تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : اغتيال العقول ولكن عبر ماذا؟!!



مقاوم
01-09-2010, 05:31 AM
اغتيال العقول ولكن عبر ماذا؟!!
كتب د. محمد محمد بدري*


http://qawim.net/images/stories/qanawati3lam.jpg


لقد أصبح " الإعلام المسموع ، والإعلام المرئي هما أكثر المسالك قوة في التأثير علي الرأي العام والتوجه لمختلف عناصره وفئاته .. الأول لأنه يصل إلي جميع الفئات ويدخل جميع وحدات المجتمع السياسي ، والثاني لأنه أكثر قوة وفاعلية في إحداث التغيير " ، واستطاعت تلك الوسائل المسموعة والمرئية أن تقتل الوعي النقدي في المشاهد ؛ ليصبح في حالة تلقي سلبي لكل ما يراه على الشاشة أو معظمه .. ومن ثم تعوّد على ألا يتعدي دوره المشاهدة ..

-------------------------

http://qawim.net/images/stories/logoqawim/_exb.pngقطعت وسائل الإعلام آماداً واسعة في اجتذاب النفوس وصياغة الأفكار ، وسط ميدان تكثر فيه ألاعيب السحرة ، وتغيب عنه عصا موسي .. يرتدي فيه مقدمو البرامج ملابس السحرة فيدمدمون ويسجعون و يحركون بيضة الإعلام المليئة ببقع تقديس الإستبداد الفاسدة التي تمنع الإخصاب الفكري ، وتقتل الإبداع قبل أن يولد .. وهم يتوسلون إلي ذلك بالصورة الساخرة التي هي أنكي من الكلمة الصريحة ، والتعليق اللاذع الذي هو أسرع من طعنة نافذة ، والمقال الذي يستغرق ربع عمود ليكون أجدى من كتاب مسهب ، ووضع الخبر في مكان ليزداد خطره عن مكان آخر ، وإبراز بعض الإحصاءات الميدانية لتحل محل حَبْك الأدلة النظرية .. كل ذلك من خلال واقع إعلامي فاسد يتناقض مع كل مبادىء الحرية ، وتسقط فيه وسائل الإعلام من فوق صهوة النزاهة ، لتتحول إلى وسائل بيد الطاغية تحقق مصالحه وتوصل إلي أهدافه .

لقد انحصرت اهتمامات العبيد وطموحاتهم فى التماعة القطع الزجاجية المصفوفة فى بيوتهم "الشاشات " ؛ وأوصلهم الافتتان بنقاوة الصور وسرعتها وزهوها لدرجة الأسر لسلطانها الذي يسلب العقل ميزانه ، ويفقده المقاييس التي تهديه سبيل الرشاد من خلال نعومة الحيلة الإعلامية في إدارة الإنسان .. وما يدعم هذه النعومة من خيوط الشبكة العنكبوتية التي توقع العبيد في أسر " الفأرة " التي يمسكون بها ، لا ليحصلوا على المعرفة .. وإنما ليقعوا فى أسر الشهوات .. والتى اًصبح تعبيد البشر من خلالها فناً كاملاً ، وعلماً وممارسة !!

لقد أمطرت سماء الإعلام المنظم الشرس الأرض بمعلومات خاطئة ، وأفكار أعمت الأبصار ، وأشغلت العقول بما لا ينفع ؛ ففقدت القدرة علي ربط الأفكار ربطاً صحيحاً ، ثم قام الإعلام باحتلال متدرج لمساحات صغيرة من العقل البشري ، ليصيبه بتوعك ثقافي عميق يؤذن ببدء علة لا شفاء منها ؛ حيث يجد الإنسان نفسه مستلباً لأفكار خاطئة لا يلبث أياماً بعد تبين خطئها ، حتى يجادل فيما قد تبين له من الحق .!!

وكلما تراجعت المؤسسات التعليمية ، والعائلية ، عن ممارسة سلطانها في تكوين الأفراد ومعارفهم وثقافاتهم وقيمهم ؛ تقدم الإعلام ليملأ هذا الفراغ ، وليصوغ حياة الإنسان وعالمه ومشاعره وأحاسيسه ، بل و عقله وأفكاره .. وليمارس ما يمكن أن نطلق عليه ..

