تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المفكر الإسلامي د. عبد العظيم الديب (رحمه الله) في حوار مع "قاوم"



مقاوم
01-08-2010, 04:51 AM
المفكر الإسلامي د. عبد العظيم الديب (رحمه الله) في حوار مع "قاوم"
كتب أ. رضا عبد الودود*


07/01/2010


http://qawim.net/images/stories/hiwardeeb01.jpg

خصَّ موقع "قاوم" فضيلة الشيخ الدكتور عبد العظيم الديب بلقاء ماتع، وقد آلمنا ما سمعناه من خبر وفاته صباح يوم الأربعاء 6/1/2010م في مستشفى حمد بالعاصمة القطريَّة الدوحة بعد معاناة طويلة مع مرض ألمَّ به، وقد أصيب الشيخ بوعكة صحية نتيجة جلطة في قدمه أدخل على إثرها المستشفى، وتم إجراء عملية جراحية له الثلاثاء قبل أن تصعد روحه إلى بارئها صباح يوم الأربعاء، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بقدر مسمَّى.

-------------------------

http://qawim.net/images/stories/logoqawim/_exb.pngفإلى تفاصيل الحوار الذي تحدَّث فيه الأستاذ رضا عبد الودود مع فضيلة الشيخ الدكتور الراحل عبد العظيم الديب ـ رحمه الله تعالى ـ

نهضة الأمة تبدأ بإعادة تنقية تاريخنا من تشوهات الاستشراق والعلمانيين

مقدِّمة الحوار:

لاشك أن ما تحياه أمتنا الإسلامية في الفترة الأخيرة من أزمات وتراجعات على الأصعدة كافة ناتج طبيعي لتنكبها عن طريق الله المرسوم منذ 1400 عام، وبالعودة للجذور التاريخية لمسارات الأمة الحضارية يتأكد للمتابع أن الاحتكام للعقيدة والشريعة الإسلامية كان أساس نهضة الأمة وريادتها, ولكن حقائق كثيرة تعرضت للتشويه وثوابت أصيلة نالها الطعن، وتجنى عليها الأبناء قبل الأعداء.. فماذا نحن فاعلون؟

للإجابة عن هذا السؤال كان لنا هذا الحوار مع الدكتور عبد العظيم محمود الديب, أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر في محاولة لقراءة تطورات الواقع ومسارات المستقبل في ضوء تجارب وخبرات الماضي...


http://qawim.net/images/stories/aadeeb01.jpg

ولعل مكانة د. الديب العلمية في مجال التاريخي الإسلامي ودراسته في ضوء الفقه والعلوم الشرعية فقد أهَّلته ليكون واحدا من أبرز المهتمين بتاريخ الأمة الإسلامية؛ إذ حقق جميع أعمال إمام الحرمين الجويني في نحو (21) مجلداً, علاوة علي كتاباته التاريخية والفقهية التي تحرر الكثير من المغالطات والشبهات التي تُثار حول الفكر الإسلامي.. فكتب (المستشرقون والتاريخ الإسلامي - المستشرقون والتراث - جنوب السودان وصناعة التآمر ضد ديار الإسلام - لغة القرآن ماذا يراد بها - التبعية الثقافية - الغزالي وأصول الفقه - العقل عند الأصوليين- علم اختلاف الفقهاء - القوميات.. ما وراءها - الحوار والتعددية في الفكر الإسلامي - جمع السنة وتصنيفها بواسطة الحاسب الآلي - الكمبيوتر حافظ عصرنا...) ...استعرضنا معه منهج كتابة التاريخ ومحاولات التشوية الذي تعرض لها تاريخنا الاسلامي وغيرها من القضايا محل النقاش.... وكان سؤالنا الاول مع فضيلته:

س1) في البداية ما رأيك في المطروح من الكتابة التاريخية الآن؟

ج1) صورة التاريخ الإسلامي في أذهان الأمة الإسلامية عامتها ومثقفيها وعلمائها ودعاتها (ولا أستثني إلا من رحم ربك) صورة مشوهة بمعنى أنها ممزقة, وعبارة عن نتف ومزق, لا تكوّن صورة كاملة ذات معالم وملامح ناطقة بل هي مزق متنافرة تعطي إحساساً بالنفور من التاريخ, بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها تكوّن عاطفة كراهية لدى الكثيرين. ودلائل ذلك كثيرة عندي وتحت يدي, فكثير من العلماء والدعاة والمثقفين تصدر منهم عبارات وجمل تلقي باللوم والتقريع على تاريخنا وتحمله مسؤولية ما نحن فيه من انحدار وضياع وانبطاح.

فمثلا حينما يكتب أستاذ جليل لا أتهمه في علم ولا دين ولا خلق كتاباً عن مناهج الفكر في الإسلام ويقول في مقدمته «وفي الأمويين جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء..» الخ. ويكتب كاتب إسلامي عن معركة جوهر دوداييف المناضل الشيشاني مع يلتسين وما أصاب مدينة جروزني فيقول: «رأيت الجحيم ومظاهر القيامة في جروزني.. وقد تقمّص يلتسين قميص يزيد بن معاوية بامتياز»...

فهذه الأمثلة تشهد بدورها على ألسنة المثقفين والعلماء والإسلاميين بأنهم يكادون - حيث لا يشعرون - يبرّرون هذه الجرائم التي نعيشها. فإذا كان هذا قد حدث في فجر تاريخنا في القرن الأول خير القرون. فما بالكم تشكون وتستنكرون أن يحصل لكم هذا الآن?

ومن مظاهر التشويه أيضاً أنك لا تجد داعية إسلاميًا يحاضر أو يخطب يستدعي من التاريخ أو يستظهر إلا بعهد عمر، وكأن الأمة المسلمة انقرضت بعد عهد عمر بن الخطاب وتبدلت خلقاً آخر. إلا القليل يعود إلى عهد عمر بن عبدالعزيز.

س2) لكن كيف بدأ تشويه التاريخ الإسلامي؟ ومتى؟

ج2) في الحقيقة إن استدعاء التاريخ دائما ظاهرة صحية؛ لأن النماذج الواقعية أكثر تأثيراً من النظريات والوصايا والعظات, ولكن غُيّب عنا تاريخنا منذ زمن ما سُمّي بعصر النهضة, أعتقد أنه لم يكن يوجد درس خاص في مناهج التعليم قبل ما يُسمّى عصر النهضة, ولم يكن يوجد ما يُسمّى درس التاريخ, فكان هناك التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلوم الحديث والفقه والأصول والأدب والشعر واللغة والنحو وعلوم البلاغة, بل وعلم اختراق الآفاق (الجغرافيا) وعلم الهيئة (الفلك) وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) والكيمياء.. الخ. أما التاريخ فكان يُقرأ في كتب الإخباريين، وكانت أول محاولة لوضع فلسفة التاريخ وكتابته هي مقدمة ابن خلدون في القرن التاسع الهجري, لكن منذ بدء تأسيس المدارس على النمط الغربي وبدأت دروس خاصة بالتاريخ، وُضعت مناهج نُسّقت وبُوّبت بعناية بحيث تعطي نفوراً، وتعطي صورة ممزقة للتاريخ الإسلامي، ثم ساعد على ذلك أيضاً وسائل أخري من وسائل التثقيف مثل المقال والمسرحية والتمثيليات، ووسائل الإعلام كلها.

الاستشراق:

س3) من خلال قراءة كتب التاريخ, نلمح العديد من آثار كتابات المستشرقين الذين مثلوا المراجع الأساسية لكثير من مفكرينا وكتابنا.. فماذا عن دور الاستشراق في هذه المسألة؟

ج3) المشكلة الحقيقية في كتابة التاريخ أنه يُكتب في إطار فكرة, ويثار على أنه أحداث تنتهي إلى غاية, وفي البداية كان التاريخ يُكتب على أنه حوليّات أو خطط.. أي أن المعيار الذي يمسك وقائع التاريخ لم يكن متعلقاً بالفكرة نفسها, وإنما بذكر الأخبار والأحداث دون تحليل أو تفسير مثلما فعل الطبري, وكُتّاب الطبقات, وكان التاريخ مجرد تدوين للأحداث وتنشيط للذاكرة...



عندما جئنا نكتب تاريخنا الحديث كان يمكن أن يتحول إلى غائي ولكننا استُعمرنا فكرياً


وعندما جئنا نكتب تاريخنا الحديث كان يمكن أن يتحول التاريخ إلى غائي, ولكننا استُعمرنا فكرياً وحدث أمران: سيطرة المنظور العلماني على التاريخ الحديث, وسيطرة الاستشراق على التاريخ الإسلامي. فالاستشراق حكم على التاريخ عند كتابته بروحين, بوصفه موضوعياً وليس علمانياً, فالمستشرق يحكّم عقله, وعقله إما عقل نصراني لا يفهم الإسلام, ومن ثم يفصل بين الدين والدنيا, ولا يستطيع أن يوصل بين الاثنين ليفهم الظاهرة الإسلامية في واقعها المعاش. كما أن العقل العلماني يحكم على الدين بوصفه بيئة للتخلف, فمن ثمّ الدين الإسلام - في نظره متخلف لا يعتد به, وبهاتين النظرتين لا نستطيع إيجاد صيغة منضبطة للتاريخ» هكذا صيغت الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.

ومن هنا وجدنا مثلاً كل من قرأ وكتب وجلس على مقعد الدرس يعرف ويحفظ عن ظهر قلب موقعة الجمل وصفين والتحكيم وكربلاء ومقتل الحسين, على حين لو سألت خريجاً في كلية الآداب قسم التاريخ عن معركة (ملاذ كرد) أو عن (جلال الدين منكبرتي) أشك أن تجده يعرف حتى الاسم، وهذه من ضمن المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام, وبالمثل لو سألت حتى المتخصصين في التاريخ الإسلامي عن عدد الغزوات التي حاول الغرب فيها الوصول إلى مكة والمدينة والهجوم على الحرمين الشريفين لا تجد خبراً. فمن الذي وضع هذه الصفحة في بؤرة الشعور وطوى تلك الصفحة?!



القضاء على النموذج العملي الناجح لتطبيق الإسلام... أخطر آثار تشويه التاريخ


حرق الصفحات المضيئة:

س4) وما أهم انعكاسات تشويه تاريخنا على واقعنا المعاصر؟

ج4) إن أخطر الآثار لهذا التشويه هو القضاء على النموذج العلمي الناجح لتطبيق الإسلام, فمعلوم أن المبادئ لا تظهر صلاحيتها وتثبت جدواها إلا بالتطبيق العمليّ, فكم من فلسفات ومشاريع حينما تُقرأ تجدها مُعجبة رائعة, لكن عند التطبيق تفشل فشلاً ذريعاً مثل الماركسية مثلاً. فحينما تشوّه صورة التاريخ الإسلامي فمعناها عجز الإسلام عن النجاح في التطبيق، وعدم قدرة المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية على النهوض بالأمم وصياغتها. وهذا هو الحادث في ثقافتنا الآن, فتجد الدعاة حينما يسألون كيف ستكون الدولة الإسلامية وإلام تدعوننا? ويواجهون بالصور الشوهاء من التاريخ الإسلامي, تجد الدعاة لا يجدون جواباً, بل يقولون: "ندعوكم إلى ما في كتاب الله, وإلى ما صحّ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالتاريخ لا يحكم على الإسلام, وتصرفات المسلمين لا تحكم على الإسلام, بل الإسلام هو الذي يحكم علينا".

