تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شمس الإسلام تسطع على أرض إفريقية



من هناك
12-28-2009, 04:33 PM
شمس الإسلام تسطع على أرض إفريقية

الدكتور احمد عيساوي


حملة عبد الله بن سعد على إفريقية 27هـ - 646م :

رجع الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر بعد أن أمره الخليفة عمر رضي الله عنه بالقفول ، وخشيته على جيوش المسلمين ، وقد خلّف وراءه ابن أخته الصحابي الجليل عقبة بن نافع رضي الله عنه على ولاية برقة وطرابلس ، يحافظ على حدود الخلافة الغربية من غارات القبائل البربرية من جهة ، ومن غدر البيزنطيين من جهة أخرى ، وتشاء إرادة الله تعالى أن يستشهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 24 هـ ، ويتولى مكانه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة ، وينشغل المسلمون بعض الوقت في إعادة ترتيب شؤون الدولة الإسلامية . (17)

في هذه الآونة كان البطريق جورجريوس قد أحس بالخطر الإسلامي القادم من الشرق محدقا بمملكته ، وكانت عاصمته قرطاجنة تقع في أقصى الشمال من الساحل الشرقي ، فرأى أن يتخذ عاصمة جديدة تكون في وسط المملكة ، ليضمن خطر مهاجمة البيزنطيين له من البحر ، بعد انفصاله عنهم ، وليتقرب من سكان البلاد الأصليين ليقفوا معه ليصد الهجوم الإسلامي القادم من الشرق ، ولذا اختار مدينة سبيطلة وجعلها عاصمة له سنة 24هـ 644م، وقام بتحصين سائر المدن والقلاع والحصون الشرقة الأخرى كقابس وصفاقس وقفصة لتشكل خطا دفاعيا أماميا يعرقل جيوش الفتح الإسلامي ، ويؤخر تقدمهم . (18)

وفي هذه الفترة كان عقبة قد تراجع عن ولاية طرابلس إلى برقة ، فيما ظل عبد الله بن سعد وعقبة رضي الله عنهما يرسلا البعوث والسرايا لأطراف الصحراء فتعود بالنصر ، ويراسل الخليفة عثمان بما فتح الله على المسلمين ، ويغريه بأن يأذن له فتح إفريقية ، وكان عثمان يكره مخالفة سياسة عمر فكان يأمره بالتريث ، ومن كثرة إلحاح عبد الله عليه استخار الله تعالى واستشار كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوها فأشاروا عليه ، ومما يدل على عزم الخليفة عثمان على الفتح ما روي عن المسور بن محرمة عن طريق الزهري فيما نقله المالكي في رياض النفوس ، قال المسور : (( خرجت من داري بليل طويل أريد المسجد ، فإذا عثمان رضي الله عنه في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فصليت خلفه ، ثم جلس فدعا ليلا طويلا ، حتى أذن المؤذنون ، ثم قام منصرفا إلى بيته ، فقمت في وجهه ، فسلمت عليه ، فقال : يا ابن مخرمة ، واتكأ على يدي ، إني استخرت الله في ليلتي هذه في بعث الجيوش إلى إفريقية ، وقد كتب إلي عبد الله بن سعد يخبر بخبره مع المشركين ، وغلبهم وقرب حوزهم من المسلمين ؟ قلت : اغزوهم ، قال : أجمع اليوم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأستشيرهم ، فما أجمعوا عليه فعلته ، أو ما أجمع عليه أكثرهم فعلته ، ولتكن أنت رسولي إليهم ، واحضر معهم . )) . (19)

واجتمع الخليفة عثمان رضي الله عنه بوجوه الصحابة وذوي الرأي سنة 27هـ ، واستشارهم في أمر الفتح ، فأجمعوا على موافقته ، عدا سعيد بن زيد رضي الله عنه الذي تمسك برأي عمر رضي الله عنه ، وما أن استقر رأي الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين على الفتح حتى استنفر المسلمون لغزو إفريقية ، وضمت الحملة الكثير من وجوه الصحابة ومن أبناء الصحابة، ومن سائر القبائل العربية ، أمثال : ( معبد بن العباس بن عبد المطلب ، مروان بن لحكم بن أبي العاص ، الحارث بن الحكم أخوه ، عبد الله بن الزبير ، المسور بن محرمة بن نوفل ، عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عبد الله بن عمر ، عاصم بن عمر ، عبيد الله بن عمر ، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عبد الله بن عمرو بن العاص ، بسر بن أرطأة بن عويمر العامري ، أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي .. رضي الله عنههم أجمعين وأمّر عليهم عثمان الحارث بن الحكم بن أبي العاص ، حتى يصلوا مصر عند عبد الله بن سعد لتكون له القيادة ، ثم خطب فيهم ، وحثهم على الجهاد في سبيل الله ، ونصرة دينه )) . (20)

ومما جاء في خطبة الخليفة عثمان رضي الله عنه لجيوش الفتح الإسلامي بعد أن سمى الله تعالى وحمده وأثنى عليه بما هو أهل له ، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ، وترحم على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وذكر بإتسائهما أسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( .. قد استعملت عليكم الحارث بن الحكم حتى تصلوا إلى عبد الله بن سعد ، وقد قدمت عليكم عبد الله بن سعد لما علمت من ثقته ودينه وحسن رأيه وشجاعته ، وأخذت عليه العهد والميثاق أن يحسن لمحسنكم ، ولا يحمله غرض الدنيا على هلاك رجل واحد منكم ، وأرجو لعبد الله أن يقف عند عهدي وأمري ، وأوصيكم وإياه أن لا تهولنكم كثرة العدو ، وقد علمتم ما أنزل الله عليكم ، حيث يقول : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } أما علمتم أن أول هذه الأمة ما نصروا إلاّ بكثرة الصبر وقوة اليقين ؟ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ، أستودعكم الله وهو خير الحافظين ، سيروا على بركة الله، وعليه توكلوا ، وبه فاتقوا )) . (21)

والمتعمن في خطبة الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه يجدها دستورا حربيا مهما ، ومنهج عمل سوي ، وخطة حربية متكاملة ، وطريقة مثلى في القيادة والتسيير ، تضبط العلاقة بين القائد وجنده . وقد تضمنت الخطبة القواعد الحربية والقيادية التالية :



استخارة الله تعالى في الملمات والنوازل والأمور العظيمة التي تخص مصير الأمة ، وهو عمل الجيل الأول من عدول وسلف هذه الأمة ، وهو الواجب الشرعي فعله في سائر ما يعترض الفرد المسلم في سائر شؤون حياته العادية ، فضلا عن قضايا الأمة المصيرية فهو فيها أوجب .
استشارة وجوه الصحابة وأهل الشورى الأكفاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اختيار القائد الثقة الخبير القادر الجلد على تحمل عزم الأمور - والصحابة كلهم ثقات وعدول وأكفاء - ، وتحديد مهامه التسييرية والقيادية والزمنية ، وتوجيهه بالنصائح الدقيقة .
تزكية الجيش الإسلامي بالروح الدينية ورفع وجدانهم بربط صلتهم بربهم ودينهم .
نصيحته لقادته أن يحسنوا للمحسنين ، ويفهم ضمنا أن يضبطوا التعامل الشرعي مع المسيئين ، ولم يكن في جيوش الفتح الإسلامي يومها غير المحسنين ، وإلاّ ما فتح الله لهم القلوب قبل القلاع والحصون الدروب .
تحديد مقصد الجيش الإسلامي في نشر الإسلام وعدم التهالك على الدنيا .
الحفاظ على أرواح المسلمين ما أمكن .
ضرورة التزام وتوقف قواده عند أوامره ونواهيه وعهوده التي قطعها عليهم .
معرفة طريق النصر والفوز بالروح الدينية الصحيحة ، لأن المسلمين لا يغلبون بالكثرة .
الدعاء والوصية بتقوى الله في السر والعلن ، وهي رأس الأمر كله .

ثم زود الخليفة عثمان رضي الله عنه الجيش بالزاد والمؤونة ووسائل النقل والركوب وصلوا مصر ، وهناك انضمت إليهم جيوش مصر ، وفيهم بعض الأقباط ، وساروا بقيادة عبد الله بن سعد ، وهم في تسعة عشر ألف أو عشرين ألفا ، وخلّف على مصر عامر بن عقبة الجهني ، وفي برقة استقبله عقبة بن نافع ، ومن برقة أرسل سرية تقدمت الجيش الإسلامي إلى طرابلس التي حصنها أهلها ، فلم يلتفت إليها الجيش الإسلامي وسار باتجاه قابس ، التي حصنها أهلها ، وهنا أشار قادة الجيش على عبد الله بن سعد بترك حصار القلاع والمدن قبل الاشتباك النهائي مع الجيش الرومي ، ثم بعث سراياه وبعوثه شرق البلاد وغربها تغزو وتهاجم ، الأمر الذي اضطر ( جورجريوس ) (22) ، للخروج من سبيطلة لملاقاة الجيش الإسلامي ، فخرج في جيش عدته مائة ألف وعشرون ألف فارس ، وهم مدججين بالزرد والنضيد ، ومدرعين بالسرود والحديد ، تلمع أجسامهم من بريق الشمس على دروعهم الحديدية ، والتقوا في معركة فاصلة بالقرب من سبيطلة . (23)


* موقعة العبادلة بالقرب من سبيطلة :
اتفقت كل الروايات التاريخية الإسلامية حول مسار موقعة العبادلة بين المسلمين والبيزنطيين حول الخطوط العامة لسير جيش الفتح الإسلامي وملاقاته لملكهم جرجير ، واختلفت فيما بينها في بعض التفاصيل ، حيث بدأ جيش الفتح الإسلامي حربه مع جورجريوس بالمنهج الإسلامي الرشيد ، وذلك بدعوتهم للإسلام نزولا على عند أحكام القتال الشرعية المتبعة عندما ينزلوا أرضا ، وفي حالة الرفض يطلبون الجزية ، وإلاّ تصافوا للقتال بعد ثلاثة أيام ، ولعل استعراض الروايات التاريخية ما يزيدنا فهما وجلاء لمجريات هذه الوقعة الحاسمة في تاريخ دخول الإسلام إلى إفريقية .

ولنا استعراض تلك الروايات التاريخية ، لنستجمع منها الحقائق المتفق عليها ، والتفاصيل الخاصة بكل رواية ، تحقيقا للفهم ، واستجلاء لأحداث ووقائع المعركة ، واستعبارا بأنوار الذكرى .

وفي هذا الصدد يروي الواقدي عن ربيعة الديلي قوله : (( .. وأقمنا أياما تجري بيننا وبين جرجير ملكهم الرسل ، ندعوه إلى الإسلام ، فكلما دعوناه إلى الإسلام نخر ، ثم استطال وقال : " لا أفعل هذا أبدا " فقلنا له : " فتخرج الجزية في كل عام ، فقال : " لو سألتموني درهما لم أفعل " ، فتهيأ الناس للقتال ، وعبأ عبد الله بن سعد ميمنة وميسرة وقلبا وسار بأصحابه ، فقال له رجل من القبط ممن كان معه : " إن القوم لا يصافونك ، هم أرعب منك من أن يصافوك ، وهم يهربون منك ، فاجعل منك لهم كمينا ، وفرقهم في أماكن " ففعل ذلك عبد الله ، وغدا بنا على تعبئة ، وتلاقينا مع الروم قد رفعوا الصليب ، وعليهم من السلاح ما الله أعلم به ، ومعهم من الخيل ما لا يحصى، فصاولنا ساعة من نهار حتى صارت الشمس قدر رمحين ، وحمل عبد الله بالناس فكانت الهزيمة عليهم ، وكر المسلمون عليهم في كل مكان ، فأكثروا فيهم القتل والأسر . لقد رأيت في موضع واحد ألف أسير ، فلما أصابهم الأمر والقتل طلبوا الصلح ، فصالحهم عبد الله بن سعد على خرج ، قيل صالحهم على ألفي ألف دينار وخمسائة ألف دينار . )) . (24)

وقد نقل بعض المؤرخين الكثير من التفاصيل المثيرة عن حيثيات ووقائع المعركة ، وهي تدخل ضمن بطولات وشجاعة الفرسان المسلمين ، فقد روى أبو عثمان سعيد بن عفير عن وقائع المعركة فقال : (( .. لما سمعت الروم والأفارقة بمخرج عبد الله ووصوله إلى إفريقية ، خرجوا إليه ومعهم جرجير في جمع كثير من الروم ، فلما التقوا بالمسلمين نادى جرجير بالبراز ، فبرز إليه عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم ، فقتله ابن الزبير ، ومنهم من قال قتلاه جميعا ، ثم كانت الهزيمة ، واتخذ المسلمون ذلك المنزل معسكرا ، وأصابوا لهم غنائم كثيرة ، فأصاب الفارس في سهمه ثلاثة آلاف دينار ، ثم ساروا إلى البلاد ففتحوها كل مدينة عنوة . )) . (25)

