تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رحمك الله يا هوفمان



من هناك
01-02-2011, 06:19 AM
لواء د. عادل عفيفي
تاريخ : 01 - 01 - 2011

ارتكب السفير الألمانى السابق الدكتور مراد هوفمان Murad Hofmann عملا فى غاية الخطورة ... لقد خرج من المسيحية ديانته الأصلية واعتنق الإسلام ... والأكثر من ذلك أنه قال عن الإسلام والقرآن أقوالا تُغضب الكثيرين:

تُغضب هؤلاء الذين يتطاولون على الإسلام والمسلمين ويحرقون المصاحف ( ولا أقول القرآن).. وهؤلاء الذين يقولون أن المسلمين غزاة مستعمرون محتلون .. ودعاة الدولة المدنية الذين تسكت ألسنتهم حينما يحدث تطاول على الإسلام ويقولون "حرية التعبير" ، "الحرية الشخصية ، "حرية العقيدة "..


فلما يجئ موضوع وفاء وكاميليا وغيرهن فلا حرية للعقيدة ،وحينما تم القبض عليهن واحتجازهن بدون وجه حق مما يشكل جريمة جنائية سكتوا جميعا،ولا اعتبار للحرية الشخصية .

لايوجد خطر علي الدكتور هوفمان فى ألمانيا أو فى أوربا ، ولكن الخطورة فى مصر ..مصر فقط .. وها نحن نحذره من المجئ إليها حرصا على حياته وأمنه. لماذا التحذير ؟ ما الخطر ؟

لأن الدكتور مراد هوفمان قد ارتكب جريمة الخيانة العظمى باعتناقه الإسلام، نحن نحذره من المجئ إلي مصر حتى لا يلقى مصير كاميليا شحاته وأخواتها .


من أقواله التى جعلته فى هذا الخطر الماحق :



- إن القرآن رسالة الله المباشرة ،و حفظه وتلاوته فرض تحت الظروف كافة.
- "ما الآخرة إلا جزاء العمل في الدنيا، ومن هنا جاء الاهتمام في الدنيا، فالقرآن يُلهِم المسلم الدعاء للدنيا، وليس الآخرة فقط {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً}، وحتى آداب الطعام والزيارة تجد لها نصيبًا في الشرع الإسلامي".
- "إن الانتشار العفوي للإسلام هو سمة من سماته على مرِّ التاريخ؛ وذلك لأنه دين الفطرة المنزّل على قلب المصطفى".
- "الإسلام دين شامل وقادر على المواجهة، وله تميزه في جعل التعليم فريضة، والعلم عبادة…،وإن صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب!!".
- "إن الله سيُعِينُنا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام".
- "الإسلام هو الحياة البديلة بمشروع أبدي لا يبلَى ولا تنقضي صلاحيته، وإذا رآه البعض قديمًا فهو أيضًا حديث ومستقبليّ، لا يحدّه زمان ولا مكان، فالإسلام ليس موجة فكرية ولا موضة، ويمكنه الاستمرار".



التعريف به

هو الدكتور مراد فيلفريد هوفمان Murad Wilfried Hofmann ، ألماني الجنسية، وديانته السابقة المسيحية الكاثوليكية .

في مقتبل عمره تعرض هوفمان لحادث مرور مروِّع، فقال له الجرّاح بعد أن أنهى إسعافه: "إن مثل هذا الحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يدّخر لك يا عزيزي شيئًا خاصًّا جدًّا".

نال مراد فيلفريد هوفمان المولود عام 1931م شهادة الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد، وعمل كخبير في مجال الدفاع النووي في وزارة الخارجية الألمانية، ثم مديرًا لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983 حتى 1987م، ثم سفيرًا لألمانيا في الجزائر من 1987 حتى 1990م، ثم سفيرًا في المغرب من 1990 حتى 1994م. وهو متزوج من سيدة تركية، ويقيم حاليًا في تركيا.

وصدّق القدر حَدْسَ الطبيب، إذ اعتنق د.هوفمان الإسلام عام 1980م بعد دراسة عميقة له، وبعد معاشرته لأخلاق المسلمين الطيبة في المغرب، وكان إسلامه موضع نقاش بسبب منصبه الرفيع في الحكومة الألمانية.



قصة إسلامه

قال هوفمان: في اختبار القبول بوزارة الخارجية الألمانية، كان على كل متقدم أن يلقي محاضرة لمدة لا تتجاوز خمس دقائق في موضوع يُحدَّد عشوائيًّا، ويُكلَّف به قبلها بعشر دقائق، ولكم كانت دهشتي عندما تبين لي أن موضوع محاضرتي هو "المسألة الجزائرية"!

وكان مصدر دهشتي هو مدى علمي بهذا الموضوع، وليس جهلي به. وبعد شهور قليلة من الاختبار، وقبل أن أتوجه إلى جنيف بوقت قصير، أخبرني رئيس التدريب، عندما التقينا مصادفة أثناء تناولنا للطعام، أن وجهتي قد تغيرت إلى الجزائر. وفي أثناء عملي بالجزائر في عامي 1961/1962م، عايشت فترة من حرب استمرت ثماني سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وانضمَّ أثناء فترة وجودي هناك طرف ثالث هو "منظمة الجيش السري"، وهي منظمة إرهابية فرنسية، تضم مستوطنين وجنودًا متمردين، ولم يكن يوم يمر دون أن يسقط عدد غير قليل من القتلى في شوارع الجزائر، وغالبًا ما كانوا يُقتَلون رميًا بالرصاص على مؤخرة الرأس من مسافة قريبة، ولم يكن لذلك من سبب إلا كونهم مسلمين، أو لأنهم مع استقلال الجزائر.

شكَّلت هذه الوقائع الحزينة خلفية أول احتكاك لي عن قربٍ بالإسلام، ولقد لاحظت مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، والتزامهم الشديد في شهر رمضان، ويقينهم بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الإنساني وسط ما يعانون من آلام. وكنتُ أدرك أن لدينهم دورًا في كل هذا، ولقد أدركت إنسانيتهم في أصدق صورها، حينما تعرضت زوجتي للإجهاض تحت تأثير "الأحداث" الجارية آنذاك. فلقد بدأت تنزف عند منتصف الليل، ولم يكن باستطاعة سيارة الإسعاف أن تحضر إلينا قبل الساعة السادسة صباحًا؛ بسبب فرض حظر التجول، وبسبب شعار "القتل دون سابق إنذار" المرفوع آنذاك. وحينما حانت الساعة السادسة، أدركت وأنا أُطِلُّ من نافذة مسكني في الطابق الرابع، أن سيارة الإسعاف لا تستطيع العثور علينا، بعد تأخير طال كثيرًا، كنَّا في طريقنا متجهين إلى عيادة الدكتور، وكانت زوجتي تعتقد في تلك الأثناء - أنها ستفقد وعيها؛ ولذا - وتحسبًا للطوارئ - راحت تخبرني أن فصيلة دمها هي O ذات RH سالب، وكان السائق الجزائري يسمع حديثها، فعرض أن يتبرع لها ببعض من دمه الذي هو من نفس فصيلة دمها. ها هو ذا المسلم يتبرع بدمه، في أتون الحرب، لينقذ أجنبية على غير دينه.


ولكي أعرف كيف يفكر ويتصرف هؤلاء السكان الأصليون المثيرون للدهشة، بدأت أقرأ "كتابهم" القرآن في ترجمته الفرنسية، ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين حتى الآن، وحتى تلك اللحظة، لم أكن قد تعرفت على القرآن إلا من خلال النوافذ المفتوحة لكتاتيب تحفيظ القرآن في ميزاب جنوب الجزائر، حيث يحفظه أطفال البربر، ويتلونه في لغة غريبة عنهم، وهو ما دهشت له كثيرًا. وفيما بعد أدركت أن حفظ وتلاوة القرآن، باعتباره رسالة الله المباشرة، فرض تحت الظروف كافة.

وبعد 25 عامًا من عملي بالجزائر لأول مرة، عُدتُ إليها سفيرًا في عام 1987م. ومنذ اعتُمِدتُ سفيرًا في المغرب، المجاور للجزائر، في عام 1990م، يندر أن تفارق مخيلتي صورة الجزائر التي ما تزال تعاني آلامًا مأساوية، فهل يمكن أن يكون ذلك كله محض مصادفة؟!


ويتابع هوفمان حديثه عن جاذبية الإسلام

"إنني أدرك قوة جاذبية فن هذا الدين الآن أفضل من ذي قبل؛ إذ إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثَمَّ بفن إسلامي فقط. وأدركها أيضًا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزًا عن مجرد تعريف الفن الإسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الإسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن.

إنني أفكر كثيرًا في أسرار إضاءة المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي - الوظيفي الباهر للمدن الإسلامية القديمة (المدينة) الذي يهتم بالمعيشة المتجاورة، تمامًا كما يهتم بإبراز موقع السوق، وبالمواءمة أو التكيف لدرجات الحرارة وللرياح، وبدمج المسجد والتكية والمدرسة والسبيل في منطقة السوق ومنطقة السكن. وإن من يعرف واحدًا من هذه الأسواق - وليكن في دمشق، أو إسطنبول أو القاهرة أو تونس أو فاس - يعرف الجميع، فهي جميعًا، كبرت أم صغرت، منظمات إسلامية من ذات الطراز الوظيفي.


