تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دور المثقف في المجتمع



من هناك
12-23-2009, 06:39 AM
دور المثقف في المجتمع

الناس ثلاثة أصناف ، فمنهم من يعمل انطلاقا من قناعة نظرية أو لنقل فكرية، ومنهم من يعمل لتحقيق مصالحه الخاصة ومنهم من يعمل بدافع غريزي. و مما لا شك فيه أن الثقافة تلعب دورا في تعديل قناعات الانسان و تبديلها. فما الثقافة و ما المثقف وما دوره في هذا المجتمع؟


يقول محمد الدلفي و هو مفكر عراقي : ان الثقافة هي البيان الأول لأنسنتنا.

متى أصبح بامكاننا الاشارة الى أن الانسان كائن مثقف ؟

أشار شتراوس الى صعوبة الوصول الى التحديد الجازم في ذلك "ان لغز ظهور الثقافة سيظل مستعصيا فهمه على الانسان ما لم يتوصل على المستوى البيولوجي الى تحديد التغيرات البنيوية او الوظيفية التي حدثت في الدماغ ، وكانت الثقافة ، نتيجتها الطبيعية". و لكن العامل الأول الذي يحدد تلك القفزة ظهور اللغة المنطوقة. ان اللغة شكلت المعلم الوظيفي الرمزي والنموذج الراقي لتمايز الانسان عن المخلوقات.

العامل الثاني حسب شتراوس هو تحريم الزواج من الأقارب "الذي يؤسس الخطوة الرئيسة التي تحقق بفضلها وبالأخص من خلالها الانتقال من الطبيعة الى الثقافة".

الثقافة معجميا:

جاء في القاموس المحيط في معنى كلمة “ثَقُف”: ثقُف، ثقفاً، ثقافة، صارحاذقاً خفيفاً فطناً. فهو ثِقف كـ حِبر. والِثقاف ما تسوّى به الرماح .
هكذا تكون الثقافة حصيلة ما تكتسبه الجماعة تاريخياً، حيث تصقل وتتهذبعاداتها وتقاليدها. ويفهم من كلمة ثقافة كل فعل للتاريخ في تهذيب الجماعةالبشرية، كل فعل للتاريخ في الطبيعة. فهي الثقافة ضد الطبيعة الأوليةالخام والخشنة، “المتوحشة”. المشغول بفعل التاريخ، والمصقول بهذا الفعل هوالمثقف. والثقافة هي المتولدة بالخبرة والمكتسبة بالتربية المديدة.
جاء في المورد في معنى كلمة culture: حِراثة، تثقيف، تهذيب، حضارة أومرحلة معينة من مراحـــل التقدم الحضاري… المستنبت أو نتاج عمليةالاستنبات.
الثقافة: هي الحِراثة، أي هي تهذيب الأرض من الحجارة والأعشاب الضارة، معإحداث طبقة ترابية جديدة عبر قلب الوضع القائم. ( أي يدخل فيها فعل الانسان ح.م)

أما تايلور E.B.Tylor فيعرف الثقافة فيقول: "الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة، والمعتقدات، والفن، والادب، والأخلاق، والقانون والأعراف، والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع".

دور المثقف:

في المجتمعات القديمة:

اذا اطلعنا على التاريخ القديم، عن بلاد ما بين النهرين مثلا، نرى بأن "الملوك الآلهة" يبينون لشعبهم مدى حرصهم وسعة علمهم من خلال المشاريع المائية التي تساهم في تأمين الري للمزروعات. وهذا يتم طبعا عن طريق أهل العلم. لذلك كانت هذه الطبقة من الأهمية بمكان، في بلاد ما بين النهرين، على تغير الحكام.

عندما طلب سليمان عليه السلام من مجالسيه: من يأتيني بعرشها قبل أن تأتي سبأ الى مجلسه: قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك هذا. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك. فلما رآه مستقرا ......

فالعلماء كانوا مقدمين عند الملوك.

قصة موسى عليه السلام و فرعون. أتى فرعون بالسحرة لمباراة موسى لأن السحرة هم الذين يمثلون المجتمع المتعلم المثقف وبهم يقتدي العامة ولو كان خلاف ذلك ما طلب فرعون من جميع الناس حضور هذه المباراة حتى يروا الهزيمة الشنعاء التي سوف تحل بموسى لادعائه بوجود اله لفرعون.

وكانت النتيجة أن سجد السحرة لله الواحد القهار رب موسى وهارون وعجب فرعون من ايمانهم مباشرة. ذلك أنهم فهموا الآية الالهية التي يملكها موسى وما مكنهم من فهمها أنهم علماء: "انما يخشى الله من عباده العلماء". وأعظم ما استوقفني في هذه القصة العبارة التي استعملها السحرة: أننا نطمع أن يغفرالله خطايانا أن كنا أول المؤمنين. أي أنهم فهموا أن ما كانوا يقومون به من السحر هو حرام لأنه يغش الناس وأنهم بحاجة للمغفرة. كما وأنها دلالة على عمق ايمانهم رغم حداثته.

في المجتمع المعاصر:

علينا أن نعي أنه لا يمكن فهم دور المثقف في المجتمع بمعزل عن مفاهيم عديدة وأهمها على الاطلاق مفهوم المجتمع المدني.

كتب الدكتور صالح ياسر: المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار ( و في هذا اشارة الى المجتمع البورجوازي لأنه في المجتمعات ﴿ أو لنقل التشكيلات الاجتماعية﴾ السابقة على هذا المجتمع كانت صفة الانسان الحر تنطبق على أناس محددين فقط ح.م)، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.


مفهوم المجتمع المدني في القرنين السابع عشر والثامن عشر:

بدأنا من القرن السابع عشر لأن الثورة البورجوازية الانكليزية تحققت في هذا القرن، وفي القرن الثامن عشر كانت الثورة الفرنسية، و قد انتقلت أوروبا تباعا الى البورجوازية .