وقد نقل أهل العلم عن أصحاب السير والمغازي بإفريقية : (( أن عبد الله بن سعد نزل بموضع يسمى قمونية بالقرب من القيروان ، وهو موضع مدينة القيروان ، فسأل عن أشراف من بإفريقية من الروم ، فقيل جرجير ، وهو صاحب مدينة سبيطلة ، فزحف عبد الله إلى جرجير الملك ، فلقيه في خلق عظيم من الروم ، فقاتله عبد الله بمن معه ، والتحم القتال ، ووقع الصبر ، حتى ظن الناس أنه الفناء ، فانهزم جرجير ولزمه عبد الله بن الزبير في عجاج الموت ، فعرفه بمن معه من أشراف قومه ، ففرق عنه أصحابه، وقتله إلى جانب السور، وابنته تنظر من السور إلى قاتله ، وسبقت خيول المسلمين الروم إلى باب الحصن ، فحالوا بينهم وبين الدخول إلى حصنهم ، فركبهم المسلمون يمينا وشمالا في السهل والوعر ، فقتلوا أنجادهم وفرسانهم ، ونزل عبد الله بن أبي السرح باب المدينة ، وحصرها بمن معه حصارا شديدا حتى فتحها ، وأخذ ابنة جرجير فوهبها لعبد الله بن الزبير ، وهو صاحب الأفاعيل في ذلك اليوم ، وهو المستشهد في سبيل الله . ودخل عبد الله المدينة ، فوجد فيها سبيا كثيرا وأموالا جمة عظيمة ، ووجد أكثرها ذهب ، وسرى على الروم فبلغت خيوله قصور قفصة ، وبلغت موضعا يقال له قرطاجنة ، فسبى فيها ما تأتى ، وذهب بعد تلك الواقعة ملك الروم بإفريقية ، ولجأوا إلى الحصون ، وأصابهم رعب عظيم )) . (26)

وقد نقل ابن الأثير في الكامل قوله : (( وسار عبد الله بن سعد نحو إفريقية ، وبث السرايا في كل ناحية ، وكان ملكهم اسمه جرجير ، وملكه من طرابلس إلى طنجة ، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية ، فهو يحمل إليه الخراج كل سنة ، فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد ، فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس ، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة ، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك ، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم ، وراسله عبد الله بن سعد ، يدعوه إلى الإسلام أو الجزية ، فامتنع عنهما ، وتكبر عن قبول أحدهما ، وانقطع خبر المسلمين عن عثمان ، فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم ، فسار مجدا ، ووصل إليهم ، وأقام معهم.

ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين ، فسأل جرجير عن الخبر ، فقيل قد أتاهم عسكر ، ففت ذلك في عضده ، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر ، فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه ، وشهد القتال من الغد ، فلم ير ابن أبي السرح معهم ، فسأل عنه ، فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول : " من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي ، وهو يخاف " فحضر عنده وقال له : " تأمر مناديا ينادي من أتى برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته ، واستعملته على بلاده ، ففعل ذلك ، فصار يخاف أشد من عبد الله . ثم إن ابن الزبير قال لعبد الله بن سعد : " إن أمرنا يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة ، وبلاد هي لهم ، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم ، وقد رأيت أن تترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر ، إلى أن يضجروا ويملوا ، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ، ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ، ونقصدهم على غرة ، فلعل الله ينصرنا عليهم ".

فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم ، فوافقوه على ذلك، فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه ، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم ، وخيولهم عندهم مسرجة ، ومضى الباقون ، فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا ، فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة ، فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ، ثم عاد عنهم هو والمسلمون ، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا ، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين ، وقصد الروم ، فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم ، وحملوا حملة رجل واحد ، وكبروا ، فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم ، حتى غشيهم المسلمون ، وقتل جرجير ، قتله ابن الزبير ، وانهزم الروم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية ، ونازل عبد الله بن سعد المدينة ، فحصرها حتى فتحها .. )) . (27)

وتشابه رواية ابن عذارى المراكشي رواية ابن الأثير مع تفاصيل أخرى ننقلها بشيء طفيف من التصرف فيما يلي حيث يقول : (( والتقى عبد الله مع البطريق ضحى النهار في موضع يعرف بسبيطلة ، وكان جرجير في مائة وعشرين ألفا ، فضاق المسلمون في أمرهم ، واختلفوا على ابن سعد في الرأي ، فدخل فسطاطه مفكرا في الأمر ، قال عبد الله بن الزبير : " فرأيت عورة من جرجير ، والناس على مصافهم ، رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه، منقطعا عنهم ، معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس ، فأتيت فسطاط عبد الله بن سعد ، فطلبت الإذن عليه " ، فقال له حاجبه : " دعه فإنه يفكر في شأنكم ، ولو اتجه إليه رأي لدعا بالناس ، فقلت : إني محتاج إلى مذاكرته ، فقال له : أمرني أن أحبس الناس عنه حتى يدعوني " . قال : " فدرت حتى كنت وراء الفسطاط ، فرأى وجهي ، فأومأ إلي برأسه ، أن تعال ، فدخلت عليه وهو مستلق على فراشه ، فقال : ما جاء بك يا ابن الزبير ؟ فقلت : رأيت عورة من عدونا ، فرجوت أن تكون فرصة هيأها الله لنا ، وخشيت الفوت ، فقام من فوره ، وخرج حتى رأى ما رأيت.

فقال : أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم " ، فتسارع إلي جماعة اخترت منهم ثلاثين فارسا ، ثم قلت : إني حامل ، فاصرفوا عن ظهري من أرادني ، فإني أكفيكم ما أمامي إن شاء الله .قال عبد الله : " فحملت في الوجه الذي هو فيه ، وذب عني الذين انتدبوا معي ، وأتبعوني حتى خرقت صفوفهم إلى أرض خالية فضاء بيني وبينهم ، فوالله ما حسب إلاّ إني رسول إليه حتى رأى ما بي من أثر السلاح ، فقدر أني هارب إليه ، فلما أدركته طعنته ، فسقط ، فرميت نفسي عليه ، وألقت جاريتاه عليه أنفسهما ، فقطعت يد إحداهما ، وأجهزت عليه ، ورفعت رأسه على رمحي ، وجال أصحابه ، وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا ، فانهزم الروم ، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، وثارت الكمائن من كل جهة ومكان ، وسبقت خيول المسلمين ورجالهم حصن سبيطلة فمنعوهم من دخوله ، وركبهم المسلمون يمينا وشمالا في السهل والوعر ، فقتلوا أنجادهم وفرسانهم ، وأكثروا فيهم الأسارى ، حتى لقد كنت أرى في موضع واحد أكثر من ألف أسير )) . (28)

وما يمكن استخلاصه من هذه الروايات أن قائد جيش المسلمين هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، وأن ملك الروم هو جورجريوس ، ويسميه العرب بعد تصحيف اسمه جرجير أو جرجيس ، وأن موقع المعركة كان بالقرب من عاصمته سبيطلة ، وأن عدد جيش المسلمين بلغ عشرين ألفا ، فيما بلغ عدد جيش الروم مائة ألف وعشر ألف فارس ، وأن القتال نشب بين الجيشين بضراوة ، ودام مدة أيام ، يلتقي فيها الجيشان حتى يؤذن بصلاة الظهر ، حتى يفترقا ، وهكذا كل يوم ، حتى اهتدى عبد الله بن الزبير إلى موقع وحركة ملكهم جرجير، وتخير فرصة القضاء عليه ، عملا بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه عندما جاءه مسلما غداة غزوة الخندق ، فقال له : " إنما أنت رجل واحد فينا ، فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة " .

ولم يذكر المؤرخون عدد الشهداء من المسلمين ، ولا عدد القتلى من جند الروم ، أللهم إلاّ ذكر بعض الأوصاف عن حجم الأسرى ، وقيمة الأموال والغنائم التي غنمها جيش المسلمين ، ونصيب الفارس من جيش المسلمين ، بالإضافة إلى اضطلاع ابن الزبير بتدبير الحيلة ، وقتل جرجير رفقة كوكبة من صناديد فرسان المسلمين ، وكيفية قتله ، ثم أخذ ابنته سبية .


