تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : توظيف الدين بين التجرد للحق وأهواء قطعان الجرذان والبق



أبو يونس العباسي
01-27-2010, 08:47 AM
توظيف الدين بين التجرد للحق وأهواء قطعان الجرذان والبق*


أبو يونس العباسي


الحمد الله على إنعامه المتصل الموفور , وحمدا له تقر به العيون وتنشرح به الصدور , حمدا يدوم على مر الليالي والدهور , وأشهد أن لا إله إلا الله , شهادة تضاعف لصاحبها الأجور , وتؤنسه عند الوحشة في ظلمات القبور , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , أرسله الله بكتابه النور , فمحى به خرافات الشرك ومظاهر الفجور , اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه أولي الفضل المشهور.


[توظيف الدين ... المقصود والمفهوم]


من الطبيعي قبل الحديث عن أي مفهوم التعريف به , وعليه فتوظيف الدين يقصد به : الطريقة التي يستخدمها الناس في الاستفادة من الدين والتعامل معه.


[العملية التي لا بد أن تسبق التوظيف الديني]


وقبل البدء بعملية توظيف الدين فلا بد من تفسير النص الديني وفهمه كما فهمه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه ومن سار على دربهم واقتفى نهجهم , وإني أظن أن جل الأخطاء في توظيف الدين ونصوصه إنما نتج بسبب فهم النصوص الدينية بعيدا عن فهم السلف ـ رضي الله عنهم ـ , كما ولا بد من أن نعلم أن فهم النصوص في محيط فهم السلف شيء دعت إليه نصوص الكتاب والسنة , قال الله تعالى مخاطبا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه:{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة : 137], وقال أيضا:{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 100] , وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ".


[أقسام الناس في توظيف الدين]


والناس في توظيفهم للدين ونصوصه على ثلاثة أنواع:


1ـ توظيف الدين في مرضاة الله ـ جل جلاله ـ.


2ـ توظيف الدين لأغراض دنيوية ولمآرب شخصية.


3ـ الإعراض بالكلية عن توظيف الدين أو بتعبير آخر "تجميد التوظيف".


[توظيف الدين في مرضاة رب العالمين]


ويمكننا أن نرصد عددا من مسالك الناس في توظيف الدين ونصوصه في مرضاة الله تعالى نذكر منها:


1ـ توظيف الدين في هداية الناس , وإرشادهم إلى ما يوصلهم لجنات ربهم ويبعدهم عن الجحيم والنار , قال الله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52].


2ـ توظيف الدين في التفريق بين الخير وأهله والشر وأهله والهدى وأهله والضلال وأهله والمعروف وأهله والمتلوف وأهله , قال الله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان : 1] , وما سمى القرآن فرقانا إلا أنه يفرق بين الأشياء ومنها ما ذكرته آنفا.


3ـ توظيف الدين ضد قوى الاستكبار في الأرض , كما كان الرسل ومن سار على دربهم يفعلون , قال الله تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزخرف : 46]


, وأخرج الحاكم في مستدركه من حديث جابر أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".


4ـ توظيف الدين في إدارة شؤون الناس والحكم بينهم , قال الله تعالى:{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء : 105] , حقا: إن رسالة الله في هذه الآية لكل مسلم :{ولا تكن للخائنين خصيما}.


5ـ توظيف الدين في نصرة مشروع التوحيد والجهاد العالمي , خاصة في هذا الوقت الذي تقاعس فيه الكثيرون عن نصرة هذا المشروع , إن لم نقل بأنهم هاجموه وعادوه وأعانوا أعداءه عليه بأقوالهم وأفعالهم , قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}[الأنفال] , وقال أيضا:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}[الأنفال].


6ـ توظيف الدين في تحريض الناس على الجهاد في سبيل الله ـ سبحانه وتعالى ـ , قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)}[الأنفال].


[توظيف الدين والمآرب الشخصية]


لو ذهبنا نبحث عن السر وراء توظيف الكثيرين للدين في غير مرضاة الله لوجدنا السر في ذلك والسبب الرئيس هو حب الدنيا والخلود إلى الأرض , وهذا ما دفع بلعام بن باعوراء والذي آتاه الله آياته أن ينسلخ منها , قال الله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) }[الأعراف] , وقال أيضا:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون (79)}[البقرة] إن الجري وراء الشهوات وحب الظهور وتبوأ المناصب هو دافع الفتاوى المعلبة وإصدار الأحكام المأجورة خدمة لطواغيت الحكم في العالم الإسلامي.