السلطان العاري:

لا يستطيع الطاغية البقاء لفترات طويلة إلا إذا قام بعمليات تزييف لوعي المستعبَدين ، وإعادة تشكيل هذا الوعي ليقبل منظومة الاستبداد دون أن يحتاج إلي الإفراط في استخدام القمع الأمني الذي ـ ربما ـ يكلفه ثمناً سياسياً أو اجتماعياً كبيراً .. ومن ثم تُشكل أجهزة الإعلام الجناح الآخر لبقاء الطاغية ، وبخاصة في المجتمعات التي لا تملك عقلية نقدية تزن بها الأمور ؛ فيقوم الإعلام الموجه بدور كبير في تسهيل عمليات الإيحاء والاستلاب والاستهواء لأفراد تلك المجتمعات " وكأن الإعلام هنا يقوم بالدور الذي قام به من قبل سحرة فرعون ، فهم يسحرون أعين الناس ، ويزيفون وعيهم ، ويحتلون إدراكهم ، ويوجهونه لخدمة مصالح الطاغية الذي يستغل أدواته المؤثرة في صياغة الرأي العام وصناعته ، والتأثير في خيارات الناخب وتوجهاته من خلال الإلحاح والتزييف ، وتسليط الأضواء علي أشياء بعينها ، وإطفاء الأضواء في مناطق ومساحات أخري بهدف خلق الصورة المطلوبة لتزييف الوعي وتوجيه الإدارة .

ولا ينجو من هذا التأثير إلا قلة من الذين يحتفظون بقدرتهم على الرؤية من خارج إطار القطيع ، ولديهم القدرة علي الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشويه أو تزييف ، ولديهم القدرة علي التفكير النقدي (1) وتنبيه الجماهير الساذجة المخدوعة . ولهذا يتعرض هؤلاء لمصاعب كثيرة خاصة في النظم الاستبدادية فتلفق لهم القضايا ويزج بهم في السجون ويستبعدون من مواقع التأثير " (2)

و "وفقاً لهذه الرؤية لدور الإعلام ، فإن دوره يقتصر على بث وجهة نظر المسئولين . وبما أن هذا هو الوضع ، فإن أصحاب السلطة أحرار في فعل ما يرضيهم ، وسوف يتم إخبار الشعب ما يعتقد ذوو النفوذ أنه الصواب ، أو الخطأ ، الأمر الجيد أو السيئ، دون أي تمحيص عقلاني ، وبتجاهل كل الآراء الأخرى باعتبار أنها غير ذات صلة." (3)

وهكذا يمارس الإعلام في مجتمع العبيد السيطرة الكلية على القناعات ، ويؤدي بالجموع إلى الإنقياد غير الواعي لرسائل المصدر الإعلامي (4) من خلال حرب عقلية تمارسها المؤسسات الثقافية التي ينفق عليها المبالغ الطائلة ؛ لإنتاج طرق التفكير والنظر التي تؤسس للإستبداد ، وإقصاء وجهات النظر وصور الخطاب المخالفة ، للوصول إلي طمس الحقائق واختلاق البدائل ، وتزيينها في أعين الناس الذين يفقدهم الفقر الزاحف عليهم القدرة علي الرؤية ، فضلاً عن الوعي النقدي !!

ويقف المرء عاجزاً عن الاستيعاب عندما يراقب حالة الذهول والاستلاب التي يعاني منها الأطفال والكبار أمام شاشات التلفاز .. ويعجب لتعاظم " دور الإعلام إلى درجة باتت فيها الشاشة فى وظائفها المرئية المسموعة ، واللامتناهية قادرة على نقل الأفكار ، وترسيخها ، لتجعل من مسألة عابرة ، قاعدة ثابتة ، ومن نجم رياضي أسطورة تتخطى قوتها الأفكار والعقول ، ومن سياسي سارق ، مثالاً فى الأخلاق ، ومن بغيّ محترفة ، عالماً من المثل والطهارة . " (5) ؛ فنجد الجميع يتحدثون عن الصغار على أنهم هم الكبار الأبطال ، و نجد الأبطال الحقيقيين قد تحولوا بفعل التشويه الماكر إلى خائنين .. كل ذلك من خلال " لغة التلفاز .. تلك اللغة التي تختزل في اللحظة ذاتها كلاً من الماضي والحاضر ، موحية بأن ما لم يحدث بعد قد فات ومرَّ بالفعل . أضف إلى ذلك قدرتها على توليد تنويع في القضايا التي تتناولها في نشرات الأخبار دون السماح بالحد الأدنى من الوقت اللازم للتأمل في هذه المصفوفة السريعة الموضوعات . فمن أخبار مسابقة " ملكات الجمال .. " ، إلى زلزال هناك .. ومن فضيحة بنك بسبب رجال البنك الذين لا ضمير لهم ، لننتقل بسرعة إلى صدام قطار في مكان ما من الأرض .. ليذوب الوقت ، ويصبح الأمس هو اليوم ، ونتخيل أن الغد جاء بالفعل ..!! " (6)

