تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نهاية التاريخ / فوكوياما



شيركوه
09-19-2009, 09:47 PM
نهاية التاريخ / فوكوياما

لم يثر كتاب آخر مثلما أثاره كتاب (فوكوياما) : (نهاية التاريخ وخاتم البشر) من جدل على النطاق العالمي .. وفرانسيس فوكوياما، هذا، الذي كان نائبا لمدير مجموعة التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، والذي يعمل الآن مستشارا لمؤسسة (راند كوربوريشن) المعروفة في رفد السياسة الأمريكية بالدراسات وكبار الموظفين في كل الوزارات والدوائر الأمريكية ..

ومؤسسة (راند) هي من أوحى لفوكوياما بأن يحول مقالته التي نشرها في مجلة The National Interest في صيف عام 1989، ولم تكن تزيد عن عشرين صفحة، ليكتبها في كتاب يقع فيما يزيد على الثلاثمائة صفحة، حيث تبنت المؤسسة الفكرة، وزودت فوكوياما بمكتب فخم ومستشارين ومساعدين وأرشيف هائل ليكون كتابه هذا، مشابها لكتاب الأمير ل (ميكافيللي) ..

وقد أثار المقال المذكور في البداية، جدلا وتعليقات كثيرة في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي والبرازيل وجنوب إفريقيا واليابان وكوريا الجنوبية، وكانت مؤسسة راند تتابع ردات الفعل .. فحثت المؤلف على إنجاز عمله ..

وفي الكتاب، يؤكد المؤلف أن المنطق الاقتصادي للعلم الحديث والنضال من أجل (المنزلة) أديا الى انهيار النظم الاستبدادية اليمينية واليسارية على حد سواء، وإقامة الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية باعتبارها نهاية التاريخ ..

وأهمية عرض الكتاب بالشكل الذي تم به عرض كتاب (صدام الحضارات لصاموئيل هانتنغتون ) تكمن في نشر هذا النوع من المعرفة، التي تحتكر الإحاطة به نخب معينة تقف بمحاذاة أعداء الأمة، ويبتعد عن الإلمام به شرائح واسعة من المثقفين العرب، قد يقتني قسم منهم نسخا من تلك المنشورات، لكنه لم يطلع عليها، إما لكسل أو عدم رغبة واعية.. في حين تتسلل الكثير من مفردات تلك الرؤى التي تتبناها القوى الإمبريالية الى نفوس المبشرين بها في بلادنا من أنصار تلك القوى، حيث يتم التعامل مع شعوبنا وكأنها دمى يلعب بها الموسرون من أبناء الدول المعادية وأصدقائهم عندنا..

وإنني أزعم أن أعرض هذا الكتاب كمحايد، ليطلع عليه القراء الذين يملون الكتابات الطويلة والكلمات الصعبة، ولكنني لا أضمن أن أبقى على الحياد الى نهاية عرض الكتاب ..

والكتاب الذي ألفه فرانسيس فوكوياما وترجمه (حسن احمد أمين) وصدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر بطبعته الأولى عام 1993، وتتكون الترجمة العربية في 380 صفحة يقع في مقدمة وخمسة أجزاء هي :

الجزء الأول: إعادة طرح سؤال قديم.

1ـ تشاؤمنا
2ـ أوجه الضعف في الدول القوية (1)
3ـ أوجه الضعف في الدول القوية (2) أو أكل الأناناس على سطح القمر
4ـ الثورة الليبرالية على النطاق العالمي

الجزء الثاني: شيخوخة الجنس البشري.

5ـ محاولة لكتابة تاريخ عالمي
6ـ آلية الرغبة
7ـ ليس هناك برابرة على الأبواب
8ـ تراكم بلا حدود
9ـ انتصار أجهزة الفيديو
10ـ في مضمار التعليم
11ـ الإجابة عن السؤال السابق
12ـ لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين

الجزء الثالث: الصراع من أجل نيل الاعتراف والتقدير.

13ـ في البدء كانت معركة حياة أو موت من أجل المنزلة الخالصة
14ـ الإنسان الأول
15ـ إجازة في بلغاريا
16ـ الوحش ذو الخدين الأحمرين
17ـ صعود الثيموس وسقوطها
18ـ السيادة والعبودية
19ـ الدولة العامة والمتجانسة

الجزء الرابع: القفز فوق رودس.

20ـ أشد الوحوش لا مبالاة
21ـ الجذور الثيموسية للعمل
22ـ إمبراطوريات الاستياء و إمبراطوريات التوقير
23ـ " واقعية" لا تستند الى واقع
24ـ قوة الضعفاء
25ـ المصالح القومية
26ـ نحو اتحاد سلمي

الجزء الخامس: خاتم البشر

27ـ في ملكوت الحرية
28ـ أناس لا صدور لهم
29ـ أحرار وغير متساوين
30ـ حقوق كاملة وواجبات منقوصة
31ـ الحروب الكبرى للروح

شيركوه
09-19-2009, 09:48 PM
الجزء الأول: إعادة طرح سؤال قديم.

1ـ تشاؤمنا

(( كان بوسع إيمانويل كانط، على رصانته ورجوح عقله، أن يذهب جادا الى أن الحرب تخدم الأغراض الإلهية. أما بعد هيروشيما فقد بات الناس ينظرون الى الحروب كافة باعتبارها ـ في أفضل الحالات ـ شرا لا بد منه. وقد كان بوسع عالم اللاهوت القديس (توما الأكويني)، على ورعه وقداسته، أن الطغاة يخدمون الأغراض الإلهية، إذ بدونهم تنتفي فرص الاستشهاد.. فبعد تلك الأحداث الرهيبة التي وقعت في قلب العالم التكنولوجي المستنير الحديث، هل لا يزال أن نؤمن بإله يمثل التقدم الضروري أكثر مما نؤمن بإله تتجلى قدرته في صورة عناية إلهية ترقب مسيرة الكون؟ ) إميل فاكنهايم

هكذا يبدأ الكاتب معلنا تشاؤمه، مقالته تحت هذا العنوان .. يمكن القول في ثقة بأن القرن العشرين قد غرس فينا جميعا تشاؤما تاريخيا عميقا. فبعكس الأمريكان الذين يروا أن المستقبل سيكون مشرقا، يرى معظم عقلاء القرن العشرين أنه لا شيء يدفعهم للاعتقاد بأن المستقبل سيكون أفضل، وأن ما يراه الغرب بأن العالم يتقدم نحو تكوين مؤسسات سياسية إنسانية فاضلة تمثلها الديمقراطية الليبرالية. وقد استخلص كبار مفكري العالم، أنه من الأرجح أن تحمل السنون القادمة كوارث لم يعهدها البشر من قبل، وشرورا جديدة لا يمكن تخيلها، كالديكتاتوريات القائمة على التعصب وعمليات الإبادة الدموية وابتذال الحياة بسبب غلبة الروح الاستهلاكية على المجتمعات الحديثة، واحتباس حراري وانتشار نووي الخ ..

يقارن (فوكوياما) ما حدث في القرن العشرين بما حدث في القرن التاسع عشر ليبرر نظرته التشاؤمية، فيقول: بالرغم من أن أوروبا عرفت في بداية القرن التاسع عشر هزات عنيفة سببتها الثورات والحروب، فقد كان القرن في مجمله قرن سلام وزيادة غير معهودة في الرخاء العادي. وكان ثمة أساسان رئيسيان للتفاؤل، الأول: الاعتقاد بأن العلم الحديث سيقضي على المرض والفقر فتتحسن بذلك أحوال البشر، وأن التكنولوجيا الحديثة ستتحكم في الطبيعة التي ظلت دوما عدوة للإنسان وستجعلها أداة في سبيل سعادته. والثاني: أن الحكومات الديمقراطية الحرة سيستمر الى المزيد من أقطار العالم.

ثم يقول المؤلف: بأن الرهان على انتشار مبادئ الثورة الفرنسية أو المُثُل العليا لها في تخليص العالم من ديكتاتورياته والحكم المركزي المطلق وتخليصه من تدخلات رجال الدين وخرافاتهم ووقف الحروب الدموية. وقد انتشرت عدة نظريات في أوروبا بالقرن التاسع عشر تشرح كيف أن البشرية أسرة واحدة ومتماسكة وعلوم أبنائها في خدمة الآخرين.

أسباب التشاؤم في القرن العشرين

يرجع تشاؤم الكاتب الذي ألف كتابه في العقد الأخير من القرن العشرين الى قسوة انهيار المطامع السابقة في القرن التاسع عشر، حيث كانت الحرب العالمية الأولى عاملا حاسما في زعزعة ثقة أوروبا بنفسها، رغم أن الحرب أدت الى نتيجة غياب الإمبراطوريات الألمانية والنمساوية والروسية، إلا أن آثارها النفسية كانت عميقة جدا، وقد خيبت آمال المراهنين على انتشار السلم والرخاء حيث كان يسقط خلف الخنادق يوميا عشرات الآلاف من الجنود ولمدة أربع سنوات.

لقد مهدت الحرب العالمية الأولى لمرحلة تفنن بها القائمون على الدولة الحديثة باستنباط مصطلحات وهيئات وأدوات، دولة شمولية، شرطة سرية، مدفع رشاش، طائرة قاذفة، قنبلة نووية، أسلحة دمار شامل، ضرب هيروشيما، محرقة يهود، الاستيلاء على أراضي كبار الفلاحين في روسيا، الستالينية النازية الخ .

إذا كانت هذه المظاهر والأسلحة تُنتَج في بلاد ادعت الرقي والتباهي بالرخاء والأخلاقيات .. فمن يضمن أنها لن تحدث في دول العالم الثالث إذا ما استطاع القدرة على التشبه بها؟ أو حتى أن تتكرر في دول متقدمة تدعي الديمقراطية؟

إن تجارب القرن العشرين، قد أثارت مشكلة ضخمة حول دعوى التقدم على أساس من العلم والتكنولوجيا. ذلك أن قدرة التكنولوجيا على الارتقاء بالحياة البشرية تتوقف بشكل حاسم على حدوث تقدم مواز في أخلاق البشر. إذ أنه بدون هذا التقدم الثاني يمكن القول بأن قوة التكنولوجيا ستستخدم بكل بساطة لتحقيق أهداف شريرة وستتدهور أحوال الإنسانية عما كانت عليه من قبل.

