنسان أحط ما فيه، بصورة مباشرة أحيانًا، وغير مباشرة أحيانًا أخرى.

— الدواوين الشعرية التي قصرت نفسها على دغدغة الأحاسيس الجنسية.

— القصص والروايات الغرامية التي تباع في قارعة الطريق.

— الأفلام التي تصنعها أيدي "يهود"؛ لتدمير العالم أخلاقيًا؛ حتى تمكن السيطرة عليه بسهولة.. إلى آخر هذه المثيرات التي أصبح الواقع يضج بها ضجيجًا، وهي تلاحق الشاب والفتاة في البر، والبحر، والجو!.

(2) سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري:

ففي الوقت الذي يشحذ فيه الشيطان غريزة الإنسان، فإنه يقوم بعمل آخر متزامن مع هذا العمل: وهو سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري؛ وذلك بوضع العراقيل والعقبات الحقيقية والوهمية في هذا السبيـل، ويختلق عوائق اجتماعية، ونفسية، وعقلية، واقتصادية؛ للتأثير على الشباب والشابات بمؤثرات كثيرة، تقنعهم بأن قضية الزواج مسألة صعبة يجب عدم التفكير فيها الآن لأسباب عديدة، منها: مواصلة الدراسة، والعمل على تأمين المستقبل، وعدم توفر الإمكانات اللازمة، والظروف البيتية، وانصراف النفس أصلاً عن التفكير في هذا الموضوع، وعدم التهيؤ له؛ بسبب مؤثرات تظهر بصمات إبليس في معظمها.. وقد جند آلاف الصفحات والمطابع، والمحررين، والأجهزة المختلفة لتحقيق هذا المطلب، وتضخيم هذه العقبات.

أما الفتاة فهي لا تريد الزواج الآن؛ لأنها لا زالت طالبة في الجامعة، ويتقدم الأَكْفاء، فترفضهم بهذه الحجة، فلا تتخرج إلا وعمرها ثنتان وعشرون سنة -على أقل تقدير- فترغب أن تعمل لعدد من السنوات قبل الزواج؛ لأن من غير المعقول أن تتسلّم الشهادة الجامعية وتعلقها في المطبخ! -هكذا تقول-، ثم تبدأ في فترة متأخرة تفكر في الزواج، وهي تحتفظ بشروطها العسيرة فيمن ترضاه شريكًا لحياتها..

وتمر السنوات، والخُطّاب يتناقصون، ونوعيتهم تضعف، والآمال تذبل.. وكم من فتاة بلغت الثلاثين والخامسة والثلاثين وهي رهينة بيتها.. وقد أوشكت شمعة عمرها -عمر الإنجاب- على الانطفاء، وهي لم تصحُ إلا متأخرة، وبعد فوات الأوان، فدفعت ثمن هذه التجربة غاليًا؛ لأن الزمن لا يرجع إلى الوراء!

وهناك نوع من العقبات قد يكون واقعًا، وهو ثقل التكاليف المالية، والتبعات، والإجراءات التي يتطلبها الزواج، وهذه هي الأخرى يسعى الشيطان للزيادة فيها يومًا بعد يوم؛ ليُحكم لعبته في الحيلولة بين الشباب، وبين تلبية نداء غرائزهم بالطريقة الشرعية.

وتقصي جوانب هذه المؤامرة المتمثلة في وضع العقبات، واختلاقها أمام الإشباع الصحيح أمر يطول، وهذه مجرد أمثلة تنبه على ما وراءها.

(3) تهيئة سبل الاتصال المحرم:

فإذا هاجت الغريزة بفعل المؤثرات الكثيرة، ذهبت تبحث عن الطريق السليم فوجدته مغلقًا، فارتدت إلى الطرق المنحرفة فوجدتها مفتوحة على مصاريعها، والشيطان يرقص عندها، ويقول:

خلا لـكِ الجوُّ فغنِّي واطــربي

وخرِّبي ما شـئتِ أن تخرِّبي!


فهو يعمل مباشرة، ومن خلال وكلائه ومندوبيه الذين يعرفون من ثمارهم على تهيئة سبل الاتصال المحرم.. فيدعو إلى خروج المرأة لتعمل على تحقيق ذاتها بالعمل دون قيد أو شرط، وإلى اختلاطها بالرجل في كل ميدان، وإلى السفور والتبرج، وإلى السفر إلى البلاد الإباحية التي ما عرفت الله يومًا من دهرها.. ويسمي هذه الأشياء بأسماء براقة مثل: تحرير المرأة، الاختلاط البريء، تحريك نصف المجتمع المعطل، الانفتاح على العالم...

ومن خلال هذا الثالوث الرهيب تنهار المجتمعات: تتحرك غريزة الشاب، وتجعل جسمه يضطرم بالنار، فيسعى إلى السبيل الحلال -إن كان عنده دين وخوف من الله- فيجد أمامه هذه العقبات الجسام، ويجد قوى خفية تجره إلى الطريق الحرام الميسر! فيسقط في المرة الأولى بحثًا عن اللذة، ثم يتحول إلى مدمن مولع بهذه المستنقعات الآسنة، يفر منها إليها:



وكـأس شـربت على لـذةٍ

وأخرى تداويت منها بها!




وإحباط هذه المؤامرة إنما هو بأيدي أهل الإسلام -ذكرانهم وإناثهم- بعد إرادة الله التي لا تُغلب، وذلك بمقارعة أولياء الشيطان، ومنازلتهم في ميادين الخصومة والصراع، وفضح هذه المؤامرة على الملأ، وإحباطها عمليًّا بأن تنـزع تأثيراتها الخفية من نفوسنا، ونفوس من حولنا، ونعمل على نقضها بالمبادرة إلى الزواج، وتقديمه على الأعمال الأخرى التي لا تساويه -إذا لم يتسنَّ الجمع بينهما-، وتذليل العقبات المادية والاجتماعية، وتيسير أسبابه -مهما أمكن-، ولنا قدوة في ذلك الصحابي الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زوِّجني هذه المرأة"، فالْتـَمَسَ مهرًا، فلم يجد ولا خاتمًا من حديد، فقال: "ليس معي إلا إزاري هذا"، فأصدقها نصفه، ولم يكن عليه رداء!(24) فهو مستعد لأن يتخلى عن جزء من إزاره من أجل تحقيق هذا المطلب الحيوي المهم: الزواج.

ولا يمنع من ذلك قلة ذات اليد، فالنكاح من أسباب الغنى:

﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النور:132)، والشاب إذا تزوج شعر بالمسؤولية، فاتجه للكسب، وتحصيل ما يحتاجه من المال.

ويجب كشف تناقضات الفاسقين، المنادين بتحرير المرأة، - وهم يريدونها قيّنة تعزف بين أيديهم - المطالبين بإخراجها من سلطة الأب، والأخ، والزوج؛ لكي ترسف في قيودهم، المحاربين للتعدد، وهم يؤلبون الناس على قضاء إجازاتهم في البلاد المنحلة.

— حب المعرفة والاستطلاع:

ومن صور مسخ الشيطان للفطرة: أن الإنسان مفطور على حب المعرفة والاستطلاع، فبدلاً من سلوك الوسيلة الشرعية عن طريق طلب العلم وتحصيله، وعن طريق توقع النتائج من أسبابها ومقدماتها، وعن طريق الرؤيا الصالحة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من المبشرات(25)، وأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة(26)، وعن طريق الدعوة الصادقة التي يقول فيها القائل:



وإني لأدعو الله حتى كأنـما

أرى بجميل الظن ما الله صانع




وعن طريق معرفة التجارب التاريخية والانتفاع بها.

فبدلاً من هذا كله، يسلك الشيطان بالإنسان في إشباع غريزة حب الاطلاع مسالك الردى: فيغريه بالتشبع بثقافات الأمم الأخرى -خاصة وهي تحقق للإنسان تميزًا عمن حوله-، والولع بقراءة ما وقع في اليد من الغث والسمين، ومحاولة الولوج إلى كل مكان بقصد الاطلاع.

فإذا جاء شأن الغيبيات أغراه بزيارة الكهان، والعرافين، والمنجمين، وقارئ الكف، وقارئة الفنجان، وحظك هذا اليوم..!

وهذا كله شيء من حيل الشيطان في مسخ الفطرة، وهو الشق الأول من كيده لتغيير خلق الله.

q الموقف الثاني: نسخ الفطرة:

وهو محاولة إلغائها بالكلية.

— فقد يغري الإنسان بالرهبانية التي تتنكر للفطرة، وتنهكها حتى تقضي عليها أو تكاد، وهذا يحدث لمن هو متطهر غير متقبل للانحراف والفساد.

وقد تسللت هذه الفكرة النصرانية إلى أمة التوحيد عن طريق الدعوات الصوفية المتأثرة بهذا المسلك، والتي تبالغ في تعظيم الجانب الروحي على حساب جوانب الشخصية الأخرى، وخير الهدي هدي الأنبياء، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾(الرعد: 38)، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾(الفرقان: 20).

— ومن محاولة نسخ الفطرة: القضاء على الغَيْرة التي توجد حتى في الكلاب، وتربية المجتمع على الدياثة، حتى ليفتخر الزوج في المجتمعات الغربية بتعري امرأته أمام الملايين من المشاهدين، وهكذا يعود نظام المجتمع البدائي المتخلف، ولكن باسم "الحضارة"!.

— ومن محاولة نسخ الفطرة: ما تدعو إليه الشيوعية من إلغاء الملكية الفردية، والإباحية الجنسية، وتأميم المواليد بوصفهم أولادًا للدولة يربون في محاضنها؛ ليعملوا في مصانعها.. ولكن الذي يغالب الفطرة ويحاربها، فإنما يحارب أمرًا جبليًّا وضعه الله، وأنزل الدين المناسب له، ومُغالِبُ اللهِ مغلوبٌ:

زعم المسـفِّه أن يغالب ربَّهُ



وليُغلَبنَّ مُغـالِبُ الغَــلاّبِ


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،


فضيلة الشيخ سلمان العودة