لقد أصبح " الإعلام المسموع ، والإعلام المرئي هما أكثر المسالك قوة في التأثير علي الرأي العام والتوجه لمختلف عناصره وفئاته .. الأول لأنه يصل إلي جميع الفئات ويدخل جميع وحدات المجتمع السياسي ، والثاني لأنه أكثر قوة وفاعلية في إحداث التغيير " (7) ، واستطاعت تلك الوسائل المسموعة والمرئية أن تقتل الوعي النقدي في المشاهد ؛ ليصبح في حالة تلقي سلبي لكل ما يراه علي الشاشة أو معظمه .. ومن ثم تعوّد علي ألا يتعدي دوره المشاهدة .. فهو يري كل يوم في نشرات الأخبار من يقتلون أو يدمرون أو يزورون ، وهو لا يبرح مكانه أمام الشاشة وفي غرفة نومه ؛ فتتكون لديه عادة الاكتفاء بالمشاهدة ، وفي أقصي تقدير التحسر علي ما يحدث والدعاء علي من يفعلون والغضب ممن يسكتون .. وفقط ..!!

وهكذا .. صوت .. صورة .. عبارة .. أسلوب .. عناصر إعلامية أخرى .. الخبر الصادق بجانب مائة كذبة .. الكل في خدمة الإقناع بلا مضمون .. و " محاولة الظهور بالشكل المنطقي .. كما حاول أبو جهل أن يبدو في غزوة بدر حين قال : " اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ".

.. أو محاولة الظهور بمظهر الإنسانية .. كما قال عقبة بن معيط في الإسلام : " فرق الناس ، وخرّب الديار ، وجعل الولد يقتل والده "

.. أو محاولة أن يكون ما يقال متناسباً مع العقلية البشرية .. ومؤتمر دار الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب .." نقول كاهن .. ليس بزمزمة الكهان .. نقول مجنون .. ليس بخننق الجنون .. نقول شاعر .. ليس بالشعر ولا سجعه .. ثم اتفقوا على أن يقولوا : سحر ، قائلين : إنه يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته ".

.. ولا بد مع كل ذلك من الأسلوب المؤثر السهل ، و العبارة التي تخرج من الفم ليتلقفها الجميع ، فتصبح على جميع الألسنة .. وعبد الله بن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي ، وهذه العبارة من عباراته " سمّن كلبك يأكلك "

ويمكننا أن نرى هذه الأساليب مجتمعة حين يكون الحدث إسلامياً حيث :

التهوين من شأن الحدث : مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي ( صلى الله عليه وسلم) من فوق جبل مكة : تباً لك طول يومك ، ألهذا جمعتنا ؟ ، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه " طول يومك " ، الأمر الذي لا يستحق الجمع " ألهذا جمعتنا " .

قطع الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي : الذي تم فيه الحدث حتى لا يكون لهؤلاء الأفراد أي امتداد اجتماعي .. مثلما قال عروة بن مسعود لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : جئت بأوشاب الناس لتفض بيضتك ، حتى أفهمه ابن أخيه أنهم ليسوا أوشاباً ، وكان يلبس المغفر على وجهه ، فضرب يد عمه وقال له : اخفض يدك عن لحية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أخيك ..

إعلان أنهم ليسوا على شيء : مثلما استشار المشركون اليهود في أمر الدعوة ، فأخبرهم اليهود أن المشركين أفضل من المسلمين ، وكما قال القرآن على لسان اليهود في المشركين : " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً " النساء 51

المزايدة على أصحاب الدعوة : مثلما زايد المشركون على المسلمين لسقاية البيت وعمارة المسجد الحرام ، فأنزل الله عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر " التوبة 19 " (8)

و على ذات الطريق .. يسير الإعلام الكاذب ؛ فيغدو المستعبَدون قطيعاً مستمِعاً ، وقافلة عمياء ضلت طريق الرشاد ؛ فتاهت في مسارب الأكاذيب والأوهام .. تلك المسارب التي ما أن يسلم الإنسان نفسه لدروبها الضيقة حتي يتحول عقله إلي عقل مستعبَد ليس له حضور إلا في سفاسف الأمور ..!!