ويقول هوفمان: إنني كنت قريبًا من الإسلام بأفكاري قبل أن أُشهِرَ إسلامي في عام 1980م بنطق الشهادتين متطهرًا كما ينبغي، وإن لم أكن مهتمًّا حتى ذلك الحين بواجباته ونواهيه فيما يختص بالحياة العملية. لقد كنت مسلمًا من الناحية الفكرية أو الذهنية، ولكني لم أكن كذلك بعدُ من الناحية العملية، وهذا على وجه اليقين ما يتحتم أن يتغير الآن جذريًّا، فلا ينبغي أن أكون مسلمًا في تفكيري فقط، وإنما لا بد أن أصير مسلمًا أيضًا في سلوكياتي.

ويحكي الدكتور مراد هوفمان السفير الألماني السابق عن أبرز مظاهر تحوله إلى الإسلام، وهو رفضه لاحتساء الخمر واختفاء زجاجة النبيذ الأحمر من فوق مائدة طعامه، اهتداءً بتعاليم دينه الجديد الذي يحرِّم الخمر؛ يقول هوفمان: "لقد ظننت في بادئ الأمر أنني لن أستطيع النوم جيدًا دون جرعة من الخمر في دمي، بل إن النوم سيجافيني من البداية، ولكن ما حدث بالفعل كان عكس ما ظننت تمامًا، فنظرًا لأن جسمي لم يعد بحاجة إلى التخلص من الكحول، أصبح نبضي أثناء نومي أهدأ من ذي قبل. صحيح أن الخمر مريح في هضم الشحوم والدهون، لكننا كنا قد نحَّينا لحم الخنزير عن مائدتنا إلى الأبد، بل إن رائحة هذا اللحم الضار (المحرم) أصبحت تسبب لي شعورًا بالغثيان".

وهكذا جعل الإسلام هوفمان يفيق من سكره لعبادة ربه؛ التزامًا بما حرَّمه الله عليه، وطاعةً يلتمس بها مرضاة الله تعالى.


****

وهناك ظروف مشددة تعجل بإلحاق الدكتور مراد هوفمان بكاميليا شحاته وأخواتها:

فبعد إسلامه ابتدأ د.هوفمان مسيرة التأليف، ومن مؤلفاته: كتاب (يوميات مسلم ألماني)، و(الإسلام عام ألفين)، و(الطريق إلى مكة)، وكتاب (الإسلام كبديل) الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا.


****

وبعد :

يُتردد أن الدكتور مراد هوفمان قد جاء إلى مصر قبل أن يقرأ هذا التحذير ثم اختفى ولم يُعثر له على أثر..وكلما سأل عنه أحد أجابه الكبير:
أنت مالك ؟... مش شغلك.. ما لكش مصلحة ياسيد... ماتعطلنيش ياسيد !!
الله يرحمك يا هوفمان

مقاوم
01-02-2011, 06:50 AM
رحمه الله، لكن "الطريق إلى مكة" ليس له وإنما لمحمد أسد النمساوي وهو شخصية أخرى جديرة بالدراسة والتأمل

مقاوم
01-02-2011, 06:55 AM
إليكم هذا البحث الشيق المتعلق بالموضوع:

محمد الصاوي العمل الدبلوماسي مرتبط في أذهاننا بقوة الشخصية، والتناول العقلاني للأمور، والتفتح الضروري على الآخرين وثقافاتهم، والتحلي بالقدر الأكبر من الموضوعية والنزاهة في المواقف الفكرية على الأقل. ولعل ذلك يفسر ـ إلى حد ما ـ ما يمكن اعتباره ظاهرة «اعتناق دبلوماسيين غربيين للإسلام». ففي السنوات الأخيرة اعتنق الإسلام عدد غير قليل من الدبلوماسيين والأكاديميين. كما اعتنقه أشخاص معروفون بميلهم الدائم للترحال والاختلاط بأبناء الثقافات الأخرى. والجامع بين هؤلاء وأولئك ميل إلى الاستغراق في القضايا الأخلاقية والسلوكية والجمالية، والانشغال بقضية الحضارة، وإن شئت فقل قضية «الإنسان »: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟

إن كتابات الغربيين المهتدين كتابات موجهة في الأساس إلى القارئ الغربي، يكتب مراد هوفمان مثلاً: «إلى رفاقي المسلمين في الغرب». و كتب محمد أسد : «كم من الرجال يمكنهم أن يتحدثوا إلى الغربيين عن الإسلام مثلما أتحدث أنا». لكن هذه الكتابات ذات نفع جم لكل أحد، بما تحمله من روح ناقدة تحليلية، يجدر بكل عاقل أن يتحلى بها. و إن كان علينا ألا نغفل أن الأصل العظيم : «كلٌّ يؤخذ من قوله و يُرَدّ إلا المعصوم [». وبعبارة محمد أسد نفسه :«إن كل رأي إنساني محدود بالزمن، و قابل للخطأ». والعاقل هو من يقبل الحق ممن جاء به، صغيرًا أو كبيرًا، ولو كان بغيضًا بعيدًا. و يرد الباطل على من جاء به، صغيرًا أو كبيرًا، ولو كان حبيبًا قريبًا. فالإسلام أعظم شموخًا وأبقى من كل ما قيل عنه، و نحن لا نستشهد على عظمة الإسلام بأقوال أحد. لكن يدفعنا إلى ذلك نفر من بني قومنا، لا تروق لهم الفكرة إلا إذا جاءتهم من وراء البحار، فلا ينصتون لقولٍ ما لم ينطق به كل أعجمي الوجه واليد واللسان. فإذا ما حدثت الواحد منهم عن أبي حنيفة اسود وجهه، وإذا نقلت عن الماوردي صعّر خده، وإذا استشهدت بقول الغزالي نأى بجانبه، و إذا أحلته إلى ابن تيمية ولى مستكبرًا، و إذا ذكرت الله وحده اشمئز قلبه. وبرغم هذا فلا يخلو زمان من ناطق بالحق، مقرّ به، خاضع له، داع إليه.

والكتب التي تستحق القراءة ليست بالضرورة هي الأوسع انتشارًا، أو الأكثر مبيعًا. ومن جهة أخرى فالكتب التي تستحق الترجمة ليست بالضرورة الأحدث صدورًا. و كتب محمد أسد هي من هذا الصنف الجدير بالقراءة والترجمة. كما أنها بعبارة هوفمان:«من الكلاسيكيات الأصيلة». لكنها كلاسيكيات لا تموت، إن جاز مثل هذا الوصف، لأن محمد أسد كان فيها بعيد النظر، مصيبًا في تنبؤاته بما حل بالعالم الإسلامي، فقد كان الرجل يؤمن بحقيقة التدين والالتزام بأوامر الله ونواهيه. على العكس مما آلت إليه حال بعض المتحذلقين الذين يفتنون الناس بمثل قول أحدهم: «حقًا، إني لا أمارس الشعائر الإسلامية، ولكني مؤمن من أعماق قلبي، وإيماني (الطبيعي) هذا أفضل من الصلاة والصوم خمس مرات يوميًا»! هكذا.

لقد جاهد محمد أسد لكي يجعل من القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم [ أسلوب حياة، وتحقيقًا لجوهر الإسلام. أو بعبارة مراد هوفمان: «ليس هناك من سبيل للدعوة إلى الإسلام أفضل من أن نحياه». أي أن أفضل وسيلة لنشر الإسلام هي ممارسته. وهوفمان ـ الدبلوماسي الألماني المهتدي ـ هو القائل: «ما من أحد استطاع خلال المئة سنة الأخيرة أن يبز محمد أسد في إسهامه العظيم في شرح الإسلام و نشره في الغرب». وبعدما التقى هوفمان صنوه وتوأم روحه في لشبونة 1985م، وَصَف هذا السيد الرقيق الصوت ذا اللحية الصغيرة بأنه يجمع إلى إسهامه الهائل في إحياء الإسلام تواضعًا جمًا وطيبة مفرطة.

بعد شهر واحد من واقعة سبتمبر 2001م، أجريت مقابلة مع البروفيسور «طلال محمد أسد» في مكتبه بقسم الأنثروبولوجي في جامعة نيويورك. وكانت وسائل الإعلام كلها مستغرقة في إثارة سؤال واحد: «لماذا يكرهون أمريكا؟» ووضعت المناقشات كلها في إطار ما سموه: «صراع الحضارات». وما كان من شخص أبعد عن فكرة صراع الحضارات من طلال أسد، الذي راح يغوص في ذكريات طفولته، وهو الذي ولد بالمدينة المنورة، و شب عن الطوق في الهند، وترعرع في الباكستان، وتعلم في أكسفورد، و يقيم في مانهاتن بنيويورك. إنه يتذكر حين كان في التاسعة، يتمشى مع والده محمد أسد، خلف سياج من الأسلاك الشائكة، في معسكر الاعتقال الذي احتجزتهم فيه السلطات البريطانية في بومباي. ولم يكن في المعسكر المكتظ باليهود الفارين سوى ثلاثة مسلمين: محمد أسد وزوجته وابنهما طلال.

لم يسأل مروجو فكرة صراع الحضارات أنفسهم: «ألم تعتقل بريطانيا اليهود في الهند بسبب جنسيتهم الألمانية؟ ألم تكن ألمانيا من جانبها تضطهد أقارب هؤلاء اليهود في ألمانيا ـ في الظاهر على الأقل ـ بسبب يهوديتهم؟ ألم يكن محمد أسد قلقًا على أبيه و أخته اللذين بقيا في النمسا على يهوديتهم؟ فهل يسمى ما حدث ويحدث صراع حضارات؟!

