ابو شجاع
11-22-2009, 01:19 PM
احترام الأفكار
الكاتب: الشيخ العلامة محمد الطاهر ابن عاشور (رحمه الله تعالى)
يقول المبتدؤون والمتوسطون من الكتَّاب "بنات الأفكار"إذا أرادوا أن يملِّحوا العبارة، ويدلوا على منزلهم في علم الاستعارة، وهم لا يشعرون - عند لفظ هاته الكلمة من أفواههم إلا بتلك الاستعارة المطروقة المبذولة - حدوث ذلك الشيء الذي ذكروه عن ازدواج المقدمات وتمخض الفكر.
وربما كان البعض ذاهلاً أو عاجزاً عن هذا المقدار؛ فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها: وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني؛ قصداً للمبالغة في الحرمة والغيرة.
احترام النسب يقع على وجهين: احترامه قبل قوامه، أي أن يُتوخى كل ما يدفع اختلاطاً أو فساداً في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساس قانون الشرع التفصيلي، واحترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يسبَّ أو ينبذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنساباً أدبية فبغير شك يكون الاجتراء عليها بواحد من هذين الجرمين -اللذين احترما بالاحترامين- جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهله حدوداً يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون.
وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، وإن تقصى عن كلفة التصنع لا يفارق مفسدة الاجتراء على بعثرة نواميس الكون والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعاً.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريم الكذب، وتكرير لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها، أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة في علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها.
وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد من لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصاً لحالها.
وأما صاحبك فرجل ألقي إلى الأمة بذلك الوصف العظيم، فكيف تراه والمشاكل تتقاطر عليه، وعيون الحيرة تعشو إلى ضوء اهتدائه، وتنظر إليه، ثم لا يبوء لهم أمرهم إلا بضلال مبين، أو سكوت إن كان المسؤول من خُلَّص الجاهلين.
وأما نفسك فأنت - إذن - بها أعرف.
قضت سنة الله في الناس أن تخضع نفوسهم إلى الحق والواقع والثابت، ترى الرجل تُسند إليه الهِنةُ وهو بريء منها، فتصعد إلى دماغه دماء الغضب، ويدافع عن نفسه دفاع البريء المخلص، بلسان فصيح، وقلب صحيح، ثم تراه تسند إليه تلك السيئة إن كان قد اقترفها، فيطأطئ لها رأساً، ولا يجد منها مناصاً، مهما سترها بأطمار الجحود والمكابرة، حتى تفتضح حاله عند الفراسة الصادقة، أو يزلق لسانه عند البحث الشديد، أليس ذلك آية على أن النفس تخضع إلى الحق وإن لم يكن مشتهاها؟ وتبرأ من الباطل وإن كان هواها؟
كذلك الرجل يبلوه الله - تعالى - بنبات ذرية سوء، فيستسلم إلى ما قدر عليه، فلو كان ذلك الولد دَعِيَّه لقرع السن من ندم، ورضي أن لو باء من سعيه بالعدم.
هكذا حال الأفكار ومنشئاتها متى أسندت إلى غير أصلها قارنتها ندامة واغتباط، وفضيحة تلوح على أخواتها مِنْ تخالفِ شكل، وانحلال، ورباط.
لعل في هذا المقدار مَقْنَعاً من إيصال هذا الإحساس الحكمي إلى نفوسكم أيها النقاد، وتعريفاً بوجوب دعائنا الأفكار إلى آبائها؛ لنقوم بالقسط، فلن نكون كذي ذهن عاقر يُشَوِّه فضيلته بانتحال أفكار ما كان لينال أمثالها.
قد تغتفر الأمور الضرورية والإحساسات الفطرية العامة التي تشترك فيها أفراد الأمة متى تقاربت في الشعور، فلا يجب إسنادها، وربما استحال في البعض ذلك، إن الذي قالها بالأمس لم يصدر كلامه حتى قال مثلها، أو قاربها اليوم آخر.
أما احترام الفكر بالمعنى الثاني فحق على كل صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السخرية والهزو؛ فإن الاسترسال على ذلك يُجْبِنُ الذين تخلقت فيهم مبادئ العقل النظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار، ولو كانت قد وصلت إلى التمكن والرسوخ لأَمَّنا عليها حتى إن تتستر كشمس تحت السحاب، أو كإدبار المحترف للقتال، أترون ذلك يرزونا المنفعة المقصودة؟ ولكننا لا نخشى عليها إلا أن تموت تحت أقفال الأسر في صباها، وما بلغت أَشُدَّاً تستطيع به مقاومةَ الزمان، ولَيَّ أيدي المضطهدين.