فإذا تبقي للإنسان بعضاً من الوعي بعد كل هذا المكر بالليل والنهار ؛ فإنه يتم تخديره بواسطة الفن بكل أنواعه وأشكاله ، و الألعاب الرياضية والاستعراضات الشعبية .. بل وعوامل الترفيه والتسلية والاستجمام التي تعمل على استبقاء الاستبداد من خلال فن الدعاية الذي يشبه إلى حد كبير " التنويم المغناطيسي " .. أو السحر الذي يخيّل للمشاهد أن ما يراه ثعباناً .. بينما هو فى الواقع حبلاً ..!!

وخذ مثالاً علي ذلك ..

" أول عملية دعاية حديثة ، والتي تمت في إدارة الرئيس الأمريكي ويلسون ، فقد كان هذا الرئيس قد انتخب في عام 1916 تحت شعار " سلام بدون انتصار " . وكان الشعب الأمريكي يومها يميل إلى الهدوء ، ولا يرى سبباً للتورط في حرب أوربية ..

وقد التزمت إدارة ويلسون فعلاً بالحرب ، وكان من الضروري أن تفعل شيئاً تجاهها ؛ فأسست لجنة دعاية حكومية أطلق عليه لجنة " كريل " التي نجحت في غضون ستة شهور أن تقلب الشعب الأمريكي ذا النزعة إلى الهدوء واللاعنف إلى شعب هستيري يتاجر بالحرب ويروّج لها ، ويريد تدمير كلّ شيء ألماني ، وتمزيق ألمانياً إرباً إرباً ، ويطالبون بدخول الحرب لإنقاذ العالم .. " (9) .. وذلك من خلال تخويفهم وإرهابهم واختلاق قدر كبير من الأعمال الوحشية التي ارتكبها الألمان ، ومن خلال صور الأطفال البلجيكيين الذين مُزقت أذرعهم ، ومن خلال كلّ أنواع الترويع التي ما زال المرء يقرؤها في كتب التاريخ ..!!

وهكذا .. يرفع شيطان الإعلام ضغطه إلى درجة عالية ؛ فيضطر البعض إلى تقديم القرابين رُعباً منه أو تَقَرباً إليه ..!! وكأن هذه الضغوط المختلفة الدرجات هي خطوات الشيطان التي يخطوها في بسط سلطانه على أتباعه .. خطوات متتابعة ، كلها حلقات آخذ بعضها برقاب بعض ..

ولكن الأمر ليس بيد شيطان الإعلام ، ولا بيد أحد .. إنه بيد من يقدّر الأشياء تقديراً ؛ فتسير الذرة ويسير الجبل حسب تقديره .. وكيد الإعلام مهما بلغ هو كيد ضعيف .. { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء : 76 ]. .. وسلطانه هو " السلطان العاري " الذي لا يتمكن إلا ممن لا يعرفون سنّة الخلاص من مكائده ، فيقابلون ضعفه بالبلاهة والغفلة عن طرقه الملتوية ، التي يلبّس بها الأمر عليهم، فيظهر لهم في كل مرة بلون ؛ ليحولهم إلي ضحايا غرق الحقيقة في بحر الهراء والتفاهات من خلال.

صناعة الأكاذيب:

" إذا كانت النقطة الدموية الحمراء فى البيضة تدل على فسادها ، فكيف الأمر إذا كان داخل البيضة كلها أحمر اللون ؟ وهل لنا أن ننظر إلى الإعلام اليوم من هذه الزاوية .. أم أن الإعلام أبيض ناصع ، والنقطة الحمراء الفاسدة جزء صغير هامشي ، لا يؤثر فى سلامة الإخصاب والابداع فى رسالته العظيمة ؟

أليس من تلك النقطة الحمراء " تقديس " الطاغية ، وتبرئته عن الأخطاء ؟.. أليس منها تضليل البشر ، والتغطية على كل فساد ، بل وإفساد الحاضر والمستقبل معاً .." (10)

إنها نقط حمراء كثيرة يحويها " خطاب إعلامي مزدوج و مزيف ، يروج للأكاذيب ، و يمدح و يهلل لكل صاحب سلطة و يمجد فيه و ربما يقدسه ، و يلمع أنصاف الموهوبين و يفرضهم علي الناس ، و يصنع نجوماً و قيادات من ورق و يسوّقها للجماهير المخدوعة بالبريق الإعلامي و الإلحاح المتكرر " (11) ، و إزاحة حواسّ المتفرج ، وإلغاء الاستقلالية والحيادية لتلك الحواسّ ، والوقوف فى وسط الطريق بين الإدراك بالرؤية بالعين والسمع بالأذن والتعبير باللسان ، وحتى فى استخدام العقل بحكمة وموضوعية ، والاستعاضة عن ذلك بسديم ضبابي يخدّر الحواس جميعاً ، ويمنحها متعة سريعة طارئة وزائلة فى الوقت ذاته ..

