مقاوم
06-27-2010, 02:48 PM
مفاهيم في الجهاد والحسبة: حركات المقاومة، أبو بصير وأبو جندل نموذجاً
كتب أ. إبراهيم العسعس*
http://qawim.net/images/stories/hesba2010.jpg
ففي حين تكون المفاوضات قائمة ، تكون هناك فئات أخرى تقود حركة مقاومة على الأرض ، وتكون هذه الفئات خارج المساءلة القانونية داخل بلدها ، وخارج الملاحقة خارجياً لأنها حركة مقاومة ، وحركة المقاومة لا علاقة لها بالمفاوضات لأنها قامت من أجل هدف معين فلا تضع سلاحها قبل تحقيقه . وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد تحميل القيادة السياسية مسؤولية أفعال المقاومة ..
-------------------------
http://qawim.net/images/stories/logoqawim/_exb.pngبعد صلح الحديبية ظهـرت حالةٌ جديدة في الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة ، فقد اشترطت قريشٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن ما اشترطت أن يُرجع أبناءهم الذين أسلموا إذا هربوا من حبسهم إليه صلى الله عليه وسلم . وقد وافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .
وصورة هذه الحالة : نـشوء مجموعةٍ من المسلمين لا تخضع أعمالُهـا للـقيادة في المدينة ، ومن ثَـمَّ فالقيادة غير مسؤولة قانونياً عن أفعالها . أي إنهم وإن كانوا مسلمين لكنهم ليسوا جزءاً من الأمة الإسلامية من ناحية قانونية واجتماعية ، فقانونياً لم يكونوا ملزمين ببنود صلح الحديبية ، واجتماعياً لم يكن المجتمع المسلم في المدينة قادراً ـ بحكم بنود الصلح ـ أن يمارس معهم قواعد التكافل الإسلامي بين المسلمين ، فلم يكن يصح أن يقدم أحد المسلمين لهم حتى كسرة خبز !
فما الحكاية :
كان هناك شاب مستضعف في مكة لإسلامه ، اسمه : عتبة بن أسيد بن جارية ، حليف بني زهرة ، كنيته وشهرته التي لن يعرفه الناس إلا بها : أبو بصير .
بعد صلح الحديبية فرَّ أبو بصير من مكة ، وقطع الصحراء على قدميه إلى المدينة وما إن وصلها ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد حتى دخل بعده رجلان من قريش تبعانه ليرجعانه ، وما إن دخلا حتى ذكَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهد ، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن سلم لهما أبا بصيـر رضي الله عنـه ، فـذهب معهما ، " وجعل المسلمون يُسرون إلى أبي بصير : يا أبا بصير أبشر فإن الله جاعل لك مخرجاً ، والرجل يكون خيراً من ألف رجل ، فافعل وافعل ، يأمرونه بالذين معه ..." وفي الطريق تمكن من قتل أحد الرجلين ، وهرب الآخر راجعاً إلى المدينة لائذاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحقه أبو بصير ومعه ما سلبه من الرجلين .
عرض أبو بصير خُمْسَ السلب على الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً :" إني إذا خمَّسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ، ولكن شأنك بسلب صاحبك ".
فقال أبو بصير رضي الله عنه ونفسه تتقطع أسى : يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك ... قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ... وقد امتنعت بنفسي ... فضمني إليكم .. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا " .. فصاح أبو بصير بأعلى صوته : يا رسول الله : أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : " ويل أمِّه ، مسعر حرب لو كان له رجال "
ثم أمره بالخروج من المدينة وقال : " اذهب حيث شئت "
... فذهب ونزل بالعيص ، وكان طريقَ أهل مكة إلى الشام " وبلغ المسلمين الذين قد حُـبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني فلم يستطيعوا ـ قولُ النبي صلى الله عيه وسلم لأبي بصير رضي الله عنه : " ويل أمه مسعر حرب لو كان له رجال " . فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير ....
" وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش " ...
فالتحقوا به رضي الله عنهم وجعلوا يقطعون الطريق على قوافل قريش ، فيسلبون ويقتـلون ... قال الراوي : " حتى أحرقوا قريشاً " .
فأرسلت قريشٌ للرسول عليه الصلاة والسلام يناشدونه الرحم أن : ضُمَّ إليك هؤلاء ولا حرج عليك!!