وفي جولة المشي المسائية اليومية مع طلال كان الوالد يقص عليه سيرة العمر، من الميلاد في Lvov والنشأة في فيينا وبرلين ثم زيارته الأولى لبيت المقدس التي غيرت حياته، ثم رحلاته المتواصلة التي تمخضت عن اعتناقه الإسلام، ليصير اسمه محمدًا. و يذكر طلال بكل إجلال كتاب والده :«الطريق إلى مكة»، فيقول: «إنها رحلته من اليهودية إلى الإسلام». ويضيف: «بينما لم يكن محمد أسد يخفي عن أحد أن له جذورًا يهودية، فلم يكن يخفي على جيرانه ومعارفه اليهود أنه قد اختار الإسلام دينًا». محمد أسد المتضلع في دراسة التوراة والتلمود قد استخلص أن الإله الذي تتحدث هذه الكتب عنه ليس إلا إلهًا قبليًا لبني إسرائيل دون سائر البشر. فكان كلما تعمق في دراسة اليهودية ضعف إيمانه بها.

لم يمنعه أصله الأوروبي من أن يصير رجلاً عربيًا. ولم يمنعه كونه سليل بيت يهودي من أن يصير مسلمًا حقيقيًا. لم تمنعه مكانته المرموقة في دنيا الصحافة الألمانية من أن يستقر في جزيرة العرب. لم تمنعه منزلته لدى الملك عبدالعزيز من الترحال شرقًا إلى الهند، و السعي الدؤوب لإيجاد دولة الباكستان الإسلامية. لم يصده اعتقال البريطانيين له من أن يرسل بابنه إلى جامعة أكسفورد. ولم يمنعه منصبه الدبلوماسي المرموق في الأمم المتحدة عن التخلي عن كل شيء، مؤثرًا أن يقضي بقية عمره في الغرب داعيًا إلى الله. و برغم ضآلة ما حققه العالم الإسلامي من تنمية، فإن محمد أسد لم يفقد قط روح التفاؤل. و عندما آثر محمد أسد البقاء في الغرب، فإنه لم يفعل أكثر مما فعله كثير من العلماء والمفكرين المسلمين، الذين وجدوا هناك أرضًا خصبة و ميدانًا مفتوحًا للكتابة والنشر وإلقاء المحاضرات العامة، مستفيدين من الحرية والتفتح العقلي.

في عام 1900م ـ وفي مدينة تابعة لإمبراطورية النمسا آنذاك ـ ولد ليوبولد فايس Leopold Weiss «تنطقVyce » لأسرة يهودية، و كانت أمه تعده ليكون حاخامًا مثل جده بنيامين فايس، وأما أبوهAkiva الذي درس التلمود فقد عمل محاميًا. أما خاله مناحم مندل فقد كان مصرفيًا. وانتقل الابن مع أسرته إلى فيينا قبيل الحرب العالمية الأولى. درس الشاب التوراة، وأتقن العبرانية، حتى صار بمقدوره أن يقرأها ويتحدثها بطلاقة ولما يبلغ الثالثة عشرة. وتعرف على اللغة الآرامية، وهو ما سهل له فيما بعد تعلم العربية. وعندما بلغ الثامنة عشرة التحق بجامعة فيينا ليدرس تاريخ الفنون.

عمل في وظائف صغيرة، بعد أن هجر العائلة و هو في سن العشرين، فترك فيينا إلى برلين، إلى أن ساقته الأقدار إلى العمل بالصحافة، وكان عمله بالصحافة مفتاح الخير الذي قاده إلى هداية الإسلام، وإلى الكتابة عن الإسلام والمسلمين ببراعة واقتدار عز نظيرهما.
في العشرين من عمره حقق (خبطة) صحفية عندما تمكن من نشر مقابلة أجراها مع مدام جوركي التي كانت متخفية في برلين سنة 1921م، تقود حملة لحث الدول الأوروبية على عمل شيء لإنقاذ شعبها في روسيا من المجاعة. وما إن نشرت المقابلة على نطاق واسع حتى أصبح الشاب مراسلاً صحفيًا ذا شأن، و لا سيما أنه يتقن عدة لغات.

لم يحقق له النجاح المهني في عالم الصحافة ما كان ينشده، فلم يعثر بعد على الإجابات لما يؤرقه من تساؤلات، فلم يكن حتى ذلك الحين يدري: إلام و إلى من ينتمي؟ حتى كان اليوم الذي دعاه فيه خاله دوريان (محلل نفسي من تلاميذ فرويد) لزيارته في القدس سنة 1892م. ذهب الشاب إلى القدس، حيث أقام في بيت عربي من الحجارة، بالقرب من بوابة يافا، وهو ما جعله مثيرًا لذكريات التاريخ، بالإضافة إلى ما كان يحتويه من كتب تشبع نهمه إلى المعرفة.

في القدس بدأ فصل جديد من حياة ليوبولد فايس، فقد عاش في جوار بيت المقدس، و لم يكن قد انقضى على وعد بلفور سوى خمس سنوات. وكانت موجة ثالثة من الهجرة اليهودية في أوجها. خمسة وثلاثون ألف صهيوني من شرق أوروبا، جلبوا ليزرعوا كيانًا جديدًا، وهوية جديدة.

ولأنه جاء إلى فلسطين ليفكر ويكتب، فقد بعث بمقالة عن المشرق الإسلامي إلى عدد من الصحف الأوروبية، وكم كانت دهشته بالغة حين تلقى ردًا إيجابيًا من أكبر الصحف الألمانية Frankfurter Zeitung مع تعاقد على كتاب يكتبه عن المنطقة (شاع لاحقًا مصطلح الشرق الأوسط).

لم يكن ما كتبه فايس ليروق للصهاينة آنذاك ـ وحتى اليوم ـ فقد كتب أن الفكرة الصهيونية ضارة خطرة وغير أخلاقية. قال يومها: «ما الذي يعرفه اليهود الأوروبيون عن فلسطين؟ لا شيء! إنهم لم يعرفوا قط أن فلسطين أرض للعرب. وكذلك كنت أنا من قبل، كنت أتخيل العرب هناك من البدو ساكني الخيام هائمين بعيدًا في الصحراء.. ولأن كل ما سبق أن قرأته عن فلسطين كان بأقلام صهيونية، فلم أكن أدري أن فيها شعبًا عربيًا، الآن ـ عام 1922م ـ وجدت أن هناك خمسة من العرب في مقابل يهودي واحد .

وعندما واجه الشاب بهذه الكلمات مناحم أوسيشكين Menachem Ussishkin رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية، قطب جبينه، ورد: «إنهم ـ العرب ـ لن يعودوا الأغلبية بعد سنوات».

جُوبه ليوبولد فايس بحملة كراهية من المستوطنين اليهود الذين صدموا من مقالاته، برغم كونه ـ في نظرهم ـ «يهوديًا على أرض إسرائيل». كما اندهشوا من تنقيبه الدؤوب في الثقافة العربية، برغم كونه أوروبي النشأة. أما المستوطنون فلم يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في السكان العرب، ولم يخطر ببال أحدهم أن يتعلم العربية. لقد تقبلوا بشكل قاطع ـ دون تفكير ـ مقولة «أرض إسرائيل التاريخية». ولم يكونوا يلتفتون إلى كلام الشاب، أو يأخذونه على محمل الجد.

وعندما ناقش الشاب زعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمان Chaim Weizmann ، في مدى أخلاقية الاستيطان و إحلال اليهود مكان العرب، ابتسم الرجل وغير موضوع الحديث. وبعدها غادر الشاب أرض فلسطين في زيارة للقاهرة، ليبلغه بعد قليل مقتل يعقوب صديقه اليهودي المعارض للصهيونية، بأيدي إرهابيين صهاينة من الهاجناة. واعتبر ليوبولد فايس في عداد المرتدين، حتى إن ذكره لم يرد في السجلات الصهيونية، بل إن كتابه «الطريق إلى مكة» لم يترجم إلى العبرية.

يقول طلال أسد: «نعم كان والدي معارضًا تمامًا للصهيونية، و كان يؤمن أن إقامة دولة إسرائيل ظلم فادح، لكنه لم يكره يومًا الديانة اليهودية أو الأشخاص اليهود. نعم كان يؤمن بأن الإسلام دين متفتح، و لكن لم أسمعه قط يحط من قدر الديانة اليهودية. بل إن من دواعي الافتخار بوالدي وعيه العميق بضرورة أن يتفهم أصحاب كل ديانة مواقف الآخرين».

ونحن من جانبنا نؤكد قول القائل: إن الإسلام وحده هو الذي يعترف بالآخر، وتاريخ السماحة في التطور الإنساني بدأ من الإسلام، فقبل ظهوره لم يكن هناك اعتراف بالآخر.. اليهودية لم تكن تعترف بالمسيحية ولا المسيحية اعترفت بالإسلام.

عندما وصل أسد إلى لندن سنة 1938م بتأشيرة على جواز سفره النمساوي، حاول جاهدًا أن يستنقذ أفراد عائلته من نير النازي، لكن محاولاته على مدى أحد عشر شهرًا باءت بالفشل. و عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا، اعتبر محمد أسد من الجنسيات المعادية، فاعتقل فور عودته إلى الهند.

يقص محمد أسد ذكريات مدة الاعتقال فيقول: من غرائب الأحداث أن معسكر الاعتقال كان يضم النازيين وغير النازيين، الفاشيين وغير الفاشيين، لكن المسلم الوحيد هنالك كان أنا. ولم يطلق سراحه إلا في أغسطس 1945م. وفي أثناء الاعتقال انقطعت أخبار أسرته، ثم علم أن أخته وأباه وزوجة أبيه قد قضوا نحبهم في معسكر الاعتقال النازي. (كانت والدة محمد أسد قد توفيت من قبل سنة 1919م).

