تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الاحتكار بين الترجمة وعلوم اللغة والفقه والاقتصاد



من هناك
05-02-2010, 05:01 AM
الاحتكار بين الترجمة وعلوم اللغة والفقه والاقتصاد (http://www.almasrifiah.com/2010/01/01/article_327465.html)

د. صالح السلطان


في إحدى سنوات دراستي في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين طويلة، اخترت الكتابة عن الاحتكار وأحكامه في الفقه. كان مطلوبا من الطالب كتابة بحث (أو بالأحرى شبه بحث) قصير كل عام دراسي. المشرف أستاذ فقه، والمراجع فقهية، وكتابتي كلها كانت وفق المنهجية الفقهية: البدء بالتعريفات اللغوية والفقهية، ثم ذكر الآراء الفقهية مع أدلتها ثم المناقشة والترجيح. التعريف اللغوي يدور حول حبس سلعة تربصا لغلائها، وعلى هذا المعنى دار نقاش الفقهاء.
ثم شاء الله لي أن أدرس علم الاقتصاد. كان من ضمن ما درست في النظرية الاقتصادية الجزئية أنواع الأسواق، ومنها الاحتكارية. لفت انتباهي أن معنى الاحتكار في علم الاقتصاد لم يستند إلى المعنى اللغوي، كما تعودنا في دراسة الشريعة، بل يكتب بإزائه في بعض كتب الاقتصاد العلمية أحيانا الكلمة الإنجليزية monopoly، أي أن المقصود هو المعنى الذي تدل عليه الكلمة الإنجليزية. وما تدل عليه هذه الكلمة الأعجمية يختلف بعض الاختلاف عن المعنى اللغوي، وتبعا لذلك يختلف بعض الاختلاف عن معنى الاحتكار الذي يناقش في كتب فقهية.
الإشكال الأهم أنني وجدت بعض من كتبوا من المعاصرين عن أحكام الاحتكار، وجدتهم كتبوا مقارنين بين أحكام الاحتكار في الشريعة وعالم الاقتصاد المعاصر، مشيرين إلى أسبقية الإسلام في النهي عن الاحتكار، وكأنهم يتكلمون عن معنى متصور واحد. يقع الإنسان في حرج حين يسمع أن الاحتكار حرام، وفي الوقت نفسه يعرف أن بعض الخدمات محتكرة (بفتح الراء، وحسب المعنى الشائع لكلمة احتكار)، بتأييد من الاقتصاديين، وبقرار من السلطة. والمشكلة، إذن، ليست مجرد مشاحة في الاصطلاح.
من الله علي بدراسة علم الاقتصاد على مستوى الماجستير والدكتوراه، وتكشف لي مع مرور السنين أن مشكلة الترجمة تناولت عديدا من التعبيرات والمصطلحات. بل تبين لي أن للترجمة تأثيرا واضحا في صناعة كثير من الخلافات بين الفقهاء والمتخصصين في الاقتصاد، أي الذين درسوا وتعمقوا في علم الاقتصاد. بل كانت الترجمة أحد العوامل الأساسية وراء خلافات حول معنى ودلالة عبارة اقتصاد إسلامي، عبر تسببها في صناعة خلافات في التصور بين المتنازعين.
من المعروف أن دلالة كثير من الكلمات تتعرض عرفيا للتغير الكلي أو الجزئي مع مرور السنين. والمعاني التي نقرأها في معاجم اللغة المشهورة كلسان العرب، تعني المعاني والدلالات للألفاظ العربية عند العرب قبيل وعند ظهور الإسلام. وهي المعاني اللغوية، أي أنه عندما يقال المعنى اللغوي، فإن المقصود هو معنى الألفاظ العربية عند العرب آنذاك.
