تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة



هديب الشام
10-05-2002, 09:44 AM
موقف أهل السنة والجماعة
من البدع والمبتدعة



المقدمة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وبشيراً ونذيراً للناس أجمعين، فهدى به من شاء إلى الصراط المستقيم، وأضل من شاء عن الهدى المبين.

ونسأله سبحانه أن يجعلنا ممن هداه، ووفقه إلى التزام الحق، والعمل به إلى أن نلقاه على الإسلام والدين.. أما بعد:

سبب تأليف هذه الرسالة:

فهذه رسالة جمعتها لبيان موقف أهل السنة والجماعة ممن يخالفونهم في الاعتقاد والعمل، أسأل الله أن يشرح لها الصدور، ويوفق الجميع للأخذ بما جاء فيها من الحق. أنه هو السميع العليم.

عبدالرحمن بن عبدالخالق




الباب الأول
مقدمات
1- أولاً: حقيقة الدين.

الدين الحق الذي لا يجوز لأحد خلافه هو اتباع كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمة الإسلام، وهذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين المعصومة فقط التي لا يتطرق إليها خلل مطلقاً.

فأما الكتاب فهو كلام الله الذي: {لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد}، كتاب قد فصل الله آياته، وجعله هداية للعالمين، وأمرنا بتدبره، وتعلمه وأعلمنا سبحانه أنه قد يسره للذكر. قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر:17)، فلا حجة لأحد في الإعراض عنه بأي عذر، فهو بلسان عربي مبين، وهو واضح المقاصد، بين الهدف، محكم العبارة، مفصل القول. قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود:1)، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} (ص:29)

وأما السنة النبوية فهي معصومة بعصمة الله لنبيه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو شارح القرآن، ومبينه بأقواله وأفعاله وتقديره. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44)، وكذلك هو الذي أنزلت عليه الحكمة كما أنزل عليه القرآن، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2)، والكتاب القرآن، والحكمة سنته صلى الله عليه وسلم.. وقد أوتي النبي الكريم القرآن ومثله وهي سنته، وفيها من الأحكام في الحلال والحرام والوجوب والندب والتحريم مثل ما في القرآن من الأحكام..

كما قال صلى الله عليه وسلم: [ألا وإني أوتيت هذا الكتاب، ومثله معه] (أخرجه أبو داود (4604) عن المقدام بن معدي يكرب في صحيح الجامع الصغير برقم(2643)).

وأدلة عصمة السنة كثيرة منها قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3-4)، وقوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة:44-47)

وأما الإجماع فهو: اتفاق أمة الإسلام على قول في الدين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلاله، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} (النساء:115). فجعل سبيل المؤمنين واجب الاتباع كالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد أجمعت الأمة على معظم قضايا الدين: ككمال القرآن، وحجية السنة، ووجوب العمل بها، وخلافة الصديق ، وصحة قتال المرتدين، والصلوات الخمس، والأذان والإقامة... الخ مما أجمعوا عليه.

وهذا الذي قدمناه يعني –بحمد الله- أن مجمل قضايا الدين عقيدة وشريعة ثابتة، واضحة، لأن القرآن حوى معظم الأحكام، وأصول التشريع في كل شأن من شئون حياتنا، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (النحل:89) والسنة لم تترك أدق التفاصيل في حياة المسلم إلا وقد بينته، ووضحته، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمد الله قد طبقوا الدين كله وأجمعوا على عامة أصوله وكثير من فروعه، بل ليس لهم خلاف في قضية أصولية عقائدية أصلاً، وإنما خلافاتهم في فروع من الدين يجوز فيها الخلاف ولا يتوقف عليها كفر، وإيمان.

2- ثانياً: البدع والأهواء والفرق.

ومعلوم أن كثيراً ممن انتسبوا إلى الإسلام قد اختلفوا في حقيقة الدين، وخالفوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخرجوا عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، واتبعوا أهواءهم، وجعلوا هذه الأهواء أقوالاً واعتقاداً، وتحزبوا حولها وافترقوا بها عن سائر الأمة ممن بقي متمسكاً بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأهواء لا شك أنها نشأت جميعاً بعد قرن الصحابة فلم يكن من الصحابة أحد -بحمد الله- داعياً إلى بدعة، ولا صاحب هوى ولا صاحب طريقة مخالفة للكتاب والسنة، وإنما نشأت البدع فيمن بعدهم، وتصدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان هذه البدع.. كما تصدوا لبدعة الخوارج، والقدرية، والمرجئة. ثم نشأت البدع الأخرى كالرفض، والجهمية ومنكري الصفات، والباطنية ممن يظهرون معتقداً ويخفون ديناً آخر، ويحملون القرآن والسنة على دينهم الباطني الباطل الذي لم يكن عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن المسلم ليعجب أشد العجب عندما يقف على مقالات الفرق التي انتسبت للإسلام حيث يرى أقوالاً واعتقادات هي في غاية الكفر والشناعة والتردي إلى مهاوي الإنحطاط والرذيلة!! ومن ذلك على سبيل المثال القول بحلول ذات الله وصفاته في ذوات المخلوقين، واكتساب بعض المخلوقين صفات الرب سبحانه وتعالى من الأحياء، والإماتة، والرزق، والخلق، وإدخال الجنة، والإخراج من النار، والعلم بالغيب كله.. ومن الأقوال الشنيعة كذلك تفضيل بعض البشر على الرسل والأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وتكفير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة فقط، والقول بتحريف القرآن ونقصه، والقول برجعة الناس إلى الدنيا للحساب على أعمالهم قبل يوم القيامة وأن الذي يحاسبهم هو الحسين بن علي رضي الله عنهما، أو علي رضي الله عنه!!

ومن الأقوال الشنيعة كذلك، تكفير المسلم بالمعصية، وتكفير علي بن أبي طالب، وعثمان رضي الله عنهما، وتكفير الحكمين، والخروج على المسلمين بالسيف لمعاصيهم، والقول بخلود مرتكب الكبيرة، ونفي رؤية الله تعالى في الآخرة.

ومن الأقوال البالغة في الكفر والمروق القول بوحدة الوجود وأنه لا موجود إلا الله، وأن ما عداه هو العدم، وأن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو التجسد الكامل لله سبحانه وتعالى .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ولو ذهبنا نعدد مقالات الفرق الضالة لبلغ ذلك المجلدات. والقصد هو بيان أن أهل الإسلام والمنتمين له اختلفوا في حقيقة الدين اختلافاً كبيراً كما كان الشأن فيمن قبلهم من اليهود والنصارى كما قال الله سبحانه وتعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (البقرة:213).

فأخبر الله سبحانه أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين اختلفوا فيه، وأن منهم من هداه الله إلى الحق ومنهم من ضل سواء السبيل.. كما قال صلى الله عليه وسلم: [افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة] (أخرجه أبو داود (5496)، والترمذي (2640) عن أبي هريرة. انظر صحيح الجامع (1083)).

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والأرض مليئة باليهود، والنصارى ولكنهم جميعاً كانوا كفاراً مشركين حكم الله تعالى بكفرهم وشركهم وضلالهم مع ادعائهم أنهم على الحق وأنهم أهل الجنة دون الناس، ولا شك أن هذا وقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الله سبحانه وتعالى وفق هذه الأمة وميزها بأن تبقى منها طائفة متمسكة بالدين الحق، ظاهرة عليه ولا تزال كذلك إلى قيام الساعة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم الدجال] (صحيح الجامع (7287، 7296)).

هديب الشام
10-05-2002, 09:47 AM
3- ثالثاً: من هم أهل السنة والجماعة؟

ذكرنا أن الاختلاف وقع في أتباع الإسلام كما وقع في اليهود والنصارى، وأن الله امتن على هذه الأمة الإسلامية بأن جعل منها طائفة على الحق إلى قيام الساعة، فمن هذه الطائفة؟ وما صفاتها؟

والجواب: إن أهل السنة، والجماعة، والطائفة الحقة المنصورة الباقية على الدين الصحيح إلى قيام الساعة هم الذين اعتصموا بأصول الإسلام المعصومة، وهذه الأصول هي الكتاب، والسنة وما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أن هذه الأصول هي الأصول المعصومة، التي لا يتطرق إليها خلل، أو شك.

وأهل السنة يردون كل قول، وكل خلاف إلى هذه الأصول، فما وافق الكتاب، والسنة، والإجماع، قبلوه، وما خالفها رفضوه من قائله كائناً من كان، فإنه لا أحد معصوماً، ولا قولاً معصوماً سوى ذلك، أي: الكتاب، والسنة، والإجماع.

وقد سميت هذه الطائفة بأهل السنة لأنهم تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل واجب الإتباع، وكذلك في المقابل أهل البدعة الذين اخترعوا أقوالاً، وأعمالاً مبتدعة في الدين جعلوها أصلاً يجتمعون عليه، ويتسمون به، ويفترقون به عن أهل الإسلام، كما زعم الرافضة أن الله أنزل خلافة علي، وأحد عشر من أولاده نصاً في القرآن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك وسموا أنفسهم شيعة، ورافضة.

كذلك اخترع الخوارج مقالات في الدين: كتحريم الاجتهاد، وقولهم (لا حكم إلا لله) يعنون نص القرآن، وهي كلمة حق يراد بها باطل، وأن مرتكب الكبيرة كافر، حلال الدم، مخلد في النار، ومن أجل ذلك افترقوا بأنفسهم عن سائر المسلمين فكفروا علياً، وعثمان، ومعاوية، والحكمين، وخرجوا على الجميع بالسيف، فسموا: "خوارج" بفعلتهم القبيحة، وسموا أنفسهم: (الشراة) زعماً أنهم شروا أنفسهم لله...، وهكذا كل أصحاب بدعة تسموا ببدعتهم، أو برأس بدعتهم، ومخترع مقالتهم، أو من نسبوا أنفسهم إليه، وليس هو منهم كالإسماعيلية والقدرية والجهمية... الخ، والمرجئة.

وأما أهل السنة، والجماعة، فإنهم تسموا بهذا الإسم (الجماعة) لالتزامهم بالجماعة، وهي جماعة أهل الإسلام، ونبذهم الفرقة، والخلاف، وحكمهم بإسلام كل من قال: لا إله إلا الله، ولم يخرج عنها بمكفر ظاهر.

ومن أجل ذلك كان أهل هذه الطائفة الحقة هم الذين قام فيهم الإسلام واضحاً جلياً من حيث الاتباع، والالتزام، والحفظ، والتعهد فهم أهل الحديث، والفقه، وهم علماء الحديث، والأثر المتقدمين بحمد الله على هذا المنهج الحق، وجميع فقهاء أهل الإسلام المشهورين، وأئمة الدين المتبوعين، وسادة المسلمين من الصحابة والتابعين.

وشأن هذه الطائفة الاجتماع على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الفرقة، والخلاف ولذلك كانوا بحمد الله هم سواد أهل الإسلام وعامة المسلمين وأما غيرهم ففرق، وشراذم، وأهل ضلالات يظهر بعضها، ويختفي بعضها على مدى العصور، وتنتشر ضلالتهم حيناً، ثم تختفي، وتبور أحياناً أخرى.

وأهل السنة، والجماعة هم الأمة الحقيقية للإسلام، والسواد الأعظم، والقرون الإسلامية المتصلة جيلاً بعد جيل، والطائفة الظاهرة المنصورة القائمة باقية قولاً، وعملاً على مدار السنين، والتي حافظت على أصول الإسلام المعصومة، وعملت بمقتضاها في الجملة. وهذه الأصول هي: الكتاب، السنة، وإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحصر الإجماع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، إنما كان لأنه لم يتحقق إجماع بمعني الإجماع إلا في زمانهم، ولأن الله سبحانه وتعالى شهد لهم بالإيمان والفضل، وأثنى عليهم في كتابه، كما قال سبحانه وتعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285)، وشهد لهم بالفضل، كما قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح:29).

وشهد سبحانه أنه رضي عنهم كما قال جل وعلا: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح:18).

وأخبر أنه سبحانه قد تاب عليهم كما قال جل وعلا: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} (التوبة:117)

ووعدهم الله عز وجل بالنصر، والتمكين، ووفى لهم، كما قال جل وعلا: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} (النور:55) وقد فعل سبحانه.

نعم قد كان فيهم منافقون بين الله أخبارهم وهتك أستارهم، ولكنهم كانوا قلة معلومة محصورة. وأما عامة الصحابة، وسوادهم فكانوا من المؤمنين المخلصين المتقين، ولذلك قال لهم الله سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110).

فإذا أطلق اسم الجماعة، كما جاء الحديث: [عليكم بالجماعة]، كان أول من يدخل في مسمى الجماعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يجمع أمتي] أو قال: [أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار] (أخرجه الترمذي رقم (2168) في كتاب الفتن باب لزوم الجماعة، والحاكم (1/116)).

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: [إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فاختار له أصحاباً، فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح]. (أخرجه الإمام أحمد برقم (3600)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/177))

ومن أجل ذلك فإن أهل السنة، والجماعة، يجعلون إجماع الصحابة على أمر ما حجة قاطعة في الدين، ويقدمون فقههم، واجتهادهم على كل فقه واجتهاد، ويفسرون القرآن ويفهمون السنة على النحو الذي طبقوه، فهم أعنى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم قدوة أهل السنة والجماعة في فهم الإسلام، والعمل به.

ومن أجل هذا كانت البدعة هي ما خالف القرآن، والسنة، وإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

هديب الشام
10-05-2002, 09:47 AM
الباب الثاني
ضوابط وقواعد في البدعة وأهل البدع

4- تعريف البدعة.

البدعة: "طريقة مستحدثة في الدين، يراد بها التعبد، تخالف الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة"، وقد عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "والبدعة: ما خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات: كأقوال الخوارج والروافض، والقدرية، والجهمية وكالذين يتعبدون بالرقص، والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة. والله أعلم" (الفتاوى 18/346).

وهذا الكلام على قلته جامع مانع في تعريف البدعة من حيث أنها ما خالف القرآن، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وذلك في الاعتقادات والعبادات. كأقوال الخوارج القائلين بإخراج المسلم من الإسلام بالمعصية التي لا تبلغ حد الكفر، والشرك، وقتال أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان، وغير ذلك من بدعهم، وكذلك بدع الروافض الذين زعموا أن الله نص على اثني عشر إماماً بأعيانهم وأن من خالف ذلك فهو كافر، ونحو ذلك من أقوالهم التي خالفوا فيها القرآن والسنة، والإجماع، وكالقول بنقص القرآن، وتحريفه، والقول بالرجعة، والبداء، وكذلك القدرية في إنكارهم عموم المشيئة، والجهمية في جحدهم معاني الأسماء والصفات، ومثل الصوفية الذين يبيحون السماع، والرقص في المساجد، ومصاحبة الولدان، وأكل الحشيش!!! الخ.

5- البدعة اللغوية.

والبدعة التي لم تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً لسلف الأمة، هذه البدعة إنما سميت بدعة في اللغة، إلا أنها قد لا تكون سيئة، بل قد تكون حسنة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة، قال الشافعي رحمه الله: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً، وأثراً عن بعض (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: [نعمت البدعة هذه] وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل، ويروي عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفا، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء" (الفتاوى 20/163).

ومثل هذا ما استحدث من وسائل، وأساليب في العلم، والتعلم، والدعوة، كالمدارس، والجامعات، وطبع القرآن، ونشره، وتنظيم الجيوش، والدواوين، وما قد يدخل في المصالح المرسلة، وما لا يتم الواجب إلا به. وقد فصلنا هذا كثيراً في مواضع كثيرة عند البحث في أساليب الدعوة ووسائلها.

6- حد البدعة التي يكون بها الرجل من أهل الأهواء.

لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع، إلا إذا جاء، أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخروج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبدالله بن المبارك، ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: "أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة"، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

و"الجهمية" نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة، والمتفلسفة، ومن اتبعهم، وقد قال عبدالرحمن بن مهدي: هما صنفان، فاحذروهما: الجهمية، والرافضة. فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية، والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الاتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية".

و"الرافضة" في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فانهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثمن قد يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية، ونحوهم من أهل الزندقة، والاتحاد. والله ورسوله أعلم" (الفتاوى 35/414-415).

7- أصول البدع.

أصول البدع القديمة خمسة هي: "الرفض، والخروج، والتجهم، وإنكار القدر، والإرجاء" والبدعة -كما مر- طريقة مستحدثة في الدين، ولها صور كثيرة متعددة فإما تكون بإحداث زيادة ليست في الدين وجعلها منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] (متفق عليه)، وإما بحذف ما هو من الدين كبدعة من أنكر السنة، وقالوا حسبنا كتاب الله، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: [يوشك رجل شبعان على أريكته يقول حسبنا كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت هذا القرآن، ومثله معه] (أخرجه أبو داود (4604) عن المقدام بن معدي يكرب في صحيح الجامع الصغير برقم(2643)). فنفاة السنة مبتدعة، وأما أن تكون البدعة بتحريف معاني النصوص من آيات، وأحاديث، كما هي بدعة المؤولة من الجهمية، والمعطلة، وإما أن تكون بجهل، وتطرف، ومروق من الدين كما هي بدعة الخوارج..

*وأصول البدع قديماً أربعة، وهي: (الرفض، والخروج، والإرجاء، والقدر)، وهذه الأصول تفرعت بعد ذلك، وتشعبت، فالرافضة افترقوا على أكثر من خمسة عشر فرقة، وأكثر من مائة مقالة مختلفة، وكذلك الخوارج والمرجئة والقدرية.. وأما الجهمية المعطلة فإن عبدالله بن المبارك لما سئل عنهم قال: "ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا لنحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نستطيع أن نعدهم مسلمين" والزنادقة منافقون يتسترون بالإسلام، ولكن يلبسون كفرهم لباساً إسلامياً، ويخرجون بأقوال ومقالات غاية في الكفر، ويحملون عليها آيات القرآن ولا وجه لحملها مطلقاً، فليس لهم قط تأويل سائغ، ويدخل في هؤلاء أهل التأويل الباطني لكلام الله، وأصول البدع الأربعة، أو الخمسة إذا أضيف إليها التجهم، وهو نفي الصفات ومعاني الأسماء، أصولها ما زال لها وجود، وتشعبات إلى اليوم.