عندما دعاه خاله دوريان Dorian إلى زيارة القدس، لبى الدعوة، وأمضى زمنًا في دار خاله على بعد خطوات من الحرم القدسي، حيث اكتشف هنالك حقيقة الإسلام. ومعها اكتشف الطبيعة غير الأخلاقية للصهيونية. وبرغم أن دوريان لم يكن يعتبر نفسه صهيونيًا، فإن أخًا له يدعى Aryeh كان من متعصبي الصهاينة، وكان طبيبًا للعيون، ويبدو أن سيرة هذا الرجل قد ولدت لدى فايس رفضه للصهيونية. لكن شاعرًا هولنديًا يدعىJacob Israël de Haan من المهاجرين إلى القدس آنذاك كان له فضل في تغذية الميول الرافضة للصهيونية لدى فايس. كما ساعده في العمل بالصحافة، و هيأ له فرصة السفر إلى القاهرة، ثم كان أن هيأ له في صيف 1923م لقاء الأمير عبدالله في عمّان، التي لم يزد عدد سكانها يومذاك (1923م) على ستة آلاف نسمة. وظل فايس يكتب في الصحف الأوروبية والمصرية مقالاته (التي نتمنى على الباحثين أن يعثروا عليها) التي فضحت الخطط البريطانية السرية لمد خط حديدي بين حيفا والبصرة. ولعل مقالاته تلك كانت هي السبب وراء اعتقاله في الهند.

وصار فايس مراسلا ًمهمًا للصحيفة الألمانية المعادية للسياسة البريطانية وكتب بالألمانية كتيبًا عن العرب والمسلمين في المنطقة، الأمر الذي جعل الصحيفة ترغب في أن يضع الرجل كتابًا أشمل، فأرسلته في رحلة ممتدة في العالم الإسلامي استغرقت عامين، اكتشف خلالها الرجل مصادر إلهامه الجديدة.

انتقل الشاب ثانية مراسلاً خاصًا لكبريات الصحف الأوروبية، طاف بعمّان فدمشق فبغداد ومنها إلى إيران و أفغانستان. كما لو كان الإسلام يتكشف أمامه شيئًا فشيئًا، حتى كانت ليلة شاتية في إحدى المقاطعات الجبلية الأفغانية، دار فيها الحوار عفويًا، حتى قال الشاب موجهًا كلامه لمضيفه المسلم: «أنتم كثيرون..ولكن إيمانكم ضعيف». ولما قوبل كلامه بالاستغراب، راح يشرح مراده في صورة سيل من الأسئلة: «كيف حدث أنكم أيها المسلمون قد فقدتم ثقتكم بأنفسكم، تلك الثقة التي مكنتكم في الماضي من نشر دينكم في أقل من مئة عام، من جزيرة العرب حتى الأطلسي غربًا وإلى أعماق الصين شرقًا؟ وأنكم اليوم تسلمون أنفسكم بمثل هذه السهولة ومثل هذه الضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستطيعون وأنتم الذين أنار أجدادكم العالم بالعلم والفن في وقت كانت أوروبا فيه غارقة في البربرية والجهل أن تستجمعوا شجاعتكم للعودة إلى دينكم».. فاجأه أمير المقاطعة بالقول: «إنك مسلم في قرارة نفسك، حتى وإن لم تكن تدري، فلم لا تنطق الآن هنا: أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله؟!

لكن الشاب فايس لم يفعل ساعتها، وبدلاً من ذلك واصل الترحال: من كابول إلى غزنة إلى قندهار إلى هراة، ومن هناك عبر جبال الأورال فموسكو إلى فرانكفورت.

مرت بالرجل قبل إسلامه فترات طويلة من الحيرة والقلق والتململ من القيم السائدة من حوله في شرق أوروبا وفي غربها. وخبر ما يدور في مقاهي الأدباء من مناقشات لم تشف عنده غليلاً، أو: «لم تجب عن الأسئلة الخالدة في حياة الإنسان». فاقتنع صاحبنا بأن الغرب يعيش حالة خواء روحي وإفلاس قيمي، وزادت قناعته بأن المخرج من حالة الإفلاس هذه لا يأتي من داخل منظومة الثقافة الأوروبية، بل من خارجها. وكما قال طاغور شاعر الهند الكبير، لمفكر غربي: «صحيح أنكم استطعتم أن تحلّقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك، ولكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كالإنسان».

وعند هذه النقطة بدأ محمد أسد في تهيؤ حقيقي لدخول عالم جديد مغاير تمامًا، ألا وهو عالم الإسلام.

عندما خرج من برلين متوجهًا إلى الشرق في صيف 1922م كان لا يزال كما قال عن نفسه: «لقد كنت شابًا أوروبيًا ناشئًا على الاعتقاد بأن الإسلام وكل تعاليمه لم يكن أكثر من طريق فرعي لتاريخ الإنسان، غير جدير بالاحترام، من الناحيتين الروحية والأخلاقية».

وفوق الباخرة المتجهة إلى الإسكندرية، التقى والأب اليسوعي «فالكس»، فدارت بينهما حوارات، تبين منها أن الشاب يائس من الإيمان اليهودي والمسيحي على السواء، لأنه كان حسب قوله: «إنني أحلم بشكل من الحياة يسعى فيه الإنسان كله روحًا وجسدًا، ويجاهد في سبيل تحقيق ذاتي أعمق. شكل لا تكون فيه الروح والمشاعر عدوين كل منهما للآخر.

يروي محمد أسد عن الإرهاصات المبكرة التي ملأت قلبه إعجابا بالإسلام، فيحكي واقعة تنبئ عن الكرم العربي العفوي التلقائي، حين تقاسم كعكة مع مسافر بدوي في القطار المتجه عبر صحراء سيناء إلى القدس. ثم يروي كيف شعر بروعة الصلاة وروحانيتها، عندما شاهد شيخًا في شرقي القدس يؤم رجالاً في تبتل حقيقي.

ويصف محمد أسد سعيه الجاد نحو التعرف على عالم الإسلام بأنه رغبة في فهم الحال التي آلت إليها أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى، فقد وصفها بأنها «التسكع اليائس وراء صيغ جديدة من التعبير، في الفنون وعلم الاجتماع والسياسة». واهتدى إلى القول: «إن جميع آلاتنا و ناطحات سحابنا لم تعد تستطيع شيئًا لإعادة وحدة روحنا المحطمة ». وهي الفكرة نفسها التي صاغها من بعد فوستر دالاس: «إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية. إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي، فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها».

ثم عاد الشاب إلى مقر صحيفة فرانكفورتر في برلين، ليتم الكتاب المطلوب، و هناك في برلين قابل إليساElsa ، رسامة أرستوقراطية موهوبة، أرمل في الأربعين، لديها طفل في السادسة، من زواج سابق. لم يوهن غياب محمد أسد عن أوروبا مدة عامين من حبه لهذه السيدة التي تكبره بخمسة عشر عامًا. وكانت كلما ترددت في الزواج منه ازداد هو تشبثًا بها. لم يبالغ حين قال إنه لا يتصور حياته دونها، لقد كانت تشاركه قراءة القرآن، حتى قبل أن يعلن هو نفسه الإسلام، وكانت تبدي خلال مناقشاتها مدى تأثرها بتعاليم القرآن الأخلاقية وتوجيهاته العملية.

راح يستغرق في قراءة القرآن الكريم، ويتأمل التعاسة تعلو وجوه القوم، برغم الرواج الاقتصادي نسبيًا آنذاك.

بعد زواجه منها، وبعد تمتعه بوظيفة مرموقة، ومركز أدبي ومرتب كبير ومستقبل واعد، لم يكن في الظاهر ثمة سبب يدعوه لمغادرة أوروبا. وفي يوم عيد الغطاس كان الشاب وزوجته يستقلان مترو الأنفاق، و ظلا يرقبان الوجوه التي لم يبد عليها البشر قط، برغم أن اليوم عيد، وبرغم مظاهر الأبهة البادية في ملابسهم و هندامهم. رجع إلى البيت، لمح مصحفًا مفتوحًا على سورة فسرت له حالة الشقاء التي ظهرت بوضوح على وجوه القوم، إنها سورة التكاثر. تحدث إلى إليسا فوافقته على ما أبدى من ملاحظات تربط بين السورة القرآنية وبين حال الشقاء التي لمساها في راكبي المترو.

نطق محمد أسد بالشهادتين هناك في أوروبا، أو في برلين تحديدًا في عام 1926م. ولما كانت الكلمة اليونانية «ليو» ـ المقطع الأول من ليوبولد ـ تعني «الأسد»، فقد اختار له أحد المسلمين المهاجرين هنالك اسم «محمد أسد». أسلم الرجل، وبعد أسبوعين أشهرت إليسا إسلامها، وصار طفلها يسمى أحمد.

أرسل محمد إلى والده خطابًا يخبره بإسلامه، فلم يتلق رده. فأتبعه بثان شرح فيه أن الإسلام لا يقطعه عن البر بوالديه، لكن الرد هذه المرة جاء من أخته التي قالت إنهم اعتبروه في عداد الأموات. لكن الله خفف عن الشاب المهتدي كل عناء عندما بادرت إليسا إلى إعلان إسلامها بعد أسبوعين.

