تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كيف ننمي روح الإبداع؟



من هناك
01-26-2011, 01:33 AM
كيف ننمي روح الإبداع؟

الاثنين, 24 يناير 2011 00:00 أحمد دعدوش




تظهر روح الإبداع لدى الأطفال في سن مبكرة جداً، وتسهل ملاحظتها من خلال مراقبة اهتماماتهم في اللعب، إذ يقول كلاباريد "إن الطفل الذي يلعب لعبة المائدة يبتكر تشكيلاً رائعاً للأطباق والشوَك إلى جانب السلطة وشرائح اللحم"، كما تظهر هذه الروح الخلاقة في الألعاب التركيبية والرمزية، وتلك التي تعتمد على المهارات اللغوية في إنشاء الكلمات والجمل، بل تمتد أيضا إلى المجال الفني، إذ نجد أن الفنان لا يقتصر نشاطه على تصور أشكال جديدة فقط، بل يسعى دائماً إلى ابتكار أعمال ودلالات ذات قيم جمالية من خلال إعادة تكوين ما يراه من حوله من المشاهدات اليومية التي قد لا تثير فضول عامة الناس.
بين الفرد والجماعة
من البديهي القول بأن الإبداعات تعتمد عادة على البيئة العلمية والتقنية السائدة في المجتمع، فلا بد أن يتأثر المبدع في أعماقه بما تحمله ثقافة مجتمعه من تصور للإبداع ونتائجه فضلاً عن التراكم العلمي الذي سبقه إليه الآخرون، وفي ذلك يقول إميل دوركهايم: "إنما يعبر المخترع عن الاتجاهات الموجودة في مجتمعه بناء على تمتعه بحساسية زائدة للتحولات التي تتم في العقل الجماعي المحيط به"، كما يقول بيكار: "إن الاختراع لا يمكن أن يتم إلا إذا سمحت حالة العلم له بذلك"، ويرى الإنثربولوجي الأمريكي (ألفرد كرويبر) في كتابه "تشكيلات نمو الثقافة" أن الإبداع لا يتوزع عشوائياً عبر التاريخ الإنساني بل يميل إلى التركز على هيئة تجمعات تظهر في عصور الازدهار الحضاري، وأن الميل للمحاكاة التنافسية هو الذي يقف وراء نشوء هذه التجمعات، وتؤيد دراسات (دين كيث سايمنتن) ما ذهب إليه كرويبر بطرح نظرية مماثلة تحت مسمى "فكرة الاقتداء" والتي يفسر من خلالها نشوء تلك التجمعات داخل العائلات الشهيرة، إذ وجد أن 82% من المبدعين الذين شكلوا عينة الدراسة قد اختلطوا بالعديد من المبدعين البالغين أثناء طفولتهم. ويأتي في هذا السياق قيام (بويرل) بإعداد قائمة للاكتشافات والاختراعات التي تزامن ظهورها في وقت واحد، ومنها اختراع الهاتف على يد كل من غراهام بل وجري، وتوصل كل من أديسون وكروس إلى اختراع الفونوغراف، وكذلك تقديم نظرية الانتخاب الطبيعي من قبل كل من تشارلز داروين ووالاس في يوم واحد.

من جهة أخرى؛ يرى بعض الباحثين أن الذات المفكرة هي العامل الرئيس لأي ابتكار، إذ لا يخفى على أحد ما تقوم به الكثير من المجتمعات من معارضة لابتكارات واكتشافات عباقرتها إذا ما تضاربت مع الثقافة السائدة فيها، كما أن التراكم العلمي وغيره من العوامل المحرضة على الابتكار لا يمكن أن يثمر ما لم يجد لدى المبتكر من الاستعداد العقلي والنفسي ما يكفي لإعادة توليده في إطار إبداعي ينقل العلم إلى مرحلة جديدة، ويمكن أن نضيف أيضًا عامل الصدفة الذي يعزى إليه الفضل في الكثير من الإنجازات العلمية الكبرى، بينما يؤكد العالم البيولوجي الفرنسي لويس باستير على أن المصادفة لا تظهر إلا للأذهان المستعدة، مما دفع علماء النفس للبحث في الصفات النفسية للشخصية المبدعة، ومحاولة تصميم الطرق العملية لتنميتها وتطويرها، وحتى إيجادها.

يقول باستير: "إن الفكرة هي الابنة الشرعية للحاجة"، وفي التاريخ أمثلة كثيرة لظهور الأفكار الإبداعية كحلول للأزمات المحرضة على الابتكار، ومع أن المبدعين يعترفون من جهة أخرى بأن الإبداع كثيرًا ما يلتمع في أذهانهم بصورة لا إرادية؛ إلا أنهم في الواقع يقرون بأن هذه الالتماعات لا تظهر إلا بعد اشتغال دؤوب بالفكرة التي تملأ عقولهم. يقول نيوتن "إنني أجعل موضوع بحثي نصب عيني دائماً، وأنتظر الومضة الأولى التي تظهر بهدوء، ثم تتحول بالتدريج إلى شعاع شديد الوضوح.. إن البحث عن حقيقة ما غالباً ما يكشف لي عن حقائق أخرى غيرها دون أن أفكر فيها على الإطلاق، فالاكتشاف يقود إلى اكتشاف آخر، وما أشد دهشتنا من ملاحظة الكثير من النتائج التي تتولد عن هذا الاكتشاف الجديد بعد إخضاعه للبحث والتمحيص".

شروط الإبداع
اشتغل علماء النفس طيلة القرن الماضي بالبحث في تكوين الشخصية المبدعة، واختلفوا في جذورها على رأيين وهما الوراثة والتربية، ففي الوقت الذي رأى فيه سيرل بيرت حتمية توارث الذكاء وارتباطه بالجينات التي تتناقلها الأجيال، أصر واطسون على أن التربية والبيئة الثقافية هما المؤثران الوحيدان في قدرة المرء على الإبداع، ويشرح ذلك بقوله: "أعطني اثني عشر طفلاً سليماً ومعافى مع ظروف بيئية مناسبة لأؤكد لك أنهم قادرون بمحض إرادتهم على تحقيق طموحهم، وستجد فيهم الطبيب والمحامي والفنان والتاجر والقائد وحتى اللص والمتسول، وذلك بغض النظر عن ميولهم واستعداداتهم الفطرية أو مورثاتهم". وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن احتمال ظهور المواهب في سن متأخرة لا يقل عن ظهورها في سن الطفولة، وأكد "أوزبورن" على أن البحث العلمي قد أثبت إمكانية تكوين الاستعدادات المبدعة تمامًا كما يتم تطويرها، إذ تتجه الأنظار حاليًا نحو تكوين هذه الاستعدادات بدلاً من الكشف عنها، ويشير "ألكساندرو روشكا" إلى أن الاهتمام بدور البيئة والتربية لا يعني تجاهل دور المورثات على الإطلاق، إذ تؤكد الدراسات على وجود الكثير من الحالات الإبداعية لدى الأطفال في سن مبكرة جدًا وقبل بداية ظهور أي تأثير للبيئة من حولهم، ولكنه لم يتحقق حتى الآن الإجماع على القول بوجود جينات وراثية مسئولة عن كل استعداد فطري يمكن اكتشافه. وعليه فإن العملية التربوية الصحيحة هي تلك التي تكون قادرة على الكشف عن الاستعدادات الخاصة لدى الطفل بسرعة كبيرة، تمامًا كما تقوم بإنشائها وتكوينها في حال وجود الرغبة النفسية تجاهها. ويمكن القول بأن الجمع بين كل من العوامل الفطرية والرغبة النفسية والظروف التربوية والاجتماعية السليمة، يؤدي في النهاية إلى إنجازات باهرة على أعلى المستويات. وقد لا تخفى على أحد منا ضرورة وجود العنصر الوجداني (العاطفي) لدى المبدع، فقد كان أينشتاين يعشق الرياضيات، وينظر بعين ملؤها الإعجاب والافتتان للسماء المكتظة بالنجوم، كما يقول الفيلسوف هنري برجسون: "إن العمل العبقري ينشأ عادة من انفعال نفسي فريد من نوعه، وهو يسعى جاهداً للتعبير عن نفسه".