هديب الشام
10-05-2002, 09:48 AM
8- اللادينية بدعة العصر الحاضر.

وقد نشأ ما هو شر من ذلك كله، وهو (اللادينية) أو (العلمانية) وهي البدعة التي يفرق أصحابها بين الدين والدنيا، وجعل أحكام الدين التي يجب اتباعها إنما هي في العقائد، وأعمال القلوب فقط، وإخراج المعاملات، والسياسات، والحلال، والحرام عن حكم الدين، والشريعة، وجعل التشريع في هذه الأمور خاصاً للأمة، أو الشعب، والناس، وإبطال فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أجل القول بأن الدين سلوك فردي، واختيار شخصي، ولا سلطان لأحد على أحد فيه.. وهذه أعظم بدعة معاصرة، وعلى أساس هذه البدعة تقوم اليوم معظم الحكومات، والجامعات، والأحزاب، والمؤسسات، والنظم السياسية المعاصرة، وخاصة الديمقراطية التي تقوم على هذه العقيدة وهي الفصل بين الدين، والدنيا، وجعل الحكم للشعب، والأمة، وليس لله سبحانه وتعالى.

وهذه أعظم البدع العقائدية المعاصرة بإطلاق، وهي التي يقوم حولها الصراع بين أنصار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساساً على أن الحكم لله، وأن الجميع منفذ لأمره، خاضع لمشيئته، وبين أنصار عقيدة الحياة، أو العلمانية التي تقوم عقيدتهم على أن الحكم للشعب، وأن ما ارتضاه هو ما يجب تشريعه، وما لم يرتضيه فلا يجوز أن يجبر عليه، وكذلك رفض ما يسمى بالحكومة الدينية.

9- زيادة تفصيل في بدعة (العلمانية).

وأما البدعة المعاصرة التي هي بحق شر من البدع جميعاً فهي البدعة التي جاءت إلى هذه الأمة من النصارى، واليهود، ولعل هذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: [لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه]، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: [ومن الناس إلا أولئك] (متفق عليه).

وهذه البدعة نشأت أولاً في أوربا في عصورها المسماة بالوسطى حيث كان رجال الكنيسة يتولون الحكم فلما فسقوا، وفجروا، وتكبروا، وساعدوا الطغيان، وأنكروا العلوم العصرية، والقوانين الطبيعية، وأحرقوا علماء الطبيعة، وأكلوا السحت، وحولوا الأديرة إلى مباءات للفساد، وكنزوا الذهب، والفضة التي يستحلونها ببيع المغفرة والجنة، واطلع الناس بعد ذلك على حقيقة أحوالهم، وأنهم ليسوا رهباناً امتنعوا عن الزواج وكسب العيش للعبادة، وإنما ملوك فسقة جبابرة جهلاء يمارسون الفاحشة مع الراهبات، ويعيشون حياة جنسية مبتذلة، ورفاهية فائقة، قامت الثورة عليهم، ورفع شعار: (اقتلوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)! ثم استحدث الناس النظام اللاديني الذي فصل بين الكنيسة والحياة، وجعل للكنيسة قدراً لا تتعداه، وهو الشعائر العبادية فقط دون التدخل في حياة الناس، وجعل الحكم في كل الأمور الحياتية للشعب والأمة.

ولقد كان هذا سبباً في رقي أوروبا، وامتلاكها ناصية العلم المادي وتحولها إلى أمم غازية، محاربة، مستعمرة، وقد فوجئ العالم الإسلامي الذي كان غارقاً في الجهل، والتفكك بهجوم أوروبا اللادينية عليهم، وقام من أبناء المسلمين من ينادي بأن يفعل بالإسلام ما فعل بالنصرانية، فيعزل الدين ورجاله وعلماؤه عن الحياة، وتقام دساتير وقوانين يجعل التشريع فيها للشعب، والأمة، وذلك اقتداء بأوربا التي لم تنهض إلا بذلك!!!،

*ولما كان الإسلام غير النصرانية المحرفة، وكان علماء الإسلام، وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كملوك أوروبا وأباطرتها.. قامت المعركة طويلاً وما زالت بين أهل الإسلام الحقيقي المنتمين لأهل السنة، والجماعة، واللادينيين الذين انسلخوا عن أمتهم، ودينهم، وينادون بأن يكون الحكم لله في المسجد فقط، والحكم للبشر في سائر أنحاء الحياة!!

هذه خلاصة عاجلة لمفهوم (العلمانية واللادينية) وهي أخطر البدع التي تجابه المسلمين اليوم لأن المفتونين بها الآن هم كثرة الناس، وسوادهم، ومتعلموهم، والغرب الكافر الآن يساعد أصدقاءه، وأولياءه ممن يدينون بالعلمانية من الحكام، والكتاب والمدرسين والمثقفين والجيوش.

ولا يزال هذا الصراع قائماً حتى تعلو بحول الله راية الحق في النهاية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: [ولن يترك الله بيت مدر، ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز، يعز الله به الإسلام، وأهله، وبذل ذليل، يذل الله به الكفر، وأهله] (السلسلة الصحيحة لشيخنا محمد ناصر الدين الألباني 35).

ولا شك أن (اللادينية أو العلمانية) كفر، وخروج عن الإسلام لأن حقيقتها أنه ليس لله أمر، ولا نهي، ولا حكم، وأن الأديان كلها سواء، وليس فيها حق، وباطل وأن من دان بالإسلام عقيدة كمن دان بالبوذية، أو الهندوسية، أو اليهودية بلا تفريق، وأنه لا جهاد، ولا دعوة، ولا عمل لإعلاء كلمة الله في الأرض، وكل هذا كفر وردة.

وقد ذكرنا العلمانية في مسمى البدع لأن كثيراً من أهل الإسلام أصبح يدين بها، وكثير من هؤلاء يصلون، ويصومون ويزكون، ويحجون، ولكنهم يقولون: إن الحكم لا يجوز أن يكون ديناً، ولا أن تقوم حكومة على أساس الدين، وإنما يجب أن يفصل بين الدين، والدنيا، فيكون الدين فقط في شئون الآخرة، وأما المعاملات الدنيوية، والحياة، فالبشر وحدهم هم الذين يختارون فيه ما يشاءون.

وهذه البدعة هي بدعة العصر في الوقت الحاضر، ويجب التصدي لها، وبيان خطورتها على الإسلام، وفضح الدعاوي العريضة التي تزكيها، وتدعو إليها، وتصور للمسلم أنه يبقى مسلماً مع اعتناقها!!!

10- البدعة المركبة.

وهناك من أهل البدع من جمعوا أكثر من بدعة، فالرافضة مع الرفض جهمية ينكرون الصفات ورؤية الله في الآخرة وهم على منهج المعتزلة في الأسماء والصفات. والمعتزلة جهمية في الصفات، وهم مع التجهم قدرية. والخوارج كذلك على منهج المعتزلة في الأسماء والصفات.

11- بدعة الزنادقة.

من أشر ما ابتدعه الزنادقة في الدين، التأويل الباطني لكلام الله، وحمل كلام الله وكلام رسوله على العقائد الضالة التي هي للمجوس والمشركين والصابئة، والفلاسفة، فالفرق الباطنية جميعها تقوم على هذه البدعة (الزندقة). فمقالات الإسماعيلية الباطنية ومقالات الحلولية والاتحادية، ووحدة الوجود وتألية البشر، وتعمد الكذب على الله ورسوله، وتفسير القرآن بما سموه الباطن كقولهم: {وإلهكم إله واحد} أي إمامكم إمام واحد، وقولهم: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} فسروه لا تتخذوا إمامين اثنين!! وحملوا قوله تعالى: {أإله مع الله} قالوا معناها: (أإمام هدى مع إمام ضلالة)!!.. وقالوا إن الإمام المقصود بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب واتخاذ أبي بكر إماماً باطل واستدلوا بقوله تعالى: {أإله مع الله}..

فهذا ومثله من التأويل الباطني الخبيث لكلام الله سبحانه وتعالى هو فعل الزنادقة الملحدين الذين صرفوا كلام الله عن معانيه الحقيقية إلى هذه المعاني الباطلة.

وحركة الزندقة كانت حركة عظيمة سرية أفسدت الدين وأدخلت في عقائد الفرق الضالة مقالات شنيعة تهدم الدين من أساسه.

وقد تصدى لهذه البدعة منذ أول ظهورها علماء الإسلام كما رد الإمام أحمد عليهم في كتاب (الرد على الزنادقة) وهم الذين نفوا وجود الله فوق عرشه سبحانه وتعالى..

وكتب الغزالي كتاباً عظيماً سماه (فضائح الباطنية) كشف فيه جانباً عظيماً من تلبيساتهم وتأويلاتهم.

هديب الشام
10-05-2002, 09:49 AM
12- الصوفية بدعة البدع جمعت كل البدع.

التصوف من البدع المركبة فهو يبدأ بالبدع العملية في الأذكار والأوراد، كالسماع، وينتهي بأشنع البدع وأشدها نكارة وفحشاً وكفراً وهو (وحدة الوجود)..

وفيما بين هاتين البدعتين جمع التصوف ادعاء علم الغيب، والغلو في الصالحين، وادعاء الولاية للزنادقة الملحدين، وصرف الناس عن العلم الشرعي والكتاب والسنة، واتباع سبيل المشعوذين الضالين إخوان الشياطين، وادعاء الولاية، والفتوة، والصفاء والصلاح، مع العكوف على أعظم البدع والمنكرات، وبدعة التصوف من التلبيس والتلون والخفاء بحيث تخفى على كثير من الناس، وقد تتبعنا بحمد الله هذه البدعة منذ أول ظهورها في الإسلام وإلى عصرنا الحاضر مع بيان عقائد أهلها، وشرائعهم وطرائقهم وتلبيسهم على الناس، وكشفنا بحمد الله هذا كله في كتابنا الفريد (الفكر الصوفي على ضوء الكتاب والسنة) فليراجع لمعرفة أبعاد هذه البدعة الخطيرة التي كان من آثارها تحويل جمهور عظيم من أمة الإسلام عن الإسلام الحق، وتقويض آخر خلافة إسلامية للمسلمين، وفتح ديار المسلمين لدخول الزنادقة والملحدين بل وجعلهم أئمة في الدين وقدوة للمؤمنين والحال أنهم زنادقة ملحدون.

13- مفاسد بدعة الخوارج.

ولا شك أن بدعة الخوارج من شر البدع وذلك لأمور كثيرة منها:

أ- أن ظاهر تمسكهم بالدين يوهم عموم الناس، ومن لا فقه له بأنهم أحق الناس بالدين، والإسلام، وهم في الحقيقة على غير ذلك. ولذلك فهم يشتبهون على كثير من الناس. كما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. فقيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله بكرة وأصيلاً. قيل:من هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا. (جامع الأصول لابن الأثير 10/79-87)

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: هم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (صحيح البخاري 12/295).

ب- أن حربهم وبأسهم لا يكون إلا على المسلمين، وما عرف خارجي في القديم، ولا سائر على منهجهم في الحديث إلا وكل همه نصب العداوة لأهل الإسلام وترك أهل الكفر والأوثان!!

ج- إنها أول البدع ظهوراً، وأبقاها على مدى العصور، كما قال صلى الله عليه وسلم: [كلما خرجوا قطعوا حتى يخرج آخرهم مع الدجال] (أخرج ابن ماجة (174) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ينشأ نشئٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم كلما خرج فرق قطع حتى يخرج في أعراضهم الدجال] السلسلة الصحيحة(2455)).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أول البدع ظهوراً في الإسلام، وأظهرها ذماً في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم، وذمهم، والأمر بقتالهم".

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة] (متفق عليه).

والحرورية لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم أولاهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل] (مسلم (1063) عن جابر). فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهاً وترك عدل، وقوله: اعدل، أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة، أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف -بزعمهم- ظاهر القرآن.

وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا، فإنهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكي عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق والمصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة، إما برد النقل وإما بتأويل المنقول. فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن. وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.

والأمر الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين، وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم.

فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً. (الفتاوى 19/71-73)

14- إياك ومنهج الخوارج.

وسبب ضلال الخوارج ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله أنهم جعلوا ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة، وكذلك أنهم حكموا على المسلمين بالكفر بما رأوه ذنباً وعاملوهم معاملة الكفار، فاستحلوا بذلك دماءهم وأعراضهم وأموالهم..

ومما يشابه منهم الخوارج من وجه هؤلاء الذين يتهمون إخوانهم في الدين والعقيدة، ويخرجونهم من أهل السنة والجماعة وبذلك يستحلون أعراضهم، وحربهم، وتحذير الناس منهم، وقد يتقربون إلى الحكام بدمائهم.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم".

وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة. ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباً سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين" (الفتاوى 19/75)

وقد لا يصل بعض المتشددين أن يكون خارجياً فيقف دون التكفير لإخوانه ولكنه يشتط في معاداة إخوانه المسلمين، وظلمهم، وبغضهم فيفرط في حقوق الموالاة لهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وأما التكفير باعتقاد بدعي فيد بينته في غير هذا الموضع، ودون التكفير قد يقع من البعض والذم والعقوبة -وهو العدوان- أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات بما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله تعالى أو في حق المخلوق، كما بينته في غير هذا الموضع. ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس" (الفتاوى 19/75).

هديب الشام
10-05-2002, 09:50 AM
15- التفريق بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها.

هذا ولقد فرق السلف رضوان الله عليهم بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها، فرقوا في الرواية عنه، والسلام عليه حياً، والصلاة عليه ميتاً، وزيارته، ومودته، والاستفادة من علمه في غير هذه البدعة كأن يكون قارئاً للقرآن معلماً له أو عالماً بالأخبار، أو التواريخ ونحو ذلك. قال أبو داود:

"قلت لأحمد لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله لماذا لا تقرئهم؟"

أخبرنا أبو بكر قال حدثنا أبو داود قال: قلت لأحمد: نكلمهم؟ قال: نعم إلا أن يكون داعياً ويخاصم فيه" (مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص276)

قال عبدالله:

قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ لعله يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أينبغي أن أسكت فلا أحذر عنه، أو أحذر عنه؟ قال: إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها تحذر منه. (مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص276)

ويقول شيخ الإسلام في معرض بيان منهج أهل السنة في عدم تأثيم المجتهد وإن أخطأ في اجتهاده:

"ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع". (الفتاوى 13/125)

ثم قال بعد ذلك:

"ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، ومن ردها كمالك وأحمد فليس مستلزماً لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، ولهذا فرق أحمد، وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخرقي: ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد". (الفتاوى 13/125)

والشاهد هنا هو قول شيخ الإسلام بأن الإمام أحمد فرق بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره ممن يعتقد هذه البدعة ولا يدعو لها.

16- القول في تكفير أهل البدع.

عرفنا في الفصل السابق أصول البدع القديمة وما تفرع عنها وأهم البدع المعاصرة وهي (اللادينية أو العلمانية) ونأتي الآن إلى الحكم الشرعي على أهل البدع، أكفار هم أم لا؟ وإذا قيل كفار فهل هم من المخلدين في النار؟

وننقل هنا كلاماً جامعاً مانعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:

"وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبدالله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا:

"إن الجهمية كفار لا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة"

وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة وجعلوا أصول البدع خمس، فعلى قول هؤلاء: يكون كل طائفة من (المبتدعة الخمسة) اثنا عشر فرقة.

وهذا يبنى على أصل آخر، وهو (تكفير أهل البدع) فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله: هو في النار، مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء:10)

ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين:

منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنسبين إلى الأئمة أو المتكلمين.

وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير (المرجئة) (والشيعة) المفضلة (الشيعة المفضلة هم الشيعة الأُول الذين فضلوا علياً على أبي بكر وعمر وهؤلاء لا يكفرون وإن كانوا مخالفين للصحابة جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه الذي ثبت عنه من ثمانين وجها أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وقال: من فضلني على أبي بكر جلدته حد المفترى. وأما الشيعة الآخرون وهم أكثر من سبعين فرقة منهم الأمامية الإثنا عشرية، فهم الذين يقولون إن الله نص على إمامة علي واثنى عشر من أولاده، وهؤلاء يكفرون جميع المخالفين والصحابة إلا ثلاثة أو خمسة، ويقول جمهورهم بل اجماعهم في القرن الثالث والرابع بتحريف القرآن، ويفضلون هؤلاء الائمة الإثنى عشر على سائر الأنبياء والمرسلين، وكذلك الملائكة، ويدعون لهم علم الغيب والعصمة، وأنهم مفوضون في التشريع يشرعون ما شاءوا) ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة (لأن الذي لم يبلغه الحق والصواب، ومن لُبِّس عليه، فهو معذور والسلف يرون العذر بالجهل في الأصول والفروع).

ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة.

والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير (الجهمية المحضة) الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات.

وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عند أحمد وغيره. وأما القدرية الذين ينفون (الكتابة) والعلم فكفروهم (أي من ينفي أن يكون الله قد علم أفعال الخلق قبل أن يخلقهم، أو ينفي كتابة المقادير قبل الخلق)، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال. (الفتاوى 3/351-353)

17- ضوابط تكفير أهل البدع.

ومعلوم أن السلف رضوان الله عليهم قد تحرزوا وتورعوا كثيراً في قضية التكفير، ولم يشهدوا على أحد ممن انتسب إلى الأمة بكفر إلا أن يكون كفراً معلوماً صريحاً فيه من الله برهان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أصلين في ذلك نذكرهما قال:

"وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:

أحدهما: الناس صنفان فقط: مؤمن وكافر:

أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة فصار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكفار به مظهر الكفر ومنافق مستخف بالكفر

ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، وذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشر آية في المنافقين.

وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب:48). وقوله: {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} (النساء:140) وقوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} (الحديد:15) وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء:45). وكما قال: {ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله} (التوبة:84) وكما قال: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} (التوبة:53-54).

وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً (هو عبدالله بن سبأ اليهودي الأصل، والذي ادعى الإسلام في عهد عثمان، وألب الناس عليه، وهو أول من قال بأن علياً هو وصي الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنده أسرار الدين، ولما قتل علي رضي الله عنه قال: لو أتيتمونا برأسه في سبعين صرة مرة، فلن نؤمن بأنه قتل، أو مات، وإنما رفع إلى السماء). وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق. ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرفض والجهمية لقربهم منها.

ومن أهل البدع من يكون فيه إيماناً باطناً وظاهراً، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقاً أو عاصياً، وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفوراً له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.

وهذا الكلام المجمل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيله كالآتي:

1) الناس صنفان فقط مؤمن وكافر.. والمنافق الخالص داخل في مسمى الكافر. لأنه كافر بقلبه ويظهر الإسلام كذبا.

2) من المبتدعة كفار وهم الزنادقة الملحدون، وطوائف الباطنية الذين تظاهروا بالإسلام زوراً وأرادوا هدم الإسلام، واخترعوا مقالاتهم ليضلوا المسلمين وألبسوها لباس الإسلام زوراً وهم يعلمون حقيقة ما يصنعون. كابن سبأ مخترع الرفض، وجهم وأشكالهما.

3) ومنهم مبتدع جاهل أو متأول يظن أن ما قاله واعتقده من البدعة حق، وأن هذا هو دين الله، وهذا لا يجوز إخراجه من الإسلام.

والأصل الثاني:

18- يجب التفريق بين الكفر والكافر.

إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب فلا يكفر وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما انزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه ولما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم.

19- أوجه فساد مقالة الجهمية.

وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف.

الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع. وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع. فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله.

الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلهم، لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات. ويكون أولئك المؤمنون بالله ورسوله باطناً وظاهراً وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.

20- أصل قول أهل السنة.

وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية، والمعتزلة، والمرجئة (يعني شيخ الإسلام أصل قول أهل السنة في مسألة الإيمان) أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان] (متفق عليه) وحينئذ تتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.

21- أصل قول الخوارج.

وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب ويعتقدون ذنباً ما ليس بذنب ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب -وإن كانت متواترة- ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه -لارتداده عندهم- ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال صلى الله عليه وسلم فيهم: [يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان] (صحيح الجامع الصغير (2227) عن أبي سعيد الخدري) ولهذا كفروا عثمان وعلياً وشيعتهما، وكفروا أهل صفين -الطائفتين- ونحو ذلك من المقالات الخبيثة.

هديب الشام
10-05-2002, 09:51 AM
ثم قال شيخ الإسلام:

"وأصل قول الرافضة: ان النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي نصاً قاطعاً للعذر، وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفراً قليلاً: إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين. وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفاراً، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى، ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ويوالون الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، وكذا يوالون اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا من المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني فإنما معناه لست رافضياً.

ولا ريب أنهم شر من الخوارج: لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة. وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون اليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام.

22- القدرية المحضة الذين لم يجمعوا مع القول بنفي القدر غير ذلك من البدع أخف من الخوارج، والروافض.

وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضاً، وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك.

23- الإرجاء أخف البدع.

وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعضلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة.

ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون: تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيراً عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري:

"من قدم علياً على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك". أو نحو هذا القول. قاله لًّما نُسب إلى تقديم عليٍّ بعضُ أئمة الكوفيين.

وكذلك قول أيوب السختياني:

"من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار" قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين. وقد روى أنه رجع عن ذلك وكذلك قول الثوري، ومالك، والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين. أ.هـ (الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/325-357)



24- هل كفر الإمام أحمد رحمه الله الجهمية بأعيانهم؟

وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية في الفتاوى ورجح أن الإمام أحمد رحمه الله لم يكفر الجهمية بدليل أن دعا للخليفة، وحلل جميع الذين آذوه مما فعلوه معه وعفا عنهم بالرغم من أنهم دعوه إلى القول الذي كفر وهو القول بخلق القرآن، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم.

وهذا هو تحقيق شيخ الإسلام في هذه القضية: قال:

"إن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر (الجهمية) الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئاً من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عن الولاية والشهادة، والإفتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعياً إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه.

ومعلوم أن هذه من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد رحمه الله دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم، فإن الإستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة.

وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين. فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم." (الفتاوى 12/488-489) وأخبر شيخ الإسلام أنهم ربما كانوا معذورين بجهلهم في ذلك أو عدم وصول المعنى الصحيح لهم، أو تأويلهم الخاطئ لنصوص القرآن والسنة، وقال:

"وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، ولبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة.

وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: {بل عجبتُ} (أي بناء المتكلم والضمير يعود لله سبحانه وتعالى، والمعنى أنه عجب سبحانه من إنكار الكفار لإعادتهم البعث والحال أنهم يقرون بأنه هو الذي خلقهم جل وعلا أول مرة وذلك في قوله تعالى {بل عجبت ويسخرون} وفي القراءة الأخرى بل عجبتَ بالفتح للمخاطب) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريحٌ شاعرٌ يعجبه علمه. كان عبدالله أفقه منه، فكان يقولبل عجبتُ) فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب و السنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} (الرعد:31) وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء:23) وقال: إنما هي: ووصى ربك. وبعضهم حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر." (الفتاوى 2/492-493)

وجمع شيخ الإسلام رحمه الله موجبات عدم الحكم بتكفير المتأول في الدين فقال:

"فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، إما إنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها." (الفتاوى 12/493)

25- لا يكفر المجتهد المخطئ سواء كان ذلك في أصول الدين أم فروعه.

وبين في آخر تحقيقه أن المجتهد المخطئ لا يكفر ما دام أنه في دائرة الإجتهاد ولو كان ذلك فيما اصطلح عليه بأصول الدين، أو فروعه فقال:

"وأيضاً فقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان، ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة.

26- لا يفسق المعروف بالخير من المسلمين بخطأ أخطأ فيه أو تأويل باجتهاد.

وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة المعروفين، وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم، فضلاً عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة: إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولاً لا يجلد ولا يفسق. فقد قال تعالى: {وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث، إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً} (الأنبياء:77-79) وقال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (الحشر: 5) وثبت في الصحاح من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] وثبت في الصحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم] (الفتاوى 12/495)

27- المجتهد المخطئ في طلب الحق مغفور له سواء كان في المسائل النظرية (التي يسميها بعض الناس أصول الدين) أو المسائل العملية (التي يسميها بعض الناس فروع الدين).

هديب الشام
10-05-2002, 09:52 AM
قال شيخ الإسلام رحمه الله:

"وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجماهير أئمة الإسلام.

وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.

فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا التفريق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الإعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الإعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالإتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالإتفاق، وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية. قيل له: كثير من مسائل العلم قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن رده منه، وعند رجل آخر لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغه النص، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.

وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: [إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب! فغفر الله له] فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له (الفتاوى 23/346-347)

وقال أيضاً:

"ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جعل الدين (قسمين) أصولاً وفروعاً لم يكن معروفاً في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم. وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.

ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويُصلون خلفهم، ومن ردها -كمالك وأحمد- فليس ذلك ملزماً لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته كان ذلك منعاً له من إظهار البدعة، ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخرقي: "ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد" (الفتاوى 13/125)

وهذا واضح أن الإمام أحمد وشيخ الإسلام لم يكفرا المجتهد المخطئ وأن تركهما للصلاة خلف أهواء إنما كان لزجرهم وليس للقول بكفرهم، وأن هذا كان للمصلحة الشرعية في تقليل شر البدعة وحصرها لا أن أصحابها كفار مارقون.

وقد كان هذا هو رأي جمهور السلف أيضاً كما نقل البغوي أن الإمام الشافعي رحمه الله أجاز شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم مع الكراهة (شرح السنة 1/228) ونقل عن أبي سليمان الخطابي أنه لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطأوا ويجيز شهادتهم، ما لم يبلغ من الخوارج والروافض في مذهبه أن يكفر الصحابة. أو من القدرية أن يكفر من خالفه من المسلمين فقد كان يرى بطلان الصلاة خلف هؤلاء، وعدم نفاذ قضاء قضاتهم (شرح السنة 1/228-229)

28- هل حكم الإمام البخاري بكفر الجهمية؟

وقد نقل عن الإمام البخاري رحمه الله تكفير الجهمية وعدم جواز الصلاة خلفهم فقد قال: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهلُ من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى." (خلق أفعال العباد 71)

ولكن من المعلوم أن الإمام البخاري رحمه الله روى عن عدد منهم، بل وعن كثير من أهل الأهواء يقاربون السبعين نفساً، ولو كان يرى كُفْرَهم ما استحل الرواية عنهم.

وكذلك كان يَرى جواز الصلاة خلف المبتدع والمفتون، كما روى رحمه الله في صحيحه أن عثمان رضي الله عنه أمر بالصلاة خلف الخوارج الذين خرجوا عليه. (انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب الأذان باب 56)

وتكفير البخاري رحمه الله للجهمية يبدو أنه (للجهمية الغالية) التي تنفي الأسماء والصفات كلها وتقول وجود الله مطلقٌ عن كل اسم وصفة، هذا مع قولهم بالجبر، وأن الإيمان هو المعرفة فقط إلى آخر مقالاتهم الشنيعة.

أما الذين روى عنهم البخاري فهم ممن فيهم تجهم لا يبلغ إلى هذا الحد، فالتجهم درجات كما قال ابن تيمية رحمه الله فقد قال:

"كذلك التجهم على ثلاث درجات: فشرها (الغالية) الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا يتكلم...!!

(والدرجة الثانية) من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله في الجملة ولكن ينفون صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، ويجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون. (والدرجة الثالثة) هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية ولكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، ويردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها، كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه بعض من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث، (ومنهم) من يقر بالصفات الواردة في الأخبار في الجملة ولكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، ولكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعاً عظيماً فيما يثبتونه من الصفات (أو ينفونه من الصفات)، وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم. (ومنهم) من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر الناس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه بين النفي، والإثبات." أ.هـ (بيان تلبيس الجهمية ج 1/12)

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مراد بعض السلف من إطلاق لفظ الجهمية على قائل ما أنه وافقهم في بعض مقالتهم ليتبين ضعف قوله: قال:

"ومن المعلوم أنهم أرادوا بذلك افتراقهم في (مسائل القرآن) خاصة، وإلا فكثير من هؤلاء يثبت الصفات والرؤية والإستواء على العرش، وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل: أي أنه وافق الجهمية فيها: ليتبين ضعف قوله لا أنه مثل الجهمية، ولا أن حكمه حكمهم، فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول". (مجموع الفتاوى 12/206 عن التسعينية لابن تيمية).

29- خلاصة ما جاء في هذا الباب.

1- البدعة هي ما خالف الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة من الإعتقادات والعبادات.

2- أصول البدع خمس هي: الرفض، والخروج، والتجهم، والقدر، والإرجاء.

3- بدعة العلمانيين (اللادينية) هي بدعة العصر، وهي شر البدع التي ظهرت في أمة الإسلام.

4- الناس في نهاية الأمر صنفان مؤمن، وكافر، وأما المنافق فهو داخل في الكفار.

5- المجتهد المخطئ معذور سواء كان اجتهاده فيما سماه الناس أصول الدين أو فروعه.

6- البدعة قد تكون كفراً لكن قائلها لا يُكَفَّر إلا وفق ضوابط التكفير وهو ألا يكون متأولاً، أو جاهلاً.

7- القول في التبديع كالقول في التكفير.

8- أهل البدعة الواحدة درجات في بدعتهم. فالتشيع درجات والتجهم درجات، والخروج درجات، وكذلك الإرجاء.

*فأدنى التشيع تفضيل علي على عثمان، وبعده تفضيل علي على الشيخين دون الحط من الشيخين، وبعده مع الحط على الشيخين. وبعده تكفير الشيخين وهذا زندقة وكفر.

*وأدنى التجهم تأويل بعض الصفات الخبرية، وفوقه تأويل جميع الصفات ما عدا ثلاثة، وما عدا سبعة، وفوقها نفي الصفات جميعاً ومعاني الأسماء كلها، وفوق النفي نفي النفي كذلك وهذا الذي قبله زندقة وكفر.

*والخروج درجات أدناه تكفير المسلم بالمعصية، وفوقه استحلال دمه مع القعود عن ذلك (وهو قول القعدة) وفوقه السعي في قتله، وفوقه ملاينة أهل الكفر وقتل أهل الإسلام... والنص على كفر الذين قاتل بعضهم بعضاً من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والإرجاء درجات أدناه ترك الاستثناء في الإيمان... وأعلاه القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.

والقدرية درجات أقلها إخراج أفعال العباد من المشيئة، وأعلاها نفي علم الله السابق في عباده وهذا كفر.

هديب الشام
10-05-2002, 09:52 AM
الباب الثالث
مواقف السلف من أهل البدع
تقديم:

عرفنا في الباب السابق بحمد الله وتوفيقه ضوابط البدعة، ومتى يحكم على المبتدع بالكفر، ومتى لا يحكم عليه بكفر. والآن نأتي إلى بيان الضوابط الشرعية للتعامل مع المبتدع، وكيف يكون؟ والمدى الذي يوصل إليه في التعامل معه:

30- أولاً: حراسة الدين. وإبطال البدع.

*أول موقف لأهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو نَفيرهم الدائم لحراسة الدين، وإبطال البدع فما كان يطلع للبدعة قرن إلا ويهب الرجال العاملون والعلماء المخلصون لاستئصال شأفة هذه البدعة وإماتتها وقطعها عن طريق الأمة.

*وذلك أن الإسلام يشبه الثوب النظيف المصنوع من نسيج واحد، والبدعة إما رقعة دخيلة تشوه جمال الثوب، أو قذارة مشينة تعلق بالثوب، أو استبدال كامل للدين الحق بدين باطل.

وكان دأب السلف رضوان الله عليهم من الصحابة وتابعيهم بإحسان هو إبقاء ثوب الإسلام نسيجاً وحده، والمحافظة على طهارته ونقاوته..

*وإذا أردت مثلاً آخر فقل: الإسلام كَنَهْر رائق عذب صاف، مصدره الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة، والبدعة قذارة تُلقى في النهر، وإبعاد هذه القذارات ليبقى النهر صافياً، والأخذ من المعين صالحاً: ولذلك وجد في كل قرن من ينفي عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وابتداع المبتدعين.. وتزييف المزيفين.. وهذا من كمال الأمة الإسلامية المرحومة التي لا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال..

*والدجال آخر شر وبدعة تظهر في الأرض حيث يدعي أنه الله خالق السموات والأرض، وما هو إلا كذاب دجال أعور العين..

*وكان أول بدعة ظهرت في الدين التفريق بين الصلاة والزكاة، والادعاء أن الزكاة لا تؤدى إلا للرسول ولا تعطي لخلفائه من بعده، فتصدى الصديق رضي الله عنه لهذه البدعة وقال قولته المشهورة: [والله لو منعوني عقالاً يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] فقاتل رضي الله عنه القائلين بهذه البدعة المنكرة، ووأدها في مهدها قبل أن يستفحل ضررها وشرها.. ولو ترك أبو بكر ذلك فلم يقاتلهم لانْثَلَم الإسلام، ولما التأم بعد ذلك أبداً، ولأصبحت هذه البدعة سنة مُتّبعةً يأخذ بها الناس بعدهم فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويفعلون ما يحلو لهم من الدين ويتركون ما لا يشتهون.. لو ترك أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة وأقرهم على ذلك لأصبح هذا ديناً إلى يومنا هذا..

*وفي عهد الفاروق رضي الله عنه حصلت بعض البدع الصغيرة فأماتها كاتباع متشابه القرآن، واستحلال الخمر بزعم أن القرآن يبيح ذلك، والزعم أن الصحابة لا يطبقون القرآن كله.. الخ

*وفي عهد عثمان رضي الله عنه حدثت أوائل الفتنة الكبرى وهي الخروج على الإمام الحق بالسيف، وانتهت بدعتهم بمقتله رضي الله عنه، وكان هذا بداية فتنة عظمى في الإسلام وظهور بدعة الخوارج التي لا تزال إلى يوم القيامة، ولقد قام أهل السنة والجماعة فردوا هذه البدعة بالعلم والبرهان والدليل، وبينوا ما فيها من الضلال وإن لم يستطيعوا أن يقضوا عليها بالسيف.. واستمر خروج الخوارج بدءاً من الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يزال يخرج في قرن منهم طائفة حتى يخرج آخرهم مع الدجال..

ثم توالت البدع فجاءت القدرية وجاءت المرجئة، وجاءت الرافضة، وجاء الزنادقة، والفرق الباطنية، وجاءت الجهمية منكرو الصفات والأسماء، وكلما ظهرت بدعة من هذه البدع كان أهل الإسلام الحق لها بالمرصاد، فأما الأمراء الصالحون فقد وضعوا السيف في أصحابها ومروجيها، وأما العلماء الأبرار فقد قاموا بالرد والإبطال لها.

*واستمرت هذه المعركة عبر التاريخ الإسلامي كله: أهل الباطل يريدون اختراع دين جديد، أو إدخال باطلهم إلى هذا الدين، وأهل الحق ينافحون عن هذا الدين ويحمونه من أهل الانتحال والمبطلين ولا تكاد توجد بدعة أو مقالة من مقالات الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولعلماء السنة والجماعة جهاد مشكور وردود تدحض هذه البدعة، وتبين زيفها وبعدها عن الحق.