نحن نوقن أن أفكاراً ساقطة تنشأ في الأمة قد يجب الضغط أن لا تشيع؛ فتستهوي أقواماً غافلين بسطاء، فتصبح وباءاً في الأفكار المهزولة.
ولكنَّا لما وازنَّا بين هاته المصلحة النادرة، وبين المفسدة الكبرى التي كانت ولا زالت تتضاءل من اضطهاد الأفكار السامية، باسم التحقيق آونة وباسم.... أخرى؛ لأنها لا توافق الرغبات، ولا تجاري الشهوات - حكمنا للأفكار باحترامها، وجعلنا البحث والنقد معياراً يُمَيِّز به خبيثها من طيبها، ولا يلبث الحق أن يهزم الباطل.
لو كنا نضطهد الأفكار لاشتبه الباطل منها بالحق، فيصرخ يستنصر لاهتضامه كما يستصرخ الحق شيعته، وربما وجد من السامعين قلوباً ترق للمضعوف وإن جار، فيصبح فتنة أشد مِنْ أَنْ لو ترك يتمارض بالنقد الصحيح والحجة الدامغة، حتى يموت حتف أنفه، ثم لا يثأر له أحد.
ليس يحول هذا دون الواجب من تقويم المخطئ، إنا نعني باحترام الفكر أن لا يُتَعرَّض لصاحبه الشخصي بالطعن والاستخفاف.
ولكن التقويم يكون بصفة كلية، وتعريض بسيط بين سقوط الرأي بوجه برهاني أو خطابي ينفر الغافلين.
وليس احترام الأفكار يأبى مناقشتها والحكم بضعفها، لكن تجب الأناة في الحكم على الفكر أن لا يتعرض له بالنقد، مادام فيه احتمال الصواب.
أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون، أو بشهوات نفس تخب خَبَبَ البازل الأمون ما نقتصد به زمان المراجعة إلى استئناف شيء جديد ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفي، والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟.
الكاتب: الشيخ العلامة محمد الطاهر ابن عاشور (رحمه الله تعالى)
يقول المبتدؤون والمتوسطون من الكتَّاب "بنات الأفكار"إذا أرادوا أن يملِّحوا العبارة، ويدلوا على منزلهم في علم الاستعارة، وهم لا يشعرون - عند لفظ هاته الكلمة من أفواههم إلا بتلك الاستعارة المطروقة المبذولة - حدوث ذلك الشيء الذي ذكروه عن ازدواج المقدمات وتمخض الفكر.
وربما كان البعض ذاهلاً أو عاجزاً عن هذا المقدار؛ فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها: وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني؛ قصداً للمبالغة في الحرمة والغيرة.
احترام النسب يقع على وجهين: احترامه قبل قوامه، أي أن يُتوخى كل ما يدفع اختلاطاً أو فساداً في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساس قانون الشرع التفصيلي، واحترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يسبَّ أو ينبذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنساباً أدبية فبغير شك يكون الاجتراء عليها بواحد من هذين الجرمين -اللذين احترما بالاحترامين- جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهله حدوداً يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون.
وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، وإن تقصى عن كلفة التصنع لا يفارق مفسدة الاجتراء على بعثرة نواميس الكون والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعاً.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريم الكذب، وتكرير لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها، أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة في علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها.
وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد من لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصاً لحالها.
وأما صاحبك فرجل ألقي إلى الأمة بذلك الوصف العظيم، فكيف تراه والمشاكل تتقاطر عليه، وعيون الحيرة تعشو إلى ضوء اهتدائه، وتنظر إليه، ثم لا يبوء لهم أمرهم إلا بضلال مبين، أو سكوت إن كان المسؤول من خُلَّص الجاهلين.
وأما نفسك فأنت - إذن - بها أعرف.