... وكان سهيلُ بن عمرو قد قال عندما بلغه قتـل أبي بصير لأحد الرجلين الذين وُكِّلا بإرجاعه : والله ما صالحنا محمداً على هذا "
فردت عليه قريش : قد بريء محمدٌ منه ، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق ... فما على محمد في هذا " .
.. وكان ممن لحق بأبي بصير أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما في قصة رائعة لا داعي لسردها ... المهم أنَّ هذين الرجلين أذاقا قريشاً الويل ، فكانا بحق أول حركة مقاومة في الإسلام رضي الله عنهما ، وصلى الله على رسول المقاومة ، البارع في إدارة الصراع آناء الحرب ، وآناء السلم ، وآناء المعاهدات ...
وقفات مع الوقائع :
أولاً : حديثنا هنا كما هو واضح عن جهاد الدفع ، أو عن حركات مقاومة العدوان والاستعمار .
ثانياً : الوضع الذي نتحدث عنه هو عندما يكون ولي الأمر القانوني ( الشرعي ) غائباً أو في حكم الغائب ! وهذا له حالات متعددة لا محل لذكرها الآن ... في مثل هذه الحالة يجوز لفئة من المسلمين أن ترفع لواء مقاومة المعتـدين أو الاستعمار بلغة العصر .
ثالثاً : وهذه أحب أن ينتبه لها المنبطحون ، أو الأغبياء الذين يقودون المفاوضات مع المحتـلين ... وهي كيف يدير المفاوض المحنك أدوات الضغط المتوفرة بين يديه ، وكيف يحرك أوراق اللعبة سواء كانت سياسية أو عسكرية دون أن يظهر بأنه يخالف أصول المفاوضات ..
وهذه لعبة استخدمتها كل حركات المقاومة قديماً وحديثاً ، ففي حين تكون المفاوضات قائمة ، تكون هناك فئات أخرى تقود حركة مقاومة على الأرض ، وتكون هذه الفئات خارج المساءلة القانونية داخل بلدها ، وخارج الملاحقة خارجياً لأنها حركة مقاومة ، وحركة المقاومة لا علاقة لها بالمفاوضات لأنها قامت من أجل هدف معين فلا تضع سلاحها قبل تحقيقه . وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد تحميل القيادة السياسية ـ إن وجدت ـ مسؤولية أفعال المقاومة .. لاحظ قول قريش لسهيل بن عمرو عندما أراد تحميل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد بريء محمد منه ... فما على محمد في هذا " .
ولكن لاحظ كيف أدار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصراع ، وهو المقيَّد بشروط الصلح ، فقد اشار لأبي بصير رضي الله عنه بتشكيل مقاومة بقوله : " ويل أمه مسعر حرب لو أن له رجال " ، وهذا ما فهمه الصحابة المسجونون في مكة والذين كانوا يريدون اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بنود الصلح وقفت حائلاً بينهم وبين ما يريدون .
" وبلغ المسلمين الذين قد حُـبسوا بمكة ، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني فلم يستطيعوا ـ قولُ النبي صلى الله عيه وسلم لأبي بصير رضي الله عنه : " ويل أمِّه مسعر حرب لو كان له رجال " . فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير ...
لقد فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم على الالتحاق بأبي بصير رضي الله عنه . وقد حثهم عمر رضي الله عنه على اللحاق بأبي بصير رضي الله عنه فهماً منه لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعاطفاً مع حركة المقاومة التي يقودها أبو بصير رضي الله عنه .
رابعاً : وهذه موجهة إلى حركات المقاومة التي دخلت لعبة السياسة قبل الأوان ، وانتقلت من المقاومة إلى الحكومة في ظل ظروف جيوش لا ظروف مقاومة ، فوقعت فيما لامت به الآخرين من قبل ، وأصبحت ـ أحياناً ـ تمارس دور حرس الحدود !!
من أكبر الخطأ أن تتحول حركة مقاومة من المقاومة إلى الحكومة ، أو أن تنتقل إلى طاولة المفاوضات قبل أن تحقق أهدافها .. إنها حينئذ تحكم على نفسها بالموت ، وتـقيد نفسها بيديها لأنها ستـنتـقـل من متحكِم إلى متحكم به ، ومن قوة مستـقلة إلى أداة في يد قوى إقليمية لا مصداقية لها محكومة بالمصالح لا بالمبادئ .