قال الشاعر:


عجبت لمبتاع للضلالة بالهدى *** ومن يشتري دنياه بالدين أعجب


وأعجب من هذين من باع دينه *** بدنيا سواه فهو من هذين أعجب


[توظيف الدين والخوف من جبروت أنظمة الجور ]


كثير من حملة العلم الذين كانوا أنصارا ورِفدا لدعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه "دعوة التوحيد والجهاد" إنما تحولوا حربا عليها ومتواطئين مع الطواغيت وموظفين للدين ضدها وضد أهلها , إنما كان ذلك بسبب الخوف من جبروت الأنظمة , وهروبا من الابتلاء , لقد طلب هؤلاء سلامة دنياهم بإيقاع الأذى بدينهم وإثخان الجراح به , قال الله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) }[الحج] , وقال أيضا:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}[العنكبوت] , فأين هؤلاء الحملة من سحرة فرعون بعد إيمانهم ؟!!! , قال الله تعالى:{ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) }[طه].


وهنا أذكر نفسي وإخواني وحملة العلم في هذه الأمة بهذه الأبيات الشعرية:


يا علماء الدين *** يا ملح البلد


من يصلح الملح *** إذا ما الملح فسد


[توظيف الدين بين المحكم والمتشابه]


وقبل الخوض في هذا العنوان سنقوم بتعريف كل من المحكم والمتشابه , والمحكم هو: ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى .


أما المتشابه فهو: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى.


وبمعنى آخر فالمتشابه هو: ما لا ينبئ ظاهره عن مراده.


وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.


وعليه: فإن عقيدة أهل السنة والجماعة في المحكم والمتشابه أنهم يردون المتشابه إلى المحكم فيصبح الكل محكما , وهكذا فهم قبل توظيف النصوص يردون المتشابه إلى المحكم , قال الله تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) }[آل عمران], بخلاف المنحرفين في توظيف نصوص الدين فهم يعتمدون على المتشابهات ويغفلون المحكمات , ويعتمدون على المفهوم ويتركون المنطوق , ويعتمدون على المحتمل ويتركون الصريح , ويعتمدون على الفرع ويتركون الأصل , ويعتمدون على المطلق مع وجود المقيد , ويعتمدون على العام مع وجود ما يخصصه , إنهم يعتمدون على الظنون والشكوك ويتركون الحقائق والثوابت التي لا مرية فيها , قال الله تعالى:{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }[يونس].


وأخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير يقول:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى أوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه)".


[توظيف الدين وإنزال نصوصه في غير ما وضعت له]


إن توظيف الدين وإنزال نصوصه في غير ما وضعت له من باب تلبيس الحق بالباطل والهدى بالضلال , ومن باب دس السم بالعسل , قال الله تعالى:{ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) }[البقرة], فلا يشك مسلم في أن النص القرآني وما صح في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق مطلق , ولكن الاستدلال بهذه النصوص على مواقف ووقائع وأحداث معينة قد يكون هو الباطل , وبمثل هذا انتفض الخوارج على علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فالخوارج رفعوا شعار"إن الحكم إلا لله" , فقال في هذا الخليفة الراشد الرابع:"كلمة حق يراد بها باطل".


ومن الأمثلة على الأخطاء في تنزيل النصوص: ما يكتبه البرلمانيون في واجهة مجلسهم الشركي التشريعي الوضعي:"وأمرهم شورى بينهم" , وفرق شاسع بين الشورى والتشريع لا يخفى عن إنسان حريص على تعلم التوحيد والعقيدة.


ومن الأمثلة أيضا:إنزال النصوص الواردة في أولياء أمور المسلمين أمثال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين على طواغيت الحكم في عالمنا الإسلامي , فأين الثرى من الثريا ؟!!! وأين البعر من حبات اللؤلؤ والمرجان؟!!!


ومن الأمثلة أيضا:إنزال النصوص الواردة في الخارجين عن جماعة المسلمين والتي تسير على ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه على المجاهدين على ثرى فلسطين والعراق والأفغان وباكستان والصومال وجزيرة العرب , أولئك الذين خرجوا على مناديب التحالف الصهيوصليبي وأذنابه وذيوله.


وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك: حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا .


فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال: وددت أنه لم يحدثه أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم .


قال ابن عرفة في التفسير : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة.(أ.هـ)


وهذه رسالة ربانية إلى الناس عامة وإلى حملة العلم خاصة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}[النساء].


قال الشاعر:


وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها


[تجميد التوظيف الديني]


وأقصد بتجميد التوظيف الديني صمت حملة العلم عن نصرة الدين الإسلامي الحنيف وأهله , ولقد أخذ العهد على حملة العلم أن يبينوه ويظهروه ولا يكتموه , قال الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }[البقرة] , وقال أيضا:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) }[آل عمران] , وأخرج أبو داوود في سننه من حديث أبي هريرة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ".


[فرعون والتوظيف الديني]


إن توظيف الدين ليس بقاصر في عصر دون عصر , فأهل الحق وظفوا الدين منذ بدء الخليقة وأهل الباطل كذلك وهذا فرعون يوظف مصطلحات الدين في محاربة الدين الذي جاء به موسى الكليم من عند رب العالمين , قال الله تعالى على لسان فرعون:{ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) }[غافر] , وقال أيضا:{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) }[القصص] , وقال أيضا:{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) }[غافر].