إن الذين يهللون للتقدم في وسائل الإعلام وتطورها بأنها أصبحت أداة إضافية في محاصرة النظم الديكتاتورية يتوهمون في ذلك، كما توهمت CNN عندما نقلت ما حدث في ميدان (تيانانمن في بكين) .. ولم تدرك أن نقل الأخبار والمعلومات بوسائله الحديثة قد استفاد منه (الخميني) في نشر مبادئه الرجعية ليقضي على حليف الغرب (الشاه).

وإن كان الغربيون يتفاخرون بأن نظامهم الديمقراطي الليبرالي قد انتصر على أعتى الأنظمة الشمولية الفاشية والنازية والشيوعية، فإن تساؤلا يدور بين الغربيين أنفسهم حول مدى صلاحية نظامهم هذا ليكون نظاما عالميا، حيث أنهم هم من أشعل الحربين العالميتين الأولى والثانية ودمر المدنية وأحرق اليهود واستخدم السلاح النووي، وهم الذين يتحيزون ـ دون احترام للغير ـ لنظامهم على أنه هو النظام الوحيد الذي يجب أن يسود (وهي نظرة فوقية تتنافى مع فكرة الديمقراطية نفسها وتفتقد للجانب الأخلاقي) .

شكوك غربية بإمكانية استمرار النظام الديمقراطي الليبرالي

في أوائل السبعينات رأى كيسنجر أن الصراع مع الغير قد يكون لا نهاية له، داعيا الى إعادة النظر بالنظام الديمقراطي الليبرالي ولنتعلم كيف نصرف سياستنا الخارجية بالطرق التي كانت الدول قبلنا تصرفها.

وفي عام 1983 طلع علينا (جين فرانسوا ريفيل) يقول إن "الديمقراطية قد يتضح أنها مجرد مصادفة تاريخية، أو جملة اعتراضية قصيرة انقضى أجلها أمام أعيننا"

ولكن أنصار الليبرالية ظنوا أن " مجتمعا فاشلا" كالاتحاد السوفييتي قد وجد مع ذلك مفتاح السلطة والقوة بفضل اختراع الشمولية اللينينية التي مكنت عصبة صغيرة من " البيروقراطيين المستبدين " من الاستفادة من سلطان التنظيم الحديث والتكنولوجيا في التحكم في أعداد غفيرة من الناس الى مالا نهاية. وقد نجحت الشمولية ليس فقط في إرهاب الشعوب الخاضعة لها، وإنما أيضا في إجبارها على تبني قيم سادتها من الشيوعيين.

ونختار ـ ما اختاره الكاتب ـ في قول (توكفيل) من أن الديمقراطيات تجد صعوبة خطيرة في سبيل انتهاج سياسات خارجية جادة على المدى الطويل. فطبيعتها الديمقراطية ذاتها تشل مساعيها، بسبب تعدد الأصوات فيها وعدم الثقة في النفس والنقد الذاتي الخ .

الفكر الشمولي يهتز هو الآخر في القرن العشرين

كما أن الليبرالية والديمقراطية الغربية قد اهتزت ثقتها بنظامها، فإن الفكر الشمولي (الذي كان يمثله الشيوعيون) قد اهتز هو الآخر، فقد تخلت معظم أو كل الأحزاب الشيوعية الأوروبية (فرنسا، إيطاليا، اسبانيا) عما كان يُعرف بديكتاتورية البروليتاريا، وهي أحزاب كانت تعمل في ظل دول ليبرالية.. كما تسللت الأفكار الرأسمالية الى النخاع الشوكي في جسم كوادر الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية الشرقية التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية. كما أن الصين الحالية لم تعد هي الصين التي كانت أيام (ماو سي تونغ).

لم تهتد الأفكار السياسية في القرن العشرين الى صياغة تقلل من الشعور بالتشاؤم ..

شيركوه
09-19-2009, 09:48 PM
ـ أوجه الضعف في الدول القوية (1)


حتى لا يبدو أننا نسقط وجهة نظرنا على ما يقول الكاتب في هذه الزاوية، سنترك المجال للقارئ أن يكتشف كيف كان ل (فوكوياما) وأمثاله أن يتغلغل فكرهم في رسم التصورات للعالم الراهن، ففي هذه المقالة يتفنن الكاتب في إضفاء صفة الحتمية على مسارات أي نظام غير ليبرالي ليسقط هذا النظام في النهاية .. ويستفيد الكاتب من حقائق واضحة للعيان مرت بها الأنظمة الشمولية التي تحدث عنها، ولكنه يتجاهل (عن عمد) مدى تشابه تلك الأنظمة مع النظام الذي يبشر به ضمنا، في حصر حق القرار بمن يستطيع الوصول للحكم حتى في الحالة الليبرالية التي ترتبط ـ كما هو معروف ـ بالقدرة الممكنة للوصول للحكم بفعل المال وحسن تنظيم أدوات أصحابه. (لنرى)

خط بداية الانهيار في الأنظمة الشمولية

لم تبدأ الأزمة الراهنة في الأنظمة الشمولية لا (ببيريسترويكا) جورباتشوف، ولا بسقوط جدار برلين، وإنما بدأت قبل ذلك بأكثر من خمسة عشر عاما بسقوط عدد من الحكومات الاستبدادية اليمينية في جنوب أوروبا، ففي عام 1974 أطاح انقلاب عسكري بنظام (كايتانو) في البرتغال، وبعد فترة من عدم الاستقرار كادت أن تؤدي الى حرب أهلية، انتخب (ماريو سواريش) رئيسا للوزراء في أبريل/ نيسان 1976 وتدرجت البلاد في الانتقال الى حكم ديمقراطي هادئ.

ويسرد الكاتب حالات أخرى في اليونان، وإسبانيا و الفلبين والأرجنتين وتركيا وأورجواي وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية وغيرها. ويحاول إرجاع أسباب التحول نحو الديمقراطية الليبرالية الى عوامل سنوردها بطريقة تختلف عنها في الكتاب وترجمته العربية ..

الافتقار الى الشرعية

يعتبر موضوع الافتقار الى الشرعية أزمة على الصعيد النظري. ذلك أن الشرعية ليست هي العدالة ولا الحق بمعناهما المطلق، وإنما هي مفهوم نسبي قائم في الإدراك الشخصي للناس. ولا غنى لأي نظام قادر على العمل الفعال عن الاستناد الى مبدأ الشرعية بوجه من الوجوه. فليس ثمة ديكتاتور يستند في حكمه إلى القوة المحضة وحدها كما يقال عادة عن هتلر على سبيل المثال. فإن كان بوسع أي طاغية أن يستند الى القوة في التحكم في أولاده أو في المسنين، أو ربما في زوجته، لو أنه كان أقوى من هؤلاء جسديا، فالغالب أنه لا يستطيع التحكم بأكثر من اثنين أو ثلاثة أشخاص بنفس الأسلوب، والمؤكد أنه لن يستطيع أن يحكم به أمة مكونة من ملايين الناس.

وحين نقول إن ديكتاتورا مثل (هتلر) حكم بالقوة فإنما نعني أن أنصار هتلر بما فيهم الحزب النازي والجستابو والفيرماخت، استطاعوا إرهاب القطاع الأكبر من أفراد الشعب جسديا. ولكن، ما سبب ولاء هؤلاء الأنصار لهتلر؟ من المؤكد أن السبب ليس قدرة (هتلر) على إرهابهم جسديا. وإنما السبب في النهاية إيمانهم بشرعية سلطانه. فقد يمكن التحكم بالإرهاب في أجهزة الأمن ذاتها، غير أن الديكتاتور ـ عند نقطة معينة في نظامه ـ لا بد أن يكون له أتباع أوفياء يؤمنون بشرعية سلطانه. كذلك الحال بالنسبة لأحط زعيم من زعماء المافيا وأكثرهم فسادا، فليس بوسعه السيطرة ما لم تقبل (عائلته) شرعيته على أساس ما. أو كما يقول سقراط في (جمهورية أفلاطون) إنه حتى في عصابة اللصوص لا بد من توافر مبدأ من مبادئ العدالة يسمح بتقسيم المسروقات فيما بينهم قسمة عادلة. إذن فالشرعية ضرورية حتى بالنسبة لأكثر الدكتاتوريات ظلما ووحشية.

هل هناك استثناء؟

في بعض الديكتاتوريات تمقتها قطاعات عريضة من الشعب المحكوم، لكنها تستطيع البقاء لفترات طويلة، إذا ما قامت ب (تدليل) أعوانها من أركان الحكم والجيش والقوات الخاصة والأمن .. وليس عليها خطر من موضوع الشرعية، اللهم إلا إذا دب الخلاف بين صفوف الصفوة الحاكمة.

الحروب تنهي الديكتاتوريات

أنهت الحرب العالمية الثانية ديكتاتورية هتلر وموسوليني وانفراد إمبراطور اليابان، كما أنهت حروب إفريقيا ديكتاتورية (كايتانو) في البرتغال، وكذلك سقطت حكومة الأرجنتين بعد فشلها في حرب (الفوكلاند)، وأراد الكاتب أن يومئ الى أن الاتحاد السوفييتي قد أنهته حرب أفغانستان .. ولا ندري هل سيكتب ويقول متنبئا بانتهاء إمبراطورية أمريكا وديكتاتوريتها المموهة بديمقراطية مقننة في مستنقع العراق!

الاقتصاد الضعيف ينهي الديكتاتوريات

عندما تتمكن جماعة من استلام حكم في بلد ما، وتستبد بقمع الشعب وتصادر حرياته، وتمنع الحديث عن الفساد، فإن الفساد سيستشري وعندها فإن ثقة أبناء القطاعات الاقتصادية في البلد نفسه ستتلاشى وتخرج الأموال من البلاد، وتختفي ثقة الرساميل الأجنبية بالتعامل مع البلد، هذا ما حدث في اليونان والأرجنتين والبرتغال نتيجة حروبها.

هل القمع وحده قادر على إطالة عمر الدكتاتوريات؟

يضرب الكاتب مثلا، أنه في جنوب إفريقيا تم اعتقال 18 مليون جنوب إفريقي من السود، لضمان استغلالهم في إمداد الآلة الاقتصادية العنصرية في العمالة لكن ذلك لم يمنع من انتهاء ديكتاتورية النظام العنصري بعد اكتشاف عقم التجربة.

شعوب خانعة

يستنكر الكاتب وصف بعض الشعوب بأنها خانعة، فيقول : أن وصف شعب بأنه (سلبي و قدري وسوداوي) هو وصف سطحي لا يرتقي للحصافة، فشعوب البرتغال واليابان وألمانيا أثبتت عكس هذه النظرة، كما أن أي شعب وإن بدا أنه مفكك ومترهل، فإنه يفكر كما لو كان جسما واحدا يراقب و يتأمل ويتفحص التغيرات التي تحدث حوله على كل صعيد، وعندما يترنح جسم النظام ويدب الضعف والخلاف بصفوته وتتوقف مراهنات أصدقاءه الخارجيين، ويصبح الحكم غير قادر على تصريف أمور حياة الشعب اليومية، تصبح كل تلك الظروف وكأنها قائد تم انتدابه لدفع عموم الشعب بما فيه القوات المسلحة للانقضاض على النظام وإنهاءه .

هناك من يدرك من الحكام الشموليين ضرورة التغيير

يستشعر بعض الحكام الشموليين صعوبة المستقبل، وعدم التمكن من الاستمرار في النهج الشمولي فيبادرون بالانتقال الى عهد يتم فيه تناقل السلطة بأسلوب ديمقراطي، كما حدث في إسبانيا (نهاية حكم فرانكو) وكما حدث في السودان ( سوار الذهب) وكما حدث في موريتانيا .. وكما حدث في معظم دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي

كلمة أخيرة

في حالات التعثر في أداء الحكومة الليبرالية، فإن الشعب سيكتفي بتغيير الوزراء أو التعجيل بانتخابات أو تعديل قانون أو الدستور .. بيد أنه في حالة الحكم الشمولي، ليس هناك أمل بأي حل إلا بانتصار أحد الطرفين (الشعب أو الحكم).

شيركوه
09-19-2009, 09:54 PM
أوجه الضعف في الدول القوية (2)
أو
أكل الأناناس على سطح القمر

(( إليك، إذن، مقتطفا مما كتبه في الستينيات طالب بالمرحلة الثانوية يدعى كوبيشيف: نحن الآن في عام 1981. الشيوعية. الشيوعية تعني وفرة من الخيرات المادية والثقافية... كل وسائل المواصلات في المدينة تدار بالكهرباء، وكل المشروعات الضارة قد نقلت الى خارج المدينة... إننا نعيش على سطح القمر، ونمشي بين شجيرات الأزهار والفاكهة..))
((فكم من السنين يا ترى لبثناها ونحن نأكل الأناناس على سطح القمر؟ حبذا لو أتى يوم نأكل فيه كفايتنا من الطماطم هنا على ظهر الأرض))
أندريه نويكين: " النحلة والمثل العليا للشيوعية"*1

بعد أن قدم الكاتب (فوكوياما) فقرة الافتتاح التي ينتقيها بمهارة عالية، يلخص فيها أو يمهد لما يريد قوله. وحيث أن ما أراده في هذه المقالة هو الهجوم المؤدب على الشيوعية والاشتراكية والتمجيد المبطن لليبرالية وحتمية انتصارها وعبثية الوقوف في وجهها، فإنه يضع دعامات مقالته في رشاقة عالية.

روسيا المتخلفة

صور الكاتب أن الروس وقبولهم للشيوعية أو للنخبة الحاكمة (في الاتحاد السوفييتي) لا يمكن أن يخلصوا منه، لأنهم شعب متخلف وخانع، وهذا التصور ليس هو من وضعه بل هيأ للقارئ أن كل الغرب يشاركونه انطباعه في تخلف الروس. ومن المفيد القول هنا أن روسيا منذ نشأتها كدولة قوية في بداية القرن السادس عشر، لم تكن على وفاق مع الغرب الأوروبي لأكثر من مسألة، وقد بينها (صاموئيل هانتنغتون) في كتابه (صدام الحضارات) الذي قدمنا تلخيصه سابقا. ولكن الكاتب وبعد أن يصور الروس بخنوعهم، يبدي عنصر المفاجأة عندما يتخلصون من ديكتاتوريتهم، ليبعث برسالة مفادها أنه بالإمكان لأي شعب متخلف بالعالم أن يلحق بالمعسكر الغربي الليبرالي مهما كان تخلفه، حتى لو كان هذا التخلف يساوي التخلف الروسي!

طار فوق عش الوقواق

قصة حشرها الكاتب للتدليل على تصويره للخنوع الروسي المفرط لحكومته، وكانت بالأصل رواية تحت نفس الاسم (طار فوق عش الوقواق One Flew Over The Cuckoo,s Nest) كتبها (كين كيسي) عام 1962 ، يتحدث فيها عن نزلاء لمصحة (للمجانين) يحاول البطل تحريرهم وعندما ينجح بذلك يعودون طوعا للمصحة! هكذا أراد الكاتب تصوير الشعب الروسي بتلذذه بعذابه داخل مصحة حكومته!

تساؤل يتظاهر به بالبراءة

يستعرض الكاتب القوة التي كانت عليها روسيا أيام (خور تشوف) حيث كانت نسبة النمو الاقتصادي تزيد عن ضعفي مثيلاتها في الدول الغربية، وكيف كانت خشية الغرب، من أن يتحول العالم كله للنموذج السوفييتي، وأنه لم يكن هناك من يتوقع السرعة بالانهيار كالتي حدثت، فماذا حدث؟ (السؤال البريء!)

1ـ في بداية الثمانينات سمحت السلطات الصينية للفلاحين الذين يشكلون 80% من الشعب الصيني بزراعة أرضهم وبيع محاصيلهم، معلنا انتهاء فكرة المزارع الجماعية.

2ـ في عام 1986 شرعت الصحافة السوفييتية بنشر مقالات تهاجم ستالين وعهده وجرائمه، في إشارة تبدي تنصل نظام (جورباتشوف) من الرضا عمن سبقه من العهود.

3ـ في شباط/فبراير 1989 انسحب الجيش السوفييتي من أفغانستان.

4ـ في أوائل عام 1989 أعلن الإصلاحيون في المجر (هنغاريا) إجراء انتخابات متعددة .. كما فعل البولنديون بانتخاب أعضاء نقابة (تضامن) رغم محاولة الشيوعيين تزييف تلك الانتخابات.

5ـ في ربيع 1989 استطاع عشرات الألوف من الطلبة بالسيطرة على بكين بعض الوقت مطالبين بإنهاء الفساد، ولكن الجيش سحق انتفاضتهم.

6ـ في يوليو وأغسطس/ تموز وآب 1989 هجم مئات الألوف من الألمان الشرقيين باتجاه ألمانيا الغربية مما أدى الى نشوء أزمة انتهت بهدم سور برلين

7ـ في يناير/كانون الثاني 1990 ألغيت المادة السادسة من الدستور السوفييتي التي تضمن (دورا قياديا) للحزب الشيوعي.

8ـ في أعقاب إلغاء المادة السادسة، تشكل مجموعة من الأحزاب في الاتحاد السوفييتي، وتم انتخاب بوريس يلتسين رئيسا لروسيا.

9ـ جرت انهيارات بالجملة في دول أوروبا الشرقية، وجرى بعدها انتخابات ابتعدت فيها الأحزاب الشيوعية عن السلطة.

لم يستطع أي فصيل أو مجموعة الوقوف أمام الاكتساح الهائل للجماهير في إحداث التغيير الهائل. وبعبارة أخرى لم يرغب أحد في الدفاع عن الحالة السابقة إلا الحالة التي قام بها (رسلان حسب اللاتوف) في محاولة الانقلاب على جورباتشوف في آب/أغسطس 1991.

وهنا يشير جورباتشوف الى أن (البريسترويكا) وملامح الانهيار لم تكن تعود الى الحالة الاقتصادية في عام 1985، وقال أننا لم نصل الوضع المأزوم بل الخط ما قبل المأزوم، مشيرا الى أن دولا وصلت الى أسوأ من ذلك ولكنها تعافت! وحشر المؤلف لتلك العبارة، يريد التدليل به الى أن الفشل الاقتصادي ما هو إلا واحد من أعراض كثيرة لأزمة أكبر!

ماذا بعد الانهيار؟

يقول المؤلف: إنه من المبكر التهليل لانقضاء الدولة الشمولية القوية، حيث أنه في البلدان التي تختفي منها الشيوعية ستحل مكانها أنظمة استبدادية قومية أو ربما فاشية (روسيا وصربيا) ستكون أكثر خطورة وأكثر إثارة للقلق للعالم الغربي من الدول الشيوعية نفسها.


هامش
*1ـ في كتاب Inogo ne dano الذي حرره ي. أفاناسييف /موسكو/ مطبعة التقدم 1989/ صفحة 510

شيركوه
09-19-2009, 09:54 PM
4ـ الثورة الليبرالية على النطاق العالمي

(( نحن نقف على أعتاب حقبة مهمة، حقبة اختمار، عندما تنطلق الروح طفرة واحدة الى الأمام، تعلو فوق صورتها السابقة، وتنجلي في صورة جديدة. إن كل تصوراتنا ومفاهيمنا وقيودنا التي تحكم رباط عالمنا آخذة في التحلل، تتبدد مثل رؤى الأحلام. وها هو ذا طور جديد من أطوار الروح في سبيله الى التكوين، وأحرى بالفلسفة، قبل سواها، أن تحتفي بظهوره وتقر به بينما الآخرون المعارضون له عن عجز ووهن يتشبثون بأهداب الماضي))
ج. ف. هيجل : من محاضرة ألقاها في 18/9/1806

كعادته، اختار المؤلف (فوكوياما) تلك الفقرة ليفتتح بها مقالته الأخيرة من الجزء الأول من كتابه، وهي عبارة تنم عن روح احتفالية في نجاح الليبرالية العالمية (الغربية) وانتصارها على غيرها من المناهج الأيديولوجية.

يقول: قد عرف اليسار الشيوعي واليمين المستبد معا إفلاسا في الأفكار الجادة القادرة على حماية وتثبيت التلاحم السياسي الداخلي لنظم الحكم القوية، سواء كانت قائمة على أحزاب مفردة محكمة التنظيم، أو مستندة الى عصبة من العسكريين، أو ديكتاتوريات محورها شخصية الزعيم. وقد كان معنى الافتقار الى السلطة الشرعية أنه كلما واجهت الحكومة المستبدة فشلا في مجال سياسي معين، لم يكن بوسع النظام أن يلجأ الى مبدأ أعلى يحتمي به.

وهنا يدخل المؤلف في توضيح بعض المفاهيم حسب إيمانه بها:

الشرعية

يقول: شبه البعض الشرعية بنوع من الاحتياطي النقدي. فكل الحكومات، ديمقراطية كانت أم استبدادية، تمر بأيام حلوة وأيام مرة. غير أن الحكومات الشرعية وحدها هي التي تملك ذلك الاحتياطي، تستعين به في أوقات الأزمة.

ويضيف: أن المجتمعات التي تتربع عليها حكومات مشكوك بشرعيتها، إذا تقبلت فكرة تلك الحكومات في عينة من الوقت (الاستقلال أو التعرض لخطر خارجي) فإنه مع مرور الوقت وازدياد وعي الشعب، لن يعود يتقبلها بتسليم مطلق يعطيها تفويضا بالتصرف بمقدرات وسياسات البلد.

الاستبداد الشمولي

يذكر الكاتب أن من طبيعة الأنظمة الشمولية والاستبدادية التركيز على النهج الاقتصادي والفكري والإعلامي بما يتفق مع هوى تلك الأنظمة، فتقمع الحريات وتشكل الاقتصاد المرتبك وتدافع عنه وتمنع التعددية الخ. حتى يأتي من بين أركان هذا النظام من ينتقد العهد الفائت ويطالب بالإصلاح دائرا ظهره لتجربة من سبقه، (مثل خورتشوف وانتقاده لستالين، وجورباتشوف وانتقاده لعهد بريجينيف و جاو زيانج وانتقاده لعهد ماو سي تونغ)

الديمقراطية والليبرالية

لا يشترط الكاتب تلازم الديمقراطية بالليبرالية، فهناك دول ليبرالية لكنها ليست ديمقراطية كبريطانيا في القرن الثامن عشر، كما أن هناك دول تمارس الديمقراطية لكنها ليست ليبرالية فيذكر الهند وإيران كنموذجين.

وعندما يريد توضيح الليبرالية يستخدم تعريف (لورد برايس) ويقول إنها تعتمد على ثلاثة عناصر: (1) تحرير شخص المواطن وممتلكاته من سيطرة الحكومة (2) السماح بحرية التعبير عن الآراء الدينية وممارسة العبادة (3) والحرية السياسية التي تعني تحرير المواطن من سيطرة الحكومة في الأمور التي لا يبدو بوضوح أنها تؤثر في صالح المجتمع كله تأثيرا يحتم تدخل الحكومة.

أما الديمقراطية، في نظره فهي إعطاء الشعب حق اختيار حكومته في انتخابات دورية متعددة الأحزاب سرية الاقتراع. ولا يستبعد هنا، أن يكون التكافؤ نزيها، فقد تتلاعب الصفوة في الإجراءات الديمقراطية (شو استفدنا؟).

تهكم وابتهاج!

يتهكم الكاتب من تجربة الديمقراطية المركزية التي يقتصر فيها حق الترشيح والانتخاب على كوادر الحزب الحاكم (الشيوعية). كما يتهكم الكاتب وإن مجد بالحضارة الإسلامية، وحجم المسلمين الذي وضع له تقديرا يعادل خمس سكان الأرض، لكنه استبعد أن يستطيع الإسلام أن يؤثر إلا على المرتدين من أبناءه للعودة الى دينهم، في حين سيعجز أن يقنع شابا واحدا من برلين أو طوكيو! وقد ختم فقرته تلك بأن عهد الحضارة الإسلامية قد ولى، بل بالعكس فإن الكثيرين من أبناء المسلمين قد افتتنوا بالليبرالية وهم في طريقهم الى تطبيقها، وضرب مثلا (جنوب شرق آسيا وتركيا والكثير من الدول الإسلامية) .. إلا أنه حذر من تعكير صفو العالم ببروز متزمتين مسلمين.

إحصائية الانتصار

وضع المؤلف جدولا بأسماء الدول التي مارست الديمقراطية في قرنين من الزمان، ففي عام 1790 كان هناك ثلاث دول: أمريكا وفرنسا وسويسرا.
وفي عام 1848 كان هناك خمس دول: ( أمريكا، سويسرا، بريطانيا، هولندا، بلجيكا)
وفي عام 1900، كان هناك 13 دولة (كلها غربية )
وفي عام 1919 كان هناك 25 دولة من بين الحديثات فيها أستراليا ونيوزلندا والأرجنتين وتشيلي .
في عام 1940 تراجع عدد الدول الى 13 دولة
في عام 1960 أصبح العدد 36 دولة من أبرز ما أضيف لها الهند واليابان والكيان الصهيوني ولبنان.
في عام 1975 تراجع العدد الى 30 واختفت لبنان من الجدول نهائيا
في عام 1990 أصبح العدد 61 دولة.. مع اختفاء لبنان

يتساءل الكاتب: هل أن انتصار الليبرالية هو نهائي؟ أم أن هناك دورة تعود فيها الديكتاتوريات للظهور؟ مشيرا الى الذبذبة في الجدول ..

لا نريد انتقاد تلك الأفكار، التي مرت بسرعة على (تشيلي) وكيف أن الليبرالية وقيادتها أمريكا قامت بانقلاب على (سلفادور الليندي) ووضعت ديكتاتورا هو (بينو شيه) .. فهل تنعم الليبرالية بنعيمها دون تشجيع الدول الدكتاتورية ليتسنى لها تغذية هذا النعيم؟

شيركوه
09-19-2009, 09:54 PM
الجزء الثاني: شيخوخة الجنس البشري.


5ـ محاولة لكتابة تاريخ عالمي

(( لم يحدث قط، حتى في الأحلام، أن حلقت المخيلة التاريخية في أجواء أعلى مما بلغته اليوم. فتاريخ الإنسان هو مجرد استمرار لتاريخ الحيوان والنبات. وبوسع مؤرخ العالم أن يجد آثارا من ذاته حتى في الأعماق السفلى للبحر، في المادة الغروية الحية. وهو يقف مشدوها إذ يتأمل المسافة الشاسعة التي قطعها الإنسان في عَدْوِه، وتنتابه الرعشة وهو يتأمل الأعجوبة الأعظم: ذلك الكائن البشري الحديث الذي يرى الطريق من أوله الى آخره. إنه يقف فخورا على قمة هرم المسار العالمي. وإذ يضع الحجر الأخير من أحجار معرفته، يبدو وكأنما يصرخ عاليا في أذن الطبيعة المصغية إليه: قد بلغنا القمة! قد بلغنا القمة! واكتملت بنا الطبيعة!)).
نيتشه: " استخدام التاريخ وإساءة استخدامه"

يختار (فوكوياما) تلك الفقرة من ما كتبه نيتشه ليبدأ بها الجزء الثاني من الكتاب والذي يتحدث عن شيخوخة الجنس البشري. فيستعرض ما أسس له (مؤرخو الغرب) وفلاسفته، منذ العهد اليوناني (الإغريقي) الى يومنا هذا، من فلسفة التاريخ وتتابع تطوره، مستبعدا في استعراضه أي جهد عقلي أو فكري لأي مؤرخ أو فيلسوف خارج (الدائرة الغربية) معتبرا إباها مركزا للكون ومحركة لتطوره.

رأي أفلاطون وأرسطو

لقد تحدث أفلاطون في جمهوريته عن دورة طبيعية معينة للأنظمة. بينما ناقش أرسطو في كتابه (السياسة) أسباب الثورة وكيفية حلول نوع من الأنظمة محل نوع آخر، وكان من رأي أرسطو أنه ما من نظام بوسعه أن يرضي المرء إرضاء تاما، وأن السخط قد يدفع الناس الى إحلال نظام مكان نظام في دورة لا نهاية لها. ولم تحتل الديمقراطية عندهما مكانة خاصة. وأرسطو لم يفترض استمرار التاريخ. فهو يرى أن جذور دورة الأنظمة هي في دورة طبيعية أكبر، تحدث خلالها كوارث دورية كالفيضانات فتقضي لا على المجتمعات البشرية القائمة فحسب، وإنما أيضا على كل الذكريات المتعلقة بها. لتجبر الإنسان على أن يبدأ مساره التاريخي ثانية من بدايته!

التاريخ على الطريقة المسيحية

لم يسلك المسيحيون الطرق التي سلكها اليهود و الإغريق، في أن التاريخ يعني اليهود أو الإغريق، وما غيرهما هو مكملات لا علاقة لها بتحريك التاريخ. فإن المسيحية هي أول من جاء بمفهوم المساواة بين البشر أمام الله، وتخيلت بذلك مصيرا مشتركا لكل شعوب الأرض. مثل هذا النمط من المؤرخين الفلاسفة (القديس أوغسطين).

التاريخ عند برنارد لو بوفييه 1688م

بدأ التفكير والتنظير المسيحي يجد طريقه الى نفوس الفلاسفة المؤرخين ليذهب الى أن التاريخ والمعرفة به تراكمية لندقق بما كتبه برنارد لو بوفييه (يمكن القول بأن العقل السليم المثقف يحوي كافة عقول أناس القرون الماضية. فهو ليس إلا نفس العقل المفرد الذي ظل ينمو طيلة الوقت ويحسن من نفسه .. غير أن من واجبي أن أعترف بأن صاحب هذا العقل الذي أتحدث عنه لن يعرف الشيخوخة. فسيكون دوما ـ وبنفس الدرجة ـ قادرا على الإتيان بالأمور اللائقة بشبابه، وستزيد دوما قدرته على القيام بمهام تتفق مع عنفوان قوته. وبعبارة أخرى، ودون استعانة بالرموز، سيبقى الإنسان دائما على حاله دون تدهور ولن تكون ثمة نهاية لنمو الحكمة البشرية وتطورها)

كانط والتاريخ

يختلف كانط عمن سبقه في أن التاريخ سيكون له نهاية، وهي نظرة حاول أن يقررها باسم المثالية الألمانية في مقال قصير (16 صفحة) عام 1784، ولكنه كاف لتبيان وجهة نظره. فقال بذلك المقال الذي عنونه ب (محاولة لكتابة تاريخ عالمي من وجهة نظر عالمية) : (إن المسار الأبله لأمور البشر يبدو على السطح وكأنه خال من أي نمط معين، وأن التاريخ البشري يبدو وكأنه سجل لحروب ووحشية مستمرة... وقد ذهب كانط الى أن التاريخ ستكون له نهاية، لأن وضع دستور مدني كامل العدالة يضمن حرية الإنسان ويوفق بينه وبين القوانين المدنية، هو أسمى معضلة كلفت الطبيعة الجنس البشري بحلها).

جدلية هيجل

بذكاء كبير، قام المؤلف باستعراض فلاسفة القرون المختلفة من قبل عهد المسيح الى عهد الفلاسفة المسيحيين ومرورا بالمثاليين وحتى الماركسيين، ليصور للقارئ أن تلك الحضارة الغربية بمختلف منابعها التي تبدو وكأنها متخاصمة، ليصورها للقارئ بأنها ليست متخاصمة، بل عملت كفريق في صناعة تلك الحضارة الغربية، وإن الأدوار بين هؤلاء الفلاسفة المتباعدين زمانا ومكانا كانت متناغمة ومتعاضدة لتكون في النهاية ما آلت إليه الحضارة الغربية، كمقرر لشكل الحياة في العالم.

وقد أشار الى أن هيجل الذي أقر لكانط بضرورة كتابة تاريخ عالمي، ولكن هيجل نفى أن التقدم في التاريخ ينشأ عن تقدم مطرد بالعقل، وإنما ينشأ عن التفاعل الأعمى للعواطف التي أدت بالإنسان الى الصراعات والثورات والحروب، وهو ما أطلق عليه وصفه الشهير (دهاء العقل). ومسار التاريخ هو مسار دائب من الصراعات، تتصادم فيه الأنظمة الفكرية والأنظمة السياسية وتتفكك نتيجة لتناقضاتها الداخلية لتحل محلها أنظمة أخرى تحمل تناقضات أقل، فتكون أرقى من سابقاتها وهو ما أسماه (الديالكتيك أو الجدلية).

و حسب رأي هيجل، فإن طبيعة الرغبة الإنسانية لم تتحدد لتبقى الى الأبد دون تغيير، وإنما تتغير بتغير الأحقاب والثقافات التاريخية. مثال ذلك أن إنسانا يقطن أمريكا أو فرنسا أو اليابان في زمننا هذا ينفق الجانب الأكبر من طاقاته في طلب السلع (سيارات، أحذية رياضية ملبس من أفخر بيوت الأزياء) أو طلب (حي سكن لائق مدرسة عالية) ومعظم هذه الأشياء المشتهاة لم تكن موجودة أصلا في الأزمنة القديمة وبالتالي كان يستحيل اشتهاؤها. كذلك فإن مواطنا في دولة فقيرة بالعالم الثالث يبحث عن الأمن أو أي مأوى لن يفكر في مثل تلك الأشياء.

حتى ماركس يخدم الفكرة الليبرالية

يتدرج الكاتب لإثبات نظرته عن مركزية الغرب و تعاون مكوناته، ليصل الى أن ما حدث في إنشاء الشيوعية والاشتراكية، كان مرحلة طبيعية من مراحل وصول العالم لما وصل إليه، فيستخرج من كتاب رأس المال لماركس (مقدمة الطبعة الإنجليزية) فقرة تقول: (إن الدولة الأكثر تقدما في الصناعة إنما تعرض على الدول الأقل تقدما صورة عن مستقبلها) ..

هذا ما وصل إليه الكاتب (فوكوياما) في هذا الفصل، ليهيئ لما بعده من فصول ينكر فيها دور الآخرين في كتابة التاريخ.

وللتنويه نقول: أن أول من أسس لعلم فلسفة التاريخ هو ابن خلدون في القرن الرابع عشر، وأخذ الغرب عنه ذلك العلم فظهر (فيكو و أزوالد شبنجلر وأرنولد توينبي) ولم يتناول الكاتب جهد وآراء هؤلاء، الذين أقروا بفضل ابن خلدون، وتنبئوا بزوال حضارة الغرب، فأزولد شبنجلر لم ينكر دور الحضارة العربية، وتوينبي استسخف قيام دولة الكيان الصهيوني وتنبأ بزوالها، لكن للكاتب رسالة واضحة في كتابه، ونرى تلك الرسالة قد تبناها الكثير من القادة الغربيين.

شيركوه
09-19-2009, 09:58 PM
6ـ آلية الرغبة


يطرح الكاتب في مستهل حديثه، عدة أسئلة رشيقة لكنها تدفع بالنهاية القارئ الى اعتماد نظريته كما يريد. هل التاريخ غائي؟ هل تتطور كل المجتمعات أو معظمها في اتجاه واحد معين، أم أن تاريخها ينهج نهجا دوريا أو عفويا محضا؟

يستدرك الكاتب بسرعة، إن كان النهج عفويا، فبالإمكان أن تكرر البشرية أي ممارسة اجتماعية أو سياسية من ممارسات الماضي: قد يعود نظام الرق، وقد يتوج الأمراء والأباطرة في أوروبا، وقد تفقد النساء حق الانتخاب. أما التاريخ الغائي فعلى العكس من ذلك، إذ أنه يعني أنه ليس بوسع أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يتجاوزه مجتمع ما، أن يتكرر في نفس المجتمع.

هل التاريخ يعيد نفسه؟

التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، فلا بد أن هناك آلية دائمة وواحدة، أو مجموعة من الأسباب الأولى التاريخية التي تفرض التطور في اتجاه واحد، والتي تحفظ ذكريات العصور السابقة حتى الزمن الحاضر.

مفتاح الغائية الوحيد للتاريخ

المعرفة هي المفتاح للغائية، لكن ليس كل المعارف، فالمعرفة العلمية هي الوحيدة التي ينطبق عليها الكلام، أما الفن والرسم والشعر والأدب والموسيقى والمعمار، فلا ينطبق عليها مفهوم الغائية والتطور الغائي، فلا يمكن أن نقول أن موسيقيين اليوم هم أفضل من موسيقيي القرن التاسع عشر، ولا يمكن أن نقول أن معماريي اليوم هم أفضل منهم في عهد الفراعنة أو اليونانيين، ولا يمكن أن نقول أن الطالب الذي تخرج على يد نيوتن هو أفضل منه. فالمعرفة العلمية لا هي بالدورية ولا بالعفوية بل هي تراكمية تسند طبقاتها السابقة ما يليها من طبقات.

الحروب تحتم الاستعانة بالتراكم المعرفي

الطابع العالمي للعلم (يقصد الكاتب هنا عمومية العلم) يوفر الأساس لتوحيد البشرية لما يحمله من تغيرات تاريخية غائية.. كيف؟ فالحروب تنقل المعرفة أو تستفز الغير في امتلاك المعرفة.. كيف مرة أخرى؟ يضرب الكاتب مثلا: أن قبائل (الزولو) لم تكن لتتغلب على بنادق الإنجليز (في جنوب إفريقيا) مهما امتلكت تلك القبائل من الشجاعة ورباطة الجأش.

ويتدرج الكاتب بأمثلة تاريخية، من اليابان والصين والدولة العثمانية وغيرها، فعندما تستشعر الدولة التي تتعرض لهزيمة قوة خصمها وتفوقه التكنولوجي، تقوم بدراسة هذا الخصم واستلهام عناصر قوته، فتجري إصلاحات إدارية في سياستها الداخلية، وتبعث أبنائها لدراسة العلوم التي زودت عدوها بالقوة (هكذا فعل محمد علي باشا إثر غزو نابليون لمصر).

وعندما تتكرر الهزائم، فإن الإصلاحات تطال شكل الحكم (تغير الحكم في بروسيا و فرنسا من ملكي لجمهوري وتشريع القوانين التي تنظم تفعيل أدوات المجتمع ليصبح قادرا على صد الاعتداءات).

العلوم الطبيعية تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية

التصنيع، ليس مجرد تطبيق مكثف للتكنولوجيا في عملية الصناعة وابتداع آلات جديدة، وإنما هو أيضا استخدام العقل البشري في حل مشكلة التنظيم الاجتماعي وابتداع تقسيم (منطقي) للعمل. هذه الاستخدامات المتوازية للعقل، لابتداع آلات جديدة وتنظيم العملية الإنتاجية، قد نجحت الى حد أبعد مما كان يحلم به الدعاة الأوائل، فقد زاد دخل الفرد في أوروبا الغربية الآن أكثر من عشرة أضعافه في منتصف القرن الثامن عشر، حين كان الدخل في كثير من دول العالم الثالث أكثر منه في أوروبا!
[إن الفقرة السابقة تدين ما يعتقد به الكاتب من مركزية الغرب وفضله على العالم، فقد تزامنت تلك الفترة مع الحركة الاستعمارية التي امتصت خيرات الشعوب فتدنى دخل المواطن في العالم الثالث، لينتقل الى جيوب أفراد الغرب. أما حجة التفوق العلمي، فقد رأينا كيف تكالبت سبعة جيوش لقهر جيش ابراهيم ابن محمد علي وتخفيض جيشه من 540ألف الى 12 ألف جندي فقط، وهي نفس التجربة التي كرروها في العدوان الثلاثي على مصر، وفي غزوهم للعراق، لإبقاء الفجوة واضحة بينهم وبين غيرهم من أبناء العالم الثالث، فهل يصلح هذا النموذج أن يكون قاعدة عمل منهجية عامة؟]

التنظيم الرشيد يستوجب إدخال تغييرات متناسقة

يقول الكاتب في هذا المجال: أن الطبقة العاملة التي كان يُنظر إليها كمنفذ لبرامج الطبقة الرأسمالية (الليبرالية العليا) وتأتي من الأرياف لخدمة برامج أصحاب المال لم يعد بالإمكان إبقاء مكان سكناها في الريف، فانتقلت الى المدينة لتكتشف أهمية نفسها في تطبيق برامج الرأسمالية، فنظمت نفسها وأخذت تتدخل في تطوير التشريعات التي تضمن حقوقها، حتى أصبح الخطاب الرأسمالي لا يمكنه تجاوز تلك الحقوق، بل أدخل مكونات المجتمع في تشريع نظامه.

وهنا يضرب الكاتب مثلا للمقارنة، فيقول: إن أربعة أخماس الأمريكيين كانوا يعملون لحسابهم الشخصي (كأفراد) في القرن التاسع عشر، في حين لم يبق اليوم إلا عشر سكان الولايات المتحدة يعملون لحسابهم الشخصي. حيث انخرط معظم السكان في حجم التنظيم (البيروقراطي ـ أهلي و حكومي) بحيث لا يمكن تجاهل هذا الوضع.

الجانب الأخلاقي في غائية التاريخ

تبنت الماركسية، إزالة الفوارق الطبقية بين أفراد الشعب، فلا فرق بين المدينة والريف، ولا فرق بين الطبيب الأخصائي أو العالم النووي مع جامع القمامة، فكانت التنظيمات النقابية تشمل كل الأصناف (نقابة موسكو بها الطيار والعالم والزبال). لكن ذلك ثبت فشله، ففي حين استطاع الغرب الليبرالي تقليل الفوارق بين المدينة والقرية من خلال نظام أكثر عدالة، انهارت مبادئ الشيوعية بسرعة كبيرة لعدم قدرتها على ترجمة الجانب الأخلاقي بشكل إجرائي.

إنما علينا أن نعترف، أن الشركات لا توظف الباحثين لتحقيق سعادة الناس، بقدر ما تخدم تلك الأبحاث مالكي الشركات لتحقيق الأرباح الأكثر. وعلينا الاعتراف أن ظواهر تقسيم العمل والنمو البيروقراطي ما هي إلا ظواهر مبهمة من حيث دلالاتها الخاصة بسعادة الإنسان.

وهذه ليست مهمتنا، فنحن نريد إثبات أن التاريخ يتقدم نتيجة أسباب ممكن أن نلمسها وأن تطور العلوم الطبيعية الحديثة يؤدي الى أن يصبح التاريخ غائيا. لكن بالمقابل هل يمكن لتلك العلوم أن تتوقف ويعكس التاريخ مساره للوراء؟

شيركوه
09-19-2009, 09:59 PM
ـ ليس هناك برابرة على الأبواب

لينتبه القارئ الكريم لهذا الاستهلال الماكر للكاتب

في فيلم ((محارب الطريق The Road Warrior)) للمنتج السينمائي الأسترالي (جورج ميلر)، نرى حضارة اليوم القائمة على النفط قد انهارت نتيجة لحرب ضروس تشبه (سِفْر الرؤيا)، وضاع العلم من جراءها، وطاف الفوط والفوندال المحدثون في سياراتهم وعرباتهم التي تجرها (الخيول) يحاولون سرقة البنزين وطلقات الرصاص من بعضهم البعض، بسبب ضياع تكنولوجيا الإنتاج.

يحاول الكاتب في تقديمه لمقالته، تصوير العالم إذا ما تعرض لحرب من قبل جماعات متخلفة، تقضي على حضارته القائمة وتجعل العالم ينسى فنون العلوم التي قامت عليها حضارة العالم المتمدن. ماذا سيكون شكله؟ وهل يمكن أو يجوز لنا أن نترك هؤلاء الأعداء البرابرة أن يفعلوا فعلتهم؟ ومن هم هؤلاء البرابرة الجدد الذين سيقضون على حضارة العالم؟ ومن أين استقوا فقههم؟. إن المقالة مليئة بمحرضات التنبه لمثل ذلك العدو..

منابع الفكر المناهض للحضارة

يحاول الكاتب المماراة ليبعد الشكوك عن نفسه في تحديد العدو المقبل لحضارة الغرب، إنه لم يرغب في جعل القارئ يرى بشكل مباشر أن الإسلام والمسلمين هم من سيكونون أعداء المستقبل، ولكنه يسوق القارئ الغربي ويخوفه من هذا العدو الخطر. ولكن بعد أن يضع تمهيدا مكشوفا بأن من أسس للفكر المناهض للتقدم هم (الغرب) أنفسهم.

فيقول: يُعتبر (جان جاك روسو) المصدر المشترك لمعظم النظريات المعادية للتكنولوجيا، فهو أول فيلسوف حديث يشكك في فضل (التقدم ) التاريخي. فهو يقرر بأن الحاجات البشرية الحقيقية محدودة العدد جدا. فالإنسان بحاجة الى مأوى ومأكل، وأن موضوع أمن الإنسان من أخيه الإنسان هو افتراض خاطئ أوجدته النظريات الداعية للتقدم، فليس من الضروري أن يشعر الإنسان بخطر من يعيش قربه. باختصار، إن دفع الإنسان لنزعة الاستهلاك هو ما أوجد عنده الطبيعة الشرهة العدوانية.

ويورد (روسو) مثلا لهذه الظاهرة، في جامع التحف الذي يؤرقه وجود فجوات بين مجموعته أكثر مما يسعده وجود التحف نفسها، فتبقى نفسه مشغولة في إكمال تلك المجموعة. وبوسعنا (يقول فوكوياما) أن نجد مثالا حديثا، أنه في الثلاثينات من القرن العشرين كان من النادر أن نجد جهاز مذياع (راديو) في بلدة كاملة من بلدان العالم الثالث (مثلا) أما اليوم فقد تجد لدى الشاب أو الفتاة عدة أجهزة لتسجيل وضغط الأعمال الموسيقية والسينمائية.

أثر تلك الأفكار القديمة على الواقع الراهن

يتهكم الكاتب من طرف خفي على جمعيات حماية البيئة والمعادية للنشاط الصناعي والنووي وغيره، ويرد تلك النشاطات لمرجعها التاريخي (أفكار روسو). فهو يعتبر أحزاب (الخضر) وجمعيات البيئة وغيرها امتدادا لتلك الأفكار القديمة.

يكابر الكاتب (وليلاحظ القارئ تطابق هذا الفكر مع الإدارة الأمريكية الحالية التي ترفض التوقيع على معاهدة الاحتباس الحراري). فيقول: إن البيئة النظيفة هي من صلب اهتمام الإنسان الراقي المتمدن الصناعي، لذا فإن البيئة القذرة هي في دول العالم الثالث، والاحتباس الحراري يأتي من عندهم نتيجة قطعهم للغابات وإحراقها للوقيد، فغابات أمريكا الشمالية وأوروبا أنظف وأكثر اخضرارا من غابات دول العالم الثالث!

انتقاص من دعوات العودة للماضي

لا يستخف الكاتب بالدعوة للماضي فحسب، بل يستخف بالدعوة المتصالحة مع الواقع الراهن، أي تلك التي تدعو الى حضارة صناعية حديثة لكنها غير مؤذية للبشرية. فيتساءل كيف سيحدث ذلك؟

يضيف: إنه من الغباء تصور الرعاة والعمال الزراعيين الذين تحولوا الى نمط الحياة الحديثة المرفهة أن يعودوا لأساليب الماضي، لذلك فإن تلك التحولات بالعالم الثالث هي التي تهدد العالم المتحضر وليس العكس. فبرأيه حتى يحافظ سكان العالم الثالث على مستواهم المعيشي الذي وصلوا إليه فسيلجئون لتدمير ما حولهم وربما تدمير العالم. وسيجد أبناء العالم الثالث من حولهم ومن العالم الثالث نفسه من يدعو للعودة الى النمط القديم وتحدث المصيبة.

احتمال نشوب حرب

إن أي حرب تستخدم أسلحة الدمار الشامل، يمكن أن تقضي على الكثير من القاطنين من سكان الدولتين المتصارعتين، وممكن أن تتفتت الدولتان أو أحدهما ويهجرها السكان الى مكان آخر، لعدم صلاحية العيش في تلك البلاد المدمَرة.

إن الدول الكارهة للحروب، والتي ستنجو من دمار الحرب سيكون لها شأن بعد نهاية الحرب. بعد أن تتدمر مصانع الدولتين المتحاربتين. وقد تزدهر بعد تلك الحروب نشاطات الأديان المعادية للحضارة والتكنولوجيا، وقد تقوم الجماعات الملتزمة بالأديان المعادية للحضارة بتدمير القدرة على تذكر التكنولوجيا السابقة!