وهكذا .. وسط هذا الضباب الكثيف ، يتم تزييف الواقع " تحت عناوين مختلفة ، هي في حقيقتها تكبيل لحريّة الكلمة ، وتعطيل لفعلها الإيجابي ، والأخطر من ذلك " تعيين " المكلفين بمراقبة الحقيقة وتخويلهم صلاحيات سجنها فى أقفاص زجاجية ، لصياغة نمط آخر من أشكال فرض السيطرة المسبقة ، والتلاعب عن قصد بالحقائق ، وإبدال الواقع بغيره " (12) ونشر قيّم طاعة أولى الأمر .. الزهد في الحياة .. القناعة بـ " ضآلة الأجور " .. الوفاء لـ " أولياء النعمة " .. و بذل الحياة في الدفاع عنهم ..!! بينما يستمتع المتسلطون بقيم الجشع والنهب والربح المتزايد ، والإفراط في كل المتع التي حرّموها على المستعبدين !!

ولأن الإنسان المستعبَد مهموم بتفاصيل حياته اليومية ، فإنه لا يملك الوقت لمتابعة ما يقدم له واكتشاف الحقائق " فيكون أمر مرور تلك الأكاذيب يسيراً ، وغير قابل للفضيحة والانكشاف . وحتى إذا اكتشفت الأكاذيب ، فإن سيل الأخبار ، والأمطار السوداء التى تسقط يومياً من غرف إعداد البرامج الترفيهية ، على رأس المشاهد ، تجعله مغموراً بسيل عارم من دوامة عدم التركيز ، بل عدم الاهتمام . وتأخذ الموسمية دورها حيث تتصاعد الاهتمامات حول قضية ما ، ثم تختفي فجأة لتحل بدلاً منها أخرى " (13)

إن الإعلام يثير حماس المستعبَدين لمدة أسابيع متواصلة من خلال حدث ما ، وأنباء منطقة بعينها ، ويعرض عليهم الصور ذاتها مرات ومرات ، وينفعل المستعبَدون بما يحدث هنا أو هناك .. وفجأة ، يختفي ذلك وتسدل عليه ستائر النسيان لتحل محله صور أخرى وأخبار أخرى ، حتي يصبح الأمر مجرد صور !! .. صور تمحو صورًا ، صور للأخيار وصور للأشرار .. يبدلها التلفاز حتى لا يصبح مملاً ، وتنتهي أهمية القضية حين يتوقف التلفاز عن معالجتها .. !! لتبدأ مرحلة جديدة من ..

الإلهاء والاحتواء:

تشير الأم بإصبعها إلي سقف الحجرة ، وتقول لطفلها : هل ترى العصفورة ؟ .. وتبدأ الأم في نقل إصبعها يميناً ويساراً .. هل ترى العصفورة ؟ .. والطفل مشغول بمتابعة إشارات أمّه ، ويحاول أن يرى العصفورة كثيرة الحركة .. وبعد دقائق ينام الطفل ..!!

قد يرى البعض أن هذه لعبة بريئة تعتمد علي أن الطفل يسهل تشتيت انتباهه بسرعة وبسهولة .." إلا أن المدهش في هذه الأيام أن هذه اللعبة أصبحت تمارس مع شعوب بأكملها ، والمدهش أكثر أنك تري عدداً كبيراً من كبار المفكرين ورؤساء تحرير بعض الصحف يجولون بأعينهم في كل الاتجاهات بحثاً عن العصفورة المجهولة " (14) ... وما زلنا نري تلك العصافير تملأ صفحات الجرائد وشاشات التلفاز والكومبيوتر ، وكل عصفورة تحمل عنواناً مثيراً فهذه عصفورة الختان ، وتلك عصفورة جواز التدخين في نهار رمضان .. إلي آخر تلك العصافير التي تملأ زقزقاتها آذاننا ، وتتبعها أعيننا في كل مكان ؛ فلا ندري أين نحن ؟ ولماذا جئنا إلي هنا ؟ وأين نذهب ؟ وماذا نريد ؟!!