لقد كانت المشكلة الرئيسية المطروحة على مثقفي القرن السابع عشر والثامن عشر الذين رافقوا تحلل النظام الاجتماعي التقليدي وتطور البرجوازية كطبقة جديدة تطمح إلى إعادة بنائه من منظورات مختلفة تلغي التراتبية الجامدة ( و الاشارة هنا الى طبقات الشعب في التشكيلة الاقطاعية) وتفتح المجال أمام هيمنة سياسية حديثة، هي إعادة بناء السياسة على أسس غير دينية وغير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي ولا بإرث عائلي، ولكن بالمجتمع نفسه، تنبع منه وتصب فيه. ومن هذه النقطة سوف ننتقل تدريجيا من نظرية لا سلطة ممكنة إلا إلهية أو ملكية وراثية ( وهنا اشارة الى المجتمعات الاقطاعية، أو الرق)، إلى النظرية المناقضة تماما وهي لا سلطة شرعية إلا تلك التي تعبر عن السيادة الشعبية والإرادة الجمعية. وهذا هو أصل الانتقال نحو الحداثة السياسية.

هيجل و المجتمع المدني:

إن المجتمع المدني، حسب هيغل، هو الوسيط بين العائلة والدولة. انه نظام الحاجات أو مكان التبادل والانتاج الخاص الذي لا يمكن أن يولد أو يتطور الا في، وبواسطة الدولة المجسدة للمصلحة العامة، حسب تعبيره. ومن هنا كانت العلاقة بين الاثنين علاقة تكامل وتعارض في الوقت ذاته.

وبقدر تعلق الأمر بهيغل لابد من الاشارة هنا الى أمرين أساسيين في فهمه للمجتمع المدني:

يماثل هيغل بين مدني وبرجوازي وهو يستعرض المفهوم على محورين:

الأول تاريخي (عمودي) عبر الانتقال من الاسلوب الاقطاعي للملكية الخاصة وعلاقاتها، الى الأسلوب الرأسمالي للملكية الخاصة، حيث يشير الى الانتقال من الجماعة الطبيعية (العائلة والاسرة) الى الجماعة السياسية (الاقتصادية الاجتماعية وتنظيمها في الدولة الحديثة). يرافق هذا التحول تحول في الدساتير والقوانين فيظهر القانون المدني (البرجوازي) لحماية هذا الحق، حق الملكية الخاصة للافراد.

المحور الثاني في تناول هيغل للمجتمع المدني هو المحور البنيوي (الافقي)، أي دراسة المجتمع المدني من حيث هو المسافة الاجتماعية – الاقتصادية بين الفرد والدولة، التي هي سلطة سياسية ولحظة اكراه. وعلى هذا فالمجتمع المدني عند هيغل يشتمل على علاقات الانتاج الاجتماعية- الاقتصادية والنقابات الحرفية والمنظمات الدينية والاهلية والنقابات العمالية والاحزاب السياسية، ويشمل الاجهزة الايديولوجية والتربوية للدولة الحديثة (المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية الاخرى) باستثناء القضاء والبرلمان والحكومة التي تشكل كأجهزة إكراه بأشكال مختلفة، اللحظات الثلاث للسلطة السياسية من حيث هي سلطة.

فالمجتمع يظل على مستوى المجتمع المدني مجتمع المصالح الفردية والمشاريع الخصوصية، أي مجتمع الانقسام والتملك الفردي والصراع، ولا يجد خلاصه إلا في الدولة.

والخلاصة التي يمكن التوصل اليها من خلال العرض المكثف السابق هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن الشروط التاريخية التي تشكل فيها، يقوم على ما يلي:‏

أولاً: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على انفصال واستقلال الإنسان الديني، عن مواطن الدولة المدنية، باعتبار هذا التمييز، أو هذا الاستقلال هو البذرة العقلية للتحرر السياسي بالذات. ولكن علينا أن نؤكد أن تحرر الدولة السياسي من الدين، لا يعني بأي حال تحرر الإنسان الفعلي من الدين، فالدولة تستطيع أن تتحرر تماماً من الدين، حتى حين لا تزال أغلبية الشعب أو الأمة متدينة، علماً أن بقاء هذه الأغلبية دينية لا يعدو أن يكون بقاء دينياً خاصاً.‏ إن عملية الانتقال هذه، هي التي كانت أساس ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.

ثانيا : ينجم عن الملاحظة السابقة أن التحرر السياسي، قلما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد. ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها إلا في درجة جذرية من انفصال السياق الديني عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز فيه الدرجة المعنية من تطور الروح البشري للإنسان، حيث أن التحرر السياسي، هو التعبير عنها، لكي تبني نفسها به في شكل دنيوي. وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، وفي ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث أن كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً، متعصباً لدينه وأصولياً أم غير ذلك، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً إنسانياً نوعياً سائداً.

ملاحظة: من الجدير ذكره في هذا المجال أن الدولة الدينية لم تظهر في بلادنا. فمنذ قيام الدولة الأموية انفصل الديني عن السياسي . و لم يكن مسموحا للفقهاء أو العالمين في أمور الدين والمشهود لهم بذلك، التدخل في الشؤون السياسية الا بالحدود الذي يريدها الحاكم. لذلك كان الفقيه الذي لا يمالىء السلطان مغضوبا عليه من السلطة ويلاحق ويسجن. و يمكن الاشارة أيضا أن تعبير "فقهاء السلاطين" ظهر فقط للدلالة على أنه لم يكن هناك من سلطة لرجال الدين على الحكام. فرجل الدين اما أن يخدم السلطان، اما أن ينزوي، فيصبح مطوبا شعبيا على حد تعبير المسيحيين. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك. نكتفي بذكر أحمد بن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام. بينما في أوروبا كانت الكنيسة تمارس السلطة بكل تفاصيلها. فالامبراطور لا يطوب أو يمارس صلاحياته الا بموافقة البابا كما وأن للبابا الحق بعزله عندما يرى ذلك ضروريا، كما وأن الكنيسة كانت أكبر الاقطاعيين؛ ربما هذا ما أعطاها السلطات التي ذكرناها. وعلينا أن نشير الى أن الكنيسة في بلادنا لم تكن على نمط الكنيسة الأوروبية. من هنا فالكلام عن العلمانية أو فصل الدين عن الدولة كلام لا يستهوي الا أولئك المتأثرين بالفكر الغربي أو الذين يعيشون مشاكل المجتمع الغربي في بلادنا و ذلك لغربتهم عن مجتمعاتهم. (ح.م)

ثالثاً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، "ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في الانتفاع بملكه والتصرف به على هواه (à son gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية" .‏

رابعا: إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط ....