قضت سنة الله في الناس أن تخضع نفوسهم إلى الحق والواقع والثابت، ترى الرجل تُسند إليه الهِنةُ وهو بريء منها، فتصعد إلى دماغه دماء الغضب، ويدافع عن نفسه دفاع البريء المخلص، بلسان فصيح، وقلب صحيح، ثم تراه تسند إليه تلك السيئة إن كان قد اقترفها، فيطأطئ لها رأساً، ولا يجد منها مناصاً، مهما سترها بأطمار الجحود والمكابرة، حتى تفتضح حاله عند الفراسة الصادقة، أو يزلق لسانه عند البحث الشديد، أليس ذلك آية على أن النفس تخضع إلى الحق وإن لم يكن مشتهاها؟ وتبرأ من الباطل وإن كان هواها؟
كذلك الرجل يبلوه الله - تعالى - بنبات ذرية سوء، فيستسلم إلى ما قدر عليه، فلو كان ذلك الولد دَعِيَّه لقرع السن من ندم، ورضي أن لو باء من سعيه بالعدم.
هكذا حال الأفكار ومنشئاتها متى أسندت إلى غير أصلها قارنتها ندامة واغتباط، وفضيحة تلوح على أخواتها مِنْ تخالفِ شكل، وانحلال، ورباط.
لعل في هذا المقدار مَقْنَعاً من إيصال هذا الإحساس الحكمي إلى نفوسكم أيها النقاد، وتعريفاً بوجوب دعائنا الأفكار إلى آبائها؛ لنقوم بالقسط، فلن نكون كذي ذهن عاقر يُشَوِّه فضيلته بانتحال أفكار ما كان لينال أمثالها.
قد تغتفر الأمور الضرورية والإحساسات الفطرية العامة التي تشترك فيها أفراد الأمة متى تقاربت في الشعور، فلا يجب إسنادها، وربما استحال في البعض ذلك، إن الذي قالها بالأمس لم يصدر كلامه حتى قال مثلها، أو قاربها اليوم آخر.
أما احترام الفكر بالمعنى الثاني فحق على كل صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السخرية والهزو؛ فإن الاسترسال على ذلك يُجْبِنُ الذين تخلقت فيهم مبادئ العقل النظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار، ولو كانت قد وصلت إلى التمكن والرسوخ لأَمَّنا عليها حتى إن تتستر كشمس تحت السحاب، أو كإدبار المحترف للقتال، أترون ذلك يرزونا المنفعة المقصودة؟ ولكننا لا نخشى عليها إلا أن تموت تحت أقفال الأسر في صباها، وما بلغت أَشُدَّاً تستطيع به مقاومةَ الزمان، ولَيَّ أيدي المضطهدين.
نحن نوقن أن أفكاراً ساقطة تنشأ في الأمة قد يجب الضغط أن لا تشيع؛ فتستهوي أقواماً غافلين بسطاء، فتصبح وباءاً في الأفكار المهزولة.
ولكنَّا لما وازنَّا بين هاته المصلحة النادرة، وبين المفسدة الكبرى التي كانت ولا زالت تتضاءل من اضطهاد الأفكار السامية، باسم التحقيق آونة وباسم.... أخرى؛ لأنها لا توافق الرغبات، ولا تجاري الشهوات - حكمنا للأفكار باحترامها، وجعلنا البحث والنقد معياراً يُمَيِّز به خبيثها من طيبها، ولا يلبث الحق أن يهزم الباطل.
لو كنا نضطهد الأفكار لاشتبه الباطل منها بالحق، فيصرخ يستنصر لاهتضامه كما يستصرخ الحق شيعته، وربما وجد من السامعين قلوباً ترق للمضعوف وإن جار، فيصبح فتنة أشد مِنْ أَنْ لو ترك يتمارض بالنقد الصحيح والحجة الدامغة، حتى يموت حتف أنفه، ثم لا يثأر له أحد.
ليس يحول هذا دون الواجب من تقويم المخطئ، إنا نعني باحترام الفكر أن لا يُتَعرَّض لصاحبه الشخصي بالطعن والاستخفاف.
ولكن التقويم يكون بصفة كلية، وتعريض بسيط بين سقوط الرأي بوجه برهاني أو خطابي ينفر الغافلين.
وليس احترام الأفكار يأبى مناقشتها والحكم بضعفها، لكن تجب الأناة في الحكم على الفكر أن لا يتعرض له بالنقد، مادام فيه احتمال الصواب.
أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون، أو بشهوات نفس تخب خَبَبَ البازل الأمون ما نقتصد به زمان المراجعة إلى استئناف شيء جديد ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفي، والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟.