تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : اليوم نبكيكم .. وكلّ يوم ..



بنت خير الأديان
09-24-2009, 07:29 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


بقلم // براء نزار ريان

اليوم نبكيكم .. وكلّ يوم!


والدي الحبيب،

سلام إليك وعليك، بقدر اشتياقي وتحرّقي للقياك، وما في القلب لك من وجد وشوق!

أحبّ أن أخبرك بداية أننا نحسن بالله الظنّ، وأننا نراكم بإذن الله في جنان الخلد تتنعّمون، على الأرائك تنظرون، ونظنّ أن الله سبحانه أكرمكم بكرامة الشهادة في سبيل الله، وأجزل لكم المثوبة في الدنيا والآخرة بإذنه، ولكننا نشتاق إليكم ولذلك نبكيكم!
تنقصنا نظراتكم، وتعوزنا ضحكاتكم، نفتقد ابتساماتكم، ونشتاق إلى جلساتكم، وتحنّ نفوسنا إلى جمعاتكم، لا سيّما في مثل هذا اليوم..
الله وحده يعلم كم افتقدناكم، وكم بكيناكم.. لكننا من أجلكم ومن أجل رسالتكم، وقبل ذلك رغبة فيما أعدّ الله للصابرين، تجلّدنا ما استطعنا، وتحمّلنا فوق ما يمكننا، لكننا يا أبي بشر من لحم ودم.. لذلك يا أبي نبكيكم!
لطالما تمنّيت لك الشهادة في سبيل الله، ولم أكن أرضى لك إلا أن تموت شهيدًا، وما كان لمثلك إلا أن يموت هذه الميتة الشريفة، لكنه كان رحيلًا مبكّرًا وأليمًا.. وهذا ما يبكيني!

كما أنني كنت أفرح بإخوتي الصغار، ولطالما فرحت بهم، استبشرت بميلاد كل منهم، وأذكر لحظات خروج كل منهم إلى الدنيا كما لو أنها أمامي، وقد كنت أحلم فيما أحلم أن يكون لك من الذرّية ما ينافس عائلة كاملة، وقد أنعم الله عليك وآتاك، وأكرمهم بما هو أفضل من ذلك .. لكننا –بضعفنا وقصور تفكيرنا- كنّا نحبّ أن يظلّوا بيننا ..
لذلك يا أبي نبكيكم!

لقد أسعدني أن ختم الله لك وللوالدة وللخالات بالشهادة، وأكرمكم بهذه الكرامة بعد طول جهاد وبذل، وأحمل عن كل منكم ذكريات تصلح لي زادًا حتى ألقاكم، لكن إخوتي الصغار يا أبي لم أسعد برؤيتهم كما كنت أتمنّى.. والخيرة فيما اختاره الله .. لكنني أبكيكم!

في رمضان يا والدي .. كنّا نفطر سوية في بيتكم العامر، تعوّدنا على ذلك يا أبي، وكان صعبًا أن نفطر وحدنا، لكننا آثرنا بعد رحيلكم أن نفطر سوية أيضًا وبما تبقى منّا في بيوت بعضنا بالتناوب.. وشعرنا أن الله مبارك فينا، وأننا بإذن الله كثرة .. لكننا مجرّد حفنة منكم.. فلذلك نبكيكم!


ولدك بلال يا أبي.. إنه يشبهك كثيرًا..
إنني أذكر إذ قلت لك يومًا: لن تجد أخًا مثل بلال لإخوته أبدًا! فتبسّمتَ تبسّم الرضا..
لقد كان عند ثقتك يا والدي، إنه يحبّ لنا ما يحبّ لنفسه وأكثر.. ويؤثرنا على نفسه وأكثر، ويفدينا بروحه وأكثر!
إنه باختصار –وعلى قرب السنّ- والدنا بعدك، لكننا لا نرى لك مثيلًا ولا عنك تعويضًا أنت وسائر الأحباب ولذلك نبكيكم!
لكن حسبي أنه يشبهك يا أبي وقد عزّ أشباهك، ولذلك أسمّيه الشيخ بلال، تيمنًا بك، ودعاء لله بأن يسير على طريقك.. لكنه نفسه محتاج إليك .. فلذلك أبكي وسأظلّ أبكيكم!

محمّد يا والدي كبر وشبّ، وهو قوي مدبّر.. هو يدنا ورجلنا يا أبي.. ورجل المهمات الصعبة فينا..
رزقنا الله منه نزارًا بعد استشهادك، وفرحنا بهذا الوافد الوسيم الجسيم، لكننا كنا نحبّ أن تشاركونا فرحته.. ولذلك نبكيكم!
حملت زوجتي يا والدي، وكان المفاجأة أن في بطنها توأمًا! فبكيت كثيرًا، لأنني كنت أعلم أنك ستسرّ بذلك كثيرًا.. شعرت بأن الله يعوّضنا وقرّت بذلك أعيننا، لكننا نفتقد مشاركتكم ولذلك نبكيكم..
قالت الطبيبة إن في بطنها بنتين، فرجوت أن يكونا في طفولتهما كحليمة وريم، وفي صباهما كآية ومريم، وفي شبابهما كأم عبد الرحمن وأم أسامة، وفي ختامهما كأمي وأم علاء! ونرجو من الله أن يبارك فينا، ولكننا سنظلّ نبكيكم!


ابنتك ولاء يا أبي، صابرة ثابتة.. كما ربّيتها تمامًا..
لقد فتحت لها باب الثلاجة على ستة عشر، هم أحبّ الناس إليها وأقربهم منها، فما قالت كلمة لا ترضي الله .. ولا ترضيك..
إنني إذا أردتُّ مدحها، أو سألني أحد عنها، قلت: هي ابنة أبي وأمّي..
إنها تشبه أمّي كثيرًا يا أبي، وفي ذلك لنا عزاء.. لكننا إذا رأيناها افتقدنا أمّنا! وهذا ما يجعلنا نبكيها ونبكيكم!


جدّتي أم زياد صابرة كما عهدتها يا والدي، وهي التي قدّمت من أولادها أكثر من عشرين، وأهلك يا أبي أهلنا كما كانوا على عهدك، وأكثر بعدك.
إننا سعداء بهم يا أبي، لكنّ رحيلكم –ولستم قلة كيفًا وكمًا- قصم ظهورنا وظهورهم، لذلك يبكونكم، ونحن معهم نبكيكم..

اعتكفنا العشر الأواخر في الخلفاء، كان الاعتكاف حزينًا يتيمًا، لم يغادر شباب الخلفاء سنّتك فصلّوا كلّ ليلة عشرة أجزاء في عشر ركعات، وختموا في العشر الأواخر ثلاث ختمات، لكننا افتقدناك وكاد قلبي يقف إذ دخلت قائمة الشهداء المدعوّ لهم في كل وتر! وزادني حزنًا أنني لم أجد غسان ولا عبد القادر حولي وعزّ عليّ ألا يكون لي إخوة صغار، فبكيتكم كثيرًا .. وطالما سنبكيكم!


أخوك إسماعيل هنية..
إنه أخوك فعلًا يا أبي، وقد كان كما أخبرتني ذات ليلة إذ قلت لي:
إن نفس "أبو العبد" فينا كنفس الشيخ أحمد ياسين!
إنه يحبّ الشهداء يا أبي وذوي الشهداء، ويتبع سنّة حبيبنا محمّد عليه السلام التي كنت تنشرها، وتصدح في دروسك بقوله صلى الله عليه وسلّم: "إني أرحمهما.. قتل أخوهما معي"!
لقد كان عمّنا يا أبي، ولولا أننا لا نرى لك بديلًا لكان أبانا، وزارنا يا والدي مرارًا، واستحلفنا بالله إن احتجنا شيئًا أن نعتبره أقرب الناس، وقد كان كذلك يا أبي، وقد سعدت بثقتك، وفرحت بفراستك.
إنه يحترمنا إذا كلّمنا، ويكرمنا إذا قابلنا، ويعاملنا أفضل مما لو كنت حيًا، وقد أعجبنا ذلك منه كثيرًا، واطمأنّت إلى ذلك قلوبنا لأن قائدًا يحمل كلّ هذا الوفاء هو أهل لتوفيق الله عزّ وجلّ!
قلة يا والدي يتحلّون بالوفاء في هذا العالم، وأقلّ منهم يحملون ما يحمله أبو العبد منه!
كم أسعدنا كرمه، وأقرّ أعيننا وفاؤه، لكننا يا والدي حين نرى ذلك منه نتذكّر طيب أخلاقك، وعلوّ سماتك، فتثور لواعج الشوق لدينا، فنبكيكم!