خامساً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية.‏

سادساً: وعندما نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي. (ياسر و غليون بتصرف)

ماركس والمجتمع المدني:

ان الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري (كذا! ح.م). كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، هي المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية بما فيها منجزات هيغل الجدلية.

يستخدم ماركس مصطلح المجتمع المدني بطريقتين، الأولى وردت في " المسألة اليهودية" حيث المجتمع المدني، هنا، كحياة مادية خاصة مقابلة للحياة العامة والمجردة للدولة الحديثة، حيث يتم التحديد، هنا، بالتقابل (التعريف بالنقيض)، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البرجوازي. أما في " الايديولوجيا الالمانية " فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الانتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق) والعلاقات الاجتماعية، أي علاقات الملكية الخاصة.

وفي المؤلفات اللاحقة وخاصة في " رأس المال "، يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية – الاقتصادية كمسرح للتاريخ. أي على اعتبار أن التاريخ أساسا هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل جديد. هذا التخلي عن المفهوم جاء على أساس التحضير النظري لقلب السلطة البرجوازية وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب – مجتمعها المدني.

ترتبط مفاهيم " المجتمع المدني " و " الديمقراطية " بسياق محدد وهو الذي يسمح ببروز مفهوم " المواطن " أو "الفرد ". هذا السياق هو الذي " يختزل الانسان الى عضو في المجتمع البرجوازي " والى الفرد الأناني المستقل من جهة، والمواطن، الشخص المعنوي من جهة اخرى، على حد تعبير ماركس. وليس هذا السياق التاريخي غير العصر الذي يصبح فيه الفرد متساويا (من الناحية الحقوقية على الاقل) مع كل فرد وآخر، فينزل الى حلبة الحياة مجردا من انتمائه الى العشيرة أو الطائفة، أو الملة.
كتب ماركس في مقدمة كتاب: " مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي "، يقول"... وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها، لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمي هيغل، مجموعها "بالمجتمع المدني" على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني" . بينما ماكس ڤيبر MAX WEBER يرجع ظهور الفكر الرأسمالي إلى الخلفيات الدينية والبروتستانتية، ومن ثم يدافع ماكس ڤيبر عن العوامل الروحية والدينية في تحريك المادية التاريخية، وهذه النظرية هي تماما نقيض نظرية ماركس.(علينا تذكر بوش والمسيحية المتصهينة المميزة لادارته). أنا لا أوافق ماكس فيبر فأقول أن الحركة البروتستاتية ما هي الا تعبير ايديولوجي لصعود الطبقة البورجوازية. فالبورجوازية حاربت الكنيسة الاقطاعية ومارتن لوثر قام بالاصلاح الديني أي حارب الكنيسة ايديولوجيا كدعم للبورجوازية الصاعدة. علينا ملاحظة أن الاصلاح الديني بدأ في ألمانيا وأول من تبنى رسميا البروتستانتية كانت بريطانيا، ذلك انها أول دولة انتقلت من الاقطاعية الى البورجوازية.
إن مفهوم المجتمع المدني قد اكتسب في الرؤية الماركسية معنىً مادياً نأى به عن المفهوم المعرفي البحت، ومعنىً ثورياً ليتحول في العمل اليومي الى سلاح سياسي ضد السلطة الاستبدادية. ويقطع كل من ماركس وانجلز بالمفهوم شوطاً جديداً في الايديولوجية الالمانية (1864) حين يصبح مفهوماً تاريخياً عالمياً مرتبطاً بالمجتمع الرأسمالي، ومتطوراً بتطور طبقة البرجوازية، وإنتقال قاعدتها الانتاجية من درجة الى درجة أخرى أكثر تقدماً.

ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد. بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب (اغتراب أو aliénation ). ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضاً مجال الخاص. وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج. فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية ( اي كعامل مستغل من قبل رب العمل) التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة. لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماماً، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية (أي القضاء على الاستغلال).

ومن جهة اخرى لابد من الاشارة الى أن النتيجة التي توصل إليها ماركس في نقده فلسفة الحق العام عند هيغل، هي مسألة الانفصال بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الذي يتم في العالم البرجوازي، المترافق مع تأكيد سلطة البرجوازية كطبقة مسيطرة.

‏ المجتمع المدني عند غرامشي:

في النصف الأول من القرن العشرين تم تطوير مفهوم المجتمع المدني. وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم.

غرامشي وطرح موضوع المجتمع المدني في اطار نظرية السيطرة والهيمنة:

على الصعيد المفاهيمي اعتبر غرامشي المجتمع المدني أحد مكونات البنية الفوقية. ففي أحد النصوص الهامة في "دفاتر السجن" كتب غرامشي قائلاً: " ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين، الأول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى (خاصة) والثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة. هذان المستويان ينطويان من جهة أولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع، ومن جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية ".

ويضيف في مكان آخر قائلاً: " ينبغي الانتباه الى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردها الى المجتمع المدني، إذ أن الدولة تعني: المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أي الهيمنة المدرعة بالعنف " . ويضيف " لا ينبغي أن يفهم بكلمة دولة جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة الخاص أو المجتمع المدني " .

الدولة، حسب رأي غرامشي، هي المجتمع السياسي (سلطة الدولة) زائداً المجتمع المدني (الحقل الايديولوجي أو الاجهزة الاعلامية والتربوية للدولة البرجوازية الحديثة).

ومن جهة ثانية أدخل غرامشي قطيعة جديدة في المضمون الدلالي sémantique

لمفهوم المجتمع المدني، بإعتباره فضاءً للتنافس الايديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزاً للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة Hégémonie الثقافية الايديولوجية، ووظيفة الهيمنة، هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تُمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل النقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة.

بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة، وايجاد سياسة ثقافية تهدف الى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة، وذلك من خلال فاعلية الحزب "المثقف الجمعي"، كما يسميه غرامشي، وقدرته على حشد وتعبئة كل أصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته، وذلك لأنه يحمل لواء الاصلاح والتغيير، ويسعى لنشر آليات هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع. هكذا يرى غرامشي على غرار ابن خلدون أن المطاولة الثقافية هي أساس وشروط المطاولة السياسية. (برهان غليون)

ويقول إنه في مثل هذه الأوقات، ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية ، لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي الى "حرب مواقع"، وتصبح " الجبهة الثقافية " هي الميدان الرئيسي للنزاع .

وبالنسبة لغرامشي سواء كان ذلك في كتابه " الأمير الحديث " أو " دفاتر السجن " هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ، وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة، في نظر غرامشي، والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية.. ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي.

لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها. فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية (étatique ). لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضوياً، أي إذا ارتبط بمشروع سياسي لطبقة ما، تماماً كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوىً من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. إنها ليست منافيةً للسياسة ولكن مكملةً لها، وإن كانت متميزةً عنها. فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنباً إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية.

يضيف غرامشي فيقول : تبنى الهيمنة، كما يعاد انتاجها، ضمن شبكة من المؤسسات يسميها بالمجتمع المدني تميزاً لها عن الجانب القمعي للدولة. المجتمع المدني، إذن، هو تلك التنظيمات ذات الطابع غير الحكومي : النقابات، المدرسة، الأحزاب .... الخ، وهذه تنظيمات طوعية تفعل فعلها عن طريق الاقناع أي من خلال الايديولوجيا. وبخلاف هذه التنظيمات، تشكل مؤسسات الدولة : الادارات، الجيش، الشرطة، القضاء، ما يسمى بالمجتمع السياسي، الذي يفعل فعله عن طريق القهر (السيطرة).


المجتمع المدني في المفهوم المعاصر:

ان الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر بثلاث فترات رئيسية.

الفترة الأولى: هي فترة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها (من بيروقراطية) وتقنرطتها (من تكنوقراطية).

أما الفترة الثانية: فهي فترة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت " الدول الديمقراطية " مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها على نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطةً بها لكنها أصبحت مكلفةً، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج.

أما الفترة الثالثة: فهي فترة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة- الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية.(ياسر و غليون –بتصرف)
ملاحظة حول الدولة القومية: جاء عند الدكتور برهان غليون وهو استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر، السوربون، باريس وكاتب سياسي مشهور ما يلي: . فالمواطنية التي تمثل في نظري أساس وروح الفكرة القومية الحديثة كانت الثمن الضروري والحتمي لتكوين ولاء جديد يمحو الولاءات العصبوية السابقة ويسمح بإقامة مجتمعات مدنية كبرى قادرة على خلق شروط تطور الحضارة الصناعية والتقنية. وهذه المجتمعات أو الجماعات الجديدة المشتركة في ولاء واحد والمتضامنة في إطار الدولة وليس الكنيسة أو العصبية القروية والعشائرية ليست سوى الأمة بالمعنى الحديث للكلمة. وقد نجحت الأمة من حيث هي تجديد لقواعد الاجتماع المدني البشري في تكوين كيانات سياسية وبشرية كبيرة ومستقرة لا تخضع في استمرارها لقوة الشوكة ولا تحتاج من أجل ضمان استمرارها و أو توسعها إلى شن الحروب الدائمة واستنزاف موارد المجتمع. وفي ظل هذه الكيانات السياسية الجديدة، أعني الدول القومية، سوف تتحقق أكبر عملية تراكم اقتصادي وتقني وعلمي وثقافي في التاريخ، وذلك بالرغم من الحروب والنزاعات العديدة التي سوف ترافق تكوين النظام القومي العالمي واستقراره.
نقول بأن السياق التاريخي يكذب ما جاء عند الأستاذ غليون. فالدولة القومية نشأت كتلبية لحاجات توسع المجتمع البورجوازي الناشىء وهذا واضح في نشوء الوحدة الايطالية والوحدة الألمانية ، هذا أولاً أما ثانياً كيف يفسر الدكتور غليون اتجاه الدول الكبيرة حتى ذات القوميات المختلفة الى التوحد (الاتحاد الأوروبي، مؤتمر شنغهاي وفيه أكبر دول العالم قاطبةً الصين والهند وروسيا، ونشير أيضاً الى حركة هوغو شافيز في أمريكا اللاتينية وأخيراً لماذا لم تتوحد الدول العربية).

دور المثقف حسب ماركس:

يعتبر ماركس بأن الطبقة المنوط بها تحرير المجتمع هي البروليتاريا. (البروليتاري هو العامل الذي قطع الخيط السري الذي يربطه بالأرض حسب تعبير انجلز في كتابه أنتي- دوهرينغ). و حيث أن هذه الطبقة (البروليتاريا) ليس بامكانها فهم تناقضات المجتمع البورجوازي، فالمثقف الثوري هو الذي عليه القيام بهذه المهمة التاريخية. والمثقف ينتمي الى الطبقة البورجوازية ( الصغيرة)، من هنا فهو يتنكر لطبقته ويناضل مع البروليتاريا للوصول الى تملك المجتمع لوسائل الانتاج.

وهناك مثقفون ينتمون الى الطبقة التي تم القضاء عليها (الاقطاعية) يلعبون دوراً تقدمياً بشكل أو بآخر. جاء في البيانالشيوعي: “وجدت الأرستقراطية الفرنسية نفسها محكوماً عليها ، بحكم وضعهاالتاريخي ذاته، بأن تهجو المجتمع البورجوازيّ الحديث. فأمام هذا الوصوليالكريه ( المقصود البورجوازي) خسرت مرة أخرى معركتها في ثورة 1830 الفرنسية وفي الحركة الإصلاحيةالإنكليزية 1831، وبما أن النضال السياسي الجدي لم يعد، بالنسبة إليهاوارداً، فلم يبق أمامها غير ميدان المعركة الأدبية. وحتى في ميدان الأدبكان إنشاء عهد الردة الملكية قد غدا مستحيلاً. كان على الأرستقراطية،لكي تحرك مشاعر التعاطف معها، أن تتخلى ظاهرياً عن مصالحها الخاصة، وأنتصوغ قرار اتهامها للبورجوازية دفاعاً عن مصالح الطبقة العاملة المستَغلّةفقط. وهكذا وفرت لنفسها لذة إنشاد هجاء سيدها الجديد في أغان مقذعة، ولذةالهمس في أذنيه بنبوءات مفعمة إلى حد قليل أو كثير بالتشاؤم". و من أهم هؤلاء كان بلزاك.

من هناك
12-23-2009, 06:40 AM
دور المثقف حسب غرامشي :

”القديميحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد. في هذا الفاصل تظهر أعراض مرضيةكثيرة وعظيمة في تنوعها”

"بوسعنا القول ان كل الناس مثقفون، ولكن لايقوم كل الناس داخل المجتمع بتلك الوظفية، وظيفة المثقف".

يتحدث غرامشي عن المثقف العضوي. فالمثقف العضوي عند غرامشي هو المثقف الذي تخلى نهائياً عن طبقته وارتبط عضوياً بطبقة ما أخرى.

جاء ما تقدم في "كراسات السجن". كانت الكراسات استمراراً لنضال غرامشي الثوري،وكانت كما وصفها غرامشي نفسه: “بؤرة حياتي الداخلية”.

المثقفون ينفصلون عن الطبقة السائدة لكي يتحدوا بها اتحاداًأوثق، لكي يكوّنوا بنية فوقية حقيقية، لا مجرد عنصر غير عضوي، وغير متمايزمن البنية الاقتصادية، إنها حركة استيعاب الاقتصادي وتجاوزه أو رفعه إلىمستوى السياسي، إلى مستوى المهمة التاريخية للطبقة المعنية.
العضويّة تعني التمايز عن البنية الاقتصادية والارتباط بها من الجهةالثانية. وكلمة عضو organe تعني لسان حال كالجريدة أو المجلة تكون ناطقةبلسان حزب أو جماعة. وكلمة عضوتعني أيضاً تميز العضو في وظيفته داخل الكلية العضوية. إن سمة العضويةتماثل تماماً علاقة الفكر بالدماغ البشري والأعضاء الأخرى.

يأتي استقلال المثقفين العضويين النسبي عن الطبقة التي ينتظمون بها، من دورالمثقفين الضروري كمنظمين ومربين وعلماء وباحثين ومحققي تجانس الطبقة فيالمستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويأتي استقلالهم أيضاً من أنالمنظمة التي تربط المثقف بالطبقة هي ذات المنظمة التي تفصله عنها، وتعطيهنوعاً من الاستقلالية.

الصفة العضوية للمثقف منوطة بدرجة ارتباط التنظيم الذي ينتمي إليه معالطبقة التي يمثلها هذا التنظيم، لكن هذه العلاقة العضوية منوطة بأمر آخروهو المكانة التي يشغلها المثقف في المنظمات الطبقية للمجتمع المدني )منظمات الهيمنة أو المنظمات الاقتصادية / الحرفية) والمجتمعالسياسي (أجهزة الدولة). فمعلم المدرسة أقل عضوية من عضو في حزب النظام . وزعيم هذا الحزب أكثر عضوية في تعبيره عن مصالح طبقته السياسية من عضو طارئ وعادي.
تراتب المثقفين:

لدينا أربعة أنماط من المثقفين: 1- الباحث (العالم)، منتج العلم أومنتج معرفة جديدة. 2- المربي، المنظر أو الداعية لفكرة بعينها أو لمذهببعينه ويسميه غرامشي بـ عضو الحزب الأيديولوجي 3- منظم الهيمنة، عضوالحزب السياسي 4- منظم الإكراه، أو عضو الدولة بالمعنى الإداري والعسكري.ويوجد نوع خامس من المثقفين الاقتصاديين / الحرفيين وهم التقنيون.
توجد ضرورة رصد التراتب الذي يربط المثقفين من نمط واحد: مثلاً تقوم فوارقفي نظام التربية الحديثة ملموسة بين أساتذة الجامعات من جهة وبين المدرسينفي المدارس ما قبل الجامعية من جهة أخرى. المدرسون بحكم قربهم منالجماهير الشعبية يمكنهم بسهولة أن ينشدّوا إلى القوى التقدمية في المراحلالثورية أو فترات الأزمة العامة للطبقة المسيطرة. بينما تتعزز الميولالرجعية لدى أساتذة الجامعات بشكل إجمالي. هذا لا ينفي ظهور حالات فرديةمفارقة. بالطبع ليس كل من يعمل في المدرسة مثقفاً، وليس كل من يعمل فيالجامعة مثقفاً أيضاً.
يعارض غرامشي المثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة الريفيةبالمثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة المدينية. فهؤلاء الأخيرون همتقنيو الصناعة، وبصفتهم هذه هم المثقفون العضويون للبورجوازية الصناعية .

غرامشي يعرف العضويّة بالارتباط مع الطبقة المعنية بذاتها،ويعود ليعرف العضويّة بالتقابل بين مثقفي طبقة صاعدة تاريخياً وأخرى في طورانحطاط لهيمنتها التاريخية ولمشروعها الإنساني المستقبلي (كما جاء في البيان الشيوعي).