وشأنه شأن غيره من المهتدين، يقص محمد أسد مواجيده حيال أصوات المؤذنين، و يعبر عن تذوقه للأذان في عباراته الفريدة، فيسميه تارة «الإنشاد»، ويصفه تارة بأنه «اللحن الدائم»، و يرى في الأذان مقدار التوحد و النسيج الروحي بين مسلمي المشارق والمغارب. كما يحكي صاحبنا سيرة بدء قراءاته القرآن الكريم، عن طريق ترجمة فرنسية وأخرى ألمانية، إضافة إلى بعض الأعمال الاستشراقية، وإيضاحات صديق دمشقي. حدث ذلك في إثر مشاهدته الصلاة الجامعة في الجامع الأموي التي عبر عن انطباعاته إزاءها بالقول: «أدركت مبلغ قرب هؤلاء القوم من ربهم ومن دينهم. إن صلاتهم لم تكن تبدو منفصلة عن يوم عملهم مستقلة عنه، بل كانت قسمًا منه. لم يقصد بها أن تساعدهم على نسيان الحياة، بل على ذكرها عن طريق ذكر الله بطريق أفضل.

أدرك محمد أسد تمامًا مدى تطابق الإسلام مع أشواق البشر، فأوضح ذلك: «إن الإسلام لم يبد لي دينًا بالمعنى الشائع للكلمة (في الغرب) بمقدار ما بدا طريقة في الحياة، ولا نظامًا لاهوتيًا بمقدار ما تبينته منهاجًا للسلوك الشخصي والاجتماعي، قائمًا على ذكر الله». ثم يواصل ـ رحمه الله ـ القول «إنني لم أستطع أن أجد في أيما مكان في القرآن أيما ذكر لحاجة إلى الخلاص، ليس في الإسلام من خطيئة أولى موروثة تقف بين المرء ومصيره، ذلك أنه ليس للإنسان إلا ما سعى. ولا يطلب أيما نسك أو إماتة لفتح باب خفي إلى الطهارة، ذلك أن الطهارة من الصفات حق يرثه الإنسان بالولادة».

هكذا اهتدى الرجل، وفقه في دين الله، وأخلص لعقيدة التوحيد، وأحب أهل القبلة. ولكن راعه البون الواضح بين صفاء العقيدة وكدر الحياة الواقعية للمسلمين، فقال بغير مواربة: «لم يكن المسلمون هم الذين جعلوا الإسلام عظيمًا، بل لقد كان الإسلام هو الذي جعل المسلمين عظماء. إلا أنهم ما إن أصبح إيمانهم عادة، وانقطع عن أن يكون منهاجًا في الحياة يتبع بوعي وإدراك، حتى خبت تلك القوة الدافعة الخلاقة التي كانت من وراء مدنيتهم، و أفسحت المجال إلى الاسترخاء والعقم والانحطاط الثقافي».

ألا ما أروع مقولته: «أنا لم أصبح مسلمًا لأني عشت زمنًا طويلا ًبين المسلمين، بل كان الأمر عكس ذلك، ذلك أنني قررت أن أعيش بينهم لأني اعتنقت الإسلام». في يناير 1927م خرج ثلاثتهم (أسد وإليسا وأحمد) قاصدين الحج، و في طريقهم نزلوا بمصر. وهناك تحدث محمد أسد طويلاً إلى الشيخ المراغي (الذي صار شيخًا للأزهر). ترك اللقاء مع الشيخ مصطفى المراغي أثرًا عميقًا لدى محمد أسد، فتنبه إلى ضرورة إحياء الدين في النفوس على أصوله الصحيحة. و كان تجواله في أرجاء العالم الإسلامي المترامية قد كشف له عن أنماط شتى من سلوكيات المسلمين، فبعد ترحاله توصل إلى نتيجة مفادها أن سبب تأخر المسلمين لا يكمن في دينهم، بل يكمن في سوء فهمهم له، أو عدم التزامهم به. وتأكدت لديه هذه الأفكار من خلال مقابلاته مع شخصيات مرموقة عبر العالم الإسلامي: عمر المختار في برقة، الشيخ ابن بليهد في المدينة المنورة، العلامة إقبال في لاهور.

ثم خرج قاصدًا حج بيت الله الحرام، وهنالك ماتت زوجته الأولى «إليسا»، حيث دفنت في أشرف جوار، بعد تسعة أيام من أدائهم فريضة الحج. وبعد عام من وفاة إليسا، أرسل الطفل أحمد إلى أهلها في ألمانيا. وعانى محمد أسد الحزن والانقباض، اللذين لم يخففهما عنه سوى الانغماس في دراسة الإسلام واللغة العربية.

وبينما كان يتردد كعادته على المكتبة العامرة بمكة المكرمة، شاهده (الأمير) فيصل بن عبدالعزيز الذي دعاه لمقابلة الملك ابن سعود. وصار يتردد على مجلسه بانتظام، حتى منحه الملك ترخيصًا يتيح له التجوال عبر أنحاء الجزيرة العربية دون أن يعترضه أحد. و أمضى محمد أسد في جزيرة العرب ست سنوات، توثقت فيها علاقته بالملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية السعودية.

في عام 1930م تزوج محمد أسد سيدة من شمر، رزق منها بولده طلال. رزق ـ بعد تسع سنوات من لقائه والأمير عبدالله في الأردن ـ بمولود سماه على اسم الأمير الصغير «طلال»، جد الملك عبدالله الثاني، عاهل الأردن الحالي. وأقام ثلاثتهم بالمدينة المنورة، حيث انهمك الأب في دراسة الإسلام. و شعر كما لو كان هنا موطنه الأصلي، فلم يعد غريبًا. واستفاد محمد أسد من عبدالله بن بليهد الذي وصفه بالقول: «إنه أعظم علماء نجد على الإطلاق» و«كان من أذكى الرجال الذين عرفتهم في العالم الإسلامي».

وما كان لمحمد أسد أن تطول إقامته بالجزيرة العربية دون أن يأتي على ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقد سجل: «إن جميع حركات النهضة في الإسلام اليوم ـ حركة أهل الحديث في الهند، وحركة السنوسي في شمال إفريقيا، ونشاط جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ـ يمكن أن ترجع إلى الدافع الروحي الذي حركه محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر ».

إن من يعشق القول البليغ والوصف البديع، سيجد لا شك في أسلوب محمد أسد ـ بالإنجليزية والعربية ـ ما يشبع رغبته في تذوق النثر الفني، و سيجد ذلك أوضح ما يكون في وصف محمد أسد الليل والبيداء والنوق وعيون الماء وبيوت الشعر والبدويات وحداء الإبل. يصف رحلته في بوادي الجزيرة: «ومن حولنا حتى الأفق المتموج نبت سهل خال طبشوري، وهب فوقه نسيم عليل حار ، قادمًا من لا مكان، و ذاهبًا إلى لا مكان دونما بداية و دونما نهاية، دندنة مكتومة من الأبدية نفسها». و يمكن للقارئ أن يحس شاعرية محمد أسد عندما يصف محبة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في قلوب المسلمين: «لقد بقي هذا الحب بعد وفاته، وهو لا يزال حيًا في قلوب أتباعه حتى اليوم، كنشيد متعدد النغمات، إنه حي في «المدينة» ما يزال ينطق به كل حجر من أحجارها، و إنك لتكاد تستطيع أن تلمسه بيديك، ولكنك لا تستطيع له صوغًا في كلمات».

مقاوم
01-02-2011, 06:59 AM
ظلَّ محمد أسد بالمدينة خمس سنوات، عاوده بعدها الحنين إلى الترحال. رحل إلى الهند (لم تكن الباكستان قد انفصلت عنها بعد) وفي الهند لم تكن اللغة عائقًا؛ فسرعان ما تعلم محمد أسد الأردية. وعاش بين مسلمي الهند، إلا أن السلطات في كشمير أبعدته دون تهمة واضحة إلا كونه رجلاً أوروبيًا، فانتقل إلى لاهور، وكان ذلك نعم الانتقال؛ إذ تعرف هنالك وصحب الشاعر الفيلسوف العظيم «محمد إقبال» (1876م ـ 1939م).

بعد لقائه محمد إقبال صار محمد أسد معنيًا بالفكر الإسلامي محاضرًا وكاتبًا. وبخاصة في الجوانب الثقافية والقانونية، وكتب أول أعماله المهمة: «الإسلام في مفترق الطرق». لقد أراد محمد أسد أن يهب نفسه لمهمة عظيمة: أن يرفع النقاب الذي يفصل ما بين الإسلام وثقافته وبين العقل الغربي أو بعبارته المشرقة : «إن أي رجل لبيب يمكن أن يكون وزيرًا لباكستان في الأمم المتحدة، ولكن كم من الرجال يمكنهم أن يتحدثوا إلى الغربيين عن الإسلام كما أتحدث أنا؟ إنني مسلم، ولكني أيضا غربي المنشأ؛ لذا فأنا أتكلم اللغتين الثقافيتين: الإسلامية والغربية». نعم كان متمكنًا من لغته العربية، ومن الإنجليزية بطبيعة الحال، لكن الأهم هو إحاطته العميقة بالتوراة والأناجيل، مثلما كان محيطًا بالتاريخ والحضارة اليهودية. وفي لقائه مع مراد هوفمان في لشبونة سنة 1985م تحدثا معًا بالألمانية، وكان أسد ـ كما حكى هوفمان ـ قادرًا على المحادثة بالبولونية والعبرية والعربية والبرتغالية والإنجليزية طبعًا.

ذكر عنه الدكتور حسان حتحوت: «سجلت حوارًا تلفزيونيًا مع الرجل في بيته بالأندلس باللغة العربية فما أخطأ في النحو مرة واحدة».
ومن عجب أن كثيرًا من ملاحظات محمد أسد و تعليقاته على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الإسلامي، لا تزال قابلة لإعادة القول حتى وقتنا الراهن. وحتى المخاوف التي عبر عنها بشأن أحوال العالم الإسلامي ما زالت تثير خوفنا؛ لأنها لم تعد مجرد مخاوف، بل صارت واقعًا ماثلاً للعيان. فمما قاله يومها 1934م: «إن آلافًا من القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية تطرق أبوب العالم الإسلامي؛ فهل يخضع هذا العالم و يستسلم إلى حضارة الغرب، ويفقد خلال التفاعل لأشكاله وأنظمته التقليدية فحسب ـ بل جذوره الروحية أيضًا؟».

