تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تركيا ما بعد المجزرة...القوة الصاعدة



من هناك
06-08-2010, 07:53 PM
تغيرت تركيا كثيرا خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، لتتحول من دولة منهكة ذات اقتصاد ضعيف ونظام سياسي مضطرب يتبع السياسة الأمريكية ويتسول القبول الأوروبي إلى قوة إقليمية ترنوا وبخطوات واثقة وسياسات محسوبة إلى العالمية. حكومة أردوغان، والتي حققت أنجازا داخليا غير مسبوق منذ عقود بالفوز بأغلبية برلمانية ولمرتين متتاليتين، بعد أن عانت تركيا من حكومات إئتلافية غير مستقرة وشبح تهديدات الانقلابات العسكرية، تستند في إنجازاتها الكبيرة إلى مراعاة الإرادة الشعبية في خططها وخطواتها وإلى الأمانة والشفافية والتي يتمتع بها رموز تلك الحكومة وإلى فريق من العقليات الإستراتيجية الشابة والتي تساهم في صنع القرارات المدروسة بعقلية احترافية أبعد ما تكون عن الانفعالية والعاطفية والتي تستثمر الأوقات المناسبة لتسجيل نقاط جوهرية ولا تجد حرجا في المناورة والانسحاب حال تعاظمت الضغوط أو تبدلت الظروف.

الدهاء التركي يوظف التطورات السياسية إقليميا ودوليا لصالح تعميق نفوذ أنقرة كقوة إقليمية بطموحات كبيرة. فالخطوات التركية وإن بدت غاضبة فهي محسوبة بدقة وحرفية، كما إن إظهار ذلك الغضب يكون في ظروف لا يمكن للإطراف الدولية الأساسية من خلالها توجيه اللوم لإنقرة وإلا بدت تلك الأطراف في مواقف أخلاقية ضعيفة ومضطربة.

أنقرة ثأرت وبشكل دبلوماسي من موقف واشنطن السلبي من مبادرتها مع برازيليا في مسألة الملف الإيراني، فالموقف الأمريكي غير المحايد ولا المنصف من الإرهاب الصهيوني على قافلة الحرية في المياه الدولية شكل فرصة ذهبية للدبلوماسية التركية لتسجيل نقاط ومواقف حاسمة وإن كانت هادئة في المرمى الأمريكي. العتاب التركي العلني للإدارة الأمريكية على رد فعلها غير المناسب على مجزرة الحرية وحديث وزير الخارجية داوود أوغلو على أن الوقع النفسي لحادثة مرمرة على الأتراك أشبه ما يكون بما حصل للأمريكيين في سبتمبر 2001، دفع بإوباما للاتصال بأوردغان معزيا وداعيا إلى تحقيق منصف وشفاف.

كما إن موقف واشنطن المتضعضع في الشرق الأوسط وتراجعها في أفغانستان تجعل من الحليف التركي –النظام الديمقراطي الإسلامي الوحيد- ضرورة وحاجة ماسة للإدارة الأمريكية. يضاف إلى ذلك التعاطف الإسلامي الشعبي العارم مع الموقف التركي من قضية فلسطين والتي لها قدسية خاصة عند المسلمينمما يجعل أنقرة مرشحا هاما للعب دور قد يكون حاسم وقريب في الملف الأفغاني، هذه الأمور تجعل واشنطن أكثر صبرا وحلما في تعاملها مع الغضب التركي بل وتجاوبها معه بشكل أو بآخر.

تركيا في مواقفها السياسية المستندة إلى القيم الإنسانية ترد بعمق وإن كان بشكل غير مباشر على التسويف الأوربي لضمها للإتحاد الأوربي، فهاهي تركيا والتي كان ملفها في حقوق الإنسان يشكل عائقا أمام طموحاتها الأوربية، تجعل من هذه المسألة ركيزة سياسية عملية دونما ضجيج ولا صخب. كما إن علاقات تركيا العربية ووضعها الاقتصادي المتين في مواجهة انهيار اليوريو قد يقلب معادلتها مع الاتحاد الأوربي إلى النقيض, أي تصبح حاجة أوروبة لتركيا أكثر من حاجة أنقرة لها، خصوصا وأن تركيا تشكل نموذجا للإسلام الديمقراطي والذي يستطيع أن يتعايش مع الغرب بل وأن يمد الجسور شرقا وغربا في وقت تخوض فيه أوربة وعلى أكثر من صعيد صراعا وجدالا ونقاشا حول الهوية والتأثير الإسلامي عليها وما يتبعها كمسألة الحجاب والنقاب.

مواقف أنقرة الصلبة من تل أبيب والزخم الشعبي التركي الكبير الناقم على السياسات الإسرائيلية يصب في المحصلة وبطريقة هادئة ومنطقية في صالح الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية وبشكل لا يستفز العلمانيين، آخذين بالاعتبار أن المواقف الحكومية تتناغم مع المشاعر التركية الوطنية كما إن إلغاء زيارة أوردغان لبيونس آيرس على خلفية تمثال أتاتورك لا تعطي لغلاة العلمانيين فرصة المزاودة عليه من الوجهة الوطنية حتى بمقاييسهم المتطرفة. الموقف التركي الحازم من الدولة العبرية يأتي بعد سياسة تركية خارجية ناجحة في تصفير المشاكل وإنهاء الخصومات والتي كانت أخر محطاتها زيارة أوردغان لليونان. في الوقت الذي تواجه الدولة العبرية جبهات من العداء الناتجة عن سياساتها العدوانية، ترد أنقرة على التصعيد الإسرائيلي وهي تتمتع بصداقات وطيدة وعلاقات حسنة إقليميا ودوليا.

في ظل الغياب العربي والغيبوبة السياسية للعواصم عربية كبرى، تتسيد المسرح السياسي إلاقليمي ثلاث قوى: تركيا وإيران والدولة العبرية. إيران تعاني صراعات داخلية وينظر إلى طموحاتها بكثير من الشك والريبة من قطاعات عريضة خصوصا بعد دورها في العراق، فيما الدولة العبرية تدق طبول الحرب على إيران وتواجه عداءا شعبيا جرائمها سياساتها العدوانية وجرائمها في لبنان وفلسطين وغزة. وحدها تركيا كقوة إقليمية تحظى بشعبية عارمة وترتفع أعلامها في تظاهرات التأييد في عواصم عربية فيما تستند سياساتها إلى أخلاقيات رفيعة لا تكاد تميزها إقليميا فحسب، بل وحتى على المستوى الدولي والذي يعاني تعددا للمعايير ونفاقا صارخا.

ياسر سعد