يقول غرامشي في سياق الحديث عن رجال الدينكمثقفين تقليديين في العصر البورجوازي: “يمكن الربط بسهولة بين الفلسفةالمثالية ككل، ووضع التركيبة الاجتماعية للمثقفين . ويمكن تعريف الفلسفةالمثالية بأنها تعبير عن تلك اليوتوبيا (الخيالية أو الغير واقعية أو المثالية Utopie (الاجتماعية التي تصور فيهاالمثقفون أنهم “مستقلون” ومتميزون، وأن لهم شخصيتهم الخاصة أو ما يسمى “روح الفريق” الخ..” . المثالية بهذا المعنى فكر شطح وفشل في العودة إلىالواقع الذي جُرّد على أساسه، والفكر المثالي تضخيم لجانب من جوانب واقعمعقد. يكتب لينين في دفاتر حول الديالكتيك: “المثالية الفلسفية ليست سوىحماقة من وجهة نظر مادية فظة، مبسطة، ميتافيزيقية. فبالعكس، من وجهة نظرالديالكتيك الماديّ ، المثالية الفلسفية هي إنماء أحادي الجانب، مبالغ فيه “مفرط، فوق الحد، فياض” (على حد تعبير ديتسغن)، تضخم ، تورم، لإحدىالعلامات الصغيرة، لأحد الجوانب، لأحد وجوه المعرفة، الذي يصبح على هذاالنحو مطلقاً، مفصولاً عن المادة، عن الطبيعة، مؤلهاً”.
في تحديده للمثقفين ينبّه غرامشي إلى أن التحديد ليس باطنياً أو بذاته،ليس في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين، التي هي النشاط الذهني. بل فينسق العلاقات الاجتماعية الذي تجري فيه هذه الأنشطة. فالعامل أوالبروليتاري لا يميز بأنه يقوم بجهد أو عمل عضلي “وإنما في أدائه لهذاالعمل في ظل ظروف معينة وعلاقات اجتماعية محددة”. المثقف يتميز بوظيفتهكمثقف في مجتمع محدد. كل عمل مهما كان بدائياً، يوجد فيه إلى حد ما، شيء منالنشاط الذهني. ولكن ليس كل نشاط ذهني يقوم بوظيفة المثقف. يقول غرامشي: "عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلىالوظيفة الاجتماعية المباشرة” . إذا كان بإمكاننا الحديث عن المثقفين،فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين لأنه لا وجود لهم.
“ لم يعد أسلوب المثقف الجديد يعتمد على البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقتللمشاعر والعواطف، بل أصبح يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياةالعملية كبان ومنظم لها”. “إن أهم ما يميز أية جماعة تتجه إلى السيطرة، هو نضالهامن أجل استيعاب المثقفين التقليديين وإخضاعهم أيديولوجياً. غير أن هذايتحقق على نحو أسرع وأفعل إذا ما نجحت في الوقت نفسه في إعداد مثقفيهاالعضويين”.

إن ظاهرة أمريكا اللاتينية تؤكدملاحظة غرامشي التي تشير إلى وجود ثلاث مراتب أو درجات ضمن الدين الواحد:كبار رجال الدين، رجال الدين اليساريين، والشعب كأفراد متدينين. يكتبغرامشي: ويصل هذا الاختلاف في شرقي آسيا إلى حد لا يصدقه عقل، حيث لاعلاقة البتة لدين الشعب بدين الكتب وإن حملا ذات الاسم.


الاسلام والمثقف:

أنا أعتبر أن أفضل من فهم المجتمع المدني على الاطلاق هو أنطونيو غرامشي، كما وأنه أفضل من فهم دور المثقف في المجتمع. وليس من مفهوم أسمى وأرفع من مفهوم غرامشي حسب زعمي الا المفهوم الاسلامي للمثقف و دوره .

ينطلق ديننا الحنيف من أنه "لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". كما وأنه ينطلق أيضا من أنه "انما يخشى الله من عباده العلماء". وانطلاقاً من أنه "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون"، نصل الى الأساس، الى الاسلام الذي يعلمنا العبادة التي توصلنا الى حيث نحب ان نصل، الى الخلد. الى الجنة . من هنا "اعلم أنه لا اله الا الله". فلا اله الا الله علم نتعلمه. ما من شيء في هذه الأرض والسماء الا ويؤكد هذه المسلمة لا اله الا الله.

والثنائية تسيطر في هذه الأرض، وحدة التناقض كما يقول ماركس. الخير والشر الجنة والنار وحتى الخلد له طريقان: الطريق الشيطاني والطريق الالهي. ومما لا شك فيه أن الخلود الرباني مختلف في طبيعته عن الخلود الشيطاني: جاء ابليس الى آدم ليدله على "شجرة الخلد وملك لا يبلى". "فاكلا منها وبدت لهما سوآتهما وراحا يخصفان عليهما من ورق الجنة" "وعصى آدم ربه فغوى". وكانت النتيجة أن "اهبطا منها جميعا". و"بعضكم لبعض عدو" "ولا نزال مختلفين". ووصل آدم الى الخلود الابليسي وهو التكاثر التي يشترك فيه الانسان والحيوان والنبات. فالخلود هو عبر النوع وليس للانسان الفرد.

لنعد الى صورة المثقف في ديننا الحنيف. من المؤكد أن هذه الصفة لم تأت كما نلفظها نحن. فاللغة كائن حي تتطور كما يتطور من يستعملها لذلك نتحدث عن المعنى المعجمي والمعنى الدلالي. وحسب زعمي فان صفة الشاهد التي يستعملها القرآن يمكن أن تتطابق مع مفهوم المثقف الذي أريده. يقول رب العزة : "هذا بلاغ للناس وهدىً وموعظة للمتقين". الى ان يقول "لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا". الشهداء على الناس هم القادة ، الذين بامكانهم قيادة الناس لما فيه خيرهم أي خير الناس وخير الشهداء من ناحية ثانية. لأن الخير الذي يريده الله للناس ليس ذلك الذي نفتش عنه في الشهوة الخفية أو غيرها من الغوايات التي أرادها الشيطان للانسان كما في قصة آدم عليه السلام الذي عصى فغوى. الله تبارك وتعالى يريد من الانسان أن يحقق انسانيته، لذلك ما على هذا الانسان الا النظر الى أعلى، الى المعاني السامية الى الرسالات. يقول تبارك وتعالى "انا عرضنا الأمانة على السماوات والجبال والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان"... فالانسان الذي يطيع الله، الذي يقود الناس، الشاهد، المثقف العضوي حسب تعبير غرامشي هو حامل الرسالة، هو من يريد ان يغير الواقع الكفري الى واقع ايماني، الواقع الذي يحقق مصالح الناس في الدنيا والآخرة. فالدين ما هو الا معطىً الهي فيه تتحقق سعادة الانسان في الحال والمآل. ومن ذا الذي عليه ارشاد الناس الى مصالحهم ان لم يكن المثقف الذي وعى رسالة الاسلام واستوعب السنن الالهية، السنن الاجتماعية التي من خلالها ومن خلالها فقط تكون سعادة الانسان.