أخوك فتحي حمّاد يا أبي، إنه أيضًا أخوك..
وقد بكاك ونعاك، وأحسن رثاءك إذ رثاك..
إنه كثيرًا ما يذكرك، وطالما افتخر بك، وقال: إنه –يعنيك يا أبي- أول شيخ لي في الدعوة، وأول مسئول في التنظيم..
اتّصلت به بعد تولّيه الوزارة ثلاث مرّات، فقال في كل مرة: تعال الآن!
وكان في إحداها متعبًا وفي أخرى مشغولًا، فلم يعتذر وقد كان بوسعه الاعتذار، وجلس إليّ ذات مرة وقد غادر اجتماعًا، فبقي معي، واحتفى بي وأكرمني، ولم يعد إلى اجتماعه حتى استأذنت، ففرحت به وسعدت، وفرحت له ثانية إذ أكرمه الله بمولودين ذكرين سمى أحدهما باسمك، والآخر باسم قرينك الشهيد القائد سعيد صيام.
لكننا يا والدي كثيرا ما رأيناك معه، وإذا رأيناه تذكّرناك.. فمن أجل ذلك نبكيكم!

أخوك أبو الناجي الخضري يا أبي..
إنه أيضًا أخوك بحقّ..
لا يكلّمنا إلا ودموعه في عينيه، وإنه يخجلنا بتواضعه وبالغ كرمه، وقد كانت المؤسسة التي جمعتك به –ولعلّها بعض ما يجمعك به- مؤسسة كريمة ووفية أيما وفاء.
إن إخوانك في "الجامعة الإسلامية" –وعلى رأسهم أخوك أبو الناجي- كانوا نموذج أخلاق، وقد احتفوا بنا يا والدي، وأكرمونا بعدك، وأخلفوني مكانك، ثمّ لم يفوّتوا فرصة لتكريمك والإشادة بك.
وقد أطلقت كلّيتك يا والدي مؤتمرًا علميًا يحمل اسمك، يرأسه أخوك الدكتور نسيم ياسين، فبوركت الهمم.
لقد أسعدني ذلك يا والدي وواساني، لكنني كنت أحبّ أن أكون شريكك لا وريثك! لذلك بكيتك إذ دخلت مكتبك، وطالما سأبكيك!

الرجل الأبيض الخلوق الذي عرّفتني إليه في المكتبة يا أبي، وجلس إليك خمس ساعات متواصلات.
كنتَ أخبرتَني أنه صاحب خلق وذوق، لكنني انبهرت بالواقع إذ عايشته، وقد علّمتني يا أبي أنه "ليس الخبر كالعيان".
إنه من أوفى إخوانك إليك، وأحسنهم معاملة لأهلك..
يعاملنا بما لا يعامل به كبار القوم، وأصحاب المراتب والرتب، ويخجلنا إذ نقول له: يا عمّ، فلا يقول إلا: يا أخي!
إنني يا أبي إذ أجالسه أتخيّل كم من الكرام فاتني أن تعرّفني بهم، وكم من أصحاب المعادن الثمينة مثل هذا الكريم قصّر العمر دون أن أتعرف بهم، لذلك يا أبي لا أنفكّ أبكيكم!
لن نفتح اليوم عزاءً لأنك علمتنا أنه بدعة محرّمة، وسنذهب نصلّي العيد نفرح مع المسلمين، لكنني يحزنني ألا تكون خطيبنا اليوم كما تعوّدنا.. ويفطر قلبي أنني لن أبدأ جولة العيد ببيت أهلي .. لذلك يا أبي لا تلمني إن بكيتكم وبقيت الدهر أبكيكم!
إنني يا أبي لو انطلقت أحدّثك عن أسباب بكائنا إياكم، لا سيّما والتكبيرات تصدح صباح هذا العيد، لن أنتهي.. لكن هذا بعض ما يحضرني وتخنقني عبراته، ولا أعلم إن كان سيعجبك هذا منّي أم لا.. لكنني لا أقول لك إلا كما كتبت لك ذات مرّة في حياتك:


يــا والـدي إني لأعــلم أنــه ***** قـد لا تســرّ بشـعري الدفـّـاقِ
فاغفر –رعاك الله- كم من شاعر ***** رفض السكوت بثورة الأشواقِ

الزبير الطرابلسي
09-24-2009, 02:02 PM
رحمك الله يا نزار ريان
نحسبك في جنة النعيم مع الانبياء والشهداء والصيديقين