فلما ظهر الذين قالوا (لا قدر وإنما الأمر أُنف)... قام من يرد عليهم من الصحابة والتابعين قائلاً (لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى)، وعندما قالت الجهمية القرآن مخلوق رد عليهم أهل السنة قائلين: (القرآن كلام الله غير مخلوق) وعندما نَفَوْا استواء الله على العرش جعل أهل السنة من أصول الإيمان القول أن الله سبحانه فوق العرش وأن منكر هذا كافر، ولما قال تلاميذ الجهمية إن الله فوق العرش مكانةً ورفعةً لا مكاناً، قال أهل السنة بل يجب الاعتقاد بأن الله بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى... وكلما أضاف أهل البدعة في بدعتهم، أضاف أهل السنة في السنة فقالوا (يجب الاعتقاد أن الله فوق عرشه بائن من خلقه).

وهكذا كلما أحدث المبتدعة بدعة، قام أهل السنة بإظهار السنة لتكون رداً على البدعة..

ولا يزال الصراع هكذا بين الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين الذين يبتدعون في هذا الدين.

*والخلاصة أن موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو أنهم كشفوا اللثام عن كل قول أو فعل يخالف القرآن والسنة ويخرج عن إجماع الأمة، وصاحوا بأهل البدع من كل مكان في الأرض يبينون زيف مقالاتهم، وكذب ادعاءاتهم، وخروجهم ببدعتهم عن الإسلام الصحيح، والدين الخالص.

وبهذا بقي الإسلام بحمد الله عبر القرون هو الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولم يحصل لهذه الأمة ما حدث للأمم السابقة من موت الدين الحق، واستبداله بدين آخر مبتدع غير ما جاء به الرسول كما هو حادث لليهود والنصارى الآن، فإن كلاً منهم اخترع ديناً غير الدين الذي بعث به موسى وعيسى عليهما السلام.

وأما هذه الأمة المرحومة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة فإن الصراط المستقيم فيها قائم إلى قيام الساعة، ولن يستطيع ضال أن يصرفها كلها إلى سبل الضلال... بل تبقى منها طائفة على الحق ملتزمة الصراط المستقيم إلى قيام الساعة، ونسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.

31- ثانياً: الهجر.

اعلم أولاً حفظني الله وإياك وعلمنا ما ينفعنا أن الهجر بمعنى المفارقة، والمقصود بهجر المبتدع في كلام السلف هو مفارقة بدعته، وقد نص بعضهم على ترك الصلاة خلف أصحاب بدع بأعيانها، واتباع جنازتهم، وقبول شهادتهم وروايتهم على التفصيل الذي مضى في نوع البدع ومدى شناعتها وبعدها عن الكتاب والسنة والإجماع.

ولا شك أنه يندرج تحت هجر البدعة والمبتدع التحذير منها وبيان شرها وتنفير الناس عنها، ولكن هذا لا يعني بحال ظلم المبتدع بالتقول عليه والكذب والافتراء عليه وإلزامه ما لا يلزمه واستخراج لوازم من كلامه لا يقول بها ولا يعتقدها، وكذلك لا يدخل في هجر المبتدع هجر محاسنه وإبطال حسناته إن كانت له محاسن ما دام أنه مسلم داخل في دائرة الإسلام وفيه شيء من الإيمان ولو حبة خردل لم يبطلها الكفر، والشرك، فما دام أن المبتدع من أهل لا إله إلا الله وجب أن نشهد له بحسنته، وننفي بدعته، ونواليه فيما أحسن فيه، ونحبه بقدر إحسانه، ونعاديه بقدر بدعته فقط، ونكرهه بقدر هذه البدعة، وقد يجتمع فيه من أجل ذلك حب وبغض، وموالاة ومعاداة بقدر ما فيه من الإيمان والبدعة، ومن الطاعة والمعصية. وهذا الذي جاء به القرآن والسنة وعليه إجماع سلف الأمة، ومن خالف ذلك فهو غالط متبع لسنة الخوارج الذي يهدرون عمل المسلم كله بالمعصية ويخرجونه من الدين بالذنب، ويستحلون ماله وعرضه ودمه بذلك والحال أنه من أهل الإيمان!!!

وأهم الضوابط المستفادة من كلام السلف في الهجر ما يلي:

1- أن يكون المبتدع من أهل البدع العقائدية الخمس وما تفرع منها تعريفها، وهي: "الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم، والإرجاء"، وكذلك أهل البدعة الكبرى والمخرجة من الدين وهي (العلمانية) أو (اللادينية).

2- أن يكون الهجر مفيداً في تقليل البدعة، أو إماتتها، وأما إذا كان الهجر يؤدي إلى نشر البدعة وشيوعها فقد يكون التأليفُ أولى.

3- أن يكون الهاجر قادراً على الهجر ومستطيعاً له، ونعني بالهجر هنا إظهار العداوة للمهجور، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: (الحق به كل بلية!!، قيل فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم) أ.هـ (الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/210)

ويحسن هنا أن ننقل بالنص فتوى شيخ الإسلام رحمه الله حول أحكام الهجر، وحكمته، فقد سئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ (أي البغض والهجر).

وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران؟ وإذا بدأ المهجور بالسلام فهل يجب الرد عليه؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم هل يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟

فأجاب: الهجر الشرعي نوعان: (أحدهما) بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها.

فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام:86)، وقوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} (النساء:140)

فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقول (حاضر المنكر كفاعله)، وفي الحديث: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر] (صحيح الجامع 6506). وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات، كما قال صلى الله عليه وسلم: [المهاجر من هجر ما نهى الله عنه] (البخاري 10)

ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر، والفسوق إلى دار الإسلام، والإيمان. فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر:5)

النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، فيهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا -حتى أنزل الله توبتهم- حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير، وإن كان منافقاً، فهنا الهجر بمنزلة التعزير.

والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات: كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.

وهذه حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث: [إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة] (موضوع انظر السلسلة الضعيفة (1612) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه] (أنظر صحيح الجامع (1974)).

فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة.

هديب الشام
10-05-2002, 09:54 AM
32- وجوب مراعاة المصلحة الشرعية في الهجر.

وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.

والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال، والمصالح.

وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل. ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين، وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه.

33- يجب أن يكون الهجر لله وفي الله.

وإذا عُرِفَ هذا، فالهجر الشرعي هو من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس وما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله!!

والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام] فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا] فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. وكما رخص في هجر الثلاث.



فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه. (فالأول): مأمور به، و(الثاني): منهي عنه، لأن المؤمنين أخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم] (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: [ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر،ولكن تحلق الدين] (أخرجه أبو داود، والترمذي. صحيح الجامع:2595). وقال في الحديث الصحيح: [مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى] (أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير)

34- حكمة الهجر أن يكون الدين كله لله.

وهذا لأن الهجر من "باب العقوبات الشرعية"، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون أخوة} (الحجرات:9-10) فجعلهم أخوة مع وجود القتال، والبغي، والأمر بالإصلاح بينهم.

35- لا يجوز أن يكون الهجر نقضاً للموالاة في الله والأخوة بين المسلمين.

فليتدبر المؤمن الفرق بين هذه النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته، وإن ظلمك، واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته، وإن أعطاك، وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه.

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة، وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا، وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته (أرجو أن يتدبر الأخوة المؤمنون هذا الكلام النفيس حتى لا يكونوا من الجاهلين. الذين يريدون إقامة أمر من أمور الذين فيهدمون غيره، كالخوارج الذين أرادوا إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهدموا أخوة الدين، وقتلوا أهل الإسلام).

هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم عليهم، فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط. ولا مستحقاً للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجه منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصل اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه وأجمعين. أ.هـ (الفتاوى 28/203-210).

وقال رحمه الله:

وفي مسائل اسحق بن منصور وذكره الخلال في "كتاب السنة" في باب مجانبة من قال: القرآن مخلوق عن اسحق أنه قال لأبي عبدالله: من قال: القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية. قلت: فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم (أي أن أهل السنة هناك قلة ولا يستطيعون إظهارها ولا مجانبة أهل البدع). وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة (وفي هذا دليل على عدم هجران المبتدع الذي يمكن الاستفادة مما عنده من العلم)، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم. أ.هـ

36- الهجر أحياناً عقوبة شرعية يجب أن توضع في موضعها.

فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المهاجر من هجر السيئات] وقال: [من هجر ما نهى الله عنه]. فهذا هجرة التقوى. وفي هجرة التعزير والجهاد: هجرة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر المسلمين بهجرهم حتى تِيبَ عليهم.

37- والهجر أحياناً يكون تركاً من المسلم للمعصية.

فالهجر تارة يكون من نوع التقوى، إذا كان هجراً للسيئات، كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون} (الأنعام:68-69)، فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين، وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض في آيات الله هم المتقون، وتارة يكون من نوع الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وهو عقوبة من اعتدى، وكان ظالماً.



38- شروط استخدام الهجر عقوبة شرعية.

وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة، فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين: بين القادر، والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع، وكثرته، وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم: من الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم: إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما. وما أمر به من هجر الترك، والانتهاء، وهجر العقوبة، والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة، وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة.

39- حكمة الهجر.

فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم، وذنب وإثم، وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر، وعقوبة الظالمين لينزجروا، ويرتدعوا، وليقوى الإيمان، والعمل الصالح عند أهله. فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحصنها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان، والسنة، ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد، ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره أحمد رحمه الله عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكانت مداراتهم فيها دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس. ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.

40- لا يجوز جعل ما أفتى به الإمام في قضية مخصوصة من قضايا الهجر حكماً عاماً في جميع الأحوال، والأزمان.

كثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة رحمهم الله تعالى خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر، والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب، ولا يستحب، وربما تركوا به الواجبات، أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يُعَاقبون بالهجر ونحوه مَن يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر، أو ترك النهي عنه، وذلك فعْلُ ما نُهوا عنه، وتَرْكُ ما أُمِرُوا به. فهذا هذا. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم. (مجموع الفتاوى 28/203-213)

هديب الشام
10-05-2002, 09:55 AM
الخلاصة:

41- الفوائد التي نستفيدها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في حكمة الهجر.

*ونستفيد من كلام شيخ الإسلام السابق ما يلي:

أن لهجر المبتدع أو العاصي حكم عظيمة في الشرع منها:

1- تأديب المهجور وزجره ووعظه وتقويمه، قاله ابن القيم في الزاد في معرض تعداده للأحكام والحكم المستفادة من غزوة تبوك:

"وفيه دليل أيضاً على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه". (زاد المعاد 3/3578)

2- تقليل البدعة واحتواؤها وتحذير الناس من شرها. وذلك أن المبتدع متى ما هُجِرَ كان شأنه كالبعير الأجرب الذي يعزل عن السليمة حتى يبرأ ولا يعدي غيره.

3- البعد بالنفس عن المبتدع حتى لا تقع شبهته، وبدعته في نفس المجالس، والزائر له، فكم من حاذق وعالم جالس أصحاب البدع فتأثر بهم!!

4- إنه امتثال لأمر الله الذي أمرنا باجتناب أماكن المعصية والمجالس التي يخاض فيها في آيات الله كما قال سبحانه وتعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.

5- أن الهجر يختلف حكمه بحسب قوة الهاجر وضعفه وكونه أنفع لبعض الناس وكون التأليف أنفع من الهجر أحياناً. ولذلك فإنه ينظر فيه إلى المنافع والمفاسد والقدرة وهذا يختلف من بلد إلى بلد، ومن مبتدع إلى آخر.

6- أن الهجر الشرعي هو ما كان لله سبحانه وتعالى، وليس لحظ النفس، والغضب لها، أو الحسد، والمنافسة للمهجور.

7- أن المهجور في الله يُواليَ بحسب طاعته، ويُعَادي بحسب معصيته، وأنه لا يكون حكمه حكم الكافر الذي يُعَادي مطلقاً، ولا تجوز موالاته وإن أحسن إليك، وأما المؤمن فإنه لا يجوز معاداته وإن أساء إليك، وأن هجره والتشديد عليه إنما هو بحسب بدعته، ومن أجل ردعه وإصلاحه وليس من أجل قتله وإبعاده.

42- الغاية التي ينتهي عندها الهجر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة، والله أعلم". (الفتاوى 24/292).

وقال الإمام البخاري في صحيحه:

"باب من لم يُسلِّم على من اقترف ذنباً ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ وقال عبدالله بن عمرو: لا تسلموا على شرِبَة الخمر.

وساق بإشارة، أن عبدالله بن كعب قال (سمعت كعب بن مالك يُحدث حين تخلف عن تبوك ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه برد السلام أم لا؟ حتى كملت خمسون ليلة، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر).

وقال ابن حجر: قوله (باب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال الإمام النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله.

وقال ابن وهب: يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافراً، واحتج بقوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى. وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال: قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضاً فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوماً كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق ما ادعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذاً من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه، يعني فتكون واقعة حال لا عموم فيها.

وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقيد بمن لم يتب جيد لكن في الإستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الإطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكناً، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. (فتح الباري 11/42-43 طبع الريان).

43- هل يهجر أهل البدع العملية كأهل بدعة (السماع) الصوفي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

"وقال الشافعي رحمه الله: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن.

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: هو محدث أكرهه، قيل له: إنه يرق عليه القلب، فقال: لا تجلسوا معهم، قيل له: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله. فبين أنه بدعة لم تفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في مصر، ولا في العراق ولا خراسان. ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف". (الفتاوى 11/ 592).

ومعنى هذا أن الإمام أحمد رحمه الله رأى أن هذه بدعة صغيرة لا تستلزم الهجران كله.

بل رأى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعض الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من المشايخ الصالحين ويرى شيخ الإسلام أنهم أخطئوا في اجتهادهم والله يغفر لهم. وهذا قوله في ذلك:

"والذين حضروا هذا السماع من المشايخ الصالحين شرطوا له شروطاً لا توجد إلا نادراً، فعامة هذا السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطأوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين". (الفتاوى 11/597).

*وهذا كما قدمنا في بدعة التصوف إذا كان هؤلاء من أهل هذه البدعة العملية فقط فأما إذا كانوا من أهل البدعة المركبة فجمعوا مع السماع فساد الإعتقاد كالقول (بوحدة الوجود)، وهو زندقة وكفر، أو القول (بالحقيقة المحمدية) فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، أو القول بأن الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يُدعَون من دون الله، فمثل هؤلاء يجب فيهم ما يجب في أشباههم من الزنادقة الملحدين، والمبتدعة الضالين.

44- ثالثاً: حُكم الصلاة خلف أهل البدع.

اعلم أن خلاصة أقوال أهل العلم وسلف الأمة في ذلك ما يأتي:

1- أن الصلاة لا تجوز خلف الكافر الأصلي والكافر المرتد، ولا من أقيمت عليه الحجة بكفره عينا وشهد أهل العلم بذلك، وهذا بمثابة الإجماع.

2- أن ترك الصلاة خلف المستور ومن لم تُعْرَف عقيدته بدعة، وأنه لم يقل أحد من السلف إنه لا يجوز الصلاة إلا خلف من عُرِفَتْ عقيدته.

3- أن الصلاة جائزة ومشروعة خلف المبتدع الذي لم يُكَفَّرْ ببدعته (حسب الضوابط في الفقرة الأولى)، وأن هذا هو الذي جرى عليه سلف الأمة وعلماؤُها.

وإليك أقوال أهل العلم في ذلك:

45- رأي الإمام البخاري رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع.

قال: باب إمامة المفتون والمبتدع.

وَعَلَّقَ قَوْل الحسن: (صلِّ وعليه بدْعَتُهُ)، وأورد حديث عبيدالله بن عدي بن خيار: [أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال: الصلاة أحسنُ ما يَعْمَلُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم]. (صحيح البخاري كتاب الأذان 56).

واستدلاله بهذا الحديث موافق للترجمة تماماً، وذلك أن الخارجين على إمام الهدى عثمان بن عفان رضي الله عنه قد كانوا بُغَاةً أشراراً فُجَّاراً حصروا من اتفق المسلمون على خلافته، ونَقَضُوا عهده، ووثبوا إلى محرابه، وهو سلطانه محراب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أجاز عثمان رضي الله عنه الصلاة خلفهم، بل أمر الناس بذلك خوفاً من تضييع الصلاة. ويبدو أن هذا هو رأي البخاري رحمه الله بدليل تعليقه قول الحسن رضي الله عنه.

46- تحقيق الإمام ابن حجر في الصلاة خلف المبتدع.

وقد حقق الإمام ابن حجر رحمه الله معنى قول عثمان رضي الله عنه: [الصلاة خير ما يعمل الناس.... الخ] فقال:

"قوله (فإذا أحسن الناس فأحسن) ظاهرة أنه رَخَّصَ له في الصلاة معهم، وكأنه يقول: لا يضرك كونه مفتوناً، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افْتُتِنَ به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: يحتمل أن يكون رأي أن الصلاة خلفه لا تصح، فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة، لأنه إما كافر أو فاسق. انتهى. وهذا ما قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر، لأن سيفاً روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري، عن أبيه: قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى. فهذا صريح في أن مقصوده بقوله (الصلاة أحسن) الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان: إنا نَتَحَرَّجُ أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري، وهذا منقطع إلا أنه اعتُضِدَ.

قوله: (وإذا أساءوا فاجتنب) فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على من زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام." (فتح الباري 2/222).

قلت: لعل الإمام البخاري رحمه الله كان يرى كفر الجهمية على الخصوص من سائر أهل البدع، وذلك لشناعة أقوالهم كما ذكر ابن المبارك أيضاً: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية) أي: لبلوغه الغاية في إنكار معاني أسمائه وصفاته.

