تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشركس



من هناك
01-02-2010, 06:40 PM
الجروح تفتح الجروح .. وجرح إخراج أهالي البوسنة والهرسك من ديارهم يذكرنا بالعديد من حالات التهجير القسرية في العديد من البلدان ، ولكن لعل مأساة ( الشركس ) واحدة من المآسي التي غفل عليها الزمان .
http://filaty.com/i/912/86571/scan0002.jpg (http://filaty.com/i/912/86571/scan0002.jpg)
إضغط على الصورة لعرضها بحجمها الطبيعي في صفحة جديدة

كنا عصبة من الرفاق يتطاير الحديث بينها ، حول مأساة البوسنة والهرسك ، وتصطدم الكلمات بعضها مع بعض وتتطاير
مزقا ولكل راية ، في وسط هذا الصخب والجدل العبثي قال احد الحضور : على رسلكم ، مصيبتنا نحن المسلمين أننا نغفر ،
وننسى ولعلنا ننظر عدل الآخرة فهو أبقي .
وصمت المتحدث قليلا ثم قال ببطء ، أريد أن اذكر مأساة أخرى قبلها ، لعلكم تنسون أو قد لاتعرفون أني شركسي الأصل !
واستدارت عيوننا عجبا ، حقا لم نكن أو لم يكن معظمنا على الأقل يعلم أن هذا الصديق القديم هو شركسي الأصل ، ! ماسأله
أحد ولا هو قال لأحد منا ذلك ، وصمتنا جميعا لحظات قطعها بقوله : أنا لمعلوماتكم أعتبر شركسيا ، لقب شركسي لاتعرفة
الشعوب التي تسمى شركسية ولاتوجد قبيلة واحدة في شمال القفقاس كله وهي مهد تلك الشعوب وارضها منذ الأزل تحمل هذا
الاسم ، إنما يطلقه الناس من خارج المنطقة على مجموعات شتى من سكان تلك البقاع المثلجة الغابية ، المختنقة بالصخور
والأودية المرعبة ، كالداغستان والشيشان والديقور والأديفة والأباظة والقبرطاي والأبخاز والششن ، وما لست احفظ من
أسماء الأقوام الصغيرة الأخرى .. جدي كان صغيرا يوم اخرجنا من ديارنا ومن ورائنا الرصاص الروسي يلعلع ، وأمامنا
الطريق الطويل إلى المجهول ، ولكن جدي احتفظ من طفولته وفتوته بآلاف الصور المرعبة المبكية ، وقد تحدث إلى أبي عن
هجرته مع أهله في علم مكسور وأم ماتت مع اختين على فراش من الثلوج ، وأرجل تتقصف فلا تعاود القيام أبدا وظهور تنؤ
بأحمال الحاجات والملابس ، ثم عن المركب الهزيل الذي قذفوهم به في البحر ، حشروهم عدة مئات كبقر الذبح فوق أكداس
الصرر والحقائب والمركب لاتحمل مائة ، وتعاورتهم العواصف تارة والموج تارة أخرى حتى انتهوا إلى شبه مرفأ وتهالكوا
على البر .. أي بر ؟ كان شاطئاً رمليا لبعض الصيادين ، كانوا يخشون أن يكونوا قد وقعوا على بعض الأرض الروسية ،
حين أدركوا أنهم على أرض الدولة العثمانية ، خر بعضهم يقبل التراب ، لقد نجوا لكن كان أمامهم مسيرة عشرة أيام ليصلوا
إلى المعمور ، وفي خلال هذة المسيرة لم يبق منهم إلا الخمس ، لكنهم ظلوا يمشون قدما لايعرفون ألى أين .. يمشون
ويشحذون ، إن وجدوا بعض الغذاء ، إنها غريزة البقاء هي التي كانت تقود الخطى المنكودة .. وقد تتساءلون ، ماالدا فع إلى
تلك الهجرة وشمال جبال القفقاس مأزق داخلي مغلق في قلب البر الأوروبي الآسيوي ؟ تهوي الكلمات فيه فتتجمد قبل أن
تصل الأذن وتضرب الأودية في أنحائه ، فالصدى يهرب فيها فلا يعود أبدا ، وتمتد المناطق الغابية العمياء في أطراف السفوح
حتى ليضيع فيها ألضياع ، تتساءلون فأسألكم أولا .. وما الداعي إلى هجرة هذة المئات من ألوف البوسنيين وأهل الهرسك ،
وتشريدهم في كل اتجاه ، ولو ترك القطا ليلا لنام ؟!


