تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أطفالنا ومفهوم الموت.. تجربة مدرسية



من هناك
01-02-2011, 05:34 AM
الأحد, 02 يناير 2011 00:00 أبرار البار




حفصة -صديقتى وأختى فى الله- هى واحدة من الشخصيات الجميلة التى التقيتها فى كندا، فهى سيدة وأم كندية الأصل والمنشأ، أسلمت قبل حوالى ستة عشر عاماً حينما كانت فى أواخر مرحلتها الثانوية، وأحسب أنها قد حسن إسلامها، فقد اتجهت لتعلم الدين وتعليمه والدعوة إليه، أسلمت على يدها بعض الصديقات لها، ورعت معهن دروس دين تقام فى المسجد، ثم إنها لمست حاجة ونقصاً فى التعامل مع المشاكل الأسرية والأمور التربوية التى تمر بها الجالية المسلمة فاتجهت لدراسة علم الإرشاد الأسرى؛ الذى هو علم قائم بذاته فى الجامعات والكليات الكندية.
رجوتها من فترة أن تشركنى معها كمتطوعة فى أى نشاط ولو كنت فيه مستمعة؛ حيث البيئة فى كندا والتعامل مع الناس يمثلان رصيدا معرفيا بالحياة فى حساب المرء يزيد كل يوم!.

ذات مساء هاتفتنى تخبرنى بحالة طارئة مؤلمة فى إحدى المدارس الإسلامية التى تتبع اتحاد مسلمى مقاطعتنا؛ حيث توفيت "معلمة" للصف الثانى الابتدائى فجأة، وإدارة المدرسة تطلب

منها الحضور بصفتها أخصائية أسرية للتعامل مع الموقف الصعب.. أكملت تقول: هل تأتين معي؟ فأجبتها بالموافقة.

معلمة من الصين
فى الصباح مع بداية الدوام المدرسى كنت أدخل المسجد الجميل الذى حولت بعض مرافقه بما يتناسب مع مدرسة للأطفال الصغار، وهناك فى مكتب إدارة المدرسة وجدت حفصة تستقبلنى وتعرفنى بكادر المدرسة، وقد بدا لى حب واحترام طاقم الإداريات لها، بعدها قالت لى حفصة بجدية: سننزل بالأسفل؛ حيث اجتماع إمام المسجد بالطلبة، سيحدثهم عن الوضع -وقد عرفه معظمهم- وسيكون هناك بعض المعلمات وأهالى الطلبة الذين أخطرتهم إدارة المدرسة.. ثم أكملت وهى تأخذ بيدى على الدرج: ربما يكون هناك بعض التأثر والبكاء، فهل أنت مستعدة؟.. أومأت لها برأسى ونزلنا للمصلى الكبير سويا.

وهناك وجدنا الطلبة ووجدنا الوضع هادئا على غير ما ذكرت.. تقدم إمام المسجد وجلس أمام الطلاب، وابتدأ كلمته بتلاوة آية من أول سورة الملك "تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير* الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور".

فسر الآية لهم، ثم ابتدأ الحديث بتصويره مشاعر الطلاب التى يحسون بها فى نهاية العام الدراسى قائلاً: (ربما تشعرون ببعض الحزن لأنكم تودعون رفاقكم الذين سيذهبون لمدرسة أخرى ومكان آخر بعيداً عنكم، لكن من جهة أخرى هناك بعض المنافع والفوائد فى أنكم تعلمتم منهم شيئاً وسيظلون فى ذاكرتكم، ومعلمتكم ستبقى فى قلوبكم، وستذكرون لها كل خير لها، وأنتم كذلك ستستمتعون بصحبة معلمة جديدة تحبكم وتحبونها، لكن إذا شعرتم ببعض الحزن فلا بأس فهذه طبيعة بشرية فينا، وتذكروا أن الله تعالى رحيم بنا يعلم ما فى قلوبنا وسيثيبنا على صبرنا واحتمالنا).

بعد انتهاء كلمة الإمام طلب مدير المدرسة من الطلاب الصغار التوجه لصفوفهم، وأثناء سيرهم لم ألحظ سوى دموع بعض المعلمات المرافقات لهم.

توجه حديث المدير لأهالى الطلبة الذين حضروا فقال موجهاً كلامه لهم: (إننا نأسف على ما حدث، وسيكون هذا اليوم مفتوحاً للطلاب بلا دروس، سنحاول إشغالهم بأنشطة حركية وذهنية للتخفيف عنهم كالتلوين أو مشاهدة فيلم، ومن أحب منكم اصطحاب طفله للبيت فله ذلك، علماً أننا استدعينا أختنا "حفصة" للرد على استشاراتكم التربوية حول هذا الموضوع، وستكون مع الأمهات والمعلمات فى لقاء مفتوح بعد قليل).