ولكن يجب أن يعلم أيضاً أن التجهم درجات، فربما وجد في التجهم من تأول بعض الآيات في الصفات، وقد يصل إلى النفي المحض، بل نفي النفي، ونفي الإثبات ممن يقول: لا أنفي ولا أثبت.

هديب الشام
10-05-2002, 09:57 AM
47- موقف الإمام ابن تيمية في حكم الصلاة خلف المبتدع.

وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الصلاة خلف أهل البدع، فقال:

"ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات ولا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يُعْلَمُ أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد رحمهما الله وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر، كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر، وليس هناك جمعة أخرى فهذه تُصَليَّ خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نُقِلَ ذلك عن أحمد رحمه الله أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد رحمه الله أنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله.

ولما قدم أبو عمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت بالديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين رحمه الله، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلو والسنة يكثر بها ويظهر.

فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان اله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك.

وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عُبَيْد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال." (الفتاوى 3/280-281).

وسُئلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الصلاة خلف من يقول على المنبر: (إن الله تكلم بكلام أزلي قديم ليس بحرف ولا صوت فهل تسقط الجمعة خلفه؟ وعن الصلاة خلف من يأكل الحشيشة وعن الصلاة خلف المرازقة؟ فأجاز الصلاة خلف هؤلاء جميعاً؟ وقال:

"إذا كان الإمام مبتدعاً فإنه يصلى خلفه الجمعة، وتسقط بذلك، والله أعلم". (الفتاوى 23/351،356،361،370).

وقد بنى شيخ الإسلام رحمه الله هذا الحكم على الأصل الآتي حيث قال:

"ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم، ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هم أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا] (البخاري:76) وقال صلى الله عليه وسلم: [كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه] (مسلم:2564) وقال صلى الله عليه وسلم: [من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله] (البخاري:391) وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد أن يقتل صاحبه] (البخاري:31) وقال صلى الله عليه وسلم: [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] (البخاري:121) وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما] (البخاري:6103) وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يُكَفَّرْ بذلك كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: [أنه قد شهد بدراً، وما يُدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟] وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضاً من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير رضي الله عنه قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه: إنك منافق، تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة.

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قتل رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله، وعَظَّمَ صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال: [يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه، حتى قال أسامة: تمنيت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ]. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية، ولا كفارة فإنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القاتل لظنه أنه قالها تعوذاً.

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين، ونحوهم، وكلهم مسلمون كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبَغْيِ بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.

ولهذا كان السلف مع القتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون، ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه [أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك] وأخبر أن الله تعالى لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً.

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} قال [أعوذ بوجهك] {ومن تحت أرجلكم} قال [أعوذ بوجهك] {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} قال [هاتان أهون].

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} (الأنعام:159) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة]، وقال: [الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد] (رواه الترمذي. انظر صحيح الترمذي (1758-1760)) وقال: [الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم] ( رواه الإمام أحمد، وذكره شيخنا الألباني في ضعيف الجامع (1477)، وأخرج أبو داود، والنسائي عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية. انظر صحيح الجامع (5701)).

48- خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع.

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من أظهر البدع والفجور منعه.

وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجره، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً] (رواه الإمام مسلم 673،674).

وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا وُلِّى غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة، والجماعة. جهلاً وضلالاً، وكان قد رَدَّ بدعة ببدعة.

هديب الشام
10-05-2002, 09:58 AM
وأما الذي صلى الجمعة خلف الفاجر فقد اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل رحمه الله في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. وبهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذووا الأعذار النادرة، والمعتادة، والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.

وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل وأبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمر وعمار لما أجنبا، وعمر لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء.

والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن قوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (البقرة:187) هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما هو سواد الليل وبياض النهار] (البخاري 1916) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، أو الذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهم بعد أن نسخت (بالأمر بالصلاة إلى الكعبة)، وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.

وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال. في مذهب أحمد وغيره: قيل يثبت، وقيل لا يثبت، وقيل لا يثبت المبتدأ دون الناسخ، والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حنى نبعث رسولاً} (الإسراء:15) وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء:165) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين] (رواه البخاري 7461).

فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند، والفاجر، بل جعل الله لكل شيء قدراً. أ.هـ (الفتاوى 3/282،288).

49- رابعاً: حكم شهادة أهل البدع.

قال الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين، وعمدة المفتين:

"في شهادة المبتدع جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يُكَفِّرون أحداً من أهل القبلة، ولكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم ويقولون: ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الإمام فقال: ظني أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفر في الحجاج، فقيل إنه كَفَّرَهُمْ ".

قلت: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو الجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في (الأم) ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسنٌ، وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة وتحَتُّم الخلود في النار، وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم (لم) يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. والله أعلم.

ثم من كُفِّرَ من أهل البدع لا تُقْبَلُ شهادته، وأما من لا يُكَفَّرُ من أهل البدع والأهواء فقد نص الشافعي رحمه الله في (الأم) و(المختصر) على قبول شهادتهم إلا الخطابية، وهم قوم يَرَوْن جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول: لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها ويشهد له اعتماداً على أنه لا يكذب هذا نصه. وللأصحاب فيه ثلاث فرق: فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، ومنهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم، ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، لأنه أقدم عليه عن اعتقاد لا عن عداوة وعناد، قالوا: ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول الشافعي بأن قال: سمعت فلاناً يقر بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه قُبِلَتْ شهادته.

وفرقة منهم الشيخ أبو حامد، ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم، وقالوا هم بالرد أولى من الفسقة. وفرقة ثالثة توسطوا فردوا شهادة بعضهم دون بعض، فقال أبو اسحاق: من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه ردت شهادته لمخالفته الإجماع، ومن فضل علياً على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها، فإنها محصنة كما نطق به القرآن وعلى هذا جرى الإمام الغزالي، والبغوي، وهو حسن. وفي (الرقم) أن شهادة الخوارج مردودة لتكفير أهل القبلة.

قلت (أي النووي رحمه الله): الصواب ما قالته الفرقة الأولى، وهو قبول شهادة الجميع فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تبايناً شديداً، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادماً: منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحداً من سلف الأمة يقتدي به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم. هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير هذا القائل بخلق القرآن. ولكن قاذف عائشة رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته، ولنا وجه (أن) الخطابي (أي من كان من فرقة الخطابية، وهي إحدى فرق الغلاة، الروافض الذين يستحلون الكذب، ومن حلف لهم بالإمام قبل قوله مطلقاً، ولو كان فيه ادعاء على غيره بدم، أو مال!!!) لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع لاحتمال اعتماده قول صاحبه". (روضة الطالبين 11/239،241).

*وقد ذهب الإمام ابن القيم رحمه الله إلى قبول شهادة أهل البدع ما لم يكفروا ببدعتهم أو يستحلوا الكذب.. وتأول رحمه الله كلام الإمام أحمد وغيره في رد شهادة أهل البدع بأن مقصوده إنما كان من باب الزجر عن بدعهم لا أن هذا هو حكمهم.

قال رحمه الله في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:

*الحكم بشهادة الفساق، وذلك في صور:

*إحداها: الفاسق باعتقاده، إذا كان متحفظاً في دينه، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه، كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم، هذا منصوص الأئمة.

*قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم.

ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ويعد الكذب ذنباً أولى بالقبول ممن ليس كذلك، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم.

وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه هجراً له وزجراً لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه وتنفيذ أحكامه رضىً ببدعته، وإقراراً له عليها، وتعريض لقبولها منه.

*قال حرب: قال أحمد: لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا بدعة ويخاصم عليها.

*وقال إسحاق ابن منصور، قلت لأحمد: كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلاً لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد: ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة.

*وقال الميموني: سمعت أبا عبدالله يقول: من أخاف عليه الكفر مثال الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم.

خامساً: أحكام الرواية عن المبتدع.

هديب الشام
10-05-2002, 09:59 AM
50- مواطن الإختلاف والاتفاق عند علماء الحديث في حكم قبول رواية المبتدع.

قال البغوي في شرح السنة:

"وكذلك اختلفوا في رواية المبتدعة وأهل الأهواء فقبلها أكثر أهل الحديث، إذا كانوا فيها صادقين، فقد حدَّث محمد بن اسماعيل عن عباد بن يعقوب الرواجني، وكان محمد بن اسحاق بن خزيمة يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب!!

واحتج أيضاً البخاري في (الصحيح) بمحمد بن زياد الألهاني، وحزير بن عثمان الرحبي، وقد اشتهر عنهما النصب، واتفق البخاري ومسلم على الإحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وعُبيد الله بن موسى، وقد اشتُهِرَ عنهما الغُلُو.

وأما مالك بن أنس فيقول: لا يؤخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الإختلاف في قبول رواية هؤلاء الحاكم أبو عبدالله الحافظ في كتابه.

وسئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا" (شرح السنة للبغوي 1/248،249).

وقال الذهبي رحمه الله في ميزان الإعتدال عند ترجمته لأبان بن تغلب الكوفي. قال:

"أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته."

وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين وابن أبي حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيع، وقال السعدي: زائغ مجاهر.

فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟

وجوابه أن البدعة على ضربين. فبدعة صغرى كغلو التشيع (أي في زمن الصحابة، كان من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية يعتبرونه شيعياً غالباً) كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جمله من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.

ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعوة إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا. فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال مُعثَّر (ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما) (ميزان الإعتدال 1/5،6).

51- وخلاصة مذهب المحدثين في قبول رواية المبتدع.

1- منهم من يرى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن رأساً في البدعة كما روى الخطيب البغدادي عن علي بن الحسن بن شقيق أنه قال لعبدالله بن المبارك سمعت من عمرو بن عبيد فقال بيده هكذا: أي كثرة، قلت له فلم لا تسميه وتسمي غيره من القدرية: قال:لأن هذا كان رأساً؟ (الكفاية ص 203).

2- ومنهم من رأي الرواية عن صاحب البدعة الصغيرة التي لا تبلغ حد الكفر كما روى عن الإمام أحمد في قبول رواية المرجئة لأنه لم ير بدعتهم كبيرة.

3- واتفق جمهور المحدثين على أن أهل الأهواء المكفرة لا تقبل روايتهم كما قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله:

"البدعة على ضربين: فبدعة صغرى.. وبدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعوة إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة". (ميزان الاعتدال 1/6).

4- واتفقوا جميعاً وأجمعوا على أن شرط قبول الرواية الصدق من كل أحد سواء كان صاحب بدعة أم لا. فالكذاب مردود الرواية ولو كان من أحسن الناس اعتقاداً.

وفي تهذيب التهذيب للإمام ابن حجر رحمه الله أن البرتي ذكر في الطبقات أن الأمام مالك رحمه الله سئل كيف رويت عن داود بن الحصين، وثور بن زيد وذكر غيرهما وكانوا يرمون بالقدر؟ فقال: كانوا لأن يخروا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا كذبة. أ.هـ (تهذيب التهذيب 2/29).

ولذلك قال المحقق العالم المحدث الشيخ أحمد شاكر:

"والعبرة في الرواية بصدق الراوي، وأمانته، والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواية يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والإطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه". (الباعث الحثيث ص 111،112).

وقد كان مذهب الإمام ابن حجر العسقلاني أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله أن المبتدع إذا كان داعية لبدعته فلا يقبل، ولكن يقبل إذا لم يكن داعية، أو كان داعية وتاب، أو كان داعية لكن اعتضدت روايته بمتابع. (هدى الساري ص 483).

52- توصيف البدع التي رمي بها بعض الرواة.

قال ابن حجر في مقدمته هدى الساري:

"والإرجاء بمعنى التأخير، وهو عندهم على قسمين: منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والإعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك.

والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي فإن أضاف إلى ذلك السب، أو التصريح بالبغض فغال في الرفض. وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو.

والقدري من يزعم أن الشر فعل العبد وحده.

والجهمي من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول إن القرآن مخلوق.

والنصب بغض علي وتقديم غيره عليه.

والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم.

والإباضية منهم أتباع عبدالله بن أباض.

والقعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة، ولا يباشرون ذلك.

والواقف في القرآن من لا يقول مخلوق ولا ليس بمخلوق". (هدي الساري ص 483).

هديب الشام
10-05-2002, 09:59 AM
53- أسماء الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما وقد رمي كل منهم ببدعة من أصول البدع.

وقد سمى السيوطي أسماء من رمي ببدعة (ولا شك أن بعض هؤلاء نوزع في نسبة البدعة إليهم إلا أنه قد صح في الجملة في عدد كثير منهم، ومعلوم أن منهج أهل الحديث هو قبول رواية المبتدع ما لم يكفر ببدعة، أو يستحل الكذب أو كان داعياً إلى بدعته عند بعضهم) وجاءت روايته في البخاري ومسلم أو أحدهما. فكانت على النحو التالي:

أ- الذين رموا بالقدر:

1) ثور بن زيد المدني 2) ثور بن يزيد الحمصي 3) حسان بن عطية المحاربي 4) الحسن بن ذكوان 5) داود بن الحصين 6) زكريا بن إسحاق 7) سالم بن عجلان 8) سالم بن مسكين 9) سيف بن سليمان المكي 10) شبل بن عباد 11) شريك بن أبي نمر 12) صالح بن كيسان 13) عبدالله بن عمرو 14) أبو معمر عبدالله بن أبي لبيد 15) عبدالله بن أبي نجيح 16) عبدالأعلى بن عبدالأعلى 17) عبدالرحمن بن إسحاق الدني 18) عبدالوارث بن سعيد التنوري 19) عطاء بن أبي ميمونة 20) العلاء بن الحارث 21) عمرو بن زائدة 22) عمران بن مسلم القصير 23) عمير بن هاني 24) عوف الأعرابي 25) كهمس بن المنهال 26) محمد بن سواء البصري 27) هارون بن موسى الأعور النحوي 28) هشام الدستوائي 29) وهب بن منبه 30) يحيى بن حمزة الحضرمي.

ب- والذين رموا بالتشيع:

إسماعيل بن أبان 2) إسماعيل بن زكريا الخلقاني 3) جرير بن عبدالحميد 4) أبان بن تغلب الكوفي 5) خالد بن مخلد القطواني 6) سعيد بن فيروز أبو البختري 7) سعيد بن أشوع 8) سعيد بن عفير 9) عباد بن العوام 10) عباد بن يعقوب 11) عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى 12) عبدالرزاق بن همام 13) عبدالملك بن أعين 14) عبيدالله بن موسى العبسي 15) عدي بن ثابت الأنصاري 16)علي بن الجعد 17)علي بن هاشم بن البريد 18) الفضيل بن دكين 19) فضيل بن مرزوق الكوفي 20) فطر بن خليفة 21) محمد بن جحاده الكوفي 22) محمد بن فضيل بن غزوان 23) مالك بن إسماعيل أبو غسان 24) يحيى بن الخراز، هؤلاء رموا بالتشيع وهو تقديم علي على الصحابة.

ج- والذين قالوا بخلق القرآن:

بشر بن السرى، ورمى برأي جهم وهو نفي صفات الله تعالى والقول بخلق القرآن.

د- والذين رموا بالخروج:

1)عكرمة مولى ابن عباس (قال ابن حجر: "والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه رأى ذلك، وإنما كان يوافقه في بعض المسائل، فنسبوه إليهم، وقد برأه أحمد والعجلي من ذلك فقال في كتاب الثقات له "عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه من الحرورية" وقال ابن جرير: "لو كان كل من ادعى عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك لزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما فيهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه" هدى الساري ص 428) 2) الوليد بن كثير، وهؤلاء الحرورية وهم الخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذويه وقاتلوهم.

هـ- ومن رمي بالوقف بالقرآن:

علي بن أبي هاشم رمي بالوقف، وهو أن لا يقول القرآن مخلوق.

و- وممن رمي بالخروج قولاً لا فعلاً:

عمران بن حطان من القعدية، الذين يرون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك.

ز- والذين اتهموا بالإرجاء:

وهم: 1) إبراهيم بن طهمان 2) أيوب بن عائذ الطائي 3) ذر بن عبدالله المرهبي 4) شبابة بن سوار 5) عبدالحميد بن عبدالرحمن أبو يحيى الحماني 6) عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد 7) عثمان بن غياث البصري 8) عمر بن ذر 9) عمر بن مرة 10) محمد بن خازم أبو معاوية الضرير 11) ورقاء بن عمر اليشكري 12) يحيى بن صالح الوحاضي.

ح- الذين اتهموا بالنصب وهو بغض علي رضي الله عنه:

1) إسحاق بن سويد العدوي 2) بهز بن أسد 3) حريز بن عثمان 4) حصين بن نمير الواسطي 5) خالد بن سلمة الفأفاء 6) عبدالله بن سالم الأشعري 7) قيس بن أبي حازم (انظر هدى الساري 483،484).

وممن أخرج لهم مسلم أيضاً دون البخاري وهم من أهل الأهواء جعفر بن سليمان الضبعي البصري. قال عنه الذهبي في السير:

" كان من عباد المتشيعة، وعلمائهم، وقد حج وتوجه إلى اليمن فصحبه عبدالرزاق وأكثر عنه، وبه تشيع". (السير 8/198).

ومعلوم أن نسبة هذين الفاضلين إلى التشيع إنما هو بمعنى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وأما من سب الشيخين فهو رافضي غال وبدعته كبيرة ولا تقبل روايته.

54- رأي الخطيب البغدادي في الرواية عن أهل البدع.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله في بيان مذاهب أهل الحديث في قبول رواية المبتدع:

"اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة، وفي الإحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى تكفير المتأولين، وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول، وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس رحمه الله.

وقال من ذهب إلى هذا المذهب: إن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد فيجب أن لا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.

وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة، وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله فإنه قال:

"وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم" وحكي أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وروي مثله عن أبي يوسف القاضي.