وقريش احتجت وبمصلحات دينية على عبادتها للأصنام , قال الله تعالى:{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}[الزمر].


وكعب بن الأشرف اليهودي استعمل انتسابه لأهل الكتاب بالإضافة إلى نصوص دينية في تفضيل دين الوثنيين على دين التوحيد الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ , قال الله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)}[النساء].


فما أكثر فراعنة هذا الزمان وذيولهم الذين يوظفون الدين لخدمة المشروع الصهيوصليبي الذي يحاد مشروع التوحيد والجهاد العالمي , حتى إن مؤسسة راند أوصت بدعم سلفية السلطان من المداخلة والجامية وغيرهم ... لأنهم الأقدر على الوقوف فكريا في وجه الحركات الإسلامية الموحدة , والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


[أهداف التوظيف الديني عند علماء السوء وغيرهم]


1ـ شرعنة الأنظمة وإضفاء صفة القدسية عليها , وذلك بوصفهم بولاة الأمر وتذكير الناس بحقوق هؤلاء الولاة .


2ـ القضاء على خصوم الدولة من ناحية دينية وذلك بإلصاق التهم الكاذبة بهم فتارة يصفونهم بالتكفيرين وتارة بالخوارج وتارة بالفئة الضالة وتارة بالانقلابيين وتارة بالإرهابيين.


3ـ الدفاع عن مواقف دولة الطاغوت وإصدار الفتاوى المعلبة في وجه المنتمين الصادقين لهذه الأمة المسلمة الموحدة .


4ـ ترويض الشعوب واستعباد عقول الشعوب لصالح نظام الطاغوت .


ونحن نقول تجاه كل هذه الأهداف والأدوار والإمكانيات ما قال الله جل في علاه:{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }[التوبة].


ونبرق لحملة العلم من مناصري أنظمة الجور هذه الآية أيضا:{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}[النساء].


[توظيف الدين بين الجزئية والشمول]


إن كثيرا من حملة العلم في هذه الأيام يوظفون الجانب العبادي والجانب الأخلاقي من الدين متناسين ومتغافلين عن الجوانب الأخرى مرسخين لفكرة العلمانية ومنهجها والتي تنص على فصل الدين عن الدولة , مع أنه من المعلوم بداهة أن الله أنزل القرآن والسنة ليوظفا كما يريد وفي جميع مناحي الحياة وجوانبها , فالدين الإسلامي دين كامل , قال الله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }[المائدة] , ولكن مع هذا نرى حملة العلم ممن ذكرنا يوظفون الدين أحيانا وفي غير الجانب العبادي والأخلاقي فيما يخدم الأنظمة الطاغوتية ضد خصومها وبتوجيهٍ منها أيضا , وهم بهذا أدوات في أيدي النظام يوجههم كيفما يريد.


فليحمد الله كل إنسان لا يتوجه إلا كما يريد الله وهو لا يخضع إلا لله في زمن كثرت فيه الأراجوزات والآليون الذين يتحركون بالتحكم عن بعد من قبل الطاغوت ومعاونيه.


[أمثلة على بعض القضايا التى وظف فيها الدين لخدمة الطاغوت]


1ـ تجويز الاستعانة بالكافرين لقتال المسلمين مع وضوح الأدلة المحرمة لذلك.


2ـ إصدار الفتاوى بعدم وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب مع وضوح الأدلة الصحيحة الآمرة بذلك.


3ـ إصدار الفتاوى بوجوب الإيفاء بالعهود والمواثيق للكافرين المعتدين مع وضوح الأدلة المحرمة لذلك.


4ـ إصدار الفتاوى بجواز السلام مع اليهود مع صراحة الأدلة المحرمة لذلك.


5ـ إصدار الفتاوى بمشروعية بناء الجدار الفولاذي مع بيان النصوص المحرمة لذلك.


6ـ إصدار الفتاوى بحرمة الجهاد حتى يأذن به أولو الفجر والخمر والكفر والعهر من الحكام الطواغيت.


وقد رد على جل هذه الدعاوى وغيرها أخونا الشيخ أحمد بوادي في مقالة له بعنوان: "توظيف النصوص ، بين دعاة الشهوات والفضائيات" , فليراجعها من شاء.


والحمد لله رب العالمين


*البق:حشرة تمتص دم الكائن الحي


حرر يوم الجمعة


بتاريخ 29 من محرم للعام 1431هـ
الموافق ل 15 من يناير للعام 2010م

أبو عقاب الشامي
01-28-2010, 08:23 AM
جزاكم الله خيرا على هذا الطرح
وزادنا واياكم علما وورعا وعملا صالحا متقبلا بإذن الله