عندما جاء الإسلام جعل لبعض الكلمات العربية معاني شرعية (مثل الإيمان والكفر والصلاة والصيام والحج)، كما أعطى الفقهاء والأصوليون (علماء أصول الفقه) خلال القرون الأولى من ظهور الإسلام بعض الكلمات دلالات ومعاني محددة اصطلاحية، وهناك مناسبة قوية بين الأصل اللغوي والمعنى الشرعي والمعنى الاصطلاحي. وينبغي ألا يفهم من ذلك أن الفقهاء متفقون على التعريفات والدلالات، ولكن المعاني اللغوية للكلمات، معروفة بينهم، كما أنهم متفقون على جوهر المعنى، وإن اختلفوا في تفاصيله.
مقابل الصورة السابقة، شاعت في البلاد العربية كلمات ترجمة لمصطلحات وتعبيرات ذات معان محددة نبتت أو تطورت في الغرب. ومع مرور السنين وفي ظل هيمنة الحضارة الغربية، أصبحت تلك الكلمات تحمل في أذهان عموم الناس المعاني التي نبتت أو تطورت في الغرب، وتراجعت المعاني اللغوية للكلمات. بعض هذه الترجمات الشائعة المعاصرة جاءت اختيارا لكلمات معروفة لدى الفقهاء، لها معان ودلالات فقهية منذ القرن الأول الهجري. وهنا وقعت مشكلة اختلاط المفاهيم, أن يستعمل بعض المتخصصين في الفقه تعبيرات معاصرة شائعة الانتشار في القانون والاقتصاد والمال (وعلوم أخرى)، ويقصد بها أولئك المتخصصون معاني ليست هي بالضبط المعاني المقصودة لدى الاقتصاديين، والمهتمين بالشأن الاقتصادي (من غير علماء الدين) من رجال أعمال وصانعي قرار ونحوهم. وحدوث العكس واقع، وأقصد أن يستعمل المتخصصون في الاقتصاد كلمات متداولة في اللغة والفقه ويقصدون بها معاني حديثة، استفيدت من الغرب ليست هي بالضبط المتبادرة إٍلى فهم الفقهاء عبر مئات السنين.
وترتب على اختلاط المفاهيم أن أصدرت آراء وأحكام على تصرفات تحمل تسميات واحدة لدى الفقهاء ولدى الاقتصاديين، ولكنها مختلفة من حيث المعنى اختلافا كليا أو جزئيا، والسبب صعوبة الترجمة المطابقة. وصار الوضع عند كثيرين أن "العبرة بالألفاظ لا بالمعاني"، عكس ما كان يفترض.
وزاد الطين بلة كما يقولون كون بضاعة الفقهاء (المقصود عامتهم، ووجود استثناءات أو أقلية لا يخل بهذا العموم) بلغات ما يسمى بالعلوم العصرية (غالبا ما تكون الإنجليزية) ضعيفة، وبضاعة عامة الاقتصاديين بالكتب الفقهية (بالأخص القديمة) ومصطلحات الفقه ضعيفة.
طريقة الترجمة
غالبا ما تقوم ترجمة المفردات على تقريب المعنى، ذلك أنه في الغالب يصعب وأحيانا يتعذر الوصول إلى لفظ عربي يطابق المعنى الذي تدل عليه اللفظة الأعجمية، وأحيانا يحدث الأسوأ، بأن تختار ترجمة تسبب اللبس في الفهم. وهنا تنشأ غالبا مشكلة في التصور والفهم بالغة الأثر والتأثير.
واستطرادا، أشير إلى أن للتراجمة طريقين:
أحدهما أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات المراد ترجمتها، وما تدل عليه من المعنى فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة هي الشائعة، ولكنها رديئة لوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في أي لغة كلمات تقابل جميع كلمات اللغة المراد الترجمة منها. والثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرتها من لغة أخرى دائماً، وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني: أن يأتي الكلمة والجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بكلمات تطابق المعنى قدر الإمكان سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود، ولكن من النادر أن يستخدم لصعوبته وطوله، وندرة الموارد البشرية الحاذقة له.