وقال كثير من العلماء: تقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، وممن ذهب إلى ذلك عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل.

وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين: أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة، وإن كانوا كفاراً وفساقاً بالتأويل (الكفاية في علم الرواية ص 120،121).

وكأن الخطيب البغدادي رحمه الله رجح قول من يقول أنه تقبل رواياتهم إذا علم منهم الصدق والدين والأمانة في النقل حيث يقول:

"والذي يعتمد عليه في تجويز الإحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك، لما رأوا من تحرّيهم الصدق، وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم من عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الإحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة أباضياً، وابن أبي نجيح معتزلياً، وعبدالوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين كانوا قدرية، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام، كانوا مرجئة، وعبيدالله بن موسى وخالد بن مخلد وعبدالرزاق بن همام، كانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير لا يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب" (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص125).

هديب الشام
10-05-2002, 10:00 AM
55- لماذا لا تجوز الرواية عن الرافضة؟

ولم يجوز الأئمة عن الرافضة لاستحلالهم الكذب، قال الخطيب في الكفاية:

"أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: ثنا علي بن عبدالعزيز البرذعي قال ثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال حدثني أبي قال أخبرني حرملة بن يحي قال سمعت الشافعي يقول لم أر أحداً من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة!!!

أخبرنا أحمد بن محمد الروياني قال ثنا محمد بن العباس الخزاز قال ثنا أبو أيوب سليمان بن اسحاق الجلاب، قال سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت علي بن الجعد يقول سمعت أبا يوسف يقول أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون.

قال أبو أيوب سئل إبراهيم عن الخطابية، فقال صنف من الرافضة، وصفهم إبراهيم فقال: إذا كان لك على رجل ألف درهم ثم جئت إلي فقلتَ إن لي على فلان من الناس ألف درهم وأنا لا أعرف فلاناً، فأقول لك وحق الإمام إنه هكذا؟ فإذا حلف ذهبتُ فشهدتُ لك هؤلاء الخطابية" (الكفاية ص 126).

ونقل السيوطي عن الذهبي أنه قال:

"اختلفت الناس في الإحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال: المنع مطلقاً، والترخيص مطلقاً إلا من يكذب ويضع، والثالث: التفصيل بين العارف بما يحدّث وغيره. وقال أشهب: سئل مالك عن الرافضة، فقال: لا تكلموهم ولا ترووا عنهم. وقال الشافعي: لم أر أشهد بالزور من الرافضة. وقال يزيد بن هارون: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة. وقال شرَيك: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة. وقال ابن المبارك: لا تحدّثوا عن عمروا بن ثابت فإنه كان يسب السلف" أ.هـ (تدريب الراوي 1/327،328).

56- الإمام أبو حنيفة يسوي بين بدعة الرافضة، ومن يأتي السلطان الظالم في عدم جواز قبول روايته.

روي الخطيب البغدادي الأثر الآتي عن الإمام أبو حنيفة رحمه الله:

"أخبرني أبو بشر محمد بن عمر الوكيل قال ثنا عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ قال: ثنا محمد بن الحسن المقري قال: ثنا عبدالله بن محمود المروزي قال: ثنا أحمد بن مصعب قال: ثنا عمر بن إبراهيم قال: سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعاً، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي ولكن وطئوا لهم حتى انقادت العامة بهم فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين" (الكفاية في علم الرواية ص 126).

وهكذا جعل الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشيعة الذين يرون تضليل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتدعة لا يجوز قبول روايتهم لطعنهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من يأتي السلاطين الظلمة طواعية أي دون أن يدعوهم ويضطروه معللاً ذلك أنهم وطأوا لهم مع ظلمهم.

سادساً: حكم الصلاة، والترحم على أهل البدع.

57- خلاصة أقوال أهل العلم وعلماء السلف في الصلاة والترحم على أهل البدع.

1- أن من مات كافراً أصلياً لم يدخل الإسلام، أو دخل في الإسلام ولكنه مات بعد ذلك شاهداً على نفسه بالكفر، أو حكم بردته وخروجه من الدين ومات على ذلك أو كفر ببدعته وأقيمت عليه الحجة بعينه، فإنه لا يجوز الصلاة عليه ولا الترحم عليه وهذا مجمع عليه.

2- أن من مات عاصياً، أو مبتدعاً ولو ببدعة لا تخرج من الدين، فإنه يشرع للإمام، وأهل العلم ترك الصلاة عليه زجراً للناس عن معصيته وبدعته والعياذ بالله.

3- أن ترك الإمام وبعض أهل العلم للصلاة والترحم على أهل البدع والمعاصي لا يعني تحريم ذلك على الجميع بل تجب الصلاة عليه فرض كفاية، ما دام أنه لم يمت كافراً من الذين حكم بخلودهم في النار خلوداً أبدياً والعياذ بالله.

58- ترك الصلاة والترحم من بعض العلماء على بعض أهل البدع لا يستلزم تحريم ذلك على الجميع.

واعلم أنه إذا قام بعض العلماء بترك الصلاة والترحم على أهل البدع فليس هذا مانعاً لغيرهم من عموم المسلمين من الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم لأن ما يفعله بعض العلماء قد يكون للزجر. وإذا كان صاحب البدعة لم يمت على بدعة تخرجه من الإسلام وتكفره فإنه يحسن بل يجب وجوباً كفائياً الصلاة عليه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً:

"وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين (الصلاة) على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والإستغفار له، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال، وقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له: (صلوا على صاحبكم) وروي أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجراً عن مثل مذهبه، كما روي في حديث محلم بن جثامة" أ.هـ (الفتاوى 7/217).

وبالتالي فكل من مات ونحن نعتقد أنه مات على الإسلام وليس على الكفر فلا يترك الصلاة عليه، والترحم عليه، بل يجب وجوباً كفائياً.

وقد فسر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الوجوب الكفائي بقوله:

"وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسناً. وقد قال لجندب بن عبدالله البجلي ابنه:إني لم أنم البارحة بشماً (أي أنه أكل كثيراً حتى يفسد الطعام في معدته، وهذا معنى البشم) فقال: أما إنك لو مت لم أصل عليك. كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل. وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسناً، ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة، كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين أولى من تفويت إحداهما.

وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الإستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به. كما قال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد:19) وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان، والله أعلم" (الفتاوى 24/286،287).

فأما الذي تُترَك الصلاة عليه فهو الكافر بالكلية والذي يموت على كفر معلوم أو نفاق اعتقادي معلوم وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

"وليس في الكتاب والسنة المطهرون للإسلام إلا قسمان: مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الإسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب أذنبه، ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً" (انظر الفتاوى 12/489).

وهذا بحمد الله هو العدل الذي لا يجوز المحيد عنه.

والإمام أحمد رحمه الله وإن نقل عنه أنه يقول بكفر من قال بخلق القرآن، إلا أنه كذلك دعا للخليفة وغيره ممن ضربوه وحبسوه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم، ودعوتهم إياه إلى القول بخلق القرآن وهو كفر. ولا شك أنهم لو كانوا مرتدين وكفاراً أو أنه لا يستجيز الصلاة على صاحب البدعة مطلقاً ما ترحم على هؤلاء ولا استغفر لهم فإن الإستغفار للكفار لا يجوز ويحرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

وهذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الراجح كذلك من مذهب الإمام الشافعي رحمه الله فإنه رأى الصلاة خلف أهل البدع وأنهم لا يكفرون.

كما نقل ذلك النووي رحمه الله حيث يقول:

"وتكره أيضاً خلف المبتدع الذي يكفر بدعته، وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الإقتداء به. وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار. وعد صاحب (الإفصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئاً من صفات الله تعالى، كافراً. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر. والخوارج، لا يكفرون. ويحكي القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الأصحاب، القول بجواز الإقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي.

قلت (أي النووي): هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الإمام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم علي هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم" (روضة الطالبين 1/355 طبع المكتب الإسلامي).

سابعاً: الموقف الشرعي من كتب ومصنفات أهل البدع أو من رمي ببدعة.

59- ضوابط الحكم على مصنفات وكتب من رمي ببدعة.

خلاصة موقف السلف وأهل السنة والجماعة من مصنفات أهل البدع كما يلي:

1- الكتب المؤلفة في البدعة نصراً وشرحاً وترويجاً لها لا يجوز إقتناؤها ولا تداولها بحال، وذلك ككتب الكفر والزندقة والإلحاد، والتصوف الفلسفي، والكلام واللادينية، ومن طلب الهداية في هذه الكتب ضل. كما قاله الإمام الشافعي في كتب الكلام أنها لا يجوز بيعها ولا تقع في الملك بالوراثة، وهكذا الحال في كتب الفسق والفجور والإباحية..

2- يجوز اقتناء الكتب الموصوفة في الفقرة السابقة وذلك من أجل الرد على مؤلفيها أو تابعيها، وذلك من أجل إبطال منكر أصحابها كما ذكر الله مقالة اليهود ورد عليهم، وكما فعل أئمة الدين من الرد والإبطال لكتب الزنادقة والمبتدعة، وهذا ما فعله الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الزنادقة، وابن تيمية رحمه الله في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وسائر المبتدعة.

3- الكتب والمصنفات المؤلفة في علوم الدين كالتفسير والحديث والتاريخ والسيرة وغير ذلك، والتي صنف فيها بعض من رموا ببدعة فينظر:

أ) إن كان الغالب عليها الخير والصواب فيجب نشرها وترويجها، وهذه الكتب كفتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا الكتاب هو الذي قيل فيه بأنه لم يسبق إلى مثله وأعجز مؤلفه من بعده عن تأليف مثله، وإن كان صاحبه قد رمي ببدعة الأشعرية والتخبط في عقيدته، ولكن الكتاب لا يوجد فيه إلا سقطات قليلة لا توهن منه ولا تضعف من شأنه... وهذه يمكن التنبيه عليها وبيانها... ومن حذر من مثل هذا الكتاب فهو جاهل جلف، أو ساع في هدم الدين وإبطال السنة. ومثل هذا أيضاً كتب الفقه للإمام أبي حنيفة، والنووي، وابن الجوزي، وابن حزم رحمهم الله.

ب) هناك بعض الكتب المؤلفة في فروع الدين كالتفسير لبعض من رمي ببدعة من علماء الإسلام ويغلب عليها الخير ولكن نسبة الدس فيها كبيرة، وقد عمد أصحابها إلى ترويج مذهبهم ونشره بطريق خفي، وذلك نحو تفسير الزمخشري رحمه الله، وتفسير ابن عطية، ولا شك أن تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري ومثل هذه الكتب ينبغي للمبتدئ في طلب العلم ألا يبدأ بها، وهي نافعة لمن كان عنده إلمام بالمعتقد الصحيح وحقيقة بدعة الإعتزال ويعرف كيف يتحرز من العبارات الخفية التي تندس في هذه الكتب...

وهذه الكتب لغلبة الخير فيها ولعظيم الفائدة منها لا يحذر منها على الإطلاق ولكن ينظر إلى حال القارئ.

هديب الشام
10-05-2002, 10:01 AM
وإليك بعض شهادات أهل العلم في مصنفات من رمي ببدعة.

60- أقوال شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتب التصوف.

سئل شيخ الإسلام عن (إحياء علوم الدين) و(وقوت القلوب) فأجاب:

"أما كتاب (قوت القلوب) وكتاب (الإحياء) تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقاً، وأبعد عن البدعة مع أن في (قوت القلوب) أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.

وأما ما في (الإحياء) من الكلام في (المهلكات) مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو منازع فيه.

و(الإحياء) فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.

وقد أنكر أئمة الدين على (أبي حامد) هذا في كتبه، وقالوا: مرضه (الشفاء) أي كتابه (الشفاء). وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم.

وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، وهو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه (الفتاوى 10/551،552).

قلت: وهذا كلام في غاية الإنصاف والعدل، وشهادة بحق، ولم يأمر شيخ الإسلام بهجر الكتابين مطلقاً بل حذر مما فيهما من الشر، ولما كان هناك كثير من المسلمين متعلقين بكتاب (الإحياء) فإن الحافظ العراقي -رحمه الله- خرج أحاديثه من أجل التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وتصدى بعض السلفيين كذلك لتنقيته.

61- رأي شيخ الإسلام في تفسيري الزمخشري وابن عطية.

قال شيخ الإسلام:

"و(تفسير ابن عطية وأمثاله) أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من (تفسير محمد بن جرير الطبري) وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدراً، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف، لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب" (الفتاوى 13/361).

وفي كلام شيخ الإسلام من الفوائد ما يلي:

1- تفضيل شيخ الإسلام لـ (تفسير ابن عطية) على تفسير (الزمخشري) مما يدل على اطلاعه التام على التفسيرين كليهما، ولقد كنت بحمد الله ممن اطلع على هذين الكتابين واستفدت منهما فوائد لغوية وبلاغية عظيمة.. ولم يكن تفسير ابن عطية عندي عندما كان يدرسنا شيخنا الجليل الذي لم تر عيني مثله، ألا وهو أستاذي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجزاه عنا أحسن الجزاء، وكنت أكتب عنه عندما كان يلقي علينا في الجامعة الإسلامية، ثم لما وقع تفسير ابن عطية في يدي وجدت طرفاً عظيماً مما يلقيه شيخنا في هذا الكتاب وخاصة الشواهد العربية لمعاني ألفاظ القرآن.

2- الزمخشري وابن عطية وإن كانا من المعتزلة إلا أنهما (كانا أقرب إلى أهل السنة) وهذا يفيدك أنه كان من أتباع الفرقة الواحدة من هم أقرب للسنة من بعض.

3- إنه يجب أن يعطى كل ذي حق حقه وذلك عند التقييم والسؤال. وهذا يهدم الأصل الذي أراد أن يؤصله بعض من كتب في هجر المبتدع أنه لا يجوز أن تذكر حسنة لمبتدع.

62- تقييم شيخ الإسلام رحمه الله لعدد من التفاسير.

ولما سئل أيضاً عن أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، الزمخشري أم القرطبي أم البغوي أم غير هؤلاء؟ أجاب:

"وأما (التفاسير) التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري) فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين: كمقاتل بن بكير والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبدالرزاق، ووكيع وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه.

وأما (التفاسير الثلاثة) المسؤول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة (البغوي) لكنه مختصر من (تفسير الثعلبي) وحذف من الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك.

وأما (الواحدي) فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره. وتفسيره (تفسير الواحدي البسيط والوجيز) فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها.

وأما (الزمخشري) فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة.

و(أصولهم خمسة) يسمونها التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وانفاذ الوعيد، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لكن معنى (التوحيد) عندهم يتضمن نفي الصفات، ولهذا سمي ابن التومرت أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته.

ومعنى (العدل) عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على كل شيء، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب (هكذا بالأصل ولعل المعنى: وهذا ليس مذهب الزمخشري) الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي، وأبي هاشم وأتباعهم. ومذهب أبي الحسن والمعتزلة الذين على طريقته نوعان: مشايخية وخشبية.

وأما (المنزلة بين المنزلتين) فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافراً، فنزلوه بين منزلتين.

و(انفاذ الوعيد) عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج.

و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف. وهذه الأصول حشا (بها) كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين.

و(تفسير القرطبي) خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لا بد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذي حق حقه.

و(تفسير ابن عطية) خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها.

وثم تفاسير أخر كثيرة جداً كتفسير ابن الجوزي والماوردي. أ.هـ (الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/385،388).

ويستفاد من إجابة شيخ الإسلام رحمه الله الفوائد الآتية:

1- أن الإسلام رحمه الله لم ينه عن قراءة هذه الكتب ولا شرائها أو بيعها مع العلم أن الزمخشري بث المذهب في ثنايا تفسيره بعبارة ناعمة خفية، كما قال شيخ الإسلام (وهذه الأصول أي أصول المعتزلة حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا المقاصد فيها). ومع ذلك فإن شيخ الإسلام لم يقل أنه يجب هجره مطلقاً ولا يجوز بيعه واقتناؤه.

2- إن شيخ الإسلام رحمه الله أعطى المؤلف حقه وقال في ختام تقييمه لهذه التفاسير: (لكن يجب العدل بينها وإعطاء كل ذي حق حقه)، وهذا هو الإنصاف، والشهادة بالحق على مصنفات من رمي ببدعة.

هديب الشام
10-05-2002, 10:03 AM
63- ثامناً: الموقف من العالم العابد العامل إذا وقع في بدعة.

قال الإمام الذهبي:

"إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلَله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" (سير أعلام النبلاء 5/271).

قال هذا في ترجمة (قتادة بن دعامة) وقد رمى بالقدر حيث يقول عنه الذهبي: "وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مُدلس معروف بذلك، وكان يرى بالقدر، نسأل الله العفو. ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وقد بذل وسعه، لإله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل" (سير أعلام النبلاء 5/271).

وهذا الأصل الذي حققه الإمام الذهبي رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على علماء الإسلام وقادة الأمة حتى من رمي منهم ببدعة أو من كان له تأويل مخالف للكتاب والسنة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأقواله في ذلك كثيرة مشهورة، ولو جمعنا كل ذلك لكان مجلداً كبيراً ولكن حسبنا أن ننقل بعض عباراته في ذلك.

من ذلك: ما ذكره عن أبي حامد الغزالي، والذي لعل الغث في كتبه أكثر من السمين، والخطأ أكثر من الصواب، وقد نسبت إليه بعض كتب الزندقة ومع ذلك فهذه شهادة شيخ الإسلام فيه:

64- شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الغزالي.

"وتجد أبا حامد الغزالي مع أن له من العلم بالفقه، والتصوف، والكلام والأصول، وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك يذكر في كتاب (الأربعين) ونحوه كتابه: (المضنون به على غير أهله). فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق، وغاية المطالب وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد، ومقالات أهل الملل يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي، فإن أبا حامد كثيراً ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبدالسلام فيما علقه عنه ينكر أن يكون (بداية الهداية) من تصنيفه، ويقول إنما هو تقول عليه، ومع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين.