الآم الشركس

بدأت آلام هذه المنطقة القفقاسية مع ظهور العثمانيين في جوارها في القرن الخامس عشر أيام محمد الفاتح ، وظهور الروس
الجيران الآخرين في القرن السادس عشر على عهد إيفان الرهيب ، وتضاربت مصالح الطرفين .. العثمانيون يريدون الاتصال
بتركستان عن طريق شمال القفقاس ، كيدا بإيران ولذلك فرضوا نفوذهم الكامل سياسيا ودينيا على شبه جزيرة القرم المسلمة
، والروس يريدون الوصول إلى المياه الدافئة في الجنوب ، وبين هذا وذاك هناك الكسب الأهم الذي كان بشمال القفقاس وهو
الممر الطبيعي للتجارة البرية بين الصين وأوروبا وبين الهند وأوروبا ، الطرق البرية كلها تمر منها ومن حولها ، والسيطرة
عليها حسب مفاهيم عصرنا الحاضر سيطرة على عقدة كبرى من عقد المواصلات العالمية .. اتخذت كل من الدولتين الدين
وسيلة لهذه السيطرة ، وكان العثمانيون بالطبع أكثر نجاحا ، لأن ثم كتلا مسلمة واسعة تعمر المنطقة ولانحياز رجال الإقطاع
إليهم ودعاية رجال الدين من الشيوخ والقضاة في عروق الشعب ، وتخلي الروس بعد سنة 1735 وبعد موت القيصر بطرس
الأكبر عن شمال القفقاس لفترة طويلة ثم تخلي العثمانيون بدورهم وقد بدأ الضعف في دولتهم ، عن هذة المنطقة بالمقابل في
اتفاقية بلغراد مع روسيا سنة1739 ثم ظهر الضعف فيهم أكثر فأكثر فدمغوا علية بخاتمهم في معاهدة كوتشوك قنيارجي
سنة 1774 التي سلم فيها العثمانيون منطقة القرم للروس ، واعترفوا في الوقت نفسه باستقلال شمال القفقاس ( منطقة
القبرطاي ) واحتل الروس سنة 1873 القرم ، وطوق الشركس من الشمال ولما كانت قمم القفقاس الثلجية من ورائهم ،
لم يبق لهم من منفذ سوى شواطىء بحر قزوين المغلق ، وشواطىء البحر الأسود وهم فهود البر والصخر ، أما البحر فمن ذا
الذي يمسك مجاديفه وسكانه ؟
في السنوات الثمانين التالية بين سنتي 1783_1864 وضعت الخطط الروسية لأحد أمرين إما تنصير الشركس أرثوذكسيا أو
إخراجهم من الأرض ! وخلال هذه الفترة شرب الشراكسة من وعود الدولة العثمانية حتي الثمالة ولكن .. في أكواب فارغة !
هل كان العثمانيون وحدهم هم الذين يعدون ؟ أبدا .. كانت إنجلترا أيضا معهم ! وماشأن أنجلترا هنا ؟ في القرنين الماضيين
كانت أنجلترا ، ومثلها فرنسا الإمبراطورية التي لاتغيب عن مستعمراتها الشمس ، ولاتغيب أصابعها الدساسة عما تحت
الشمس ! وكان في كل عرس لها قرص ، وفي كل واد أثر من ثعلبة ، مصالحها التجارية المتصلة في البر من الهند إلى
أوروبا أوصلتها إلى شمال القفقاس وإلى التظاهر بالصداقة للشركش ! وهكذا كان .. كان هم العثمانيين أن يعززوا القوة
العسكرية في جيوشهم بهذا الشعب المقاتل المتين الإسلام ، لاسيما بعد أن توقفت الفتوح تماما وانقطع تجنيد الإنكشارية ،
وكانت تبذل لهم الوعود للانتقال إلى الأناضول وللتجنيد بالجيش ..الإعفاء من الضرائب بالمجان ، حماية كاملة من السلطان
تجنيد بعد ست سنوات إلى أثني عشر سنة ، وكان العثمانيون لايزالون يحلمون بجعل الشركس جسرا إلى مسلمي تركستان ،
وإقامة قناة بين نهري الدون والفولغا فهي الطريق المباشر لذلك الحلم ، وكان هم إنجلترا منع روسيا من الاقتراب من طرقها
التجارية الرئيسية في شمال القفقاس ، بذلت بذلك أعسل الوعود ، اللورد بالمرستون قال ذات مرة .. لقد تركنا الشركس
وحدهم أمام الروس ، مع إننا نحن الذين طلبنا مساعدتهم ضدهم ، واسمحوا لي أن أقول إننا استطعنا أن نستغل تضحياتهم
هذه لمصالحنا على أفضل شكل ، وبدون أي خسارة من جانبنا ! أما هم الروس فكان احتلال شمال القفقاس للتقدم نحو البحار
الدافئة ، ومراقبة مضائق البوسفور والدردنيل والسيطرة على تجارة المرور .. كانوا يرسلون إليها الجيش تلو الجيش ، ولكن
إلى الفناء ، كانت المنطقة مقبرة للجيش الروسي ، ربع هذا الجيش ارتمى أشلاء مبعثرة على تلك الصخور الثلجية ، مليون
ونصف مليون جندي دفعهم القياصرة إلى هناك مابين تولي كاترين العرش سنة 1762 وحتي سنة 1864 .. ومارجع منهم
أحد .