* والخلاصة :
فإنه بالإضافة إلى كل هذه الحقائق السالفة الذكر ، يمكننا استخلاص العبر التالية :


أن جيوش الفتح الإسلامي ما كانت تبدأ أحدا بالقتال حتى تعرض عليه أحكام الشرع الإسلامي في الحرب ، وهي الدعوة إلى الدخول في الإسلام ، ويصبح للداخلين فيه نفس الحقوق والواجبات ، وبذلك يعصمون أرواحهم ودماءهم وأموالهم وأملاكهم ، فإن رفضوا ذلك فرضوا عليهم الجزية ، وإن رفضوا الجزية ، ناجزوهم القتال بعد ثلاثة أيام . وكان بإمكان جرجير أن يجرب فيسأل عن الإسلام وحقائقه ، ثم بعد ذلك يقبله عن بينة ، أو يرفضه إن شاء بعد العلم والمعرفة به . وكان بإمكانه إخراج الجزية ، وهي زهيدة جدا نظير حماية الجيش الإسلامي لهم ، وبسط سلطانه الرسمي عليهم . وكان بإمكانه أن يتجنب الحرب ويعقد الصلح ، ويطلب السلم والأمان ..



كشف حقيقة الفتح الإسلامي لبلاد إفريقية وغيرها من البلاد ، التي جاءت لتحمل الناس للدخول في سماحة الإسلام ويسره ، ومناجزة الظالمين الذين كانوا يحجزون السكان الأصليين والبسطاء من التقرب منه والتعرف عليه ، ومن ثمة تحديد الموقف النهائي منه ، بالدخول فيه أو بقبول الجزية ، ومن هنا فقد كان جيش الفتح الإسلامي الشوكة المسددة في قلوب الطغاة الذين وقفوا في وجوه شعوبهم لصدهم عن الدخول الإسلام .



كشف هذه الروايات التاريخية كذب ومزاعم المستشرقين وأبنائهم من المستغربين ممن يخلطون ويكذبون في التأريخ لمسيرة انتشار الإسلام في العالم القديم ، من أنه انتشر بالسيف .



معرفة سنن النصر والتمكين في الأرض ، وقوانين الغلبة في الأرض ييسرها الله تعالى لعباده الذين اصطفى . فبينت واقعة العبادلة الحاسمة كغيرها من وقائع الفتح الإسلامي الأخرى [ أجنادين ، اليرموك ، القادسية ، فتح الفتوح ، وادي لكة ، ذات الصواري ، حطين ، ملاذ كرد ، عين جالوت ، الزلاقة ، .. ] أن النصر والتمكين ليس بكثرة العدة والعتاد والعدد ، وإنما باتباع منهج الله الصحيح في الأرض، المتمثل في الدين الإسلامي ، وأن الهزيمة والانكسار بالبعد عن منهج الله الصحيح ، وتفشي الظلم في الأرض ، { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } ( الكهف : 18 ) .



إدراك قيمة وحدة الأمة ، ووحدة قيادتها ، وطاعة رعيتها وسمعهم وإذعانهم للخليفة ولنوابه في المنشط والمكره ، وهكذا تربى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا تربى التابعون رحمهم الله في مدرسة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .



تخلي جنود جورجريوس عنه حين احتدم القتال ، فتبين أنهم قد أسلموه للقتل ، وإلاّ كيف يعقل أن ُيقتل قائد جيش تعداده مائة وعشرين ألف مقاتل بمثل هذه الجرأة التي أبداها ابن الزبير وثلة من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لولا عزتهم بدينهم ، وشموخهم بإيمانهم ، وحبهم لربهم ، وثقتهم المطلقة فيه ، وإلاّ لما قدموا من المدينة المنورة يحملون أرواحهم على أكفهم ، ولكن الله وعد الصادقين منهم بالنصر والتمكين في الأرض ، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، على العكس من عدوهم الذي قذف الله في قلبه الرعب .



الاعتراف الخالص بشجاعة الصحابة والتابعين النادرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصبرهم العظيم ، وجلدهم إقدامهم عند ملاقاة العدو ، وتضحياتهم الجسام التي سجلتها صفحات التاريخ الذهبية ، حتى عز دين الله ، وانتشر في الأرض ، فحازوا فضلي الدنيا والآخرة .. وواجبات المسلمين اليوم التأسي بهم ، والاقتداء بفعالهم ، والتملي فيهم والتوسم في آثارهم وهم يضحون بأغلى ما يملكون في سبيل إعزاز كلمة الله في الأرض ..