وهي أيضاً تفقد القاعدة الشعبية التي تدعمها ، وتشكل لها العمق في مقاومتها ، لأنها ستقسم الشارع تجاه موقفها الجديد ، بينما وهي في خط المقاومة ستعزل أعداء المقاومة شعبياً ...
لاحظ كيف تعاطفت الأمة في المدينة مع أبي بصير ، وكيف حثته وقوة من أزره " وجعل المسلمون يُسـرُّون إلى أبي بصير : يا أبا بصير أبشر فإنَّ الله جاعل ٌلك مخرجاً ، والرجل يكون خيراً من ألف رجل ، فافعل وافعل ، يأمرونه بالذين معه ..." يأمرونه بمن معه .. يعني أن يقتل الحارسين اللذين جاءا لإرجاعه إلى مكة ..
خامساً : وبهذا نعلم خطأ ما ذهب إليه أحد المشايخ وهو يتحدث عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم لحماس أبي بصير ! نعم هو ضبطه في اتجاه معين ، ولكنه وجه ذلك الحماس في اتجاه المقاومة ولم يقمعه ، بل أشار إليه ، وتدرع به ، ووظفه ورقة في إدارته الصراع مع قريش . وفي الوقت الذي رفض فيه أخذ الخمس حتى لا يحسب أبو بصير عليه ، قال له : اذهب حيث شئت ، وقال لأصحابه : " ويل أمه ، مسعر حرب لو أن له رجال .. "
ووافقه على أخذ سلب من الكافرين ، يعني أنه أجاز تصرفه ، ولم يقل بل أرجع السلب إلى أولياء المقتول ، ولم يقل سأدفع دية المقتول ، كما فعل عندما قتل أسامة رضي الله عنه ذلك الرجل في القصة المعروفة ، وهذا يعني :
ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤول عن تصرفات أسامة لأنه من رعايا الدولة ، والدولة مسؤولة عن تصرفات رعاياها ، بينما أبو بصير فليس كذلك ، فالدولة ليست مسؤولة عن أفعاله .
ـ أن ما يترتب على تصرف أسامة فمردود ، أما أبو بصير فما ترتب على فعله فقد أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني أنه صحيح .
ولم يحاول أن يتوسط لقريش لإيقاف أبي بصير ومن معه ، ولم يقم برفض حركة أبي بصير أو التشنيع عليها ، ووصفها بصفات السوء ... بل ترك الأمر بين حركة أبي بصير وبين قريش ، فقريش حاربت هؤلاء المستضعفين وهم يقومون بحقهم في الرد عليها ، وأنا لا علاقة لي بذلك ، فأنا محايد ، لكن حيادي لا يعني أن أعترض على من يطالب بحقه ، فهذا ليس من بنود الصلح ...
سادساً : وأقول لمن يحمل راية الجهاد في العالم الإسلامي ...
عليكم حصر المقاومة والجهاد ضد العدوان الخارجي ، حيث لا شبه ولا التباس ، وحيث الأمة تـقـف وراءكم دون حيرة وخلطٍ للأوراق ، وحيث العدو واضح لا يختلف عليه أحد..
وحيث من يخالف حركة المقاومة ضد الاستعمار يحرق نفسه كائناً من كان ، ولن يشفع له أي تاريخ كان قد صنعه ، لأنه عندئذ سيكون كمن يلعب بالنار ...
عليكم أن تبتعدوا عن الحرب داخل الأمة ، فالسلاح أعمى ، والمبالغة في فتوى التترس ليست من الفقه ، ومثلها المبالغة في الركون على أن من يقتـل من المسلمين فإنه سيلقى الله على نيته !
وعلى من استدرج إلى لعبة السياسة عليه أن يعود إلى ساحة المقاومة ، ويعيد ترتيب أوراقه كما كانت ، وليدع خوض المفاوضات للعملاء ، وابق أنت في خندق المقاومة ..
وبعد فهذا ما أمكن استنباطه من حركة أبي بصير رضي الله عنه ، أحببت تقديمه إلى من يقف على يمين الحركة ، ومن يقف على يسارها ، دفعني إليه ما يثيره بعض العلماء حول حركات المقاومة ، أسأل الله أن يثيب على الصواب ، وأن يتجاوز عن الخطأ ، والحمد لله رب العالمين .