إننا كثيراً ما نقع ضحايا لعبة " الإلهاء والاحتواء " .. تلك اللعبة التي تبدأ " بافتراض الغفلة والسذاجة لدي الضحية ، ثم محاولة جذب انتباهه عن مشكلته الأصلية إلي شيء أقل أهمية لكنه أكثر إثارة ، وبما أن الضحية يفترض فيه ضعف الذاكرة ، وتشتت الانتباه ، وعدم وضوح واستقرار الهدف الأصلي ، لذلك يتوقع القائمون علي اللعبة أنه سينسي وينشغل بوسيلة الإلهاء .. وإذا لم يتأكد هذا الاحتمال فإن الضحية يحتاج إلي عملية " استهواء " وهي أكثر تعقيداً وإبهاراً من الإلهاء فهي تستدعي مقالات وندوات ولقاءات تليفزيونية ومنتديات علي الانترنت ورسائل علي البريد الالكتروني .. ، كما يحتاج أصحاب اللعبة إلي شخصيات لها صفة السحر من رجال السياسة أو رجال الدين أو رجال الإعلام أو نجوم الفن أو لاعبي الكرة ، ويقوم هؤلاء بتمرير ما يريد أصحاب اللعبة للضحايا المستهدفين دون أن يشعروا أو يتألموا أو ينتبهوا ..!!

وإذا لم تفلح عملية الاستهواء يتم اللجوء إلي " الإغواء " .. وهي عملية تحتاج لرشوة الضحايا ، والرشوة هنا إما أن تكون مالية " مكافآت أو إكراميات أو علاوات أو انتدابات أو سفريات " ، أو وظيفية " تعيينات أو ترقيات " ، أو اجتماعية " تلميعات وصناعة نجوم " ، أو سياسية " مناصب حزبية أو تسهيلات انتخابية " .... وإذا نجحت كل الخطوات السابقة تكون النتيجة في النهاية هي " الاحتواء " حيث يجلس الضحايا في حجر القائمين باللعبة ، أو يرتمون في أحضانهم ، أو يغطون في نوم عميق " (15) .. بينما تتم الصفقة أو العملية ، أو تمر الكارثة ..!!
ثم تقوم تلك الوسائل باختلاس كل ما يملك من وعي في صورة تصل إلي ..

إحتلال العقول:

إننا في بعض الأحيان ، نقرأ خبراً بعنوان " القبض علي الخائن العميل " .. ويكون المقبوض عليه من أهل الحق والخير والدين .. ثم بعد أسبوع نجد في نفس الصحيفة ثلاثة أسطر في مكان غير ظاهر تتدارك الأمر بشكل مائع لا يزيل شبهة الخيانة والعمالة التي أثارتها الصحيفة في عناوينها الرئيسة قبل ذلك ..وكأنما اليد التي حررت هذا التدارك هي ذات اليد التي حررت تلك العناوين ..

وفي أحيان أخري ، نري صحيفة من الصحف تجزيء مقالاً إلي نصفين " فتنشر النصف الأول ، ثم لا تنشر النصف الثاني إلا بعد أسابيع ، أي عندما لا يبقي أثر ما نشر في الأول في الأذهان ، ولا يبقي للقارئ فرصة يشعر معها بوحدة الموضوع ويدرك معناه في حدودها ، وحتي تفوت بالتالي ، علي القارئ الفائدة التوجيهية التي قدرها صاحب المقالة هدفاً لمقالته .. " (16)

ويصل الإعلام إلي قمة البراعة في احتلال العقول حين يقوم بتسريب الأخبار " في لحظة معينة بحيث يؤدي إلي رد فعل ما كان يمكن أن يحدث لو نشر ذلك الخبر في لحظة أخري .. كأن يعرض ـ مثلاً ـ فضيحة معينة عن قائد في لحظة يخرج فيها ذلك الزعيم أو القائد بخطبة خطيرة تدعو إلي التضحيات أو ما في حكمها ..!! " (17)

إن من يقرأ في ملفات الصراع ، ومذكرات الجاسوسية ، لن تغيب عنه حقيقة " إن الإعلام يتصرف في طاقاتنا الاجتماعية لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة ، وأدرك منها مواطن الضعف ، فسخرنا لما يريد ، كصورايخ موجهة ، يصيب بها من يشاء ، ثم يحتال لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها ، وأقلاماً يكتب بها ، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه ، يسخرنا له ، بعلمه ، وجهلنا !! " (18)

ومن هنا فقد مست الحاجة أن نتساءل دائماً : " كيف " يخنق الطاغية أصحاب الأفكار ؟ .. وكيف يحتل عالم الأفكار ؟ .. " كيف " وليس " لماذا " ؛ لأننا قد نعلم ـ أحياناً ـ السبب الذي يدفع الطاغية لاحتلال عالم الأفكار ، دون أن نعرف " كيف " يقوم بذلك ؟!!