رفع أحد الآباء يده وسأل المدير عن إمكانية حضور العزاء أو المساهمة بما يخفف عن أهل المعلمة المتوفاة، فأجابه المدير قائلاً: (للأسف فالمعلمة من الصين ولم تكن مسلمة، طلبناها للتدريس نتيجة العجز الحاصل، وقد زار وفد من طاقم الإدارة والدتها المقيمة معها فى المنزل، وقدمنا واجب العزاء، وأعلمناهم برغبتنا حضور مراسم عزاء إن هم أقاموه، وسنخبرك وقتها فجزاك الله خيراً).

الحديث عن الموت
عند انتهاء كلمته اجتمعت حفصة باللاتى كن موجوداتً من النساء وابتدأت حديثها للمعلمات قائلة: (إنه من المهم جداً الحفاظ على شعور الأمان والثقة التى يحملها الطلبة لكم، فمهما كانوا متأثرين أو متضجرين لا يصح إلا أن يروكن ثابتين أمامهم مع إشعارهم بالحب والتفهم، وأن الحياة يجب أن تستمر ولا نبقى فى حالة الحزن والإحباط).

(ومفهوم الموت عند الأطفال يتكون فى عقليتهم البسيطة حسبما يجدون الكبار حولهم يتعاملون مع الحدث، وليس صحيحاً أن تجنب الحديث معهم حول الموت يساهم فى تخفيف الحزن فى نفوسهم، بل الغموض معهم والحديث المختصر وإسكاتهم يسبب شرخاً فى استقرار نفسيتهم؛ مما قد ينعكس على سلوكهم بالانطوائية أو العدوانية تجاه الغير، والحديث معهم حول الموت يكون قدر عقولهم، ويجب الإجابة على أسئلتهم قدر الإمكان.)

وتوجهت للأمهات بالقول: (لا تحاولى تجاهل بكاء أو حزن طفلك، واستمعى بصبر لما يقول أو ما يفضى به لك، وتعاطفى معه، وحاولى تبسيط وتقريب المعنى قدر استيعابه، أشعريه بالكثير من الحب، واملئى وقته بأنشطة مشتركة بينكما، ربما يشعر طفلك بحزن أو غضب لا يمكن له تحمله، أو يأتى بنشاط حركى زائد، وعندها لست مضطرة لحمل هذا العبء وحدك.. هاتفى إدارة المدرسة وسنتعاون كلنا من أجل أن يمر هذا الحدث بسلام علينا جميعاً).

ثم أكملت تخاطب الجميع: (من المهم والمفيد أن يخرج الجميع ما فى نفوسهم من حزن أو ألم بطريقة ما؛ ككتابة رسالة لأهل المعلمة وذكر محاسنها، أو أن يشترك الأطفال فى رسم لوحة كبيرة باسمها تعلق فى فناء المدرسة، ثم تزال بعد ذلك بأيام ويتخلص منها، مع العلم أنى سأكون موجودة معكم فى بضع الأيام القادمة؛ للمساعدة فى ما يطرأ من أحداث).

براءة الصغار
بعد انصراف الجميع، طلبت منى حفصة الصعود للصف الثانى والجلوس مع المعلمة الجديدة التى ربما تكون بحاجة لمساعدة أحد، طرقت باب الفصل وسلمت على المعلمة، وجلست فى آخر الفصل أستمع لها وهى تقول: (حسناً.. إنى معلمتكم الجديدة، وأنا أشعر أنكم تفتقدون الآن معلمتكم السابقة.. وهذا لا بأس به.. إنى أتفهم شعوركم، وبخصوص اليوم فلن يكون هناك درس محدد.. سنراجع تسلسل الأعداد، وسنقوم ببعض التمارين على السبورة).

حال توزيعها بعض الورق، بدأ الطلبة بالحديث والحركة والقفز هنا وهناك، ولم يبد على وجوههم أى تأثر أو حزن، وقد كنت أظن عكس ذلك، قلت أتمتم فى نفسى ضاحكة "جيل يخوف.. أبلتهم ماتت ولا أحد عنده خبر!"، لكن قلت ربما لصغر سنهم، وعدم استيعابهم معنى الموت الذى يعنى عدم الرؤية مرة أخرى والفراق البعيد.

مكثت مع المعلمة بعض الوقت نزلت بعدها أشكر حفصة، وقلت لها: على الرغم من كونى لم أنطق بكلمة واحدة أو أفعل أى شيء عدا النظر والسماع فإننى تعلمت الكثير.. فجزاك الله خيراً عزيزتى على هذه الفرصة.

نعم.. فقد تعلمت شيئاً عن الثبات وقت المحن، خصوصاً مع الأحبة الصغار، أيضاً أثرت فى نفسى حكمة وذكاء إدارة المدرسة التى لم تكتف بالتعامل مع الحدث الجلل وحدها، بل استدعت الأهالى على الفور فى الصباح الباكر لطمأنتهم وإشراكهم بالرأى والفعل فيما يحصل، واستدعت كذلك مرشدة اجتماعية للرد على أسئلة الأطفال ومعلماتهم وأهليهم، شعرت بالفخر والرضا بوجود مدرسة بهذا الوعى للمسلمين فى كندا..
المصدر: أون إسلام (http://www.onislam.net/arabic/adam-eve/father-mother/127426-2010-12-29-11-40-40.html)