وحشية السلاف


توقف المتحدث يلتقط أنفاسه ، ونلتقط نحن بدورنا أنفاسنا ، ثم تساءل : لماذا أقص عليكم كل هذا القصص ؟ أهي للتخفيف
من مأساة البوسنة والهرسك أم لإثارتها ، إنها من التاريخ السابق المنسي ولعلى أردت أن أقول إن المأساة الحالية هي
كمأساة الشركس ، ليست بنت اليوم ولكنها عميقة الجذور في التاريخ ، الصرب سلاف الجنوب " يوغوسلاف " ليسوا أقل
وحشية من أقربائهم الروس سلاف الشمال الشرقي ، إنهم أرومة واحدة في مواجهتهم عرفت مناطق الشركس ويلات الحروب
كافة من إحراق القرى بمن فيها إلى اكتساح الناس بالسيف والرصاص وهم خروج من الصلاة ، ألى الأمعاء تلتصق
بالجدران والأغصان إلى الجماجم تتدحرج على السفوح والصخور إلى السنابل ماتفتر تهز الأرض ، إلى بطون تبقر عن الأجنة
إلى الأعراض المباحة .. عمليات سحق لإنسانية الإنسان ، والإذلال حتى ليخجل الذل ! وثار الشركس مرات قام فيهم الإمام
منصور من الشيشان سنة 1783 كان أول من بدأ حركة المريدين الصوفية المقاتلة ، وحد وقوى القبائل ، قاوم بشراسة
المحارب الجريح ، طرد الروس من معظم الأقاليم أوقعهم في كمائن على مهاوى الوديان ، وارسلت الدولة العثمانية سنة 1790
بطال باشا والياً فتابع القتال إلى أن التمع له الذهب الروسي ، فإذا به يتوقف قبل سحق الروس ثم ياخذ ثمانمائه كيس من
الذهب ويهرب إليهم ، ولكن هذه الخيانة " وياللعجب " جاءت بعد أن أسر الروس الإمام منصور ، وأصدرت الدولة العثمانية
عفوا عاما عن بطال باشا الذي عاد .. وعين واليا في طرابزون ! ومع ذلك
تابعت المقاومة الشركسية مسيرتها بزعامة غازي محمد مولى ثم الإمام حمزات ، كانت شعارات المريدين المتصوفة شعارات
حرب .. من لايحارب الروس فمصيره إلى جهنم ، الجنة تحت ظلال السيوف ، أمة محمد لاتعيش تحت ظل الكفرة .. فأقام
الروس مقابلها حركة الزباروز التي جعلت شعارها حربا أشد وأكثر عماية ..أفضل الأديان النصرانية ، يجب قتل كل قفقاسي
لايقر بذلك ، وهذة مهمات الزباروزي .. واصبح الصراع في المنطقة كلها صراعا دينيا ، وإذا شغلت روسيا عن حروب
القفقاس في مطلع القرن التاسع عشر بسبب حروب نابليون ، وهدأت المنطقة بعض الهدوء فقد عاد الشر يجتر حين أضحى
نابليون منفيا في سانت هيلانة ، عاد الروس إلي عدوانهم عليها واحتلوا بالقوة أقساما منها سنة 1822 ثم جاءت معاهدة
أدنة سنة 1829 التي أنهت حرب الأفلاق والبغدان في رومانيا ، فكان من بنودها تسليم شمال القفقاس للروس ولست تدري
العلاقة بين هزيمة في غرب البحر الأسود وبين تسليم المناطق الشرقية المطلة عليه ، إلا إذا أنزلت في الحساب المطامع
الروسية ! لم يكن هذا يعني سحب الجيش العثماني من المنطقة أبدا ، فلم يكن هناك جيش ولكنها منطقة إسلامية تركها
العثمانيون لمصيرها ، استرضاء للروس ، وتحركت البلاد لحماية هذا المصير ، ظهر فيها الشيخ شامل يقود المقاومة وفي
لبها حركة المريدين .
كان الشراكسة يعدون في التقدير أربعة ملايين وحشدت روسيا مئه وخمسه وعشرون ألف جندي لخنقهم في قراهم الجبلية ،
وهرعوا يناشدون الدولة العثمانية المعونة قالوا إن الدم الشركسي يملأ أوردة السلطان فأمه وزوجته شركستيان ودماء
الحاشية والوزراء والقادة وكثير من رجال الدولة مابين سنتي 1560 و 1908 كان الشراكسة عصب الجيش العثماني ،
وصل أربعمئة من رجالهم رتبة الباشوية فيه وكان أثنا عشر منهم من الصدور العظام ، وحوالي مائة وخمسين ضابطا رتبة
مارشال عدا المئات بعد المئات من الوزراء والقادة والولاة والسفراء ، .. وعبثا كانت المناشدة والاستنجاد ، لم يكن لشيء أن
يحرك ذلك العملاق الخدر القابع تحت قباب طوبقبوسراي أو ضولمه بفجه ! كان يفضل ألف مرة أن يسمع هذا الصوت الضئيل
البعيد من وراء البحر الأسود عن أن يسمع هدير المدافع الروسية قرب البوسفور والدردنيل !
وفت في عضد الشيخ شامل أن بعض الشركس من القبرطاي تقاعسوا عن نصرته هددهم بأنه سوف ينقض عليهم كالغيوم
السوداء التي تقدح شررا وصواعق فتاكة ، وأن الدم سيسيل على جوانب طريقه إليهم وسوف يتبعه الهلاك والخوف وأنه
حين يعجز الكلام تبدأ القوة .. ولكن تهديده ذهب أدراج الرياح بل إنه بالعكس خسر حملته عليهم ، كان شامل يحاول لم
الشمل الشركسي كله وأرسل قائدين من عنده ، محمد أمين وسليمان يمثلانه لدى بعض القبائل الشركسية الكبيرة سنة 1848


الشركس ومصيرهم الغامض

وتوقف صاحبنا " الشركسي " عن الكلام مرة أخري وبقينا سكوتا نستمع حتى قال : قضيت فترة من حياتي أدرس هذه
المأساة كلما وجدت فراغا ، إنها المأساة التي عاشتها اسرتي قبل أن أعرف الدنيا بقرن أو نحوه ، كانت هواية وحكا على
الجراح القديمة ، أبي سجل الكثير مما رواه جدي من ذكرياته ولكن .. بالشركسية ! لم يكن هناك تكافؤ بين رقعة صغيرة من
الأرض وقبضة أقوام قليلة وبين روسيا في اتساعها ومواردها وجيشها الذي صار جيشا حديثا في القرن الماضي يزيد عدده
على مليون ونصف المليون ، وهو أكثر عددا من المقاومة الشركسية كلها ، المأساة الحقيقية للشركس بدأت بعد حرب القرم
سنة 1856 التي غرقنا فيها نحن الشركس حتي الأذقان ، حاربنا مع الحلفاء العثمانيين والإنجليز والفرنسيين ، قاومنا دمرنا
حسبناها فرصة العمر ، وحين توقفت الحرب وترقبنا الجزاء الأوفى من مؤتمر باريس لم يأت أحد عنا بكلمة ! ولا الدولة
العثمانية نفسها !
وحين سئل المندوب الإنجليزي عن نصيبنا من هذه الحرب قال : لايمكن أن نكون مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم ! تماما
كما هو لسان حال زعماء أمريكا وأوروبا اليوم ، هل يمكن أن يكونوا مسلمين أكثر من الألف مليون مسلم المنتشرين في
الأرض ! ومرة أخرى تركت المنطقة الشركسية لمصيرها وأمام مئتان وثمانون ألف جندي حشدتهم روسيا لسحق المقاومة
هناك لم يجد شامل إمام المريدين ألا الاستسلام ، أيلول سنة 1859 ثم تبعه محمد أمين فاستسلم بدوره وانقلب الروس
وحوشا في جلود أنسانية ، لم تكن عمليات إخماد ثورة ولكن عمليات إبادة منظمة ، هذا الشعب الشركسي لانريده في إطار
روسيا ، فإما أن يسحق وبدون قبور ، وإما أن يهاجر كان هذا هو مبدأ الجنرال ميشيل كراندوك الحاكم العسكري العام
للمنطقة ، الحقول المحروقة دبيب المشردين على الثلوج ، تسلل الهاربين في الغابات ، أقبية التعذيب البربري ، التمثيل حتى
بالجثث ، هدم المساجد ، سحل الشيوخ ، تقصف الأكواخ كالهياكل العظمية الباكية ، كل ذلك كان بعض العمل اليومي للجندي
الروسي ، سبع سنوات ونيف حتي أعلن الجنرال كراندوك " نهاية حرب القفقاس سنة 1864 " صارت المنطقة في مفهومه
روسية ! وساد فيها السلم سلم القبور ، ولكن بعد مائة سنة من القتال !
حرب المائة عام الشركسية هذه لم يتحدث عنها أحد في التاريخ ، بوصفها أحد فصوله المخجلة المرعبة ، انتهت بانهيار
المقاومة في صمت وإعلان نتيجتها في صمت أكبر ، والناس يذكرون الفظائع الاستعمارية للفرنسيين والإنجليز ولكن من ذا
الذي يذكر الاستعمار الروسي وفظائعه في القرم وشمالي القفقاس وفي التركستان ؟
مع أنها كانت أكثر مرارة وأشد نكالا ! الروس لم يكونوا يريدون الأرض ، وكذلك الصرب اليوم في البوسنة والهرسك ،
أراضيهم واسعة وخالية ولكنهم لايريدون هذه ( الملة ) الإسلامية الموجودة عليها ، ولذلك أمر الجنرال الروسي كارتسوف
قادته بتسفير الشركس " إلى أبعد مايستطيعون " وكان هذا الأبعد يعني عنده أقاصي الأرض العثمانية ! وكان هذا فقط هو
الجزاء الأوفى الذي ناله الشركس من الحلفاء ! وأفهم الروس الشركس أن عليهم أن يرحلوا طوعا أو كرها ، عليهم الهجرة
الى البلاد العثمانية أو الى غيابة المجهول لافرق .
ودبت صيحة الرحيل في البلاد من اقصاها إلى أقصاها ، كأنها صرخة العويل وبدأ الزحف باتجاه الغرب نحو شواطئ البحر
الأسود الذي ازداد على سواده سوادا في الأعين ، وتساءل شركسي قبل أن يخوض المياه إلى مركب الهجرة : ألهذا سموه
البحر الأسود ؟
أتسمون هذه صليبية .. سموها إذا شئتم ولكنها لن تكون آخر الصليبيات ، ولاأقصد الصليب نفسه فهو منها براء ، ولكن
الروح الحاقدة المتعصبة ضد العقائد الأخرى وإغلاق الروح على فكرة واحدة متقوقعة .