[ ليتمعن القارئ بالفقرة السابقة، ويرى كيف أن هذا الفقه هو ما أوحى لبوش أن يقول قولته: من ليس معنا هو ضدنا.. ولنتمعن بفكرة عدم ترك الآخرين دون حروب حتى لا ينعموا بنتائج الحروب دون تضحيات .. ولنتمعن بهذا العدو الذي أراد طمس معالمه في حديثه عن روسو بالبداية الى الحديث عن الأديان المعادية للحضارة! .. إنه نهج ذهني وعملي]

لكن، يعود الكاتب بمكر شديد للقول، إنه لا يوجد برابرة جدد على الأبواب، فمن يستطيع تدمير الحضارة والتكنولوجيا الغربية، يُفترض أن يكون على دراية بتلك التكنولوجيا ولديه القدرة على تدميرها. [ من هنا تبرز الدعوات المستمرة ـ وإن كانت قديمة ـ على منع التكنولوجيا عن الدول الإسلامية وردعها منذ بداية التفكير بها].

شيركوه
09-19-2009, 10:01 PM
8ـ تراكم بلا حدود


(( لم تكن بلادنا سعيدة الحظ. فقد تقرر تجربة الماركسية فينا، ودفعنا القدر في هذا الاتجاه. فبدلا من اختيار بلد ما في إفريقيا لهذا، شرعوا في إجراء هذه التجربة فينا نحن. غير أننا في النهاية أثبتنا أنه لا مكان لهذه الفكرة. فقد دفعت بنا بعيدا عن الطريق الذي انتهجته دول العالم المتحضرة، وهو ما تعكسه حقيقة أن أربعين في المائة من أفراد الشعب يعيشون دون حد الفقر. بل ويعانون مذلة دائمة إذ لا يتلقون السلع إلا بعد إبرازهم بطاقات التموين. إنها مذلة دائمة تذكرك في كل ساعة بأنك عبد في هذه الدولة))
................... من خطبة لبوريس يلتسين في اجتماع لحزب (روسيا الديمقراطية في موسكو في 1/6/1991

كعادته، يبدأ المؤلف بانتقاء فقرة تهيئ القارئ لتقبل ما سيقول بمقالته، فاختار فقرته أعلاه من خطاب (يلتسين) ليسوق حجته بأنه حتى التقدم والازدهار وإن تساوت فيه الدول الشمولية كالاتحاد السوفييتي أو الصين، فإن هذا التقدم والازدهار سيبقى ناقصا ما لم يترافق مع العقلية الليبرالية بنموذجها الغربي.

يقول: كل ما شرحناه حتى الآن هو أن الازدهار الدائب للعلوم الطبيعية الحديثة يسفر عن تاريخ غائي وتحولات اجتماعية متجانسة الطابع في مختلف الأمم والحضارات. فالتكنولوجيا والتنظيم الرشيد للعمل هما من الشروط اللازمة للتصنيع. وهو ما ينجم عنه بالتالي ظواهر اجتماعية مثل التوسع في سكنى المدن، وفي البيروقراطية، وتفكك الأسر الكبيرة والعلاقات القبلية، والارتفاع بمستوى التعليم. كذلك أوضحنا كيف أن هيمنة العلوم الطبيعية الحديثة على الحياة البشرية، لا يمكن التراجع بشأنها في ظل أية ظروف، حتى في أشدها تطرفا. غير أننا لم نوضح حتى الآن كيف أن العلم يؤدي بالضرورة الى الرأسمالية في المجال الاقتصادي، أو الى الديمقراطية الليبرالية في المجال السياسي.

والواقع أن ثمة أمثلة لدول مرت بالمراحل الأولى من التصنيع، تُعَدُ دولاً متقدمة اقتصاديا وحضرية، وعلمانية، وبناء الدولة فيها متين متجانس، وشعبها جيد التعليم نسبياً، غير أنها لا هي بالرأسمالية ولا بالديمقراطية. والمثل الرئيسي هنا، ولسنوات عديدة، هو الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، وهو الذي تمكن في السنوات ما بين 1928 وأواخر الثلاثينات من تحقيق تحول اجتماعي مذهل من دولة زراعية معظم سكانها فلاحون، الى دولة صناعية قوية، دون أن يتيح للمواطنين حريات اقتصادية أو سياسية.

لقد أثر نمو الاتحاد السوفييتي على الكثير من الكتاب الغربيين، فكتب (اسحق دويتشر) في الخمسينات يقول: (إن اقتصاد التخطيط المركزي أكثر فعالية من فوضى آلية اقتصاد السوق، وأن الصناعات المؤممة أقدر على تحديث المصانع والآلات من القطاع الخاص)

بالرغم من سوء سمعة الرأسمالية سواء لدى اليمين الديني التقليدي، أو اليسار الاشتراكي الماركسي، فإن تفسير انتصارها في نهاية المطاف باعتبارها النظام الاقتصادي الوحيد الصالح للبقاء. [ هكذا يقرر الكاتب خلاصة ما يؤمن به]

ويضيف: نحن نعلم الآن أن التصنيع لا يأتي طفرة فتنتقل الدول به فجأة الى الحداثة الاقتصادية، وإنما هو عملية دائبة التطور ولا نهاية واضحة لها، بحيث تغدو حداثة اليوم قديمة في الغد. وقد تغيرت على نحو مطرد وسيلة إشباع ما أسماه (هيجل) نسق الاحتياجات، كما تغيرت هذه الاحتياجات نفسها. وقد كان المنظرون الاقتصاديون القدماء (ماركس و إنجلز) يرون أن التصنيع يتكون من الصناعات الخفيفة (نسيج، خزف) لكن الأمر تغير بسرعة، فأصبحت سكك الحديد والصناعات الثقيلة، هي التي تعني كل من (لينين وستالين) .. وقد تسابقت دول كثيرة في الوصول الى مرتبة الدول الصناعية إضافة الى أوروبا والولايات المتحدة فإن اليابان والصين وكثير من الدول قد وضعت أقدامها على هذا الطريق.

تسارع التطور

كَتَبَ (دانييل بيل) عام 1967، أن متوسط طول المدة بين اكتشاف مبتكر تكنولوجي جديد وبين إدراك إمكاناته التجارية كان 30 عاما في الفترة ما بين عامي 1880 و 1919، ثم انخفض الى 16 عاما في الفترة ما بين 1919و 1945 ثم الى 9 أعوام في الفترة ما بين 1945و 1967. ويقول الكاتب (فوكوياما) أن الدورة الآن لا تزيد عن بضعة شهور.

ويضيف الكاتب: أن التطور شمل أيضا التجارة الدولية، حيث كانت في الأجيال السابقة لا تزيد عن 3% فيما بين الدول، ثم أخذت تتزايد سنويا بمعدل 13% ولا شك أن تطور المواصلات والاتصالات والعلاقات بين المصارف التجارية وتدفق المعلومات جعل من العالم سوقا سهل المراقبة.

الابتكار والاختراع رهنا على الأجواء الحرة

هنا يعود الكاتب، ليتشفى بانهيار الاتحاد السوفييتي، فيعزي عدم مواكبة علماءه لحركة الاختراع الى النظام المركزي، في حين كان أداء علماء البلدان الرأسمالية أكثر عطاء لاقتران عملهم بالمنافسة الحرة و ما يعود على ابتكاراتهم من أرباح، وقد يكون محقا في هذه النقطة، حيث حولت البيروقراطية المركزية العاملين المبدعين والعلماء الى أرقام لا يحسون فيها بأهميتهم.

رضوخ أصحاب النمط المركزي لمنطق الاقتصاد المتقدم

يقول الكاتب ـ تكملة لمقالته ـ : أن الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والصين، أدركت منذ أواخر الثمانينات، عقم سياساتها الاقتصادية فاختارت طائعة التحول الى الاقتصاد المتقدم (أي الغربي)!

تعليق:

لقد ذكر بعض الشيوعيين في تقييمهم للتجربة السوفييتية في مجلة الطريق التي كانت تصدر في بيروت في أواخر التسعينات، أن من أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي هو اضطراب المشاعر التي تصف الواقع، فبين شعور بالفخر لا تسنده حقائق واقعية. وضرب مثالا في هذا الصدد أن الساسة يرددون: الاتحاد السوفييتي أكبر دولة منتجة للبطاطا في العالم، ويقول الكاتب آنذاك (وأظنه الشيوعي عامر عبد الله ـ لم أعد أذكر) أن هذا الكلام صحيح، لكن سوء مكائن الحصاد تهشم ربع الإنتاج، ويقضي سوء التخزين على 50% من المحصول بفعل القوارض وعدم تهيئة المستودعات.

إذن، فقوام القدرة موجود، ولكن سوء الإدارة و (بيروقراطيتها) هو السبب، وأن حل ذلك قد يكون بتطوير الأساليب الإدارية.

شيركوه
09-19-2009, 10:02 PM
9ـ انتصار أجهزة الفيديو

(( ما من دولة من دول العالم، مهما كان نظامها السياسي، نجحت في تحديث نفسها مع انتهاج سياسة الباب المغلق))
[ من خطبة ل دينج هسياو بنج1982]


في العقد الأخير من القرن العشرين، بدا جليا للناس أن الرأسمالية ستكون حتمية السيادة في البلدان المتقدمة، وأن الماركسية اللينينية تعتبر عقبة كأداء في طريق التقدم. هكذا استهل (فوكوياما) مقالته بعد أن اختار جزءا من خطاب الزعيم الصيني ليضعه شاهدا على حديثه الذي سيبدؤه.

لكن، لم يكن الأمر كذلك في منتصف القرن العشرين (الخمسينات والستينات) عند الدول الأقل تقدما، والتي كانت تحلم بالفحم الحجري وصناعة الصلب، فقد كانت تلك الدول غير مهتمة بالتفاصيل التكنولوجية المتقدمة عند الغرب الرأسمالي، فكانت تنجذب للإتحاد السوفييتي والنمط المركزي في السياسة الذي استطاع في الدول الاشتراكية أن يحرق المراحل بالقوة والعنف، فقد قطع الاتحاد السوفييتي مرحلة بربع المدة التي احتاجتها دول الغرب لتصل ما وصلت إليه، لذا كان هذا النموذج مرغوبا في الدول الفقيرة لتحذو فيه التجربة الاشتراكية. وقد شجع الدول النامية على هذا السلوك، ما كانت تواجهه دول أمريكا اللاتينية من فشل متكرر في تطبيق السياسة الرأسمالية.