تنمية الإبداع
يركز معظم الباحثين اليوم جهودهم على منح الأطفال فرصة إنشاء وتنمية المواهب الإبداعية لديهم، ويبدون اهتماماً زائداً بدور التربية المنزلية في هذه العملية، ويمكن تلخيص توصياتهم في النقاط التالية:
1- توفير ظروف الاستقرار النفسي للأطفال، والعمل على إقصائهم عن المشكلات التي قد يتعرض لها الأبوان على كافة الصعد، والحرص على إشباع حاجتهم الفطرية للحنان والاهتمام.
2- تعويدهم على الاستقلالية والتفرد في الشخصية، وإبراز العوامل التي تميز الطفل عن أقرانه وتساعده على تحقيق ذاته.
3- منح الطفل مساحة كافية للعب اليومي، والحرص على انتقاء الألعاب التي تساعده على الإضافة والتركيب والإنشاء.
4- إثارة فضوله وحثه على طرح الأسئلة، مع ضرورة عدم التذمر من إلحاحه للحصول على الإجابات التي تشبع نهمه المعرفي.
5- البحث الدؤوب عن المواهب والهوايات الكامنة لدى الطفل وعدم الاستخفاف بأي منها مهما بدت تافهة في نظر الوالدين، وتشجيعه على اقتحام مهارات وأنشطة جديدة لكسر حاجز الخوف أو الخجل، كالتمثيل والرسم والرياضة.
6- عدم مواجهة اهتمامات الطفل وميوله بشيء من الاستخفاف أو التحقير، ويُطلب هنا من الوالدين تقديم الكثير من التنازلات لأطفالهم الذين قد يبدون شغفًا ببعض الأنشطة التي تزعج الكبار، مثل استخدام الألوان الزيتية في الرسم أو جمع الحشرات والنباتات وتصنيفها، إذ يتوجب على الوالدين هنا لعب دور المرشد الذي يقتصر دوره على إعطاء التوجيهات التي تساعد الطفل على التحكم الأمثل بمهاراته دون الإضرار بنفسه وبالآخرين، بدلا من قمعه وإطفاء جذوة الإبداع ونهم الاكتشاف لديه.
7- تنمية روح التذوق الفني والجمالي من خلال الاهتمام بالمواهب الفنية البصرية والسمعية والحركية لدى الطفل، ثم ربطها بالإنجاز العلمي والذهني.
8- تزويد الطفل بثقافة الاختلاف منذ الصغر، وتعويده على تقبل الآخر واحترام رأيه، وتنمية حس النقد البناء للذات والتراجع الجريء عن الأخطاء والتسامح مع أخطاء الآخرين.
9- التركيز الدائم والمستمر على الروح الإيجابية لدى الطفل ورفع معنوياته، وتدريبه على التخلص من مشاعر الإحباط واليأس، والاستفادة من كل خطأ بالتخطيط لنجاح أكبر.

أما التوصيات التي يقدمها الخبراء لتنمية روح الإبداع لدى البالغين فيمكن تخليصها كما يلي:
1- الاكتشاف الصحيح والدقيق لمجال الاهتمام الذي يميل إليه الشخص، وذلك من خلال تحديد نمط الذكاء الذي يتمتع به، وقد ميز "جيلفورد" بين أنواع أربعة للذكاء، ثم أضيفت إليها أربعة أنواع أخرى فيما بعد، وهي: الذكاء اللغوي، الحسي- الحركي، المنطقي- الرياضي، التفاعلي- القيادي، الذاتي- التأملي، البصري- الهندسي، الحيوي- الطبيعي، وأخيرًا الموسيقي، ويمكن اللجوء إلى المختصين في هذا المجال للتعرف إلى الأنماط التي يحملها الفرد.
2- ضرورة الإلمام بالتراكم العلمي في المجال المقصود من خلال استيعاب ثمار الخبرات المعرفية التي سبق إليها المختصون، ويقول ديكارت بهذا الصدد: "لكي يجني العقل الحكمة، عليه أن يدرب نفسه على اكتشاف الأشياء التي سبق اكتشافها من قبل".
3- تنمية روح النقد للأفكار والمعتقدات الشخصية، والحرص الدائم على مراجعة النتائج التي يصل إليها الباحث أو المفكر خارج إطار مرجعيته العقائدية.
4- الجمع بين التخصص في المجال الذي يميل إليه الباحث وبين الإلمام بالمجالات المعرفية الأخرى التي تتقاطع عادة مع مجال اهتمامه، فكثيرا ما تساعده الثقافة المتنوعة على رفد اختصاصه بالأفكار المفيدة.
5- وضع منهج تفكير خاص لكل فرد بما يتلاءم مع إمكانياته ومهاراته وقدراته الجسدية والذهنية، بحيث يتدخل هذا المنهج في كافة نشاطاته اليومية من علاقات اجتماعية وعادات في الطعام والنوم والتنقل وكذلك في طريقته في البحث والتفكير، إذ يستحسن -على سبيل المثال- أن يعتاد الباحث سريع النسيان على تسجيل ملاحظاته وأفكاره بمجرد التماعها في ذهنه وعدم التأجيل خشية الضياع، بينما يُنصح البعض الآخر بالتأجيل لحين نضوج الفكرة واكتمالها في حال التأكد من عدم نسيانها.