رسمت الأقدام الشركسية آلاف الدروب إلى شواطئ البحر ، الموانئ عليه اكتظت بالمهاجرين الذين ينتظرون فرصه السفر ،
الموت من ورائهم وألبحر من أمام ، نصف مليون إنسان مروا على هذه الدروب الوعرة يجرون الأقدام والعربات والأطفال
والعجزة ، مواني آنابه ، توابسه ، سوجي أولر ، بوتي ، باطوم كانت تقذفهم الى الماء ، في أنواع المراكب ، وموانئ
طرازون ، سمسون ، سينوب ، اسطنبول ، فارنا ، بوغاز ، كوستنجه تتلقاهم قادمين ثقلاء !
كان هذا أول الأمر ولمدة سنوات ثم بعد سنة 1866 اكتفوا بدفعهم عن طريق البر ، عبر الأودية والثلوج ومجاري السيول
والأنهر والصخور المسنونة ، والأحذية الممزقة والمخيمات المرتجلة والأمطار والوحل ، وهل الطرق عبر أرمينية وجبال
أرارات بالسهلة العبور ؟ كانو قرابة المليون واربعمائة ألف يزحفون وصل منهم مليون ومائة ألف فقط وسقط الباقون على
الدروب ، أنقول وصلوا .. الواقع أنهم سيقوا سوقا يزرعون الجثث المعروقة حتى العظم حيث مروا ، ولقد تمنى معظمهم
العودة ليموتوا على ترابهم الوطني ولكن .. كان الطريق أمامهم وحده هو المفتوح اتجاه واحد ، وكل الطرق الأخرى مغلقة
النظرة الى الوراء هي المحرمة ، اليوم تقدم الدول الأمريكية والأوروبية الباصات والمعونات المالية لاليتمكن أهل البوسنة
والهرسك من الدفاع المجدي ، ولكن لنقل أهل المدن التي يحتلها الصرب إلى المناطق النائية في المجر وإيطاليا وفرنسا
والنمسا واليونان والتسليم للصرب بالاحتلال ، قبل قرن لم يكونوا بهذا الكرم ، تركو لأقدام الشركس أن تهترئ على الطرق
لعلها تصل مناطق الأمان .. لماذا ؟ ليجبني من عنده الجواب !
ولعب المكر العثماني دوره في عملية الإسكان كانت البلقان بخاصة وبعض البلاد العربية في الفترة الحرجة التي تتحرك فيها
لطلب الاستقلال عن " الرجل المريض " أسكنوا بعض الشركس على مدن الحدود المتاخمة لروسيا ليكونوا في وجهها عند
الحرب ، فكأنهم نقلوا من جبهة قتال ألى أخرى والعدو هو العدو !
وأسكنوا بعضهم الآخر على الشريط الفاصل بين القرى التركية والبلغارية لكيلا يجد البلغار سواهم إن همموا بالقتال ، وأنزلوا
بعضهم حول اسطنبول ليكونوا درع الحماية فى الأخطار على مداخلها والطرق المؤدية إليها ، أما المهاجرون التالون في البر
فوطنوا بعضا منهم في القرى والأماكن ذات الغلبية المسيحية مثل مالازكرد في قلب أرمينية وجبال ساسون لا ليخلقوا التوازن
بين السكان فقط ولكن ليهددوا بعضا منهم ببعض ، ولايهمهم أيهم المقتول .. ورسموا بالشركس خطا من السكان يفصل مابين
الأكراد والأرمن من جهة وبين الأتراك في الأناضول من جهة أخرى اعتبارا من مدينة سينوب وسمسون حتى أنطاكية
والأسكندرونة ، وأرسلوا قسما إلى قبرص ورودوس وإلى لبنان في البحر ، وحين احتجت هذه البقاع ورفضت استرضاها
العثمانيون بإحراق سفن اللاجئين بمن فيها ! ألم تحرق سفينتان محملتان باللا جئين أمام الأعين في شواطئ لارنقة والناس
ينظرون أخذ النيران بالركاب ؟!
مصير أهالي كريت المسلمين كان أفضل فيما بعد سنة 1899 اختاروا الهجرة ألى شام شريف ( دمشق ) لأنها في اعتقادهم
لايدخلها الكفار ، في دمشق تعرفون الحي الذي يدعى بالمهاجرين ، إن اسمه الحقيقي حي المهاجرين الكريتية ، هناك أنزلوا
في بقعة جرداء على سفح قاسيون وفي تلك الفترة من أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن كانت ألمانيا قد أخذت جانب
العثمانيين ( كيدا بالإنجليز) ووقفت بجانب هؤلاء المهجرين تدعمهم ، قبل ذلك وقبل عهد بسمارك لم تكن ألمانيا " كقوة "
أوروبية موجودة او موحدة ، ولم يكن لها أطماع استعمارية تطلب فيها مكانا تحت الشمس كما صارت فيما بعد .