فيجيب المعاندون قائلين: «إذا فشل وعجز الجيل الأول من الصحابة والتابعين عن تطبيق الإسلام فهل تنجحون أنتم». وهذه هي حجج العلمانيين أمثال : فرج فودة وسعيد العشماوي ورفعت السعيد, وغيرهم من العلمانيين، ويظل الإسلام مشروعًا نظريًا غير مطبق, ولذلك حينما يدعو الرأسماليون إلى مناهجهم يقدّمون أمريكا نموذجاً, وحينما يدعو الليبراليون والعلمانيون إلى مناهجهم يقدمون أوروبا نموذجاً, وكان الشيوعيون يقدمون الاتحاد السوفيتي نموذجاً, أما الإسلاميون فيُقال لهم: إلى أي إسلام تدعون: إلى إسلام الأمويين الذين هُدمت الكعبة في عهدهم واستبيحت المدينة وقُتل الحسين, أم إلى إسلام العباسيين ومسرور السياف ومباذل هارون الرشيد وأبي نواس (بالرغم من أن أبو نواس لم يلتق بهارون الرشيد نهائياً), أم إلى إسلام الأتراك واستبدادهم وجهلهم, أم إلى إسلام المماليك وفظائعهم, أم إلى إسلام النميري؟



لولا المشاعر والعواطف السيئة نحو التاريخ الإسلامي لاستطعنا أن نطوّر نظم تعليمنا ومؤسساتنا الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والإدارية من داخل ثقافتنا وبناءً على واقعنا


ومن مظاهر هذا التشويه أيضاً أننا أصبحنا نتحدث عن التقدم والتطور والتنمية وليس أمامنا إلا النموذج الغربي وأقصى ما يمكن للإسلاميين أنهم يريدونه لابسًا عمامة الإسلام, أما التقدم والتطور والتنمية بناءً على واقعنا وفلسفتنا، وبما لدينا انبعاثاً من واقعنا وماضينا فهذا غير وارد؛ إذ تحول صورة التاريخ الشوهاء دونه. فلولا المشاعر والعواطف السيئة نحو التاريخ الإسلامي لاستطعنا أن نطوّر نظم تعليمنا ومؤسساتنا الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والإدارية من داخل ثقافتنا وبناءً على واقعنا.

س5) وكيف يقرأ جيلنا الحالي التاريخ الإسلامي؟

ج5) أولاً يجب أن نعلم أن الذاكرة التاريخية للأمة هي التي تحميها من الانهيار وأمة بدون تاريخ مثل شخص فقد الذاكرة تماماً, ونحن للأسف ذاكرتنا التاريخية مشوّهة, ولذلك لا نحسن استدعاء التاريخ، ولا نحسن الاستفادة منه في حماية الحاضر وتحقيق الأمل في المستقبل؛ فالتاريخ في حقيقته هو علم الحاضر والمستقبل. ونحن نحاول أن نلجأ إلى التاريخ مع أننا في الواقع نهمل التاريخ, ولم نستطع حتى هذه اللحظة أن نخضع دورتنا الحضارية لدراسة علمية كاملة تتحفظ أولاً على أهواء المؤرخين, ثم تحقق الحدث وتسلكه في سياقه التاريخي وتستخلص منه العبرة والعظة. نحن لم نفعل هذا للآن، وهذا هو أحد الشروط الغائبة لنهضتنا.

وفي قراءتنا للتاريخ ينبغي أن نعلم أن التاريخ هو صورة للعهود والحقب الماضية, وهذه الصورة تكون صادقة كلما كانت واضحة القسمات بيّنة السّمات, ونستطيع أن نشبه هذا بالصورة الفوتوغرافية التي تُقدّم لجوازات السفر والبطاقة الشخصية, فهذه الصورة تكون صادقة حينما تقدم الملامح على حقيقتها بشكلها وبحجمها الطبيعي, وليس (الكاريكاتيري) وهذه الصورة هي التي تُستخدم وتدل على صاحبها وحقيقته والتحقّق من هويته غالباً. وهناك صورة أخرى تستخرجها أجهزة المخابرات للجواسيس وأعداء الأمة, فتدقّق في الملامح والأنف والجبهة والشعر محاولة البحث عن آثار تغيير وتزييف الشخصيات. وهناك صورة ثالثة تصوّر الأحشاء من الداخل حينما يحتاجها الطبيب.