معنى الاحتكار في اللغة
يقصد بالمعنى اللغوي معنى الكلام كما يفهمه العرب عند ظهور الإسلام. هذه نقطة قد يغفل عنها كثير من دارسي العلوم الحديثة كالاقتصاد.
كلمة احتكار في اللغة العربية مأخوذة من الحكر، ولها عدة معان، ويمكن التعرف على هذه المعاني بالرجوع إلى أحد معاجم اللغة المشهورة. إلا أنها إجمالا تتركز في إفادة حبس وادخار السلع، وخاصة الطعام، انتظارا للغلاء.
جاء في لسان العرب: "الحَكْرُ ادِّخارُ الطعام للتربص وصاحبُه مُحْتَكِرٌ ... الاحْتِكارُ جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسُه انْتِظارِ وقت الغَلاء بِه... وفي الحديث من احْتَكَرَ طعاماً فهو كذا أَي اشتراه وحبسه ليَقِلَّ فَيَغْلُوَ والحُكْرُ والحُكْرَةُ الاسم منه ومنه الحديث أَنه نهى عن الحُكْرَةِ...".
من التعريف اللغوي نعرف أن الحبس أو الادخار للسلعة ركن أو عنصر أساسي في المعنى، بحيث إذا خلا العمل من الحبس فإنه لا يسمى في اللغة احتكارا.
وتبعا لمعنى الاحتكار:
الحبس أو الادخار ينصب بطبيعته على السلعة ذاتها وليس سعرها.
الحبس أو الادخار يتناول سلعة موجودة مملوكة، أما المعدومة أصلا أو الموجودة لكنها غير مملوكة فلا يصلح أن نعتبرها محبوسة أو مدخرة.
الهدف تربص الغلاء. أما من يحبس لهدف آخر، فلا يسمى في اللغة محتكرا.
المحتكر يظن أو يتوقع حدوث الغلاء. والغلاء المتوقع حدوثه قد يكون بسبب الاحتكار، وقد لا يكون، كأن تكون السلعة موسمية ترتفع أسعارها وقت شحها حتى من دون ممارسة احتكار.
لا يسمى (في اللغة) محتكرا تاجر السلعة أو الخدمة التي ينفرد ببيعها (ويلحق بالمنفرد المهيمن على الحصة الكبرى من السوق)، ولا يحبسها عن طالبيها.
ومن باب الفائدة، يملك المنتج (وأقصد بالمنتج كل من يبيع أو يعرض أو يقدم بمقابل سلعة أو خدمة كالتاجر والمزارع والمؤجر والمصنع...إلخ) المنفرد أو المهيمن القدرة على أن يتحكم في السعر أو الكمية المعروضة، وليس الاثنين معا، كما هو معروف في التحليل الاقتصادي الجزئي. والتحكم في الكمية المعروضة يؤثر في سعر السوق، والعكس كذلك.
تطبيقات لغوية
هذه صور أو تطبيقات لإيضاح المعنى اللغوي للاحتكار الذي سبق توضيحه نظريا:
مزارع ينتج 1000 صاع بر، أو مصنع ينتج 10 أطنان صابون، ولنفترض انفراد كل منهما بالإنتاج، أي أنه لا يوجد منتجون غيره، أو أن إنتاج الآخرين كله ضئيل مقارنة بما ينتجه. هذا الانفراد لذاته لا يسمى في اللغة احتكارا، ومن ثم لا يسمى صاحبه محتكرا.
لدى تاجر أو مزارع 1000 صاع بر، أو لدى معمل تعبئة 1000 كيس طحين بر، وأسعار البر منخفضة فعرض للبيع نصف ما لديه، وادخر النصف الثاني انتظارا لوقت الغلاء. هذه العملية احتكار، والتاجر أو المزارع أو المعمل محتكر (بكسر الكاف)، بالمعنى اللغوي للاحتكار، بغض النظر عن حصة هذا التاجر أو المزارع في السوق.
مزارع أنتج 1000 صاع بر، وكانت تتوافر لديه الإمكانات لإنتاج 1500 صاع، لكنه لم يفعل لسبب ما. أو مصنع أنتج 10 أطنان صابون، وكانت لديه الإمكانات لإنتاج 15 طنا، ولكنه لم يفعل لسبب ما. هذا التصرف لذاته لا يسمى احتكارا، حيث لا يوجد أصلا سلعة محبوسة. وقد قلنا إنه يخرج من التعريف السلعة المعدومة، وهي الخمس مئة صاع، التي كان بإمكان المزارع إنتاجها، أو الخمسة أطنان صابون التي كان بإمكان المصنع إنتاجها.
مورد اشترى وجلب من مكان بعيد 1000 صاع بر، وكان بإمكان التاجر شراء وجلب 1500 صاع لكنه لم يفعل لسبب ما. هذا التصرف لذاته لا يسمى احتكارا، حيث قلنا إنه يخرج من التعريف السلعة المعدومة، وهي الخمس مئة صاع، رغم أنه كان بإمكان التاجر جلبها.
مورد اشترى من مكان بعيد 1500 صاع بر، وجلب منها 1000 صاع، ولم يجلب الباقي بل خزنه في مستودع ليجلبه لاحقا. هل يسمى تصرفه هذا في اللغة احتكارا؟ موضع نقاش.
مورد اشترى وجلب من بلاد بعيدة 1000 صاع من البر، وعرضها للبيع كلها. هذا التاجر هو الوحيد، فلا تاجر غيره يجلب برا، إلا أنه لا ذنب له في ألا يوجد غيره. ومن ثم فهذا التاجر ليس محتكرا، والتصرف ليس باحتكار. أما إذا سلك مسالك تعوق الآخرين من منافسته في الجلب فهل يعد عمله احتكارا (في اللغة)؟ موضع سؤال.
صناعي ينتج سلعة لا ينتجها غيره في البلد، أو أن ما ينتجه غيره ضئيل نسبة إلى القدر الذي ينتجه. وهو يتيح كل ما ينتج للبيع، أي أنه لا يحبس شيئا، ولكنه يتحكم بالسعر بما يراه محققا أعلى ربح له. هذا التاجر ليس محتكرا، والتصرف ليس باحتكار. ماذا لو سلك مسالك تعوق الصناعيين الآخرين من منافسته، وكأنه حبس الآخرين عن إنتاج ما ينافس سلعته. هل يسمى صنيعه (في اللغة) احتكارا؟ موضع نقاش.
حكومة توفر سلعة، وتمنع غيرها من توفيرها. وهي توفرها لكل من يطلبها (على الأقل من الناحية النظرية أو من ناحية القانون)، سواء بسعر (أو أجرة) مربحة، أو بسعر (أو أجرة) مدعوم أو حتى بدون مقابل. هذه الحكومة لا تعد (في اللغة) محتكرة، وإن كانت تعد محتكرة في عرف الناس.
معنى الاحتكار في الفقه
التعريف في الفقه يدور حول المعنى اللغوي حبس سلعة انتظارا لغلائها. ومن ثم فالنقاش في الفقه يتركز على التفاصيل في إطار المعنى اللغوي. مثلا ما الأشياء التي يجري فيها الاحتكار؟ وهل المنع في كل الظروف أو في ظروف بعينها؟ وهل المنع موجه إلى التجار فقط، أم يدخل فيه غيرهم؟
هذه الأمور موضع خلافات بين الفقهاء، ولن أتعرض لها. ومن يرغب في الاستزادة فله الرجوع إلى ما كتبه أهل الفقه عن أحكام الاحتكار.
تقليل المعروض بطرق غير الحبس
الاحتكار أو الحبس المنهي عنه يتناول محسوسا أي موجودا يصد عن السوق. هذه نقطة جوهرية.