إن " كل مناسبة جديدة تكشف لنا عن وسائل جديدة ، وعن خطة مجددة ، وعن شباك محدثة ، كأن الطاغية لا يريد أن يترك لخصومه أن يدخلوا معركة اليوم ، بما تزودوا به لمعركة الأمس ، فوسائله تتنوع حسب الظروف ، وطبقاً للمناسبات ، و هو لا يحافظ إلا علي المبادئ الأساسية التي يطبقها في كل مناسبة وفي أية ظروف .

وعليه فتكون محاولة جنونية ، لو هدفنا في هذا العرض إلي أن نضع قائمة إحصائية للوسائل التي يستخدمها ، وللخطط التي يطبقها ..!!

إننا نعيش تحت احتلال جديد ، احتلال غريب بالنسبة للإنسان .. هو احتلال العقول الذي يتخذ صوراً مختلفة ، مباشرة .. بتحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة وسوقها إلى الضلال والانحراف .. و غير مباشرة .. بإلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية الفرعية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية الكبيرة (19) .. وسيبقي صراع الطغاة لاحتلال العقول يغشاه الظلام الذي يغشي الحقائق ، التي لم نهضمها من خلال التجربة ، ولم تصل بعد إلي إدراكنا ، ما دمنا نفتقد ..

الوعي النقدي:

إن الإنسان يستطيع أن يتحمل قدراً بعينه من " الضغط الفكري " المنهال عليه عبر وسائل الإعلام ، ثم يفقد القدرة علي أن يتبين الأشياء والمفاهيم ليصل في النهاية إلي " متوسط فكري" ردئ ، وعن يمين و شمال من هذا المتوسط الفكري الردئ تنمو " تيارات فكرية " و تحاول أن تشق طريقها إلي أفئدة المأسورين بسلاسل هذا المتوسط الفكري الردئ ، وهي لا تملك من وسائل هذا الإعلام إلا نذراً قليلاً ؛ فتتخذ بعض هذه التيارات لنفسها طريق العزلة الفكرية حيث تقطع نفسها عن تيار الإعلام العام صحافة وإذاعة وتليفزيون .. فلا يقرأون الصحف ، ولا يستمعون الأخبار ..!!
وهو اختيار يبدو سهلاً في تطبيقه ، ولكن آثاره علي الذين يتخذونه غالباً ما تكون مدمرة للغاية ، وخاصة عندما تختلف الأسس الفكرية بين التيارات الجانبية وبين المتوسط الفكري السائد اختلافاً مبيناً. فالبيئة الفكرية في مجتمع تطبع أفراده بطابعها الخاص ، وتهيمن عليها هيمنة ظاهرة وباطنة ، ولا يمكن إلغاء آثارها في النفس بمجرد الاعتزال سخطاً علي المتوسط الفكري السائد ورغبة في فكر أرقي وأسمي .. !! " (20) .. بل إن هذا الاعتزال يحقق للطاغية هدفه في عزل المعارضين عزلاً ثقافياً يشعر الفرد معه أنه " وحيد " فيما يشعر به وما يحسه ، وبذا تنعكس آراؤه ضده ؛ لأنه سيظل يعتقد أن الناس جميعهم موافقون وراضون باستثنائه هو " بمفرده " ، وربما انتكس علي نفسه باللوم والسخط . (21)

إن البديل الأفضل لهذا الاعتزال هو بذل الجهد الطويل الأمد على المستوى الاجتماعي ، والقيام بعملية توعية علي المستوي الفردي ، للقضاء على مكامن التخلف النفسي التى تمكن وسائل الإعلام من أن تفعل فعلها بشكل خفي من خلال ما تعرضه علينا من آراء ومباديء وقيم تؤكد حياة العبودية ، في نهر " الأخبار والحوادث " ، و من خلال أحداث مثيرة للحس لها قوة تأثير في النفس ، من غير نظر إلى علاقتها بالأحداث الأخرى التي تجعل لها دلالتها ومعناها . فهي إنما تسترعي الذين يحبون الأشياء نيئة ، فالأخبار العادية عن مقتل فلان أو فلان ، وعن أوكار الغرام وغيرها – كلها من هذا القبيل – مع مزيد من الحدة المصطنعة والمبالغة المتكلفة باستعمال ألوان غير عادية ، وحجوم كبيرة غير مألوفة من الخطوط وحروف الطباعة " (22)، وألاعيب أخري كثيرة تتغير كل يوم تمشياً مع قاعدة أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى ، و أن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو يفقد صلاحية استعماله ضد هذا العدو .