فهكذا التاريخ نصوّر الحقب التاريخية صورة طبيعية تبين أبرز الملامح بحجمها الطبيعي ويكتفي بها عامة المثقفين والباحثين, أما الصورة الأخرى التي تصل إلى الدقائق والخبايا والزوايا والأحشاء, فهذه لا يحتاجها ولا يقرؤها إلا المختصون الذين يفلسفون التاريخ ويستخرجون منه العظات والعِبَر. وهكذا يجب أن نقرأ التاريخ, أما أن نأخذ في التدقيق في بحث الخبايا والزوايا بحجة الموضوعية وحجة أخذ العظة، ونجعل ذلك صورة للعامة فهذا مخالف لطبيعة الأشياء, فليس كل قارئ للتاريخ فيلسوفاً تاريخياً.

التاريخ الغربي انتقائي:

ومن يقرأ التاريخ الأوروبي يجد به من الفظائع ما لو وقع نقطة منه في بحر تاريخنا لنجّسته وكدّرته ولوّنته بالسواد, ولكن الغرب استطاع أن يستخرج من هذا التاريخ صورة ذات ملامح ناصعة قدمها لأبنائه, فلم يوجد في تاريخنا مثلاً ما حدث في تاريخ إنجلترا حينما غُيّر مذهب الدولة ورجال الكنيسة ثلاث مرات في نحو عشر سنوات من أجل نزوات الملك هنري الرابع الذي غيّر دين الأمة من أجل أن يفوز بامرأة, وفي هذه الفترة سالت الدماء وأُزهقت الأرواح ونُهبت الكنائس وقُتل الكرادلة ومع ذلك يجد الشاب الإنجليزي والمثقف الإنجليزي في تاريخه ما يفخر به, وقس على ذلك تاريخ الغرب كله.

ولقراءة التاريخ بعين الحاضر والمستقبل علينا أولاً أن نعرف كيف نتعامل مع المصادر, فلا نستسلم لكل ما هو مكتوب, فالكثير مما هو مكتوب لا يثبت صدقه عند التمحيص والتدقيق (وأنا هنا لا أعيب الذين دوّنوا التاريخ, بل إن هذا يحسب لهم لا عليهم؛ لأنهم دونوا كل ما سمعوه، وأسندوا لنا الأخبار التي دونوها وحمّلونا نحن مسؤولية النظر في السند), ومن هنا كان القول المأثور «من أسند لك فقد حمّلك» أي ترك لك واجب التمحيص والتدقيق.

وقد جاء تشبيه هذه المدونات التاريخية على لسان العلامة محب الدين الخطيب - يرحمه الله - تشبيهاً رائعاً حيث صورها بأنها تشبه تحقيقات الشرطة التي تدوّن كل ما تسمع عن الحادث وكل ما يأتيها به رجالها ومخبروها, أما التدقيق والحكم فهو بيد القضاء أو النيابة. فهذا معنى قولنا ألا نستسلم لكل ما هو مكتوب ومسطور في المدونات التاريخيّة. وأن ندرك أن هذه المدونات التاريخية, في جملتها تشبه صفحات الحوادث والجرائم في الصفحات المعاصرة, فهذه الصفحات تصور جانباً من المجتمع, أو تصور الجانب المريض من المجتمع. دون الجوانب الحضارية من بناء وثروة وعمران وعلوم.

وأن التاريخ الإسلامي لا يوجد فيما يُسمّى كتب التاريخ كالطبري والبداية والنهاية والكامل وغيرها, وإنما يوجد أيضاً في كتب الطبقات مثل طبقات الفقهاء على المذاهب المختلفة، وطبقات المفسرين وطبقات الحفاظ وطبقات القُرّاء وطبقات الأطباء وطبقات الحكماء, وبالجملة الكتب التي تؤرخ لعلماء المجتمع ومؤسساته الحضارية المختلفة, فهذه مادة خصبة للتاريخ الإسلامي يغفل عنها كثير من الذين يبحثون عن التاريخ فلا يقعون إلا على سجلات الحوادث والجرائم.