وأما (المضنون به على غير أهله) فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن كما قدمناه وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.

ولهذا كان الشيخ (أبو عمرو بن الصلاح) يقول فيما رأيته بخطه: (أبو حامد كثر القول فيه ومنه. فأما هذه الكتب يعني المخالفة للحق (أي نحو الأربعين والمضنون به على غير أهله) فلا يلتفت إليها. وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله).

ومقصوده: أنه لا يذكر بسوء لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن. وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.

ولهذا: فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي فإنه قال: (شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر" (الفتاوى 4/63-66).

قلت: فأنظر أخي المسلم في هذا الكلام الجليل لشيخ الإسلام رحمه الله في رجل لو ذهبت تعدد مقالاته وكتبه في البدعة وما يمكن أن يحكم على قائلها بالكفر لكان كثيراً جداً. ومع ذلك كان ما نقلته لك هو شهادة شيخ الإسلام رحمه الله.

65- كلام شيخ الإسلام في ابن حزم.

وأما ابن حزم العالم الجهبذ الفذ رحمه الله فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال فيه:

"وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة أهل السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل (القدر) و(الإرجاء) ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك.

لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات، وإن كان (أبو محمد بن حزم) في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى.

وبمثل هذا صار يذمه من الفقهاء والمتكلمين، وعلماء الحديث، باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات، ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر.

وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء" (الفتاوى 4/18-20).

قلت: وهذه بلا شك شهادة إنصاف وعدل من شيخ الإسلام رحمه الله في شأن علم عظيم من أعلام الإسلام وهو الإمام ابن حزم رحمه الله ونقول رحمه الله وعفا عنا وعنه خلافاً للناشئة الجدد الذين ينكرون على من يقول ابن حزم رحمه الله ويعتقدون أنه مبتدع يجب هجره، ومن الهجر عندهم ترك الترحم عليه وكذلك ترك الإستفادة بعلمه وكتبه رحمه الله فلا حول ولا قوة إلا بالله.

66- شهادة شيخ الإسلام رحمه الله في أبي عبدالرحمن السلمي.

وهذا شيخ الإسلام ينصف (أبا عبدالرحمن السلمي) علماً بأنه من مؤسسي علم التصوف وهو أول من جمع تفسيراً لهم، وأول من كتب وترجم لطبقات الصوفية ولكن شيخ الإسلام عندما يعرض له يقول:

"وكان الشيخ أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له" (الفتاوى 5/578).

تاسعاً: تأييد أهل البدع إذا تصدوا لما هو شر من بدعتهم.

67- قاعدة في المصالح والمفاسد.

ولا شك أن منهج الأنبياء والرسل والصحابة وتابعيهم بإحسان هو تحصيل أعظم المنافع في الدين والدنيا، وارتكاب أخف الضررين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان قال تعالى: {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} (الأحقاف:19)"، وقد رتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة العظيمة على ما يلي مما نحن بصدده من تأييد بعض أصحاب البدع دفعاً لما هو شر من بدعتهم حيث يقول: "وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً" (الفتاوى 13/96). (فانظر هذا، وقارن بين من يقال لهم: إن جماعة التبليغ مثلاً أسلم على يدي دعاتها خلق كثير وتاب على أيديهم كثير من العصاة، والزناة، وشاربو الخمور، فيقولون ما كانوا فيه خير مما دخلوا إليه!!!)

وقال أيضاً في من يدعو إلى الإسلام متخذاً الخرافات والأحاديث الموضوعة طريقاً للدعوة، وكذلك أهل الكلام المبتدع الذين يتخذون مناهجهم العقلية طريقاً لإثبات دين الإسلام فيقول شيخ الإسلام:

"وهذه الأمور يُسلمُ بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها، فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كانوا عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيراً مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم] وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، وتقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه" (الفتاوى 13/95).

وقال أيضاً في ضرب الأمثلة على هذه القاعدة:

"وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير" (الفتاوى 13/95).

وضرب مثالاً آخر فقال:

"وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذباً وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافراً، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه. ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه" (الفتاوى 13/96).

هديب الشام
10-05-2002, 10:04 AM
وقال شيخ الإسلام رحمه الله كذلك:

"وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة" (الفتاوى 13/97).

ولأجل هذا مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الفئات من أهل الكلام كالكلابية، والكرامية، والأشعرية مع ما هو معلوم من بدعهم في التأويل وذلك لتصديهم لما هو شر منهم من الفرق كالمعتزلة والرافضة، وكذلك لردهم على عموم الكفار والملحدين والزنادقة لأن ما يدعون غيرهم إليه خير مما هم عليه من الكفر والبدع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

"... وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة، والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة.

فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث. وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم..." (الفتاوى 4/12).

هذا ولا يكتفي شيخ الإسلام في تأييد الأشاعرة ومن في مثل بدعتهم لتصديهم لما هو شر منهم كالمعتزلة، ويؤيدهم عندما يتصدون لما هو شر من بدعتهم فيقول: "ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة، وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون علياً، ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر، ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال: فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين، ولا أعلم عينها. وقالوا إنه قال: لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه، ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان، وهذا القول شاذ فيهم، والذي عليه عامتهم تعظيم علي.

ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي، ومنهم يكفر هؤلاء ويفسقهم، بخلاف طلحة والزبير" (الفتاوى 13/97).

68- كلام شيخ الإسلام رحمه الله في عبدالله بن سعيد بن كلاب.

وذلك في تصديه للرد على معطلة الصفات:

"وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك فهذا كذب عليه. وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن، ويستعينون بمثل هذا الكلام (انظر أيضاً ذم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقصار النظر من أهل الحديث، والفقهاء الذين استمعوا إلى وشاية المغرضين من نفاة الصفات في ابن كلاب وكانوا عوناً لأعداء السنة على رجل هو أقرب إلى السنة وقائم بحرب بدعة هي أعظم من بدعته) الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه. ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم" (الفتاوى 5/555).

فانظر كيف مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موقف عبدالله بن كلاب من المعتزلة ونفاة الصفات، وإن كان هو نفسه صاحب بدعة ولكنها لا تصل حد بدعة الجهمية ومعطلة الصفات الذين يقولون: إن الله لا يرى، ولا له علم، ولا قدرة وإنه ليس فوق العرش رب، ولا على السموات إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى ربه إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة.

وما أشبه الليلة بالبارحة فإن العلمانيين واللادينيين بدؤوا بشن الغارة على الدعاة المصلحين، ووصفوهم بصفات خسيسة وافتروا الكذب عليهم بأنه يريدون شراً بأمتهم وأنهم متآمرون، وأنهم.. وأنهم... وأخذ هذه المقالات نفسها هؤلاء الذين ظنوا فيهم بدعة وشراً وكانوا بذلك عوناً للعلمانيين واللادينيين على إخوانهم المسلمين.

هديب الشام
10-05-2002, 10:05 AM
الباب الرابع
69- ما وقع بين أهل السنة والجماعة من الذم والعيب مما لا يجوز العمل به ولا التعويل عليه.

لا يجوز التعويل على ما خرج من القدح من عالم في صاحبه حسداً أو بغياً، أو تأويلاً أخطأ فيه، وذلك فيمن ثبت علمه وإمامته وعدالته.

وقد يقع القدح من بعض العلماء في بعض، ويرمي أحدهم أخاه بالبدعة أو الفسق أو رقة الدين أو الجهل ونحو ذلك، ويكون لذلك دوافع غير الانتصار للدين والغيرة على حرمات الله، والرغبة في حماية جانب الشريعة، وإنما دوافعهم في ذلك البغي والحسد والظلم، وقد كان هذا في الأمم السابقة، ويكون في هذه الأمة كما قال تعالى فيمن سبقنا: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم} (البقرة 213)، ولذلك وضع أصحاب الحديث أصلاً عظيماً من أصول الجرح وهو عدم قبول قدح الأقران بعضهم في بعض.

والأقران هم المتعاصرون من العلماء والمتنافسون في العلم والشهرة والفضل.

وقد وقع كثير من هذا بين أصحاب الحديث أنفسهم، قال الإمام الذهبي رحمه الله:

"كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو مذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" (ميزان الإعتدال 1/111).

وقد أورد هذا في ترجمته للحافظ أبي نعيم الأصفهاني والذي تكلم فيه الإمام ابن منده كلاماً فظيعاً قال عنه الذهبي:

"كلام ابن منده في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان" (ميزان الإعتدال 1/111).

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كان بين الحافظ النسائي صاحب السنن رحمه الله، وأحمد بن صالح أبي جعفر المصري الذي قال عنه الذهبي:

"هو الحافظ الثبت أحد الأعلام"

ولذلك قال الذهبي: "آذى النسائي نفسه بكلامه فيه" (ميزان الإعتدال 1/103).

وللأسف فإن قدح الأقران بعضهم في بعض قد يفضي كذلك إلى التكفير والسعي في استحلال الدم. يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن منده:

"ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدَّة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم، وقد كان أبو عبدالله (أي ابن منده) وافر الجاه والحرمة إلى الغاية ببلده، وشغب على أحمد بن عبدالله الحافظ (يعني أبا نعيم الحافظ) بحيث أن أحمد اختفى" (سير أعلام النبلاء 17/41).

وهذه الكلمات التي أطلقها الحافظ ابن منده في أبي نعيم ظلت تلاحقه، بل إن ذكر اسمه قد كان كافياً في قتل من يذكره.

وقد عقد الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) باباً عظيماً بعنوان "باب قول العلماء بعضهم في بعض" وضع فيه رحمه الله قاعدة عظيمة بعد سياق الأدلة الكثيرة والأخبار المستفيضة حيث يقول: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك..

وهذه القاعدة التي وضعها هي:

"إن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينه عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه" (جامع بيان العلم وفضله 3/152).

وقال أيضاً:

"لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون، وكان خيره غالباً وشره أقل، فهذا لا يقبل فيه قول القائل لا برهان له، وهذا هو الحديث الذي لا يصح غيره إن شاء الله" (جامع بيان العلم وفضله 2/162).

وأما الأدلة التي ساقها ابن عبدالبر رحمه الله على هذه القاعدة النفيسة فهي كما يلي:

1- حديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم] (قال شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: أخرجه الترمذي (2/83) وأحمد (1/165،167) ورجاله ثقات غير مولى الزبير، فلم أعرفه (الإرواء 3/238) (صحيح الجامع 1/3361) وللحديث شواهد في الصحيح وغيره).

2- الآثار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما ومالك بن دينار وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب وجلة من التابعين أن بين العلماء حسداً هو أشد الحسد.

فعن ابن عباس قال: "استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا" (جامع بيان العلم 2/151).

والتغاير من الغيرة: أي أحدهم يغار من الآخر إذا مدح أو رأى أنه أفضل منه. (ليتني علمت هذا الحديث في أول الطلب، إذن لاستطعنا أن نفهم أحداثاً كثيرة كانت تحصل بين العلماء الذين أخذنا عنهم العلم، وكانت تنقطع قلوبنا لأجلها، وما كنا ندري أن هذا بسبب الغيرة، والحسد!!)

وعن مالك بن دينار قال:

"يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس، تنصب لهم الشاة الضارب فينب (قال في لسان العرب: نب التيس ينب نبا، ونبيبا، ونباباً ونبيب: صاخ عند الهياج. أ.هـ) هذا من ههنا وهذا من ههنا"!!!

وعن عبدالعزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول:

"العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه ولا يذاكر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه فهلك الناس" (جامع بيان العلم وفضله 2/151).

ثم أورد الإمام ابن عبدالبر نقولاً مستفيضة مما حدث بين الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء وأهل الحديث من كلام بعضهم لبعض، وقدح بعضهم في بعض مما لا يجوز أن يقبل منهم، ولا أن يقلدوا فيه ولا أن يتخذ أصلاً في الدين ونحن ننقل هنا المقدار الذي تتضح به الصورة وتتأكد به القاعدة الآنفة ونستغفر الله للجميع.

وتعليل ما صدر عن هؤلاء الأخيار بعضهم في بعض أنه ربما صدر منهم حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه ما صدر على جهة التأويل مما لا يلزم فيه ما قاله القائل، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً والحال أنه لا يلزم تقليدهم في شيء من ذلك دون برهان ولا حجة توجبه. (جامع بيان العلم وفضله 3/152).

هديب الشام
10-05-2002, 10:07 AM
70- أ-بعض ما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم من تكذيب بعضهم بعضاً مما لا يجوز أخذ أقوالهم فيه:

1- قال ابن عبدالبر:

"قيل لعروة بن الزبير: إن ابن عباس يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بعد أن بعث ثلاثة عشرة سنة، فقال: كذب إنما أخذه من قول الشاعر:

قال أبو عمر والشاعر هو أبو قيس بن أنس الأنصاري حيث قال:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقي صديقاً مواتياً

(جامع بيان العلم وفضله 2/155).

2- وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه سئل عن قول الله عز وجل {وشاهد ومشهود}، فأجاب فيها فقيل إن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله. فقال: كذبا!! (جامع بيان العلم وفضله 2/155).

3- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "كذب المغيرة بن شعبة" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).

4- وعن عبادة بن الصامت أنه قال كذب أبو محمد يعني في وجوب الوتر.. قال ابن عبدالبر: وأبو محمد هذا اسمع مسعود بن أوس الأنصاري وهو بدري وتكذيب عبادة بن الصامت له من رواية مالك وغيره في قصة الوتر (جامع بيان العلم وفضله 2/154).

5- قول السيدة عائشة رضي الله عنها في أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري.

قال ابن عبدالبر:

"وروى علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال قالت عائشة:

"ما علم أنس بن مالك أبو سعيد الخدري بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانا غلامين صغيرين" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).

6- قول عمران بن الحصين رضي الله عنه في سمرة بن جندب رضي الله عنه قال ابن عبدالبر:

"حديث سمرة أنه قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان يعني في الصلاة عند قراءته، فبلغ ذلك عمران بن الحصين، فقال: كذب سمرة، فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن قد صدق سمرة وهذا الحديث مشهور جداً" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).

7- قول ابن عمر رضي الله عنهما في أبي هريرة:

"ومثله قول المروزي، حدثنا اسحق بن راهويه وأحمد بن عمرو قالا حدثنا جرير عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت،عن طاوس قال:كنت جالساً عند ابن عمر فأتاه رجل فقال إن أبا هريرة يقول إن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا فقال ابن عمر كذب أبو هريرة جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صلاة الليل؟ فقال: [مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فواحدة] (جامع بيان العلم وفضله 2/155).

8- قول عائشة رضي الله عنها في ابن عمر، قال ابن عبدالبر:

"وكذَّبت عائشةُ ابن عمر في عدد عُمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (جامع بيان العلم وفضله 2/156)، وفي أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" (جامع بيان العلم وفضله 2/155).

قلت وهذا ثابت في الصحيح عنها رضي الله عنها.

وقال ابن عبدالبر في ختام هذا الفصل:

"وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب."

هديب الشام
10-05-2002, 10:08 AM
71- ب- ما جاء عن التابعين والأئمة من قدح بعضهم في بعض مما لا يجوز تقليدهم واتباعهم فيه:

1- طعن سعيد بن المسيب وعكرمة في بعضهما:

قال ابن عبدالبر:

"قال المروزي: وحدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذراً لا ينبغي له من المعاصي، فأمره أن يوفي بنذره، فسأل الرجل عكرمة، فأمره أن يكفر عن يمينه، ولا يوفي بنذره فرجع الرجل إلى سعيد بن المسيب فأخبره بقول عكرمة، فقال ابن المسيب: لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره، فرجع إلى عكرمة فأخبره، فقال عكرمة أما إذ بلغتني فبلغه، أما هو فقد ضربت الأمراء وأوقفوه في تبان من شعر، وسله عن نذرك أطاعةٌ هو لله أم معصية؟ فإن قال: هو طاعة لله فقد كذب على الله لأنه لا تكون معصية الله طاعة، وإن قال هو معصية فقد أمرك بمعصية الله.

قال المروزي فلهذا كان بين سعيد بن المسيب وبين عكرمة ما كان حتى قال فيه ما حكى عنه أنه قال لغلامه (بُرد): لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس" (جامع بيان العلم وفضله 2/156).

قلت: ومعلوم أن عكرمة رحمه الله من خيار أصحاب ابن عباس وهو ثقة مأمون، وكذلك الحال في شأن سعيد بن المسيب ولا يجوز أخذ قول هذين الإمامين بعضهما في بعض.

2- طعن مالك بن أنس رحمه الله في ابن اسحق، وابن إسحاق في مالك بن أنس:

قال أبو عمر ابن عبدالبر:

"وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلغه عنه تكلم به في نسبه وعلمه، قال أبو عمر:

"والكلام ما رويناه من وجوه عن عبدالله بن إدريس أنه قال: قدم علينا محمد بن إسحق فذكرنا له شيئاً عن مالك فقال: هاتوا علم مالك فأنا بيطاره، قال ابن إدريس: فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال: ذلك دجال الدجاجلة، ونحن أخرجناه من المدينة، قال ابن إدريس وما كنت سمعت بجمع دجال قبلها على ذلك الجمع!! وكان ابن إسحق يقول فيه: إنه مولى لبني تيم قريش وقال فيه ابن شهاب أيضاً فكذب مالك ابن اسحاق لأنه كان أعلم بنسب نفسه، وإنما هم حلفاء لبني تيم في الجاهلية وقد ذكرنا ذلك وأوضحناه في صدر كتاب التمييز وربما كان تكذيب مالك لابن اسحاق في تشيعه، وما نسب إليه من القول بالقدر وأما الصدق والحفظ فكان صدوقاً حافظاً أثنى عليه ابن شهاب، ووثقه شعبة والثوري وابن عيينة وجماعة جلة.