هل تكفي الدموع ؟

وكان للهلال الخصيب نصيب من هجرة الشركس ، في العراق مد العثمانيون خط سكناهم من ماردين ألى الحلة وكربلاء ،
ليقفوا ضد تحرك الأكراد والشيعة .. وفي بلاد الشام مدت خط السكنى على امتداد خط المدن الداخلية من منبج إلى حلب حتى
جنوب عمان والكرك والطفيلة بما في ذلك الجولان ، لكي يشقوا الجبهة العربية المتحركة ثم ليحموا طريق سكة حديد الحجاز،
وفي منطقة أضنة وكانت تعتبر من الشام وزع الشركس على حوضى النهرين سيحان وجيجان ( يشيل إيرماق ) و(قيزيل
إيرماق) لعلهم يصلحون الأراضي هناك ، فالمنطقة مرزغية موبوءة بالملاريا المهلكة ، أنزلو فيها أربعة وسبعون ألفا في
مرسين فلم يبق منهم سوى أربعة الآف .
كان الشركس في هذه الفترة مادة حية محاربة قيد المساومة والاستغلال الدولي ، حتى عدوتهم روسيا فاوضتهم وعرضت
عليهم إنشاء دولة لهم في جنوب تركستان على حدود افغانستان وتدفع روسيا كل تكاليفها ، على أن يكونوا بجانبها وذلك
لالكي يقفوا في وجه الإنجليز فقط ، ولكن في شرق إيران أيضا ولكيلا يكونوا أعوان العثمانيين في حروبهم ضدها ! ورفض
العرض ! واستغلت روسيا حربها مع العثمانيين في البلقان سنة 1877 وثورة الحاج علي بك بالشركس لتتكرر عمليات
التدمير الشامل للمنطقة وليساق عشرات الألوف من أبنائها الباقين إلى داخل روسيا والمناطق الجرداء فيها ، ولتفرض على
العثمانيين ترحيل مئة وخمسون الف مهاجر شركسي من البلقان ، وسيق هؤلاء من جديد إلى الأناضول وإلى بلاد الشام ، كان
نصيب حلب ودمشق منهم خمسة عشر ألف أسرة ونصيب أضنة خمسة آلاف ، وكان الترحيل الثاني أقسى من الأول وأشد


مرارة " وصاح شركسي ضاعت صيحتة مع ضجيج الناس .. هل نحن غنم " وعاد المتحدث فتوقف وتوقفت معه الأنفاس ..


قال أسرتي كانت واحدة من هذه الأسر التى أصابها الترحيل الثاني من البلقان ، كنا حول كوستنجه فأنزلنا في كفر لما
بفلسطين ثم الريحانية في سنة 1948 كان تهجيرنا الثالث ، وفي سنة 1967 كان الرابع والحبل على الجرار ، هل تكفي
الدموع ؟ وصمت الجميع .

مجلة العربي 1993م / الدكتور شاكر مصطفى

مقاوم
01-03-2010, 06:16 AM
موضوع شيق ومهم ... جزاك الله خيرا أخي بلال