مصالحة عبد الله بن سعد لأهل البلاد الأصليين على ُجعل من المال ، لما رغبوا في الصلح ، وعودته إلى مصر .



أهمية هذه الواقعة بالنسبة لباقي الحملات القادمة ، إذ بعد عودة جيش المسلمين إلى مصر والحجاز ، استفاد المسلمون خبرة في التعامل مع هذه المنطقة ومع شعوبها وحكامها الظلمة .



كثرة عدد الأسرى من جيش الروم ، لأن غالبيتهم كانوا من سكان البلاد الأصليين ، ممن يساقون إلى الحرب دون دافع أصيل فيهم ، فعندما يجدون الفرصة سانحة للفرار والتراجع والاستسلام لا يفرطون فيها ، لأنهم عبيد لأسيادهم ، ولا ناقة لهم في تلك الحروب ولا جمل ، فعلام يقاتلون إذن .



أهمية هذه الواقعة لأنها أدخلت هذا الإقليم في اهتمام الخلفاء المسلمين ليعمقوا فيه مسيرة الفتح الإسلامي ، فبعد توقف الفتوحات الإسلامية بسبب مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ودخول المسلمين في الفتنة الكبرى ، وبمجرد صفاء الوحدة الإسلامية في عام الجماعة سنة 41هـ وتنازل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما لسيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن الخلافة ، حتى بدأت طلائع جيش الفتح الإسلامي تعود لمشارف إفريقية مع عقبة بن نافع ومعاوية بن حديج رضي الله عنهما .



إدراك أهمية الدعوة إلى الله تعالى ، والتبشير بدينه الإسلامي الحنيف ، ولاسيما الشعوب التائهة ، كفئة المنبوذين في الهند اليوم ، التي تحتاج إلى دعاة متخصصين ينقلونهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الحكام والأديان إلى عدل وسماحة ونور الإسلام .

وقد شكل هذا الحدث الإسلامي العظيم مدخلا اهتدائيا متميزا على أرض عصفت بها رياح الوثنية والوحشية قرونا عديدة ، وكان لهذه الواقعة بعدا حضاريا راشدا ، منحنا - نحن سكان المغرب العربي الإسلامي - إلى يوم الناس هذا عناصر هويتنا ، ومقومات شخصيتنا العربية الإسلامية ، وأضفى علينا نقاء متميزا بالانتماء السامق لأحفاد عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، وعبد الله بن الزبير ، وسائر الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ممن منحونا الهدى ، ودفعوا أجدادنا لبناء مدنية وحضارة على هدى من الله ورضوان ، مازلت تؤتي أكلها وعطاءاتها بإذن ربها ، وستبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، لأن الله تعهّد عباده الصالحين بالمكث في الأرض فقال : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في ذلك لبلاغا لقوم عابدين * وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } ( الأنبياء : 150 .. 107 ) .

مســرد الإحــــالات


(17) عمر فروخ ، تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية ، ص 115 .
(18) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 152 و 153 ، بتصرف .
(19) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 154 ، بتصرف .
(20) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 154 و 155 ، بتصرف .
(21) ابن عذارى المراكشي ، ج 1 ، ص 9 ، نقلا عن : السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 155 و 156 .
(22) يسميه المسلمون بعد تصحيف اسمه جرجير أو جرجيس .
(23) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 156 و 157 ، بتصرف .
(24) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 158 و 159 .
(25) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 159 . وابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب في تاريخ من ذهب ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، دون طبعة وتاريخ ، ج 1 ، ص 36.
(26) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 160 .
(27) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 161 و 162 .
(28) السيد عبد العزيز سالم ، المغرب الكبير ، ج 2 ، ص 162 و 163 .

فـاروق
12-29-2009, 02:57 PM
هل من الممكن تنسيق النص لتسهيل القراءة معلمي؟

من هناك
12-29-2009, 04:51 PM
مليح هيك. تلونتلك ياه جنى

فـاروق
12-29-2009, 04:53 PM
الله يبارك بجنى وابو جنى وام جنى واخت جنى...

:)