وقد روى عن مالك أنه قيل له من أين قلت في محمد بن إسحاق أنه كذب فقال سمعت هشام بن عروة يقوله.

وهذا تقليد لا برهان عليه وقيل لهشام بن عروة من أين قلت ذلك؟ قال: هو يروي عن امرأتي والله ما رآها قط!!

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله عند ذكره هذه الحكاية قد يمكن أن إسحاق كان يراها أو يسمع منها من وراء حجاب من حيث لم يعلم هشام" (جامع بيان العلم وفضله 2/156).

قلت: فانظر كيف ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى إسقاط ما قاله مالك في ابن إسحاق، وشهد بما يوجبه الإنصاف لكل من الرجلين وكيف حملوا مقالة مالك في ابن اسحاق على الخصومة، ودفع السيئة بالسيئة ولم يحملوا ذلك على أنه حق يجوز الأخذ به.

3- ما كان بين الأعمش وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى:

قال ابن عبدالبر:

"حدثنا أحمد بن عبدالله، حدثنا مسلمة بن القاسم، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا محمد بن أحمد بن فيروز، حدثنا علي بن خشرم، قال: سمعت الفضل بن موسى يقول دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال أبو حنيفة: يا أبا محمد لولا التثقيل عليك لزدت في عيادتك أو قال: لعدتك أكثر مما أعودك، فقال له الأعمش والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي؟! قال الفضل: فلما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة إن الأعمش لم يصم رمضان قط، ولم يغتسل من جنابة!! فقلت للفضل: ما يعني بذلك؟ قال: كان يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة" (جامع بيان العلم وفضله 2/157).

قلت: معنى قوله يرى الماء من الماء: أي: لا يوجب الغسل من الجنابة إلا بالإنزال، وليس عند التقاء الختانين كما هو الصحيح، ومعنى يتسحر على حديث حذيفة أي: يرى جواز الأكل والشرب إلى ظهور النور.

4- قدح الإمام مالك رحمه الله في أتباع أبي حنيفة:

قال أبو عمر بن عبدالبر:

"حدثنا أحمد بن محمد، قال حدثنا أحمد بن الفضل، قال حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا يونس بن عبدالأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: كنا عند مالك وذكر عنده أهل العراق فقال: أنزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد} (العنكبوت:46) الآية

وروينا عن محمد بن الحسن أنه دخل على مالك بن أنس يوماً، فسمعه يقول هذه المقالة التي حكاها عنه ابن وهب في أهل العراق، ثم رفع رأسه فنظر فكأنه استحيا وقال: يا أبا عبدالله أكره أن تكون غيبة كذلك أدركت أصحابنا يقولون.

وقال سعيد بن منصور كنت عند مالك بن أنس فأقبل قوم من أهل العراق فقال: {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} (الحج:72) (جامع بيان العلم وفضله 2/157).

5- قدح ابن المبارك في أبي حنيفة رحمه الله:

قال ابن عبدالبر:

"وذكر أبو يعقوب يوسف بن أحمد المكي قال حدثنا جعفر بن إدريس المقري قال: حدثنا محمد بن أبي يحيى قال حدثنا محمد بن سهل قال: سمعت ليث بن طلحة يقول: سمعت سلمة بن سليمان يقول: قلت لابن المبارك وضعت من رأي أبي حنيفة ولم تضع من رأي مالك قال: لم أره علماً" (جامع بيان العلم وفضله 2/157-158).

وعقب عبدالبر على ذلك قائلاً:

"وهذا مما لا يسمع من قولهم، ولا يلتفت إليه ولا يعرج عليه" (جامع بيان العلم وفضله 2/157-158).

6- قدح قتادة، ويحيى بن أبي كثير كل منهما في الآخر:

قال ابن عبدالبر:

"وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، قال سمعت جبير بن دينار، قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: لا يزال أهل البصرة بشر ما أبقى الله فيهم قتادة.

قال: وسمعت قتادة يقول: متى كان العلم في السمَّاكين؟ يعرض بيحيى بن أبي كثير كان أهل بيته سماكين" (جامع بيان العلم وفضله 2/157).

7- طعن الإمام مالك رحمه الله في أتباع الإمام الأوزاعي وأتباع أبي حنيفة:

قال ابن عبدالبر:

"حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر، قال: حدثنا ابن أبي دليم، قال حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن يحيى المصري، قال: سمعت عبدالله بن وهب يقول: سئل مالك عن مسألة فأجاب فيها فقال له السائل أن أهل الشام يخالفونك فيها فيقولون كذا وكذا، فقال: ومتى كان هذا الشأن بالشام؟! إنما هذا الشأن وقف على أهل المدينة والكوفة.

وهذا خلاف ما تقدم من قوله في أهل الكوفة وأهل العراق، وخلاف المعروف عنه من تفضيله للأوزاعي، وخلاف قوله في أبي حنيفة المذكور في الباب قبل هذا، لأن شأن المسائل بالكوفة مدارة على أبي حنيفة وأصحابه، والثوري.

قال عبدالله بن غانم قلت لمالك: إنا لم نكن نرى الصفرة ولا الكدرة شيئاً، ولا نرى ذلك إلا في الدم العبيط، فقال مالك: وهل الصفرة إلا دم؟! ثم قال إن هذا البلد إنما كان العمل فيه بالنبوة، وإن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك.

وهذا من قوله أيضاً خلاف ما تقدم، وقد كان أهل العراق يضيفون إلى أهل المدينة أن العمل عندهم بأمر الأمراء مثل هشام بن إسماعيل المخزومي وغيره" (جامع بيان العلم وفضله 2/158).

قال أبو عمر بن عبدالبر معقباً: "وهذا كله تحامل من بعضهم على بعض".

8- طعن ابن القاسم وابن وهب كل منهما في صاحبه:

قال ابن عبدالبر:

"حدثنا عبدالرحمن بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، قال: حدثنا عبيدالله بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، قال: كنت آتي ابن القاسم فيقول لي: من أين؟ فأقول: من عند ابن وهب، فيقول: الله، الله، اتق الله فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل.

قال ثم آتي ابن وهب فيقول لي من أين؟ فأقول: من عند ابن القاسم فيقول: اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي" (جامع بيان العلم وفضله 2/159).

9- قدح ابن معين رحمه الله في الإمام الشافعي ومجموعة من خيار الأئمة والرواة الثقاة رحمهم الله:

قال ابن عبدالبر:

"وقد كان ابن معين عفا الله عنه يطلق في أعراض الثقاة الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه منها قوله: عبدالملك بن مروان أبخر الفم وكان رجل سوء.

ومنها قوله كان أبو عثمان النهدي شرطياً، ومنها قوله في الزهري أنه ولي الخراج لبعض بني أمية، وأنه فقد مرة مالاً فاتهم غلاماً له فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاماً خشناً في قتله على ذلك غلامه تركت ذكره لأنه لا يليق بمثله.

ومنها قوله في الأوزاعي: أنه من الجند ولا كرامة. وقال حديث الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير ليس بثبت.

ومنها قوله في طاوس أنه كان شيعياً ذكر ذلك كله الأزدي محمد بن الحسين الموصلي الحافظ في الأخبار التي في آخر كتابه في الضعفاء عن الغلابي عن أبي معين: وقد رواه مفترقاً جماعة عن ابن معين منهم عباس الدوري وغيره.

ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي: أنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: إنه يحيى بن معين يتكلم في الشافعي! فقال أحمد ومن أين يعرف يحيى الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي!! ولا يقول مثل ما يقول الشافعي أو نحو هذا ومن جهل شيئاً عاداه.

قال أبو عمر:

صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي. وقد حكى عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها" (جامع بيان العلم وفضله 2/160).

وقد حاول بعضهم نفي طعن ابن معين في الإمام الشافعي فعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:

"وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له لم تر عيناك قط مثل الشافعي" (جامع بيان العلم وفضله 2/160).

10- قدح مجموعة من الأئمة والعلماء في الإمام مالك رحمه الله:

قال ابن عبدالبر:

"وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة، كرهت ذكره، وهو مشهور عنه، قاله إنكاراً منه لقول مالك في حديث [البيعان بالخيار]، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه.

وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل عبدالعزيز بن أبي سلمة، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وابن اسحق، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين، وثور بن زيد.

وتحامل عليه الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكار المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره" (جامع بيان العلم وفضله 2/161).

ثم عقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:

"وقد برأ الله عز وجل مالكاً عما قالوا وكان إن شاء الله عند الله وجيهاً، وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظرائهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى:

كناطح يوماً صخرة ليوهيها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الحسين بن حميد:

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

(جامع بيان العلم وفضله 2/161

هديب الشام
10-05-2002, 10:09 AM
11- حماد بن أبي سليمان يقدح في عطاء، وطاوس ومجاهد:

قال ابن عبدالبر:

"وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس الخفاف، قال: حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، قال:حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير بن عبدالحميد عن مغيرة قال: قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه فقال لنا: احمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاءً وطاوساً ومجاهداً فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم"! (جامع بيان العلم وفضله 2/153).

وهذا القدح من حماد في عطاء وطاوس ومجاهد لا شك أنه تعد وظلم وجعله صبيان الكوفة أفضل من هؤلاء الأجلة من التابعين، لا شك أنه مخالف للعدل والإنصاف ولذلك قال المغيرة: هذا القول من حماد بغي منه. بل إن الإمام أبا حنيفة وهو من أعلم الناس بحماد يفضل عطاء على حماد. ويفضل كذلك عطاء بن أبي رباح ويقول: ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح ولا أكذب من جابر الجعفي. (جامع بيان العلم وفضله 2/153).

12- قدح الإمام الزهري رحمه الله في عطاء وطاوس ومجاهد:

قال ابن عبدالبر:

"وحدثنا عبدالوارث بن سفيان، قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري، قال: ما رأيت قوماً أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة ولا رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية" (قال أحمد بن يونس: يعنى بالسبئية: الرافضة).

وقال ابن عبدالبر بعد ذلك:

وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحداً وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء بجلالته في الدين.

وأظن ذلك والله أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء" (وأما ما روي عنهم في الصرف، فهو قولهم بجواز الدرهم بالدرهمين، وقد نقل عنهم كذلك إباحة زواج المتعة، ومن أجل ذلك قال عنهم الزهري "إنهم ينقضون عرى الإسلام!!" ولا شك أن هذا حكم جائر لأن ما ذهبوا إليه من القول بالمتعة، والصرف إنما كان إجتهاداً، ومثله يغفر لمن كان مثلهم في العلم والإجتهاد).

13- طعن الشعبي وإبراهيم النخعي كل منهما في الآخر:

قال ابن عبد البر:

"وذكر الحسن بن علي الخولاني، قال حدثنا نعيم بن حماد، قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، قال كنت عند الشعبي فذكروا إبراهيم، فقال ذاك رجل يختلف إلينا ليلاً ويحدث الناس نهاراً، فأتيت إبراهيم فأخبرته فقال: ذلك يحدث عن مسروق والله ما سمع منه شيئاً قط!!

وحدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال: حدثني زكريا بن يحيى قال: حدثنا قاسم بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً".!!

وعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:

"معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلماً وديناً".

وفي ختام هذا الباب نورد القاعدة الجامعة التي صاغها ابن عبدالبر رحمه الله حيث يقول:

"فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الاثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً.

وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وفي الشعبي والنخعي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة. وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرنا في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده عندما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالباً وشره أقل فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).

وقال الإمام الثوري رحمه الله:

"عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والغضب والشهوات دون أي يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).

وقال ابن عبد البر:

"وحدثنا عبدالله بن محمد بن يوسف، قال حدثنا ابن دحمون قال سمعت محمد بن بكر بن داسة يقول سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني يقول رحم الله مالكاً كان إماماً. ورحم الله الشافعي كان إماماً. ورحم الله أبا حنيفة كان إماماً" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).

هديب الشام
10-05-2002, 10:09 AM
72- خلاصة ما ورد في هذه الرسالة:

أولاً: أهل السنة والجماعة لا شك أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمسكون بكتاب الله سبحانه وتعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع هذه الأمة المرحومة خير أمة أخرجت للناس وجماعتها وهم حراس الدين، الظاهرون على الحق إلى قيام الساعة.

ثانياً: كل ما خالف الكتاب والسنة والإجماع فهو بدعة وما لم يخالف الكتاب ولا السنة ولا الإجماع فليس ببدعة.

ثالثاً: البدع التي ظهرت في المسلمين كثيرة أصولها القديمة خمس هي: الخروج، والرفض، والتجهم، والإرجاء والقدر.

وقد ظهرت بعد ذلك البدع المركبة، وأعظم البدع المركبة التصوف الذي جمع الزندقة والقول بوحدة الوجود، والجبر، وادعاء علم الغيب وسائر البدع العملية من السماع، والعبادات المخترعة، وأسوأ أنواع الإرجاء.

وظهر في هذا العصر بدعة (اللادينية) والتي تسمى (العلمانية) وهي الفصل بين أمور الآخرة والدنيا، وجعل الدين عقيدة قلبية فقط، والحكم بغير شريعة الله.

رابعاً: اتبع أهل السنة والجماعة السياسة الحكيمة في القضاء على البدع، وتقليل شرها ما أمكن ذلك.

فمن خلفاء الإسلام الراشدين من قاتلهم، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة الذين أقروا بالصلاة وسائر فروض الإسلام وأنكروا فرض الزكاة، وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج لما أظهروا بدعتهم، وقاتلوا المسلمين وكفروهم، وكذلك حرق رضي الله عنه من ادعوا فيه الألوهية وقالوا له أنت هو!! أنت الله!!

فقال قولته المشهورة:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قَمْبرَا

ومن بعده قتل خلفاء بني أمية الخوارج وكثيراً من الزنادقة، ومدعي النبوة، وأهل التأويل الباطل كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان...

وقتل خلفاء بني العباس كثيراً من رؤوس البدع والزندقة، والوضاعين، كالحلاج وغيره.

وقام علماء أهل السنة بما أوجب الله عليهم من البيان وإيضاح المحجة، والرد على كل البدع: عقائديةً وعمليةً.

وكذلك أمروا باعتزال رؤوس البدع والضلالات لحصر شر بدعتهم، وإماتتها....

وتركوا الصلاة عليهم أحياناً زجراً لأتباعهم وكان لهم مواقف وضوابط في قبول شهادتهم ورواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا مع نظر أهل السنة والجماعة الثاقب في إعلاء منار الدين ونصرة رسالة رسول رب العالمين..

وبالجملة فقد كان موقف أهل السنة والجماعة مع البدع والمبتدعة هادفاً إلى نصر الدين وإيضاح الحق، وعدم إلباس الصراط المستقيم بصراط الذين غضب الله عليهم والضالين...

خامساً: كثيراً ما يصدر كلام فيه خشونة وجرح من بعض العلماء الثقات في أقرانهم من العلماء الثقات كذلك، ويكون ذلك مرجعه أحياناً إلى الحسد، أو سرعة الغضب، أو التعجل في الحكم، ومثل هذا الكلام يُطوَى ولا يروى ونَقْلُنا هنا للفصل الخاص بذلك مما ذكره ابن عبدالبر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) إنما هو لتأصيل هذه القاعدة وهي أن قدح الأفراد والثقات بعضهم لبعض يجب رده وتركه.. ولا يجوز التعويل عليه.. وجعله قاعدة عامة في جواز الوقيعة في أهل العلم، أو التأسي بمن وقع ذلك منهم، أو جرح من أردنا جرحه لأن من أخذ كلام عالمٍ ثقةٍ في عالمٍ ثقةٍ فإنه لن يسلم له أحد في نهاية المطاف.

وهذا يؤدي حتماً إلى الزيغ والضلال.

سادساً: نشأ في المسلمين اليوم من لا يفرق بين السنة والبدعة، ولا يعرف المصالح الشرعية، فجعل البدعة اللغوية التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً كالبدعة الشرعية، ولم يفرق بين بدعة صغرى وبدعة كبرى، ووضع أصولاً من أصول الضلال زعمها أصولاً للسنة والجماعة، وهي أصول للفرقة والخلاف:

1) كإدخالهم القضايا الخلافية العملية في مسمى السنة.

2) وتضليلهم وتبديعهم من لا يأخذ باختيارهم واجتهادهم.

3) وجعل كل من خالفهم في المسائل العملية خارجاً عن منهج أهل السنة والجماعة وداخلاً في مسمى الفرق...

4) وحملهم أخطاء المجموع على الجميع.

5) وعقدهم الولاء والبراء على المسائل الخلافية العملية.

6) وسعيهم الحثيث لاستخراج عيب لكل عامل للإسلام، واجتهادهم في الوقوف على زَلَّة له من أجل هدمه، وقطعه عن أمته وحرمان المسلمين من جهاده وعلمه وعمله.

7) وتنشئتهم صغار الطلبة على الطعن في علماء الإسلام، وفتح عيونهم أول ما تفتح على مثالب السابقين والمعاصرين...

فترى الطالب يَعْلَمُ عن أخطاء ابن حجر، والنووي، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن عبدالسلام، ورشيد رضا، وسائر علماء المسلمين، أضعاف.. أضعاف ما يعرف عن إحسانهم وعلمهم، وجهادهم، ودعوتهم.

وهذه جميعها من أصول أهل الخلاف والبدعة، وليست من أصول السنة والجماعة.

ومن أجل إظهار منهج أهل السنة والجماعة على الحقيقة كان جمع هذه الرسالة.

والحمد لله أستغفره وأتوب إليه وأسأله قبول هذا العمل، وأن يجعله له خالصاً. اللهم ما كان فيه من صواب فمنك وحدك لا شريك لك، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان.. اللهم إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أظلِم أو أظلَم أو أجهَل أو يُجهَل علي...

ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.