* كاتب ومفكر إسلامي.
http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=7199&Itemid=1
كتب أ. إبراهيم العسعس*
http://qawim.net/images/stories/hesba2010.jpg
ففي حين تكون المفاوضات قائمة ، تكون هناك فئات أخرى تقود حركة مقاومة على الأرض ، وتكون هذه الفئات خارج المساءلة القانونية داخل بلدها ، وخارج الملاحقة خارجياً لأنها حركة مقاومة ، وحركة المقاومة لا علاقة لها بالمفاوضات لأنها قامت من أجل هدف معين فلا تضع سلاحها قبل تحقيقه . وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد تحميل القيادة السياسية مسؤولية أفعال المقاومة ..
-------------------------
http://qawim.net/images/stories/logoqawim/_exb.pngبعد صلح الحديبية ظهـرت حالةٌ جديدة في الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة ، فقد اشترطت قريشٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن ما اشترطت أن يُرجع أبناءهم الذين أسلموا إذا هربوا من حبسهم إليه صلى الله عليه وسلم . وقد وافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .
وصورة هذه الحالة : نـشوء مجموعةٍ من المسلمين لا تخضع أعمالُهـا للـقيادة في المدينة ، ومن ثَـمَّ فالقيادة غير مسؤولة قانونياً عن أفعالها . أي إنهم وإن كانوا مسلمين لكنهم ليسوا جزءاً من الأمة الإسلامية من ناحية قانونية واجتماعية ، فقانونياً لم يكونوا ملزمين ببنود صلح الحديبية ، واجتماعياً لم يكن المجتمع المسلم في المدينة قادراً ـ بحكم بنود الصلح ـ أن يمارس معهم قواعد التكافل الإسلامي بين المسلمين ، فلم يكن يصح أن يقدم أحد المسلمين لهم حتى كسرة خبز !
فما الحكاية :
كان هناك شاب مستضعف في مكة لإسلامه ، اسمه : عتبة بن أسيد بن جارية ، حليف بني زهرة ، كنيته وشهرته التي لن يعرفه الناس إلا بها : أبو بصير .
بعد صلح الحديبية فرَّ أبو بصير من مكة ، وقطع الصحراء على قدميه إلى المدينة وما إن وصلها ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد حتى دخل بعده رجلان من قريش تبعانه ليرجعانه ، وما إن دخلا حتى ذكَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهد ، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن سلم لهما أبا بصيـر رضي الله عنـه ، فـذهب معهما ، " وجعل المسلمون يُسرون إلى أبي بصير : يا أبا بصير أبشر فإن الله جاعل لك مخرجاً ، والرجل يكون خيراً من ألف رجل ، فافعل وافعل ، يأمرونه بالذين معه ..." وفي الطريق تمكن من قتل أحد الرجلين ، وهرب الآخر راجعاً إلى المدينة لائذاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحقه أبو بصير ومعه ما سلبه من الرجلين .
عرض أبو بصير خُمْسَ السلب على الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً :" إني إذا خمَّسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ، ولكن شأنك بسلب صاحبك ".
فقال أبو بصير رضي الله عنه ونفسه تتقطع أسى : يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك ... قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ... وقد امتنعت بنفسي ... فضمني إليكم .. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا " .. فصاح أبو بصير بأعلى صوته : يا رسول الله : أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : " ويل أمِّه ، مسعر حرب لو كان له رجال "
ثم أمره بالخروج من المدينة وقال : " اذهب حيث شئت "
... فذهب ونزل بالعيص ، وكان طريقَ أهل مكة إلى الشام " وبلغ المسلمين الذين قد حُـبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني فلم يستطيعوا ـ قولُ النبي صلى الله عيه وسلم لأبي بصير رضي الله عنه : " ويل أمه مسعر حرب لو كان له رجال " . فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير ....
" وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش " ...
فالتحقوا به رضي الله عنهم وجعلوا يقطعون الطريق على قوافل قريش ، فيسلبون ويقتـلون ... قال الراوي : " حتى أحرقوا قريشاً " .
فأرسلت قريشٌ للرسول عليه الصلاة والسلام يناشدونه الرحم أن : ضُمَّ إليك هؤلاء ولا حرج عليك!!
