تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : "ثِبْ وَثْباً " للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله



مقاوم
09-17-2011, 08:51 PM
ثِبْ وَثْباً





الكاتب :الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

كان أبي- رحمه الله - يوقظني كل غداة لأصلي الصبح، يناديني فأجيبه والنوم في عينيأقول:

- حاضر.سأقوم حالاً.

- فيقول: لا تتراخَ. ثبوثباً.

فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناومفلا أردّ، أو أردّ ولا أقوم، حتى يملّ مني فيدعني. وتوفي أبي، وكبرت، وقرأت الكتبوجالست العلماء، وخبرت الدنيا، وجربت الأمور، فلم أجد تجربة أجدى، ولا كلمة أنفع،ولا موعظة أعظم أثراً في المعاش والمعاد، والأفراد والجماعات. من كلمة أبي تلك:"ثب وثباً"، لو أن الله جلّت حكمته مدّ في أجله قليلاً حتى يعوّدنيالعمل بها، والسير عليها، ولم تخترمه المنية وأنا صغير لم أتمرس بعد بحرب الشيطانولم أستكمل العدة لدفع أذاه، ورد كيده عني، فلبثت في نضال معه إلى اليوم، أغلبهحيناً، ويغلبني، لعنة الله عليه، في أكثر الأحيان.

تدوّي هذه الكلمة في أذنيكل صباح، فأسمع منها صوت أبي يقول لي: "قم إلى الصلاة، فالصلاة خير من النوم،وبكّر فالبركة في البكور"، فيقول الشيطان: "الوقت فسيح، والنوم لذيذ،والفراش دافئ، والجو بارد"، ولا أزال بين داعي الواجب وداعي اللذة، أفكر فيمتعة الصلاة وثواب الآخرة، فأتحفز للقيام وأتصور مشقة الوضوء، وبرد الماء، فانقلبمن جنب إلى جنب، ولا تزال نفسي بينهما كنوّاس الساعة، تتردّد بين: "قم"و "نم" حتى تطلع الشمس ويفوّت الشيطان عليّ الصلاة، ويضيّق عليّ الوقت،فآكل طعامي لقمة بالطول ولقمة بالعرض، ولقمة تعترض في صدري فأغصُّ بها، وألبسثيابي جورباً على الوجه وجورباً على القفا، وعقدة مائلة وقميصاً أعوج، وأنسى منعجلتي بعض أوراقي، وأهرول في الطريق، فأسيء هضمي، وأتعب معدتي، وأضحك الناس عليّ،ثم إني ما كسبت من هذا الإبطاء نوماً، ولا ازددت راحة، ولو وثبت، من أول لحظة لكانفي ذلك رضا ربي بأداء الصلاة، وصحة جسمي بحسن الأكل وإجادة المضغ، وإكمال عمليبإعداد أوراقه على أناة، وحفظ منزلتي بين الناس بالسير على مهل.

وأنظر فأجدني أقرأ كل يوممهما أقللت أكثر من مائتي صفحة، جلها مما لا يفيد علماً، ولا يعلّم أدباً، ولايقوّم خلقاً، وأدع عشرات الكتب الجدية النافعة في اللغة والأدب والفقه والتفسير،فأعزم على قراءتها، وأذهب فأعدُّها وأصفُّها على مكتبي، وأهم بالشروع بها، فأجدهاكثيرة، فأرجئ النظر فيها، وأقول: سأبدأ في غد فما يضر التأخير إلى الغد وقد أخرتهاهذه السنين كلها، فيجيء الغد والذي بعده، وتتصرم الأيام، وأقرأ خلال ذلك أضعافأضعافها من الكتب التافهة، والصحف والمجلات التي لا تفيد شيئاً، وليس فيها إلااللهو والتسلية وإضاعة الوقت، وتبديد ساعات العمر، وتبقى هذه الكتب مرصوفة علىمكتبي يعلوها الغبار، حتى ترفعها ربّة الدار، ولم أمسها ولم أقترب منها.

ولو أني "وثبت إليهاوثباً" لفرغت منها من زمان طويل.

وأنظر فأجدني قد كدت أنسىاللغة الفرنسية؛ لطول ما أعرضت عنها، وانصرفت عن الاشتغال بها، وهي نافعة لي لاحباً بأهلها قبح الله أهلها، بل لأن فيها حكمة، والمؤمن يطلب الحكمة حيث وجدها،وآسف أني بدأت بتعلمها من سنة 1918 وواليت دراستها حتى حذقت صرفها ونحوها، ووقفتعلى شعرها ونثرها ثم نسيتها، وأعزم على تجديد العهد بها، والعودة إليها، وأهيئكتبها ومعاجمها، ولكني لا "أثب" إليها. فتمضي السنون وأنا لم أشرع بها.

وأنظر فأرى الشحم قد ركبني،والسِمَن قد علاني، فأبطأ حركتي، وأثقل أعضائي، فأطالع كتب الرياضة، وأستشيررجالها، وأشتري أدواتها، وأنوي أن أمارسها، وأواظب عليها حتى يذهب شحمي، وينشطجسمي...

وأزمع وضع كتاب عن الخوارج،وآخر عن المهلب، وكتاب في الدين الإسلامي، وأجمع المصادر وأرسم الخطط، ولا يبقىإلا أن أمسك القلم لأكتب...

وأحاسب نفسي، فألقاها قدتنكبت طريقها، وتحولت عن وجهتها، وأنستها الدنيا آخرتها، وصرفتها عن ربها، فأعزمعلى التوبة، والتحري في المطعم والمشرب، وكفّ البصر وحفظ اللسان، والمحافظة علىالسنن والنوافل، وهجر رفاق السوء، وصحبة من يذكّر بالله ويدل عليه...

ولكني لا "أثب إلىذلك"، بل أقبل عليه متراخياً، أرقب به يوماً بعد يوم، فتمرُّ الأيام، ولمأشرع برياضة، ولم أبدأ بكتاب، ولم أحقق توبة وإنما استسلمت للحياة فدار دولابهاعليّ وأنا ساكن، يصبح الصباح ويمسي المساء، "والحالة هي هِيَه، والعيشة هيهِيَه"، ما نشطت بالرياضة جسماً ولا شحذت بالمطالعة عقلاً، ولا زكيت بالتوبةنفساً، خسرت هذا كله لأني عصيت أبي، وخالفت عن أمره فلم أثب من الفراش وثباً، وبعتهذه الخيرات بتمددي ساعة تحت اللحاف، فما أعظم المبيع، وما أقل الثمن!

وهذا هو مرضنا جميعاً، وعلةعللنا وسبب أدوائنا، وليس تنقص واحداً منا المواعظ والأفكار، ولا يعوزه معرفة طرقالخير، فالمواعظ مبثوثة في كل كتاب، ومترددة على كل لسان، وماثلة حتى في وفاءالكلب، وصبر الحمار، ودأب النملة، وتوكل العصفور وظاهرة في طبائع الأشياء، وصفاتالجمادات، من شاء موعظة وجدها، ومن ابتغى نصيحة وقع عليها، وطرق الخير معروفة لايجهلها أحد، فكل أب يجد إن فكر خطة لتربية ولده خيراً من خطته، وكل تاجر يجدأسلوباً أحسن من أسلوبه لتوسيع تجارته، وكل رجل يعرف الطريق لتحسين صحته، وإصلاحسيرته في بيته مع أهله وزوجته، وفي طعامه وكسوته، وفي يقظته ونومته وأحمق الناستمر به نفحات يرى فيها سبيل العقل واضحة، وأفسق الناس تسمو نفسه لحظات يبصر فيهاقبح الفسوق وجمال الطاعة، ويشعر بالندم ويعزم على التوبة، ولكن ينقصنا المضاءوالتصميم و "الوثوب" إلى الخيرات حين تلوح لنا وتمر بنا.

هذا هو مرضنا الذي طالماأضاع علينا أموالاً ومكاسب، وخيرات ومنافع، وأخرنا والأمم تتقدم، وهو مرض الجماعاتمنا والحكومات، فأعرضوا تاريخنا الحديث تروا كم فرصة أضعنا وكم غنيمة فوتنا، بلانظروا ماذا صنعنا في هذه الحرب وحدها وأعجبوا منا إذا فتحت لنا إلى آمالنا باباًواسعاً فلم ندخله، ووضعت في أيدينا سلاحاً ماضياً فلم نستعمله: عجزنا أن نكون أقوىمن عدونا، فأضعفته هذه الحرب لنقوى بضعفه، وشغلته عنا لنغتنم الفرصة فنسترد منه ماسلب منا، فأدركتنا رقة الشعور، فرحمناه، وأشفقنا عليه أن نزعجه بمطالبنا في بلواه،وآثرنا الذوق واللطف على واجب الوطنية والشرف، فلم نفتح أفواهنا لنقول له: "أعطنا الذي سرقته منا" بل أعنّاه على عدوّه وعلى أنفسنا، وأيدناه بألسنتناوأموالنا وأيدينا، وزعم لنا، أنه ما حارب إلا لينصر الديموقراطية، فقلنا:"صحيح. فلتعش الديموقراطية"، وقال لنا إنه يبذل دمه ليدافع عن الضعافالمظلومين، ويطهر الأرض من النازيين الباغين"، فقلنا: "بارك الله فيك،هذه شيمة السادة الأكرمين"، وقال لنا: "إنه إن يُغلب في هذه الحروبينهدم صرح الحضارة، وينهدّ بناء التمدن، ويرجع البشر إلى شريعة الغاب، وطبيعةالذئاب"، فقلنا: "هذا لاشك فيه، فأنتم حماة الحضارة، وأنتم أهل المدنية،وما الألمان إلا برابرة همج متوحشون". ولم يكن فينا أمة عاقلة إلا الهند، فلمتجامل هذه المجاملة السخيفة التي جاملناها، ولم تقترف هذه الجريمة التي اقترفناها،ولم ترق مثلنا الدموع على باريس، دار الفسقة الظالمين، أعداء العرب والمسلمين بلقامت تنادي بطلب الاستقلال، على حين كان أدباؤنا يمجدون الديموقراطية في الصحف،ومشايخنا يدعون لها على المنابر بالنصر فكانت عقوبتنا عاجلة، فلم تمر ثلاث سنواتعلى استجابة الدعاء وانتصار الأعداء، حتى فعل بنا أهل باريس التي بكينا عليها يومنكبتها "جدد الله نكبتها" ولندن التي مجدنا ديمقراطيتها، ما لم يفعلههتلر باليهود، "وماذا فعل هتلر باليهود؟" ولا موسوليني في الحبشة، ولاالذئب بقطيع الغنم، فضربوا دمشق أقدم مدن الأرض بالقنابل، وذبحوا عشرات الألوف منأهل المغرب وأعانوا الهولنديين على الإندونيسيين؛ ليملكوا أرضهم، ويسلبوهم بلادهم،ويقتلوا أبناءهم، ويسرقوا ثمارهم، ورموا فلسطين بشذاذ الآفاق، ونفايات الأمم، أهلالذلة والمسكنة اليهود، ودفعوا إليهم الرصاص، وأعطوهم السلاح، فسلطهم الله عليهمحتى ذبحوهم بسلاحهم، ثم رأوهم لا يستحقون الرصاص فالرصاص للجندي الشريف، فأعدوالهم السوط فجلدوا به جلودهم، ومزقوا أبشارهم، فصاروا بذلك أذل من اليهود...وتنكروا لمصر من بعد ما لجئوا إليها فآوتهم، وسألوها المال فأعطتهم، وخطبوا منهاعلى ظلمهم لها الودّ فوادّتهم، واستنصروها وهم أعداؤها على قوم لم يعادوهافنصرتهم، فكان جزاءها منهم بعدما أكلوا خبزها، وأخذوا مالها، وسكنوا في مساكنها،جزاء الذي أطعم الحية فلدغته، وآوى الضبع فأكلته.

فهل اعتبرنا؟ وهل عرفنا أنمن لا "يثب" على الفرصة تفلت منه، ومن لا يضرب الحديد حامياً يبرد ويشتدفيعجز عنه؟ هل اعتزمنا "الوثوب" في فلسطين، وفي مصر، وفي المغرب، أم لانزال نؤجل ونسوّف، حتى يأتي يوم لا ينفع فيه الوثوب، ولا يجدي العمل؟

هذه هي علتنا أفراداًوجماعات، مع أن المسلم أبعد الناس عن هذه العلة، وأحقهم بالبرء منها، لأن من مقاصدالعبادات في دينه، تعليمه التنظيم والتصميم، لولا ذلك ما جعل الله

للصلاة "وقتاً"إذا تقدمت عنه دقيقة لم تصح الصلاة، وقّت للصوم وقتاً إن نقصت منه دقيقة فسدالصيام، وحدّد للحج وقتاً أن لم يكن فيه بطل الحج.

فيجب أن يجتمع لمحاربة هذهالعلة، المعلم في المدرسة، والكاتب في الصحيفة، والواعظ في المسجد، حتى ننشئ نشئاًقوي الإرادة، ماضي العزم، "يثب" إلى غايته وثوب الأسد، ويحط عليها حطالنسر، ولا يدع اليهود يكونون أمضى منه يداً، وأجرأ قلباً، وأعظم أثراً.

إن "الوثوب" إلىالخير، والثبات عليه، جماع الفضائل كلها، فإن تعلمناها لم نحتج بعدها إلى شيء.