لكن من الممكن أن توجد ممارسات غير الحبس لتقليل المعروض بهدف الإغلاء على الناس. وفرق هذه الممارسة عن الحبس أن الكلام هنا على سلعة لم تنتج أو ينوى ألا تنتج، والهدف في الحالتين الإغلاء. مثال ذلك تعمده تقليل إنتاجه، أو لجوئه إلى ممارسات تمنع الآخرين من منافسته بإنتاج المزيد يريد الإغلاء أو بقاء السعر مرتفعا في كل الأحوال.
كما أن الحد من المنافسة قد يأتي من السلطة، مثل عدم الترخيص لمنشآت إضافية، لمبررات تراها، ولكن يترتب على هذا الحد ارتفاع أسعار السلع التي توفرها المنشآت المرخصة، مقارنة بالأسعار المتوقعة لو رخص لمنشآت إضافية. كما أن السلطة قد تحصر على نفسها بيع سلعة أو تقديم خدمة من غير السلع العامة (السلع العامة المعروفة في علم الاقتصاد بـ public goods غير مقصودة هنا).
هل تحرم هذه الممارسات إذا كان الهدف الإغلاء ووقعت على ما يحتاج إليه الناس؟ مبدئيا، أظن أن الجواب نعم، مثلها مثل الحبس أو قياسا على الحبس. لكن ينبغي ألا ننسى أن الممارسات التجارية إجمالا تقوم أصلا على اغتنام الفرص لتحقيق ربح، ومن ثم فالأمر بحاجة على مزيد نظر وتمحيص.
في حالة تقليل الإنتاج، قد لا يكون هذا العمل ممنوعا شرعا، وقد يكون. وإذا كان ممنوعا، قد يجبر المقلل على البيع بسعر بعينه أي يطبق عليه التسعير. وفي هذا يقول ابن تيمية - رحمه الله: "والمقصود هنا أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك, ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب‏".‏ (قاعدة في الحسبة، كتاب الجهاد، الفتاوى).
ولا شك أن الشريعة تأمر بالعدل وجاءت لتحقيق مصالح العباد. ولكن تطبيق التسعير لتحقيق العدل قدر الإمكان وأعلى مصلحة للعباد يتطلب فهم قضايا مثل طبيعة الأسواق وكيف تعمل، وطبيعة وخصائص السلع ومكان الحاجة وأسباب الغلاء وكيف يسعر. وهي جوانب تخرج عن حدود وطبيعة البحث الفقهي، وبحثها في علوم أخرى كثيرة، تحت نطاق (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
صورة عكسية: تحديد السعر وليس الكم من السلعة
الاحتكار بمعناه اللغوي يترتب عليه خفض القدر المعروض من السلعة أمام الناس بهدف الإغلاء، وهذا معروف في قانون العرض والطلب، فتخفيض القدر المعروض يدفع السعر إلى الارتفاع. ولكن الممارسة قد تأخذ صورة عكسية. أي أن يحدد البائع (ويدخل في ذلك المزارع وكل منتج سلعة أو مقدم خدمة) سعرا مرتفعا للسلعة، ثم يتيحها لكل راغب في الشراء.
هذه الصورة العكسية لا ينطبق عليها لغة مسمى احتكار.
البيوع غير المشروعة أعم
كون تصرف بعينه لا يسمى احتكارا لا يعني أنه بالضرورة تصرف محمود أو أنه مقبول شرعا، فهناك بيوع منهي هنا لاعتبارات أخرى كثيرة غير الحكر.
معنى الاحتكار في العصر الحديث
ترد كلمة احتكار بكثرة في وسائل الإعلام ويتداولها الناس بكثرة في أحاديثهم. والمعنى المقصود المتبادر إلى أذهان الناس يتركز على الانفراد، وليس الحبس. فما مصدر هذا المعنى الشائع؟
المصدر الترجمة عن لغات أوروبا ذات الحضارة المهيمنة في عصرنا هذا. استخدمت كلمة "احتكار" ترجمة للكلمة الأعجمية "مونوبولي" monopoly. مثلا افتح المورد وهو قاموس إنجليزي ـ عربي مشهور. ستجد أن مونوبولي monopoly قد ترجمت إلى كلمة احتكار.
ما مدى دقة أو صحة هذه الترجمة؟
الكلمة مونوبولي monopoly في أحاديث من لغتهم الأم الإنجليزية (سواء كانوا من أهل الاقتصاد والتجارة أو لا) تعني الهيمنة التامة على توفير سلعة أو خدمة. هكذا يفهمون معناها في أحاديثهم وكلامهم فيما بينهم. وزيادة في التوضيح، فإن مونوبولي مشتقة جزئيا من mono، التي تعني مفردا وأحاديا.
جاء في قاموس اكسفورد المتقدم المشهور Oxford Advanced Learner's Dictionary ، الطبعة السابعة (2005):
mono- (also mon-) combining form (in nouns and adjectives) one; single: monorail, monogamy
الهيمنة التامة تتضمن الانفراد بتوفير سلعة أو خدمة. ويلحق بالانفراد تكتل قلة في توفير سلعة أو خدمة ما. وليس بلازم أن يكون هذا الانفراد خاصا بالقطاع الخاص، أو محصورا في السلع والخدمات التي يحصل عليها عن طريق السوق، بل كل سلعة أو خدمة ينفرد طرف بإنتاجها أي بتوفيرها، فإنها تعد محتكرة، والطرف المنتج يعد محتكرا. فمثلا، تعتبر الحكومة ممارسة للمونوبولي في توفير سلع و/أو خدمات بعينها، إذا كانت تمنع غيرها من توفير هذه السلع والخدمات. ولا يغير من التسمية كون الحكومة توفر تلك السلع بسعر رخيص لكل من يطلبها، بل حتى لو كانت مجانا.
وهناك سلع لا تنتجها حكومات، ولكنها تمتاز بأن تكلفة إنتاج الوحدة أو الحبة منها تنخفض، إذا كان المنتج واحدا، وترتفع تكلفة إنتاج الوحدة إذا كثر المنتجون. ومن ثم تعمد الحكومات إلى منح امتياز إنتاجها إلى منتج واحد. ففي هذه الحالة يسمى المنتج محتكرا حسب المعنى الشائع، رغم أنه لا يسمى كذلك حسب المعنى اللغوي، إلا إذا تعمد حبس بعض إنتاجه.
وأشير هنا إلى أنه حيثما وردت في بحثي هذا كلمة سلعة (أو سلع) وحدها، فإن المقصود كل من السلع (العينية) والخدمات، وهذا الأسلوب في الإطلاق عرف معمول به في كتب علم الاقتصاد.
لو قلت لمتحدث لغته الأم الإنجليزية إن كلمة مونوبولي تعني حبس سلعة انتظارا لغلائها لاعتبرك مخطئا في فهمك للكلمة. ولذا نفهم أن كلمة مونوبولي لا تطلق على حبس سلع (موجودة أصلا) انتظارا لغلائها، كأن تكون هناك سلعة يبيعها تجار كثيرون، ويعمد أحدهم إلى حبس كل أو بعض ما عنده انتظارا لشحها في السوق بعد أيام مثلا، ومن ثم يرتفع سعرها. ويبدو لي أن هذه الممارسة كانت شائعة في المجتمعات العربية وغير العربية قبل الثورة الصناعية، نظرا لبدائية وسائل النقل والتخزين والاتصال. وقد سبق القول إن هذا الحابس يسمى في اللغة العربية محتكرا. ومن باب الفائدة، فإن الاحتكار بمعنى الانفراد بطبيعته يعطي المنتج أو البائع المنفرد قدرة على التحكم في الكميات المنتجة أو الأسعار (وليس الاثنين معا).
جدت أمثلة مختلفة في عصرنا الحاضر، فمثلا، يمتنع أكثر الناس عن بيع ما بحوزتهم من أسهم إذا توقعوا ارتفاعا قريبا في أسعارها. هل يعد هؤلاء محتكرين بالمعنى الفقهي؟ وهل هو عمل محرم؟ أسئلة للنقاش.
كيف تطور الاحتكار بالمعنى الحديث الشائع وهو الانفراد؟
من الصعب القول إن الانفراد في بيع أو شراء سلعة من السلع هو عمل أو ممارسة عرفت فقط في العصر الحديث، أو عرفت في مجتمع دون مجتمع. ولكن من المؤكد أنه عمل لم يكن يمارس ِإلا على نطاق ضيق حجما ونوعا وتأثيرا قبل العصور الحديثة، وأعني بذلك قبل عصر الثورة الصناعية. ذلك لأن طبيعة اقتصادات ما قبل الصناعة لا تغري التجار، بصفة عامة، بالقيام بممارسات انفرادية أي احتكارية بالمعنى الشائع الآن لكلمة احتكار إلا في نطاق ضيق ومحدود. ذلك لأن قيام الممارسات الانفرادية (بغض النظر عن الرأي فيها وفي مشروعيتها) يتطلب في الغالب توافر أعمال وخدمات مثل التخزين والنقل والاتصالات، أكثر تطورا مما كان موجودا قبل الثورة الصناعية. وبالعكس، يغري عصر ما قبل الصناعة بممارسات الاحتكار بالمعنى اللغوي.
طبيعة الثورة الصناعية أو بتعبير أدق التوسع والتطور الصناعي في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ساعد بذاته على التوسع في ممارسة الانفراد أو نحوه كتكوين تكتلات في الاقتصاد. وبيان ذلك أن التطور الصناعي حفز منشآت إلى تكوين تكتل trust لتسهيل أعمالها وزيادة أرباحها تحت سلطة رقابية على الأصول assets تسمى مجالس الأمناء. وقد جنحت هذه التكتلات إلى التضييق على دخول المنافسين بهدف إبقاء الأسعار أعلى من الأسعار التنافسية، وهي عملية تسمى تقنيا "الممارسات السعرية غير العادلة". وقد تلجأ هذه التكتلات إلى خفض الأسعار دون التكلفة لفترة مؤقتة بغرض الإضرار بالمنافسين الصغار ومحاولة إجبارهم على الخروج من السوق.
الأحداث السابقة دفعت المشرعين في دول غربية إلى إصدار قوانين سميت antitrust التي تعني مكافحة التكتل والاحتكار. وبصفة أعم، طورت مجموعة واسعة جدا من التشريعات التي يعمل تطبيقها على حماية المستهلكين، وتصحيح تشوهات السوق، ومكافحة الممارسات المعطلة لقواه، وتناولت هذه التشريعات حتى حالات خفض السعر دون التكلفة، ويحدث هذا غالبا من الشركات الكبرى بهدف الإضرار بالمنشآت الصغيرة المنافسة للخروج من السوق. تسمى هذه القوانين أحيانا بقوانين مكافحة الاحتكار، من باب الخاص الذي يراد به العام، وقد أصبحت هذه القوانين، من كثرتها وتشعبها وتعقيدها، مثل البستان الضخم الذي نما من بذور بحجم قبضة اليد.
دراسة الاحتكار في علم الاقتصاد
تركز النظرية الاقتصادية الجزئية، أو ما يسمى أحيانا نظرية السعر، على دراسة تجريدية للأسواق، من حيث محاولة فهم كيفية عمل أسواق السلع والخدمات كما هي، بغض النظر عن مدحها أو ذمها. وهذه الدراسة تعطي اهتماما للتعرف على قوة المنافسة من عدمها. هذه المنافسة على درجات، فعلى أقصى طرف تقع السوق التنافسية الكاملة، وعلى أقصى الطرف الآخر تقع السوق الاحتكارية الكاملة، وبينهما أنواع من الأسواق.
من الصعب جدا عرض تفاصيل هنا، ومن يرغب فبإمكانه الرجوع إلى أحد كتب النظرية الاقتصادية الجزئية، التي تتفاوت كثيرا في عمقها وفي مدى اعتمادها على الشرح اللفظي أو الكمي الرياضي. وهنا ينبغي أن أشير إلى صعوبة فهم أساسيات تحليل عمل الأسواق في تلك الكتب بناء على القراءة الذاتية فقط، لأنها تتطلب أولا معرفة مفاهيم وأدوات في التحليل الاقتصادي، مثل التكلفة الحدية. وتتطلب ثانيا إلماما بمبادئ في الرياضيات والرسوم البيانية.
بين الحبس والانفراد
الحبس هو العنصر أو المعيار الأهم في التسمية "احتكار" وفق المعنى اللغوي والفقهي. أما حسب المعنى الشائع الآن فإن الانفراد (ويلحق به تكتل مجموعة) هو العنصر الأهم. قد يجتمع العنصران، وقد لا يجتمعان، وانفراد من دون حبس أو امتناع أو تقليل للإنتاج هو احتكار بالمعنى الشائع، وليس كذلك بالمعنى اللغوي والفقهي.
الاحتكار بمعنى الحبس لا يستلزم بالضرورة القدرة على التحكم في العرض أو السعر. إذ قد تكون السلعة المحبوسة عن السوق تمثل نسبة صغيرة جدا من العرض، ويكون المحتكر واحدا من مئات العارضين، وفي هذه الحالة لا يمكنه التحكم في السوق، وإنما يستفيد من ارتفاع السعر لاحقا لسبب ما، مثل أن تشح السلعة من السوق لأنها سلعة موسمية، وهذا لا ينفي عنه صفة الاحتكار بالمعنى اللغوي. وبالمقابل، قد يكون المنفرد متحكما في السعر (لا يمكن التحكم في السعر والعرض معا). ولكنه لا يحبس، مثل "مايكروسوفت" لنظام التشغيل "وندوز"، ومثل شركة الكهرباء، ومثل الإذاعة والتلفزيون قبل سنين حينما كانت الحكومة تنفرد بتقديم خدماتهما (ولا ينقض التسمية كون الخدمة مجانية). وقد يجمع بين الانفراد والحبس. الرسم يوضح هذه النقطة بلغة علوم الإحصاء والاقتصاد.
مكافحة الاحتكار (الانفراد) ليست خيرا في كل الأحوال
مكافحة الاحتكار أي الانفراد ليست خالية من العيوب في كل ظرف، فقد يرى أن الاحتكار أو التكتل يجلب، في حالات، تحسينا في الكفاءة الاقتصادية. وهناك أنشطة يرغب في كونها احتكارية، ويطلق على هذا النوع من الاحتكار في كتب الاقتصاد "الاحتكار الطبيعي natural monopoly. هذا الاحتكار يتميز بـ: 1 - إما بانخفاض تكلفة إنتاج الوحدة الواحدة عند إسناد الإنتاج إلى منشأة واحدة، وأشهر مثال شركة الكهرباء. 2 - وإما بكون طبيعة إنتاج عدد من المنتجات تجعل إنتاجها عن طريق منشأة واحدة أكثر كفاءة من إنتاجها بواسطة عدة منشآت، مثل خدمات النقل العام في إطار عمراني محدد.
الفشل السوقي وتشوهات السوق وكبح قوى السوق والتكتلات الاحتكارية، والسياسات التنظيمية للتعامل مع هذه الحالات، تدرس من وجهة التحليل الاقتصادي في الحقل التخصصي الاقتصاد الحكومي وتحليل السياسات العامة، وتدرس باستفاضة أكثر في الحقل التخصصي التنظيم الأعمالي industrial organization .