... وكان سهيلُ بن عمرو قد قال عندما بلغه قتـل أبي بصير لأحد الرجلين الذين وُكِّلا بإرجاعه : والله ما صالحنا محمداً على هذا "
فردت عليه قريش : قد بريء محمدٌ منه ، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق ... فما على محمد في هذا " .
.. وكان ممن لحق بأبي بصير أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما في قصة رائعة لا داعي لسردها ... المهم أنَّ هذين الرجلين أذاقا قريشاً الويل ، فكانا بحق أول حركة مقاومة في الإسلام رضي الله عنهما ، وصلى الله على رسول المقاومة ، البارع في إدارة الصراع آناء الحرب ، وآناء السلم ، وآناء المعاهدات ...
وقفات مع الوقائع :
أولاً : حديثنا هنا كما هو واضح عن جهاد الدفع ، أو عن حركات مقاومة العدوان والاستعمار .
ثانياً : الوضع الذي نتحدث عنه هو عندما يكون ولي الأمر القانوني ( الشرعي ) غائباً أو في حكم الغائب ! وهذا له حالات متعددة لا محل لذكرها الآن ... في مثل هذه الحالة يجوز لفئة من المسلمين أن ترفع لواء مقاومة المعتـدين أو الاستعمار بلغة العصر .
ثالثاً : وهذه أحب أن ينتبه لها المنبطحون ، أو الأغبياء الذين يقودون المفاوضات مع المحتـلين ... وهي كيف يدير المفاوض المحنك أدوات الضغط المتوفرة بين يديه ، وكيف يحرك أوراق اللعبة سواء كانت سياسية أو عسكرية دون أن يظهر بأنه يخالف أصول المفاوضات ..
وهذه لعبة استخدمتها كل حركات المقاومة قديماً وحديثاً ، ففي حين تكون المفاوضات قائمة ، تكون هناك فئات أخرى تقود حركة مقاومة على الأرض ، وتكون هذه الفئات خارج المساءلة القانونية داخل بلدها ، وخارج الملاحقة خارجياً لأنها حركة مقاومة ، وحركة المقاومة لا علاقة لها بالمفاوضات لأنها قامت من أجل هدف معين فلا تضع سلاحها قبل تحقيقه . وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد تحميل القيادة السياسية ـ إن وجدت ـ مسؤولية أفعال المقاومة .. لاحظ قول قريش لسهيل بن عمرو عندما أراد تحميل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد بريء محمد منه ... فما على محمد في هذا " .
ولكن لاحظ كيف أدار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصراع ، وهو المقيَّد بشروط الصلح ، فقد اشار لأبي بصير رضي الله عنه بتشكيل مقاومة بقوله : " ويل أمه مسعر حرب لو أن له رجال " ، وهذا ما فهمه الصحابة المسجونون في مكة والذين كانوا يريدون اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بنود الصلح وقفت حائلاً بينهم وبين ما يريدون .
" وبلغ المسلمين الذين قد حُـبسوا بمكة ، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني فلم يستطيعوا ـ قولُ النبي صلى الله عيه وسلم لأبي بصير رضي الله عنه : " ويل أمِّه مسعر حرب لو كان له رجال " . فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير ...
لقد فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم على الالتحاق بأبي بصير رضي الله عنه . وقد حثهم عمر رضي الله عنه على اللحاق بأبي بصير رضي الله عنه فهماً منه لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعاطفاً مع حركة المقاومة التي يقودها أبو بصير رضي الله عنه .
رابعاً : وهذه موجهة إلى حركات المقاومة التي دخلت لعبة السياسة قبل الأوان ، وانتقلت من المقاومة إلى الحكومة في ظل ظروف جيوش لا ظروف مقاومة ، فوقعت فيما لامت به الآخرين من قبل ، وأصبحت ـ أحياناً ـ تمارس دور حرس الحدود !!
من أكبر الخطأ أن تتحول حركة مقاومة من المقاومة إلى الحكومة ، أو أن تنتقل إلى طاولة المفاوضات قبل أن تحقق أهدافها .. إنها حينئذ تحكم على نفسها بالموت ، وتـقيد نفسها بيديها لأنها ستـنتـقـل من متحكِم إلى متحكم به ، ومن قوة مستـقلة إلى أداة في يد قوى إقليمية لا مصداقية لها محكومة بالمصالح لا بالمبادئ .