لن أطيل في هذا الموضوع. انما أريد أن أسأل ما الذي علينا فعله في مجتمعاتنا الصغيرة التي ننتمي اليها سواء كنا ملتزمين ايمانياً أو كنا ملتزمين فكرياً أ و كنا نريد أن نحقق انسانيتنا كما أراد الله للانسان أي انسان، كافراً كان او مؤمناً، فالله تبارك وتعالى لم يعط الخير للمؤمن فقط انما أعطاه لكل الناس لأنهم جميعهم من خلقه "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا".

في هذا المجال أتذكر ما قالته لي احدى الأخوات هل نحقق ذواتنا بالأكل والشرب ؟ وهل هذا ما يميزنا عن سائر المخلوقات؟ أرسطو يقول العقل وديكارت يقول التفكير وماركس يقول قوة العمل وديننا الحنيف يقول حمل الأمانة.

في هذا الصدد أرى ما كتبه الأستاذ محمود صبري مهماً وحيوياً يقول: "المثقف ينبغي ان يدخل معترك العمل السياسي لا كسياسي محترف يهتم بالثقافة، بل كمثقف محترف يهتم بالسياسة، وهكذا يستطيع ان يحرر نفسه من خدمة (مراكز القوى)، انتماؤه الأساسي،الذي هو أوسع وأهم من أي انتماء أخر، هو الى الفكر والثقافة وليس الى السياسة بل انه يستطيع أن يقلب الآية ويفرض على السياسة أن تنتمي بتبني رؤيته".

وأضيف فأقول: مشكلتان رئيسيتان تواجهان المواطن(هذه المفردة لها معنىً محدد على صعيد علم الاجتماع أو الاقتصاد السياسي ولا أعنيه في هذا المجال) أو لنقل الانسان العربي والمسلم هما مشكلة الانتماء ومشكلة التموضع. فالانتماء بالنسبة للانسان العربي أو المسلم عو انتماء "براني". فهو لا يفعل فعله في هذا الانسان. ولو أنه كذلك لأصبحت حركاته وسكناته تنطلق من فعل انتمائه. ودليلنا على ذلك واضح وضوح الشمس اذا ما أخذنا مثالاً عليه ممارسة الأحزاب القومية أو الحركات القومية منها والاسلامية. فحزب البعث كان يسيطر على الحكم في سوريا والعراق وأعدى كيانان لبعضهما البعض كانا سوريا والعراق. واذا أخذنا بعين الاعتبار بأنهما ينطلقان من نفس المنطلقات العقائدية ويطرحان نفس الشعارات القومية فلا نجد امكانية للخلاف بينهما الا أن الانتماء ليس حقيقياً. هذا اذا لم نعرج على الانقسامات بين الحركات التي تطرح نفس الشعارات ولها نفس المنطلقات. حركة القوميين العرب التي انقسمت أكثر من مرة على نفسها؛ وأنتجت على المستوى الفلسطيني الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والقيادة العامة. ولا يمكن تفسير ذلك الا بما رحنا الى تسميته الانتماء البراني. أما التفسيرات الايديولوجية التي استخدمتها الأطراف المختلفة تبريراً لانقساماتها فلا تساوي، حسب اعتقادي، ثمن الورق الذي صرف لتأكيد هذه التبريرات.

نأتي على الجبهة الاسلامية، و علينا أن نتنبه هنا الى أن الكلام يتناول الاعتقادات ذات الطابع السياسي والالتنزام على صعيد السياسة العملية وليس على طاعة الله عز وجل من وجهة نظر عقائدية أو ايمانية، "فانما الأعمال بالنيات، وانما لكل امرىء ما نوى....". نقول بأن هناك العديد من الحركات الاسلامية التي تنطلق من نفس المنطلقات وتعود فقهيا الى نفس العلماء ومع ذلك نراهم على صعيد الممارسة السياسية أو الدعوية مختلفين أو متعادين، ولا نرتكب معصية ان قلنا متحاربين. الام يعود هذا؟ لا يمكن تفسير ذلك الا بأن الالتزام لم يفعل فعله بعد في النفوس حتى يتمكن هؤلاء من ممارسة عقيدتهم بالشكل الذي يحقق أهدافهم ويقربهم الى الله عز وعلا أكثر؛ وهذا نتيجةً لما أسميته الانتماء البراني. فالانتماء الحقيقي يجعل امكانية التناقض في الوحدة ممكنة أو متيسرة. فالتناقض على ما نعلم، يمكن أن يختلف كمياً ونوعياً. فتناقضنا مع اسرائيل هو تناقض عدائي لا يمكن حله الا بازالة أحد طرفي التناقض أو بتغيير فعلي للصفة المميزة لأحد طرفي هذا التناقض. فهذا النوع من التناقض هو تناقض نوعي. أما التناقض بين الحركات الاسلامية فهو تناقض من نوع آخر، لنسمه كمياً، و حله لا يكمن بازالة أحد طرفي التناقض كما في حالة اسرائيل والأمة الاسلامية، انما يتم بالتفاهم فيما بين هذه الحركات على حل التناقض فيما بينها، حبياً، أي بالتفاهم وايجاد نقاط اتفاق يمكن العمل عليها وتكبير مساحة العلاقة المشتركة والعمل المشترك؛ وذلك يساهم مساهمةً فعالةً في القضاء على مثل هذا التناقض. أما في حال عدم التمكن من ايجاد الوحدة ضمن التناقض، فانما يدل ذلك على ما قلناه آنفاً: أعني ضعف الانتماء الجواني، الذي يمكن أن يفعل فعله في تغيير النفوس وبالتالي ترشيد الممارسة الايمانية. لن أطيل في هذا المجال، انما سوف أضرب مثلاً واحداً يليق بهذا المقام (الانتماء الحقيقي الجواني). ورد في السيرة المشرفة أن أبا سفيان بن حرب و أبا سفيان بن الحارث قد أشهرا اسلامهما في نفس اليوم، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة يريد أن يفتحها. وبعد فتح مكة بعدة أيام كانت غزوة حنين، حيث مني المسلمون بهزيمة في بدايتها. وقد صمد مع النبي عليه السلام قلة من المسلمين ومن بينهم أبو سفيان بن الحارث، بينما كان زميله أبو سفيان الآخر يدعو على النبي ويتمنى له الهزيمة. هكذا ورد في السيرة. نقول أن انتماء أحدهما كان برانياً وشكلياً بينما انتماء الآخر كان جوانياً. أو كما قال تبارك وتعالى "انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوابأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون".

أما بالنسبة لمسألة التموضع فنأخذ المثال التالي: (كيف تموضع أتاتورك غربياً وتخلى عن عثمانية الدولة التركية). أقام مصطفى كمال الملقب "أتاتورك" الجمهورية التركية. وكان لابد له أن يعطي هذه الجمهورية الوليدة صفات تميزها عن الدولة التي أقيمت على أنقاضها. راح يفتش عن هوية جديدة غير هويتها الاسلامية. ودعا الى التتريك. هذه الخطوة كانت قفزةً كبيرةً قام بها الحاكم الجديد، ولكنها لم تكن مدروسةً ما يكفي. فالتتريك كان الخطوة الأولى لانبثاق مشاكل كثيرة لم يقم لها مصطفى كمال حساباً. فالأكراد الذين قبلوا بالانضواء تحت راية الدولة العثمانية، قد قبلوا ذلك انطلاقاً من أنها دولة اسلامية وليست دولة قومية. وهذا هو العامل الأساس والحاسم الذي جعل تركيا لا تعاني من هذه المشكلات ابان عثمانيتها. المهم أن أتاتورك أخذ قراراً حاسماً بالتوجه غرباً. ونفذ ما وعد به. غير الحرف التركي من العربي الى اللاتيني، وخفف علاقاته مع جيرانه المسلمين ما أمكنه ذلك. وكان لما قام به انعكاسات سلبية في الجوار العربي. علماً أنه لا يمكننا انكار انبثاق طبقة بورجوازية وطنية ساهمت في بناء اقتصاد تركي. ولكن القضايا الخلافية التي أثارها انتقال أتاتورك الى الغرب على البنية الداخلية التركية على الصعيد الايديولوجي كانت كبيرة، وكذلك الأمور التي ظهرت ولم يكن لها وجود سابقاً، منها قضية لواء الاسكندرون بين سوريا وتركيا، قضية اقتسام مياه دجلة والفرات والعاصي ما بين تركيا، سوريا والعراق وجزئياً لبنان، القضية الكردية التي تتوزعها تركيا، العراق، سوريا وايران....

كما وأنه أثار قضية ذات طابع أوروبي أيضاً هي العلمانية. وهذه قضية ليس لها مكان في عالمنا اذ أنه ليس عندنا كنيسة تتدخل في السياسة وليس "لرجال الدين" أن يحكموا. حيث أنه لم يمر في تاريخ الدول الاسلامية أن حكم الفقهاء أو من يسمون برجال الدين. ومع أنها ليست قضية فعلية، ولكن التركيز عليها من قبل أتاتورك قد زاد الطين بلة بالنسبة للقضايا التي أشرنا اليها سابقاً.

ان ما قام به أتاتورك يدخل ضمن نطاق ما أسميته" التموضع والانتماء". فأتاتورك هذا كان خياره الغرب "فتموضع" مع الغرب وصارت نظرته، وخلفاؤه، نظرة غربية. لذلك لم يجد الحكام الأتراك غضاضة في الاعتراف باسرائيل. علماً أنها قامت على أرض اسلامية، كل مسلم مأمور بالدفاع عنها والجهاد من أجل الدفاع عن حياضها. وكانت تركيا "المنتمية" و "المتموضعة" مع الغرب الكيان المسلم الوحيد الذي اعترف باسرائيل؛ الى أن قررت بعض الدول "الاسلامية" الالتحاق بالغرب واعترفت باسرائيل أيضاً مثال مصر والأردن وسلطة محمود عباس.


قبل أن أختم أريد أن أذكركم بالتفاتة أراها رائعة لجان بول سارتر جاءت في روايته "سن الرشد" "L'âge de raison " يقول أحد الشخصيات لصاحبه أنه انتسب للحزب الشيوعي. فيقول له صاحبه لقد انتهيت كموجود. والمعني بالوجود هنا هو existence الوجود وليس être الكينونة كما في التعابير الفلسفية. فحسب سارتر عملية الاختيار تكون مستمرة وليست لمرة واحدة. كانت الآيات تزيد المؤمنين ايماناً على ايمانهم. "يا أيها الذين آمنوا آمنوا".

يقول كامل الدلفي رئيس مركز الآن للثقافة الديمقراطية:

ان البوليتكا (السياسة) بشقيها النظري والعملي تحتاج الى ان تصدر عن وعي مجتمعي وبراديغما (خلفية أو مثال) (paradigme ) حضارية من أجل أن تتمكن للوصول الى علة المشكلات وارتفاع ورقي في الأداء في مواجهة المعضلة .

لقد تعرضت قدسية المعنى في بلادنا الى التشيؤ (أي جعلها شيئاً) والتسعير فان كل شيء بسعر وبثمن وفق انماط الحسابات الرأسمالية الجديدة.
ان المفهوم الاخلاقي (الضمير) حقق تراجعاً في مؤشره الطبيعي ونجد ذلك خاصةً في مجالات نهب الثروة العامة والفساد الاداري والتملق والزيف والتزوير الخ.
وعليه ننبه أن قوة الخلاص هي بأيدينا في بناء مجتمع مدني متطور ، وليس بيد الدولة أو حلفائها الرأسماليين الدوليين لأنهم طالما بحثوا عن خراب هذا المجتمع وابادته ومازالوا .
ان انتاج المثقف العضوي وصلابة عود قوى المجتمع المدني واستمرار تحالفاتها والتنسيق فيما بينها وانهاء حالات الشللية والأنانية في مرافقها والتمسك بروح العمل الجماعي وممارسة النقد الذاتي، والايمان بدور هذه المنظمات وبطابعها التطوعي سينتج لا محالة كتلةً كبيرةً ذات تأثيرات ضاغطة وانتاج سلوكية المراقبة على المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية، حينها يمكن الكلام بطلاقة عن نهاية جدية لما نحن فيه.
(في الأصل محاضرة ألقيت في أحد المنتديات اللبنانية)

حسن محمد ملاط