ويعلق طلال أسد على الأحداث التي صاحبت انفصال الباكستان: «لقد كان الانفصال التام والتقسيم لشبه القارة الهندية كارثة من وجهة نظر إنسانية وتاريخية معًا».

كان محمد أسد يتألم مما آلت إليه حال المسلمين، وهو الذي كان يتساءل دومًا: «كيف أن دين نبيكم، وكل ما فيه من البساطة والوضوح، قد دفن تحت أنقاضٍ من تأملات متحذلقيكم و مماحكاتهم العقيمة؟».

لكنه كما يقول طلال: «كان قليل الدراية بما تحدثه السياسة في الأمم». وكان رحمه الله يعترض بشدة على أي مظهر للعنف. عاد طلال يومًا ليقص على أبيه ما كان من مزاح بينه وبين الصبيان، عندما تسلل بخفة في الظلام خلف أحد رفاقه، فأفزع الفتى وروّع. فلما سمع الأب ذلك صنع ما لم يصنعه من قبل قط، لقد هوى بيده على طلال مؤدبًا، وأردف: «إياك أن تفعلها ثانية؛ فما أقبح أن تروّع أحدًا». أليس هذا تأويل قول المصطفى [: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا».

بعد عشرين عامًا قضاها في الباكستان ذهب أسد إلى نيويورك سنة 1952م وزيرًا مفوضًا للباكستان في الأمم المتحدة. وهناك التقى السيدة التي تحولت من الكاثوليكية إلى الإسلام والتي صارت زوجة له بقية عمره ، على مدى أربعين عامًا. وعلى ذكر الزواج فقد تزوج الرجل من سيدتين عربيتين، أولاهما من قبيلة مطير تزوجها سنة 1928م، سرعان ما طلقها، ثم تزوج سيدة من شمر سنة 1930م، وهي التي أنجبت له طلالاً. (لو أنها اليوم على قيد الحياة عند أهلها بالمدينة المنورة، فإنها إذًا كنز معلومات عن سيرة محمد أسد).

عندما استقر محمد أسد في نيويورك، كان الله قد هيأ له أمرًا. لقد اهتدت إلى الإسلام دبلوماسية أمريكية تعمل في وزارة الخارجية، ضمن وفد الولايات المتحدة في منظمة الأمم المتحدة . كانت قد قطعت وحدها رحلتها إلى الإسلام، وبعد سنوات من الدرس والبحث تحولت السيدة (بولاPola ) من الكاثوليكية إلى الإسلام. و قبل أشهر من لقائها بمحمد أسد كانت قد أشهرت إسلامها، واتخذت لنفسها اسم حميدة. وبعد زواجها من صاحبنا، صارت تحمل ـ طبقًا للتقليد هناك ـ اسم حميدة أسد.

تحكي الزوجة الدبلوماسية عن زوجها واحدة من أكبر أخطائه: «لقد دعي يومًا ليلقي محاضرة أمام حشد من طلاب الدراسات العليا، وعلى مدى أيام قبل الموعد رحت أسأله عما إذا كان قد فرغ من إعداد النص المكتوب للمحاضرة. حتى كان قبل الموعد بخمس دقائق، جلس ليكتب ملاحظات قليلة في وريقة. وفي قاعة المحاضرات تحدث محمد أسد من فوق منصة عالية، وظل يتدفق حماسًا ، حتى إنه نسي أن ينظر في الورقة. قوبل حديثه بحفاوة بالغة. و بعدما انتهى بدأت الأسئلة تنهال عليه، واستغرق الأمر بضع ساعات. وكان في ذلك الخطأ الكبير الذي تعنيه السيدة حميدة: لقد ضاعت بهذه الطريقة مئات المحاضرات القيمة التي ألقاها محمد أسد، سواء في العالم الإسلامي أو في مدن غربية، من غير أن يسجلها كتابة. ولا يقل عن تلك المحاضرات قيمة ما كان يلقيه من محاضرات قبل اعتناقه الإسلام؛ لقد كان أصغر من دعتهم الأكاديمية الجغرافية السياسية في برلين Academy of Geopolitics in Berlin لإلقاء سلسلة محاضرات ولما يتجاوز عمره السادسة والعشرين.

ومن جهته كان محمد أسد يتحدث عن حميدة بكل التقدير، ويذكر أنه ما كان لينجز ربع ما أنجز لولا دعمها المعنوي. قيل إنه تزوجها دون إذن مسبق من الخارجية الباكستانية وهو ما أثار الاعتراض، فما كان منه إلا أن واجه ذلك بالاستقالة من الخارجية الباكستانية. وكانت هذه الاستقالة خير استقلال، فلولاها ما تفرغ محمد أسد ليخرج إلى الوجود كتابه «الطريق إلى مكة» الذي نشر أول مرة سنة 1954م، وهو الكتاب الذي لم يتفوق عليه كتاب آخر في موضوعه؛ فما زال الكتاب يطبع مرة بعد مرة، فصدرت منه تسع طبعات بالعربية وحدها، أما الطبعات الإنجليزية فأكثر من أن تحصى، لعل من أحدثها طبعة 2001م.

تأثر بهذا الكتاب خلق كثير، من أبرزهم فتاة يهودية أمريكية كانت في العشرين من عمرها، تدعى Margaret Marcus التي تحولت بفضل الله إلى «مريم جميلة»، وصارت كاتبة معروفة، على خطى محمد أسد. وبسبب التأثير الملحوظ للكتاب في الغرب والشرق، فإنه قد تعرض وصاحبه لهجوم مؤرخين وأكاديميين وصحفيين. ففي التاسع عشر من نوفمبر 2001م لم يجد محرر صحيفة هآرتس ما يقوله عن حياة محمد أسد سوى أنها مجرد حكاية عن تغيير الاسم والهوية و تبديل الديانة، وتعدد الزوجات. بل إن أحدهم حاول أن يثير الغبار حول الرجل فزعم أن: «التأريخ لحياة محمد أسد تقف دونه عقبات ليس أقلها أن المصدر الوحيد المتاح عن حياته يتمثل في شخصه هو ذاته». ومن اليسير أن نعرف سر الهجوم على محمد أسد؛ فعندما كان سفيرًا في الأمم المتحدة حاولت الدوائر اليهودية أن تستفيد منه، وربما تجنده في نظير أموال، مستغلين وجود صلة قرابة بينه وبين مذيعة في راديو إسرائيل. لكن محمد أسد كان أسمى من أي إغراءات، وبتر الصلة مع الشخص الذي كان يحاول تجنيده. قيل إن الجنرال ضياء الحق ـ الذي تولى الرئاسة 1979م ـ حاول أن يقنع محمد أسد بالعودة إلى الباكستان، لكن لم يكتب لمحاولته النجاح.

محمد أسد أنموذج عز نظيره، نحرص على أن نقدمه إلى الناس، مثالاً للباحث عن الحق، المضحي في سبيله، الباذل من أجله المال والأهل والمنصب. رجل عرف الحق فآمن به واستقام عليه، وصبر وصابر، واحتمل أمانة الدعوة إليه و تبيانه للناس، ومضى في الحياة يبلغ حقيقة الإسلام ويجلوها أمام أهلها وأمام أعدائها على السواء. وبقي معتصمًا بحبل الله المتين حتى وافاه الأجل في فبراير 1992م في إسبانيا التي أمضى فيها أواخر العمر باحثًا وكاتبًا ومنافحًا عن دين الله الحق. لقي ربه بعد أن سلم الراية من بعده إلى صنوه وتوأم روحه «مراد هوفمان».

بعد زهاء قرن من حياة مفعمة بالجهاد أسلم الروح واحد من كبار الرحالة والمترجمين والدبلوماسيين والمصلحين الذين عرفهم تاريخ الإسلام. وهنالك وراء مضيق جبل طارق، في بقعة أثيرة من أرض غرناطة ، دفن رحمه الله في غرناطة، وما أدراك ما غرناطة! أناخ الرحالة بعيره، وحط إلى الأبد عصا الترحال، وترك لنا أنفاس الأحبة، وعلومًا تبحث عن وارث.

مؤلفات محمد أسد
من دواعي الأسى أن رموزًا مبرزة في بلادنا هذه الأيام، يحك الواحد منهم قفاه، ويقول :«إن الإسلام ليس دينًا و دولة، وإن الإسلام ليس هو الحل». وفي هذا الجو الملوث يقرأ المرء مؤلفات محمد أسد (يرحمه الله) الذي تشرب الإسلام بكل وجدانه، واختاره دينًا، عقيدة ومنهاجًا بملء إرادته. لقد كانت رسالته في الحياة تتلخص في : «كيف يحول البشر كلمة الله وشريعته إلى قوانين ونظم تحكم حياتهم وتعاملاتهم؟».
لماذا ظل محمد أسد شخصًا متفردًا بين المسلمين، بأفكاره التي لم تجد آذانًا صاغية حيثما حل. وحتى ترجمته أو تفسيره للقرآن قد تم اجتنابه على نحو ملموس في العالم الإسلامي، على حين أنه لقي ترحيبًا بالغًا في الغرب. لقد حاولت أقلام بعض الأكاديميين اليهود أن تؤكد على الجذور اليهودية لمحمد أسد، وحاول بعضهم أن يثير الشبهات حول مدى تقبل أفكار محمد أسد بين المسلمين. بل إن أحدهم كتب إن محمد أسد قد استقى فكره التوفيقي بين الإسلام والمدنية الحديثة من أصول اليهودية. وقد وجدت هذه الادعاءات من يستمع إليها؛ بسبب تقصير المسلمين أنفسهم في التعريف بالرجل وميراثه العلمي.