وعلينا أيضا أن نحسن تفسير الحدث وقراءته ونضعه في سياقه التاريخي؛ فهناك حوادث وقعت حقيقة ولكنها تُفسر تفسيراً خاطئاً. على سبيل المثال: فتح الأتراك مصر والشام في عهد السلطان سليم فهذه حقيقة تاريخية, ولكن الخلاف في تفسيرها. فقد علمونا أن هذا كان استعماراً تركياً واستبداداً عثمانياً لنهب ثروات مصر, مع أن التفسير الحقيقي الصادق هو أن السلطان سليم جاء إلى الشام ثم مصر حينما انهزم السلطان قنصوة الغوري أمام البرتغاليين في معركة كالكوت على السواحل الإسلامية بالهند, وحينما دخل فاسكو ديجاما بجنوده من باب المندب، ووصل إلى جدة محاولاً هدم الكعبة والقبة الخضراء في المدينة فوجد السلطان سليم أن من العبث أن يقاتل الأوروبيين في الشمال، ويتركهم يلتفون حول البلاد الإسلامية ويدخلونها من وراء ظهره.. هذه هي القراءة الصحيحة للحدث.

التنصير صار كشوف جغرافية:

وحدث آخر تتضح فيه القراءة الخاطئة والقراءة الصحيحة تماماً» ذلك ما درسونا إياه باسم الكشوف الجغرافية, فهذه في الواقع لم تكن حركة كشوف علمية، وإنما اسمها الحقيقي عند أصحابها الغربيين «الالتفاف حول الشواطئ الإسلامية وتطويق العالم الإسلامي» كما سمّاها توينبي المؤرخ الإنجليزي نفسه, أما نحن فاستخفوا بعقولنا وضحكوا علينا وسمّوها الكشوف الجغرافية.

وعلينا عند كتابة التاريخ أو عرض التاريخ أن نلاحظ المستوى العمري والعقلي الذي ندرس له التاريخ؛ فهناك مستوى ينبغي الاقتصار فيه على الملامح العامة الرئيسة, ثم هناك مستوى بعد ذلك يدخل في شيء من التفصيل, ثم هناك مستوى أكثر تفصيلاً إلى أن نصل إلي فيلسوف التاريخ الذي يبحث عن العلل والأسباب وليستخلص القوانين والنظريات, فهذا توضع أمامه الصورة كاملة بكل دقائقها.

العدوان على التاريخ بسلاح الموضوعية:

س6) وهل هذه ملامح المنهج الذي تدعو إليه في كتابة أو عرض التاريخ؟

ج6) الحقيقة أنني أشكو إلى الله هؤلاء الذين أُسميهم أدعياء الموضوعية, فهؤلاء باسم الموضوعية يعيدون في أخطاء وعثرات في التاريخ الإسلامي، وهي موجودة، ولا شك فليس رجال التاريخ الإسلامي معصومين, ولكن باسم هذه الموضوعية نجد هؤلاء يعمون عن كل شيء إلا الأخطاء والعثرات, بل لا يدققون فيما يروون ويحكون، فكثيراً ما يذكرون الأباطيل على أنها حقائق، وإذا ناقشتهم يُقال لك: ولماذا نخفي الأخطاء ونكون كالنعام? نحن نريد (الموضوعية)..!! ومثال ذلك, نفي أبي ذر إلى الربذة, فقد أحصيت نحو مائتي كتاب عن أبي ذر وكلها تتحدث عن نفيه، وتدور حول عظمة أبي ذر كأنها لا تستطيع أن تثبت عظمة أبي ذر إلا إذا جعلت الآخرين غلاظاً قساة ظلمة ينفون هذا الزاهد العظيم, مع أن واقعة النفي هذه لم تحدث، وهي محض كذب واختلاق, وعندي دليل قاطع وهو حديث رواه البخاري عن أبي ذر نفسه, حينما سُئل عن واقعة النفي فقد نفاها أشد النفي، ولكن مازال هؤلاء (الموضوعيون) يرددونها.

ومن هنا أقول: لا يمكن أن نخفي الحقائق إطلاقاً, فنحن نعلم أننا لا نكتب تاريخاً لملائكة, وإنما نكتب تاريخاً لبشر, وكل بني آدم خطاؤون, فأبدًا لا أدعو إلى إخفاء الحقيقة, ولكن علينا أن نلتزم بضابطين: أن نتأكد أنها حقيقة بالأسلوب والمنهج العلمي. وأن نضعها في سياقها، ولا نقطعها عما قبلها، وما بعدها ونذكرها مجردة عن أسبابها ودوافعها وما يحطّ بها. ثم ينبغي أيضاً أن ننظر إلى المستوى العمري والعقلي الذي يقدم الموضوع.

الإسلاميون ودروس التاريخ:

س7) ما تقييمكم للجوانب الفكرية للتيار الإسلامي المعاصر في ضوء خبرتكم التاريخية؟

ج7) ينبغي على جميع العاملين في الحقل الإسلامي أن يتأكدوا أن الخطوط متوازية وليست متقاطعة, فالجماعة التي تُعنى بالعمل الاجتماعي الخيري جهدها مقبول معروف غير منكور, والجماعة التي تُعنى بالعمل السياسي الإسلامي أو تُعنى بكل ذلك تصب في نفس المجال وجهدها مشكور مقدور.

وعلى كل العاملين في الحقل الإسلامي أن يفسح بعضهم لبعض، ولا يعوق بعضهم عمل بعض، ولا ينتقص بعضهم عمل بعض» فالحقل الإسلامي يسع كل العاملين, بل إنني أدعو الإسلاميين جميعاً إلى التعاون الكامل مع كل التيارات المخلصة العاملة للأمة من قوميين, بل وعلمانيين ما داموا لا يسعون إلى إقصاء الآخر واستئصاله, وليعلم الجميع أنهم كلهم في خندق واحد, فليقبل الإسلاميون من بعضهم بعضاً، مادامت الوجهة كلها نحو إنقاذ الوطن والأمة.



الصين كادت تحرك جيوشها لتغيير اليابان سطورا في كتاب التاريخ بالمرحلة الابتدائية في سبتمبر 1982..!


قصة كاشفة:

للتدليل على أهمية كتابة التاريخ ودوره في حياة الأمم ساق الدكتور الديب قصة أسطر في منهج التاريخ الذي يدرس بمدارس اليابان...

س8) في سبتمبر عام 1982م تناقلت وكالات الأنباء والصحف وكل وسائل الإعلام أخبار أزمة سياسية بين الصين واليابان، هدّدت الصين عندها بقطع كل الصلات الاقتصادية والاتفاقات التعاونية والعلاقات الدبلوماسية بعد أن كانت هذه العلاقات قد بلغت قمة المتانة والقوة بين البلدين، فما السر وراء هذه الأزمة؟

ج8) كان السبب في هذه الأزمة هو الخلاف حول بضعة أسطر في كتب التاريخ المدرسية: نما إلى علم الصين أن اليابان قد غيرتها قبل بدء العام الدراسي، فما شأن الصين بالكتب المدرسية اليابانية؟

والقصة : أنه في أغسطس سنة 1945م ضُربت اليابان بالقنابل الذرية الأمريكية، ومُحيت بذلك مدينة (هيروشيما) ومدينة (نجازاكي) من الوجود، وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية، واستسلمت اليابان، وعندما أحكم الجنرال "ماك أرثر" (قائد القوات الأمريكية المنتصرة) قبضته على اليابان كان شُغله الشاغل كيف يجعل أو كيف يضمن ألا ينبعث هذا العملاق العسكري الياباني مرة ثانية؟ ولم يضيع وقتا، بل على الفور استقدم فيلقا من خبراء التربية الأمريكان، كان هذا الفريق مكونا من (27) سبعة وعشرين خبيرا من عتاة التربية في أمريكا، وطلب منهم وضع خطة تربوية، ومناهج تعليمية تؤدي إلى تفتيت الشخصية اليابانية، وتضمن القضاء على الروح القتالية، وعدم انبعاث القدرة العسكرية اليابانية مرة ثانية.