لقد كنت وأنا طالب في الجامعة أطالع صحف المعارضة .. وكنت أتعجب من أن معظم تلك الصحف تُظهر " الفساد الصغير " للسكوت عن " الفساد الكبير " ..!! ولكن تجربة ربع قرن علمتني كيف أتعرف علي حقيقة شيء من هذا القبيل ؟ .. وأدرك أين تصنع ولماذا تصنع هذه البضاعة ؟ ولماذا يُصر من يصنعها ألا يضع عليها خاتمه ؟ .. ولماذا يبقي مختفياً ولا يظهر في معركة اغتيال العقول ؟!!

ولا أزعم أن ما تخطه يدي هنا هو رأس الحكمة وفصل الخطاب ، وإنما هي مجرد تلميحات توقظ النائم، ولا تزعج المستيقظ .. وتدعو الجميع أن يحاولوا قراءة ما بين السطور ، ليصلوا إلي الفكرة الصحيحة عن حقائق الصراع من أجل اغتيال العقول .. تلك الحقائق التي " لا يملك النطق بها إلا من واراه التراب ، وتحصنت أقواله بالموت ، فهناك أقوال لا تقال في كل الظروف ، ومن ثم يحاول الإنسان التوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام .. ويأمل أن يجد القاريء في أقواله ما يلفت نظره إلي واقع الصراع ، ثم يفتح عينيه لكي يري بنفسه أمارات هذا الصراع قائمة حوله ، وربما يستطيع أن يستخلص من الوقائع المعروضة لنظره ، نتائج لم تلفت انتباه المؤلف ، أو أغفلها عمداً خلال هذا العرض ، احتياطاً من التطويل " (23)

* باحث وكاتب إسلامي مصري.

"حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"

الهوامش:

(1) تكشف الأنظمة الاستبدادية بسرعة فائقة الأغبياء وغير المؤهلين والخائفين ؛ فتساندهم وتشجعهم ..
(2) علم النفس السياسي ـ د . محمد المهدي ـ ص 131 – 133 بتصرف يسير .
(3) حراس السلطة ـ أسطورة وسائل الإعلام الليبرالية ـ دافيد إدواردز، دافيد كرومويل ـ ص 87 ، 88 بتصرف يسير .
(4) خذ مثالاً على ذلك تسليم أكثر الناس بمصداقية أخبار وتقارير هيئة الإذاعة البريطانية ، حتى أصبح ما تقوله تلك الإذاعة هو الصحيح مطلقاً دون غيره من الأخبار ؟!!!
(5) الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ص 352 ، 353 .
(6) تربية الحرية – الأخلاق ، الديمقراطية ، الشجاعة المدنية – باولو فريري ـ ص 180 بتصرف يسير .
(7) مقدمة في نظرية الرأي العام ـ د . حامد عبد الله ربيع ـ ص 247 .
(8) التصور السياسي للحركة الإسلامية – رفاعي سرور ـ ص 112 ، 113 بتصرف يسير .
(9) هيمنة الإعلام – الإنجازات المذهلة للدعاية – نعوم تشومسكي ـ ص 11 بتصرف يسير .
(10) الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ص 335 بتصرف يسير .
(11) الشخصية المصرية ـ د. محمد عبد الفتاح المهدي ـ ص 25 .
(12) الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ص 319 . بتصرف يسير .
(13) المصدر السابق ـ ص 333 .
(14) علم النفس السياسي ـ د. محمد المهدي ـ ص 304 .
(15) المصدر السابق ـ ص 279 ـ 300 .
(16) المصدر السابق ـ ص 101 .
(17) ) مقدمة في نظرية الرأي العام د. حامد عبد الله ربيع ـ ص 113 .
(18) شروط النهضة – مالك بن نبي – ص 155 بتصرف يسير .
(19) كإلهاء المسلمين بالمطالبة بالرغيف عن المطالبة بهدم نظام الاستبداد ، أو إلهائهم بالمطالبة بجعل يوم الجمعة عطلة رسمية لصرفهم عن المطالبة بالشريعة الإسلامية كمنهاج حياة للمجتمع .
(20) مقدمات في البعث الحضاري - د. سيد دسوقي حسن ـ ص 20 ـ 22 بتصرف .
(21) راجع إن شئت ما قاله نعوم تشومسكي عن " صناعة الإجماع " في الفصل الأول " في دنيا العبيد " .
(22) الحرية والثقافة – جون ديوي – ترجمة . أمين مرسي قنديل ـ ص 61 .
(23) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ مالك بن نبي ـ ص ص 133، 134 بتصرف يسير .