فيما بين الحربين العالميتين ظهرت في بلادنا دعوات تغريبية صريحة، تدعو إلى الانسلاخ عن هويتنا، أو تدعونا إلى الذوبان التام في الحضارة الأوروبية الغربية، بحلوها ومرها، ما نحب منها وما نكره. في هذه الظروف تعرف محمد أسد على عالم الإسلام، إلى أن صار من أبرز مفكريه، ومن أنشط دعاته، ومن أكثر الغيورين على حضارته. وكثيرًا ما كان يتساءل: Why can't we live closer to the Muslim ideal?

خلّف محمد أسد من العلم المقيد بالكتابة مجموعة مؤلفات، لعل أولها كتابه: «الإسلام على مفترق الطرق» Islam at the Crossroads الذي صدر أول مرة سنة 1934م، وهي الطبعة التي ترجمها عمر فروخ عام 1946م. وفي هذه الطبعة من الكتاب دعوة حارة للمسلمين أن يتجنبوا التقليد الأعمى لأنماط الحياة في الغرب، أو الانسياق الجاهل وراء القيم الغربية، ما يناقض منها قيم الحضارة الإسلامية. وفضح محمد أسد النزعة الإمبريالية الغربية، وكشف الجهود المبذولة هنالك عن عمد لتشويه الإسلام. وناقش باقتدار فرية التملص من اتباع السنة النبوية، وقال إن الزعم بعدم وجوب العمل بالسنة ليس إلا مقدمة لإبطال القرآن نفسه.

وبعد خمسة عقود صدرت للكتاب طبعة منقحة سنة 1983م، يحذر محمد أسد فيها من شرك الوقوع في فخ التغريب. وفي الوقت ذاته نبه إلى أن المسلمين يتمسكون في أحيان كثيرة بأنماط من السلوك موروثة عن ظروف تاريخية، دونما تمسك صحيح بأصل الدين الذي هو كتاب الله وسنة رسوله [. لقد كان محمد أسد مقتنعًا قناعة كاملة بتفوق الإسلام كبديل حضاري.

فليت ناشرًا يعنى بتحديث الترجمة التي كان قد أنجزها عمر فروخ. ولعل آخر طبعاته كانت طبعة دلهي Muhammad Asad, "Islam at the Crossroads", Delhi, 1991.

لكي يعمق محمد أسد رؤيته التي عرضها بإيجاز في كتابه الأول، راح يدرس حياة الرعيل الأول من أصحاب النبي [ (فكتب دراسات في صحيح البخاري، صدر منها خمس كراسات بعنوان: Sahih al-Bukhari: The Early Years of Islam.

إلى أن كان عام 1939 فاعتقلته السلطات البريطانية ، و ظل رهن الاعتقال إلى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م. ففي اليوم التالي لنشوب الحرب العالمية الثانية اعتقل البريطانيون في الهند محمد أسد، ولم يفرج عنه إلا مع نهاية الحرب سنة 1945م، وذلك بالرغم من أنه رفض أن يحمل جواز سفر ألمانيًا عقب ضم النمسا سنة 1938م، وأصر على الاحتفاظ بالجنسية النمساوية. وفي المعتقل كان محمد أسد المسلم الوحيد بين ثلاثة آلاف معتقل. وكان من نكد هذا الاعتقال أن توقف محمد أسد عن سلسلة بحوثه في السنة النبوية.
و بعد إطلاق سراحه، شرع محمد أسد سنة 1946م في إصدار مجلة «عرفات» Arafat ، التي لم يصدر منها سوى عشرة أعداد. وكان فيها ينتقد أوضاع المسلمين بشكل أساسي.

نذر محمد أسد نفسه طوال عمره لمهمة واحدة، هي البعث الحضاري للإسلام، والتوفيق بين التمدين وبين أصول الإسلام. ووضع محمد أسد مشروع الدستور للدولة الجديدة، وولدت الباكستان ولكن على غير ما كان يحلم بها هو وصديقه محمد إقبال.

كان اللقاء مع محمد إقبال محطة بارزة في كتابات محمد أسد التي تمحورت حول الإسلام: «عقيدة وشريعة». وفي سعيه لتأصيل الكيان الجديد (دولة الباكستان) أصدر كتابه: «مبادئ الدولة والحكومة في الإسلام».

قدم الكتاب نقاشًا ضروريًا حول شرعية السلطة، وعلاقة الهيئة التشريعية بالسلطة التنفيذية، وشكل العلاقة بين الحكومة والمواطنين.

ومحور الكتاب مجموعة أفكار، لخصها مراد هوفمان فيما يأتي:
ـ إن مادة الفقه الإسلامي في تطوره خلال ثمانية قرون قد أصبحت أغزر بكثير من أصلها الملزم.
ـ في إطار التشريع والدستور الذي يعكس هذا الأصل الملزم، تكتسب الدولة الإسلامية عدة سمات شديدة الشبه بالديموقراطية البرلمانية وحكم القانون، بما في ذلك مؤسستا الرئاسة والمحكمة العليا الأمريكية.
ـ الصحوة الإسلامية لا تعني ـ ولا تستوجب بالضرورة ـ شكل الحكومة الدينية.
ثم أصدر محمد أسد كتابًا آخر بعنوان «هذا القانون الذي نتبعه»، طبع مرارًا، ولا أظنه ترجم إلى العربية، و لعل من أحدث طبعاته:
Muhammad Asad, زThis Law of Oursس, Kuala Lumpur, 2000
ويبقى كتاب «الطريق إلى مكة» The Road to Mecca هو درة أعمال صاحبنا. فعندما صدر عام 1954م احتفلت به الأوساط الأدبية والنقدية في الغرب وكتبت جريدة «التايمز» البريطانية في ملحقها الأدبي تقول: «يحكي لنا التاريخ عن كثير من الأوروبيين الذين تحولوا إلى الإسلام ومنهم من ارتقى أرفع المناصب والسلطة في البلاد التي هاجروا إليها.. لكن قلما تجد واحدا من هؤلاء المتحولين وقد عكف على رصد مراحل هذا التحول خطوة من بعد خطوة.. بل واستطاع ـ وهذا هو الأهم ـ أن يفعل ذلك بقدر عظيم من جزالة المعنى وجمال الإبداع».
وفي نيويورك حيث نشر، رحبت به صحف مرموقة هنالك مثل The New York Herald Tribune Book Review وصحيفة The New York Times ووصفته صحيفة «كرستيان ساينس مونيتور» الأميركية قائلة: «إن هذا الكتاب لينفذ إلى أعماق الحياة العربية والإسلامية؛ مما يعين على فهم أدق للعرب وللأرض التي يعيشون فيها». و بعد عقود تقول عنه الكاتبة الروائية إيمانويل هدلاند: «إن هذا الكتاب سرعان ما يحملني على جناح المودة نحو العالم الإسلامي».

ومن جهة أخرى فقد قيل أن محمد أسد في كتاب الطريق إلى مكة لا يعدو أن يكون صحفيًا، يسجل الأحداث الآنية التي سرعان ما تصير قديمة لا تستحق القراءة. وقيل إن كتابًا بقلم صحفي لابد أن يتسم بالسطحية، وما من رد على هذه الآراء سوى الدعوة إلى قراءة الكتاب ذاته؛ فإنه خير مجادل عن صاحبه. وبسبب تأثير الكتاب فيمن يقرؤه، فإن الهجوم عليه لا يتوقف.

وأخيرًا أصدر تحفته الأدبية opus magnum آخر كتبه بعنوان The Message of the Qur'an «رسالة القرآن»، الذي يصح أن نعده موسوعة قرآنية؛ فقد بلغ حجمه ألف صفحة (998 صفحة)، وكان أسد قد بلغ وقتها من العمر ثمانين عامًا. صدرت منه طبعة بالإسبانية El Mensaje del Quran. فبعدما انتقل مع زوجته المسلمة الأمريكية إلى جنيف شرع في ترجمة لمعاني القرآن تجبر ما في الترجمات المتاحة من نقص أو قصور؛ إذ لم يكن أسد راضيًا عن ترجمات انتشرت على نطاق واسع، رأى أن أصحابها تعوزهم المعرفة العميقة بدقائق العربية و البيان القرآني، مثلما تنقصهم الخبرة الواسعة بحياة الناس عبر أرجاء العالم الإسلامي من طنجة إلى كلكتا.