فرض الجنرال "ماك أرثر" على اليابان تغيير كل شيء من تقديس الميكادو وتقديس الأسلاف والدستور.. وكتب التاريخ، بحيث صارت كتب التاريخ التي تُدرس في المدارس تقول للتلاميذ: إن الجنرال "طوجو" القائد الياباني وجماعته كانوا دكتاتوريين ومستعمرين ومجرمين، وهؤلاء هم الذين قادوا الجيوش اليابانية في الفترة البازغة من تاريخ اليابان التي فرضت فيها سيطرتها على منثرويا وكوريا، واحتلت فيها ما يقرب من نصف الصين، وفي الحرب العالمية الثانية انضمت إلى هتلر، وحطمت الأسطول الأمريكي في (بيرل هاربور)، وظلت تقاتل وحدها نحو ثلاثة أشهر بعد سقوط ألمانيا، ولم تستسلم إلا بعد أن ضُربت بالقنابل الذرية.

فرض على اليابان أن تتنكر لهذا التاريخ، وأن تصف قادتها بأبشع الصفات، حتى تُنشِّئ أجيالا تتجرع هذه المرارة، فتخرج عاجزة عن القيادة وعن الجندية معا.

وحين بدا لليابان أن ترفع هذه السطور من كتبها المدرسية هاجت الصين وماجت، حتى اضطرت اليابان إلى الإذعان والرضوخ، وتنصل من ذلك رئيس الوزراء الياباني "سوزوكي" في مؤتمر صحفي قائلا: إن الأمر كان من مؤلفي الكتب، وأرسل مندوبين ونُوَّابا إلى الصين لمعالجة الأزمة.

درس مستفاد:

أولهما: إدراك قيمة التاريخ وأثره في صناعة الأجيال وتوجهات الأمم، وهذا الإدراك واضح تماما من الجانبين (اليابان والصين)، فاليابان تريد أن تصحح أو تغير، والصين لا تتهاون ولا تتساهل، ويقف العملاقان وجها لوجه.

والأمر الثاني الذي ننتبه له هو: رهافة الحس وشدة الانتباه من كلٍّ من الدولتين أيضا، وبخاصة من الصين، فكيف شعرت حكومة الصين بأن اليابان وهي تستعد للعام الدراسي الجديد غيرت هذه السطور؟ كيف شعرت الصين بذلك؟ فالكتب لم تكن خرجت من المطابع بعد، هل جعلت الصين من مهمة مخابراتها مراقبة الكتب المدرسية؟ إن المخابرات عادة مهمتها مراقبة الأسلحة والجيوش والمفاعلات الذرية والصناعات الإستراتيجية والاستعدادات الحربية، فهل أضافت الصين إليها مراقبة الكتب المدرسية؟

أخال ذلك قد حصل، والمخابرات في ذلك لم تخرج عن وظيفتها ومهمتها، فهي ما زالت مخابرات عسكرية، تراقب قوة العدو وقدرته القتالية، فهذه الكتب المدرسية هي التي تصنع الرجال، وتصوغ الإنسان، الذي هو المحرك الأول، والفاعل الحقيقي في كل معركة، فبدونه لن تكون هناك جدوى لأي سلاح مهما بلغت قوته وكفاءته.

ولا ننسى أيضا يقظة اليابان التي لم تنس ولم تنم، فهي على إدراك واعٍ بأن هناك سطورا يجب أن تُغيَّر، قد فرضت عليها فرضا، وأرادت أن تنتهز فرصة العلاقات الطيبة التي بدأت تربطها بالعدو القديم لعله يتغاضى، أو يكون قد نسي، ولكن كان ما كان.

أما نحن المسلمون والعرب: ففي كتب التاريخ في عامة الدول الإفريقية تجد الحديث عن تجار الرقيق العرب، وأسواق النخاسة التي تصدر العبيد إلى الدول العربية، وقد لا تجد سطرا واحدا عن استرقاق الأوروبيين للأحرار الأفارقة، واصطيادهم من مدنهم وقراهم باستخدام أخس أساليب الخداع والمكر، وتصديرهم إلى أمريكا بأبشع وسائل القسوة والامتهان. فهل تنبه أحد منا لذلك أم أن الأمر لا يعنينا؟

"حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"

http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=6221&Itemid=1 (http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=6221&Itemid=1)

فـاروق
01-08-2010, 09:11 AM
مقال مهم جدا...

رحمه الله و غفر له