وهي أيضاً تفقد القاعدة الشعبية التي تدعمها ، وتشكل لها العمق في مقاومتها ، لأنها ستقسم الشارع تجاه موقفها الجديد ، بينما وهي في خط المقاومة ستعزل أعداء المقاومة شعبياً ...
لاحظ كيف تعاطفت الأمة في المدينة مع أبي بصير ، وكيف حثته وقوة من أزره " وجعل المسلمون يُسـرُّون إلى أبي بصير : يا أبا بصير أبشر فإنَّ الله جاعل ٌلك مخرجاً ، والرجل يكون خيراً من ألف رجل ، فافعل وافعل ، يأمرونه بالذين معه ..." يأمرونه بمن معه .. يعني أن يقتل الحارسين اللذين جاءا لإرجاعه إلى مكة ..
خامساً : وبهذا نعلم خطأ ما ذهب إليه أحد المشايخ وهو يتحدث عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم لحماس أبي بصير ! نعم هو ضبطه في اتجاه معين ، ولكنه وجه ذلك الحماس في اتجاه المقاومة ولم يقمعه ، بل أشار إليه ، وتدرع به ، ووظفه ورقة في إدارته الصراع مع قريش . وفي الوقت الذي رفض فيه أخذ الخمس حتى لا يحسب أبو بصير عليه ، قال له : اذهب حيث شئت ، وقال لأصحابه : " ويل أمه ، مسعر حرب لو أن له رجال .. "
ووافقه على أخذ سلب من الكافرين ، يعني أنه أجاز تصرفه ، ولم يقل بل أرجع السلب إلى أولياء المقتول ، ولم يقل سأدفع دية المقتول ، كما فعل عندما قتل أسامة رضي الله عنه ذلك الرجل في القصة المعروفة ، وهذا يعني :
ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤول عن تصرفات أسامة لأنه من رعايا الدولة ، والدولة مسؤولة عن تصرفات رعاياها ، بينما أبو بصير فليس كذلك ، فالدولة ليست مسؤولة عن أفعاله .
ـ أن ما يترتب على تصرف أسامة فمردود ، أما أبو بصير فما ترتب على فعله فقد أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني أنه صحيح .
ولم يحاول أن يتوسط لقريش لإيقاف أبي بصير ومن معه ، ولم يقم برفض حركة أبي بصير أو التشنيع عليها ، ووصفها بصفات السوء ... بل ترك الأمر بين حركة أبي بصير وبين قريش ، فقريش حاربت هؤلاء المستضعفين وهم يقومون بحقهم في الرد عليها ، وأنا لا علاقة لي بذلك ، فأنا محايد ، لكن حيادي لا يعني أن أعترض على من يطالب بحقه ، فهذا ليس من بنود الصلح ...
سادساً : وأقول لمن يحمل راية الجهاد في العالم الإسلامي ...
عليكم حصر المقاومة والجهاد ضد العدوان الخارجي ، حيث لا شبه ولا التباس ، وحيث الأمة تـقـف وراءكم دون حيرة وخلطٍ للأوراق ، وحيث العدو واضح لا يختلف عليه أحد..
وحيث من يخالف حركة المقاومة ضد الاستعمار يحرق نفسه كائناً من كان ، ولن يشفع له أي تاريخ كان قد صنعه ، لأنه عندئذ سيكون كمن يلعب بالنار ...
عليكم أن تبتعدوا عن الحرب داخل الأمة ، فالسلاح أعمى ، والمبالغة في فتوى التترس ليست من الفقه ، ومثلها المبالغة في الركون على أن من يقتـل من المسلمين فإنه سيلقى الله على نيته !
وعلى من استدرج إلى لعبة السياسة عليه أن يعود إلى ساحة المقاومة ، ويعيد ترتيب أوراقه كما كانت ، وليدع خوض المفاوضات للعملاء ، وابق أنت في خندق المقاومة ..
وبعد فهذا ما أمكن استنباطه من حركة أبي بصير رضي الله عنه ، أحببت تقديمه إلى من يقف على يمين الحركة ، ومن يقف على يسارها ، دفعني إليه ما يثيره بعض العلماء حول حركات المقاومة ، أسأل الله أن يثيب على الصواب ، وأن يتجاوز عن الخطأ ، والحمد لله رب العالمين .
* كاتب ومفكر إسلامي.
http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=7199&Itemid=1