ومما قاله في المقدمة: أنا أول من يدرك أن مقاربتي للقرآن العظيم لن تفيه ولن تستطيع أن تفيه حقه لأن آياته تحمل طبقات من بعد طبقات من المعاني والإشارات والدلالات: { قٍل لَّوً كّانّ ?ًبّحًرٍ مٌدّادْا لٌَكّلٌمّاتٌ رّبٌَي لّنّفٌدّ ?ًبّحًرٍ قّبًلّ أّن تّنفّدّ كّلٌمّاتٍ رّبٌَي}. إلا أن حياة محمد أسد الغنية بالخبرات الثرية النادرة، و حياته الممتدة في الزمان والمكان، قد هيأت له ما لم يتهيأ إلا لقلائل من المهتدين؛ فقد نشأ في قلب أوروبا، وعاش في الجزيرة العربية والهند، وزار القاهرة ودمشق والقدس وحيفا والأردن وتركيا وإيران وأفغانستان وبرقة، كما مر ببخارى وسمرقند وطشقند وتركمانستان وموسكو، ثم استوطن نيويورك وإسبانيا وطنجة؛ مما منحه سعة في الرؤية، وعمقًا في التناول.
ولم تفارق محمد أسد في كل كتاباته (روح الاجتهاد)، فكان الاجتهاد سبيله التي أكسبه الإسلام إياها. وقد كتب في صفحة الإهداء: «إلى من يُعملون عقولهم» to زpeople who thinkس كان مولعًا بترديد: «من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران». وقال إننا بغير «اجتهاد» لن نتمكن من ممارسة الإسلام نفسه. و قبيل وفاته قال في إحدى المقابلات : «من الضروري أن يعلم كل مسلم أنه مخاطب بهذا القرآن، كما لو كان قد أنزل من أجله هو».

لقد عبر محمد أسد عن تأثره بالإمام محمد عبده ـ و بتلميذه محمد رشيد رضا ـ قائلاً: «يجوز القول، بغير تزيّد أو مبالغة، إن كل تيار عصري من تيارات الفكر الإسلامي يمكن أن نعود به إلى ما سبق إليه الشيخ محمد عبده بفضل تميزه الفريد بين سائر مفكري الإسلام المحدثين». و «إن إسهاماته في الفقه والاجتهاد والتحديث الفكري لم تقدر بعدُ حق قدرها».

توقع محمد أسد أن ينتهي من الترجمة في سنتين، لكن العمل استغرق منه سبعة عشر عامًا، ولم تصدر الترجمة كاملة إلا في عام 1980م. لقد كان الرجل وجلاً من المهمة الشاقة، لكنه لم يكن خائر العزم، فخرج الكتاب موسوعة قرآنية بما حوي من آلاف التعليقات والهوامش والإحالات، فلا يمكن اعتباره مجرد ترجمة لمعاني القرآن، بل الصواب أن يقال إنه (تفسير)، لأنه يتضمن موقفًا فقهيًا أصوليًا عقائديًا، إن جاز القول. و يؤكد أسد أن فهم القرآن غير ممكن في غيبة السنة النبوية المطهرة وسيرة الصحابة الأبرار. كتب أسد بلغة إنجليزية جزلة رصينة تليق بترجمة نص مقدس، تستوجب على القارئ أن يكون يقظًا لتراكيبها اللغوية المشرقة، على الرغم من افتقادها بالطبع للإيقاع القرآني. وقد وضع من هذه الترجمة على الإنترنت ما يزيد على نصف الكتاب، ويمكن تصفحها في العنوان:http:// www.geocities.com/masad02/ (http://www.geocities.com/masad02/).
و المتاح من الكتاب على الشبكة يبلغ إلى سورة طه، و رجاؤنا من الناشر الكريم أن يسمح بتحميل بقية الكتاب.

وللكتاب قصة يحسن ذكرها، فقد بدأ دعم المشروع بمبادرة كريمة من سماحة الشيخ محمد سرور الصبان، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي آنذاك، وبدعم من عائلة (الشايع) بالكويت. ظهر القسم الأول من الترجمة سنة 1964من أول المصحف إلى سورة التوبة. وبرعاية رابطة العالم الإسلامي وزعت من نسخه بضعة آلاف، فتعرف عليه العلماء والدارسون لأول مرة. لكن ما لبث أن توقف الأمر على إثر ملاحظات لمجموعة من العلماء على قضايا خلافية تضمنها الكتاب. وتوقفت الرابطة عن توزيع الكتاب، ولم يتوقف محمد أسد عن إتمام الترجمة. و عند تمامها سنة 1980م، دعمها الشيخ أحمد زكي يماني، فاشترى عشرين ألف نسخة.

ومثلما لم يسلم كتابه الطريق إلى مكة، فإن «رسالة القرآن» تعرض لهجوم أقسى و أعنف. ولأن لكل إنسان «نموذجه الإدراكي»؛ فإن هذا النموذج الإدراكي يوجه رؤيته للأمور وتفسيره للظواهر والأحداث، ويشكل تقويمه للآخرين. وحاول بعضهم الدس على الكتاب زاعمًا أنه يشتمل على إسرائيليات لا تختلف عما تسرب إلى التفاسير القديمة. لكن هذه المسألة بحاجة إلى تمحيص كامل من علماء التفسير المعاصرين، ومعهم خبراء متضلعون في اللغة الإنجليزية، لغة شكسبير.

قيل أن سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز قد وجه دعوة كريمة إلى محمد أسد للعودة إلى المملكة؛ مما حدا بأسد أن يشرع في كتابه الذي رحل ولم يتمه، وجعل عنوانه: Homecoming of the Heart فهل كان محمد أسد في هذا العنوان يلحظ قول الإمام الغزالي:
لما طلعت شمس السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول إلى مغارب الأصول.

تركت هوى ليلى و سعدى بمعزل
وعدت إلى تصحيح أول منزل
و نادت بي الأشواق مهلاً فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزل

فهل كان الأمر كذلك، من يدري؟!. ولعل الله يعين السيدة حميدة أسد والبروفيسور طلال محمد أسد على إتمام الكتاب المنتظر.

لقد قصرنا كثيرًا في حق محمد أسد علينا، وآن الأوان لكي يلقى الرجل تكريمًا. وإن تكريم العلماء يكون بنشر علومهم والانتفاع بها. وأرى من واجب التلفزة ـ ولاسيما الفضائيات ـ أن تلتفت إلى محاضرات محمد أسد، علمًا بأن بعضها متاح على ثلاثة أشرطة فيديو بالإنجليزية، سجلت في الثمانينيات، يعرض فيها محمد أسد ـ الذي لم يفقد قط الحماسة والفصاحة ـ رؤيته للعلاقة بين الإسلام والغرب، ويقص سيرة إسلامه، وتنقلاته عبر العالم الإسلامي. و يمكن الحصول على هذه الأشرطة عبر مواقع التسوق على الإنترنت، مثل: http:// www.ibtsonline.com/shop/ss112018.html (http://www.ibtsonline.com/shop/ss112018.html)
لا أجد سببًا مقنعًا لعزوف دارسي الإنجليزية في بلادنا عن تراث محمد أسد، وهو الكاتب المرموق من الناحيتين الفكرية والأسلوبية، وصاحب العمل المبدع في أدب الرحلات والسير الذاتية، والمتألق في فن السرد. وكأن المرء لابد أن يحمل اسمًا غربيًا ليحظى بالتفات الدارسين للغات الأجنبية. ترى أيعجز كتاب الدراما ومدن الإنتاج الإعلامي عن تقديم حياة الرجل في عمل يليق به، و قد عمر قرنًا من الزمان، مفعمة بكل مثير من المغامرات و العجائب؟!

وليس حظ محمد أسد لدى عامة الدارسين بأفضل منه لدى دارسي الأدب الإنجليزي؛ فهو مغبون إذا قيس بما كتب عن محمد إقبال مثلاً في العالم العربي. ولعل حظوة إقبال ووفرة الكتابات عنه ترجع إلى كونه شاعرًا أديبًا، ترجمت أشعاره إلى العربية في قالب زادها طلاوة، وطغت صفة الأديب لديه على صفة المفكر، في حين لم يشتهر عن محمد أسد قدراته الأدبية، كما لم يترجم إلى العربية من أعماله إلا شيء محدود. وربما ظلم محمد أسد قليلاً عندما اعتبر في زمرة المستشرقين، بعكس النظرة إلى إقبال الذي لا تناله الدراسات الاستشراقية؛ بل يضم اسمه إلى أسماء شوقي والجواهري وعمر أبي ريشة.

عندما وطئت أقدام محمد أسد أرض المشرق الإسلامي عام 1922م كانت الأحوال شبيهة بالحال التي تعيشها منطقتنا اليوم؛ همم مثبطة، شعور بالخزي والمذلة، إحساس مؤلم بالهوة الصناعية والعلمية والتقنية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن ألغيت الخلافة علنًا ورسميًا في عام 1924م. ما بين عامي 1922م و1992م جرت في النهر مياه كثيرة . و إن مما يحز في النفس أن الظروف التي جذبت محمد أسد إلى الإسلام قد تغيرت. كم يؤلمنا أن نعترف بهذا، لكن خداع النفس أشد إيلامًا.

وكان الرجل بالغ الصراحة حين قال يومًا لصاحبه مراد هوفمان: إني لو تأخرت في اعتناق الإسلام إلى الوقت الحاضر (الثمانينيات) فربما كان من الصعب أن أعتنقه. ولئن كانت أحوال المسلمين التي شدت محمد أسد إلى اعتناق الإسلام قد تغيرت، فهل تغيرت نظرة الغرب إلى المسلمين وحضارتهم وثرواتهم؟

هوامش:
ـ ولد ليوبولد فايس في مدينة lvov، مدينة أنشئت سنة 1256 م، وظلت جزءًا من بولندا خلال المدة من 1340م إلى 1772م، ثم صارت من أعمال إمبراطورية النمسا. و عقب الحرب العالمية الأولى عادت إلى النمسا. و في عام 1939م صارت ضمن الاتحاد السوفيتي. و هي الآن في أوكرانيا.
ـ ولد في الثاني من يونيه 1900م ـon July 2, 1900 ، أو في الثاني عشر منه July 1900 12.
توفي في الثالث و العشرين من فبراير ـon February 23, 1992 أو في العشرين منه 20 February 1992.
بالتاريخ الهجري تقريبًا: ولد 1321هـ، و توفي 1413هـ