(1)


لقد ظهر نمط من السياسة، سمي ب (التبعية)، كان منشئ هذا المصطلح هو: لينين عندما نشر كُتيب عام 1914 بعنوان: (الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية)، غمز فيها أن الرأسمالية الغربية لا تسعى لإفقار الطبقة العاملة في بلدان أوروبا، بل سمحت بارتفاع مستوى معيشتهم لتحويلهم الى عمال قانعين. ولكن تفسير مصطلح (التبعية) وما تم الزيادة عليه، يعود بالدرجة الأساس الى الاقتصادي الأرجنتيني (راءول بريبيش) والذي كان يترأس أحد اللجان التابعة للأمم المتحدة في الخمسينات، حيث كان يشير في كتاباته الى أن التجارة والعلاقة الاقتصادية بين دول المركز ودول الأطراف تزداد إجحافا لصالح دول المركز، وتبقي الدول النامية بحالة يُرثى لها، فأوجد ما يسمى بالصراع ما بين دول الشمال (المتقدم) والجنوب (الفقير).

(2)

لقد ظهر تياران، أحدهما يصف العلاقة بين الشمال والجنوب علاقة طبيعية، يبيع فيها أحد الطرفين التكنولوجيا والطائرات، ويبيع الطرف الآخر المواد الخام! ويتهكم أصحاب التيار الثاني على هذا الرأي، فيقولون: أن الشمال يدفع بأبناء الجنوب على أن يبقوا يقطعون الأشجار ويضخون الماء لصالح أبناء الشمال، وأن الحل لذلك هو الانسحاب من أي حوار بين الطرفين والثورة على الشمال، وقد كانت كوبا و الصين والاتحاد السوفييتي مراكز تحريض لتبني مثل هذا الموقف. فكان لكل طرف أتباع وهنا تكمن صورة فرز المعسكرين في الحرب الباردة.

(3)

يستشهد الكاتب بهذه الفقرة بما يدحض آراء أصحاب موقف الرفض للصورة الغربية، فيذكر ما قاله أحد كبار الساسة في سنغافورة [ لم يذكر اسمه]: (أن ثمة ثلاث جماعات تمقتها بلاده ولن تسمح أبدا بها: الهيبيز والفتيان ذوي الشعر الطويل، ومنتقدي الشركات متعددة الجنسية).

لقد وضع فوكوياما، أرقاما للمقارنة بين النمو في بعض البلدان (التابعة للنمط الغربي) وغيرها ممن لا يتبعون الغرب، فكان النمو في اليابان 9.8% في الستينات، ثم أصبح 6% في السبعينات، [وهي الدولة التي تربض القوات الأمريكية على أراضيها]، وكان النمو في النمور الأربعة (هونج كونج، وتايوان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية) 9.3%.

ولم يكتف الكاتب بالأمثلة السابقة للتدليل عما يريد، بل تخصص في المقارنة بين دول من نفس المنشأ، فكان متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية 4550 دولار في الثمانينات وهو يساوي أربعة أضعاف متوسط الدخل في شقيقتها الشمالية (الشيوعية)، ثم قارن بين تايوان والصين فكان متوسط دخل الفرد في تايوان عام 1989 (7500) دولار في حين كان (350) دولار في الصين.

وهنا يبرز رأي يقول: أن التصنيع هو سبب النمو وليس الرأسمالية، إذ لماذا لم تنجح السياسات الاقتصادية في دول أمريكا اللاتينية عندما كانت تبعيتها واضحة للغرب وبالذات للولايات المتحدة؟

يجيب الكاتب أنه في دول أمريكا اللاتينية وبلدان الشرق الأوسط لم تبذل محاولات جادة لمتابعة النهج الرأسمالي ووعد مناقشة ذلك في الجزء الرابع من الكتاب. لكنه فرَق بين أمريكا الشمالية التي ورثت التقاليد والفلسفة الليبرالية عن بريطانيا، في حين ورثت أمريكا اللاتينية عن المؤسسات الإقطاعية في البرتغال واسبانيا. ويكفي أن نذكر أن تكلفة إنتاج سيارة في البرازيل أو المكسيك أو الأرجنتين تزيد بين 60 و150% عنها في الولايات المتحدة.

(4)

يتحدث (هيرناندو دو سوتو) في كتابه "الدرب الأخير" عن كيف أن معهده في ليما حاول تأسيس مصنع من وحي الخيال وفق القواعد القانونية التي حددتها حكومة بيرو. كان عليه أن يمر بأحد عشر إجراء بيروقراطيا تستلزم 289 يوما وتكلفة قدرها 1231 دولار ومصاريف ضائعة أخرى بينها (رشوتان) أو ما يعادل 32 ضعف لأدنى مرتب شهري.

ثم يعطي الكاتب مثالا آخرا، هو أن نصيب الفرد الأرجنتيني عام 1913 كان يساوي نصيب الفرد بسويسرا وضعف نصيب الإيطالي، ونصف نصيب الكندي ولكن اليوم أصبح نصيب السويسري 6 أضعاف نصيب الأرجنتيني والإيطالي 3 أضعاف.

خلاصة

يستخلص الكاتب في نهاية مقالته هذه، أن معظم السياسيين في مختلف أنحاء العالم اكتشفوا سر التباطؤ في اقتصادهم وحاولوا ويحاولون الانتقال من وضعهم السابق (الصين، روسيا، كل العالم الثالث) الى الوضع الليبرالي، وهذا كله بفضل أجهزة الفيديو.!

شيركوه
09-19-2009, 10:04 PM
10ـ في مضمار التعليم

(( كذا جئتكم، يا أناس اليوم، وفي مضمار التعليم... فما الذي حدث لي؟ ضحكتُ رغم كل ما أشعر به من قلق.. لم ترَ عيناي أبداً شيئا مرقعا كهذا الثوب الشبيه بثوب البهلوان. ضحكت وضحكت بينما كانت قدماي ترتجفان، وقلبي في مثل ارتجافهما. وقلت: " من المؤكد أن هذا هو منبع الاختلاط والتخبط ". ))

نيتشه: هكذا تكلم زرادشت

(1)

يضع (فوكوياما) فرضية لمقالته هنا، بعد أن يختار تلك الفقرة مما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه. فرضيته هنا، تقرر أن هناك علاقة بين تطور العلوم الطبيعية و التوجه نحو الديمقراطية الليبرالية. يوفق الكاتب أحيانا في اختيار الأمثلة ويخفق إخفاقا شديدا في اختيار أمثلة أخرى، حينما يفسر أو يحاول تفسير ظواهر التقدم التقني والاقتصادي في بعض الدول. كما يتحاشى الكاتب من ذكر بعض الديمقراطيات الكبرى (الهند) كون وضعها لا يخضع لفرضياته.

يؤشر الكاتب على تجارب أوروبا الجنوبية (اليونان، أسبانيا، البرتغال) وكيفية انتقالها من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديمقراطي، وكيف أن النمو الاقتصادي والدخل الفردي يتحكمان بتحقيق الشروط للانتقال للديمقراطية، فيذكر هنا مقولة للجنرال فرانكو (ديكتاتور أسبانيا) عندما تنبأ بإمكانية انتقال أسبانيا من الحكم الديكتاتوري الى الديمقراطي وقتما يصبح دخل المواطن الأسباني 2000 دولار، ويقر الكاتب بأن نبوءة (فرانكو) كانت دقيقة، حيث حصل التحول عندما أصبح دخل المواطن الأسباني (2446) دولار في عام 1974!

لن نناقش جدية تلك النظرة، فهي قاعدة تكاد تكون جوفاء، حيث أن مقاييس الدخل تؤخذ كمتوسط، فقد يكون هناك من يكون دخله مليون دولار وآخرون لا يزيد دخلهم عن بضع مئات من الدولارات، ويكون المتوسط العام فوق ال 2000 دولار، كما في بعض البلدان العربية اليوم!

كما أن هذا الشرط لم يكن ضروريا في تجربة الهند حيث أكبر ديمقراطية في العالم، مع وجود أناس يقتسمون الأرصفة!

(2)

يحاول الكاتب تلمس بعض النماذج التي تكون استثناءا لقاعدته، فيناقشها قبل أن يناقشها منتقدوه. فيمر على تجربة (بيرو) حيث يثمن فيه جهد النظام الديكتاتوري في انتزاع أراضي البلاد التي كانت مسجلة باسم (700) شخص ليقوم النظام بتوزيعها على الشعب، وهي خطوة ما كان للنظام الديمقراطي أن يفعلها دون جبروت النظام الديكتاتوري.

ثم يضرب مثل ديكتاتورية اليابان في عهد حكومة (ميجي) عام 1868 عندما ارتسمت خطا للتزود بالعلوم والنهوض بالبلاد بطريقة ديكتاتورية حازمة. ويشير لتجارب أخرى في الاتحاد السوفييتي (عهد ستالين).

لكنه يرهن النمو في الديكتاتوريات الى وجود قائد (ملهم)، ما أن يختفي هذا القائد لتختفي معه آثاره ويختفي معه استقرار الحكم، في حين لا تكون تلك الحالة موجودة في الليبراليات المستقرة.

ويضرب مثلا، في الفلبين، حيث أن من يفوز بالديمقراطيات هم من أرستقراطيي البلاد وبالذات من ملاك الأراضي (كورزان أكينو ـ مثالا).

(3)

عندما يأتي الحديث عن الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الكاتب لا يخفي إعجابه الشديد بالتفرد الذي تتمتع به تلك البلاد، حيث يولد المولود فيها ديمقراطيا ليبراليا متحررا من النزعات العرقية والطائفية والتمييز العنصري، بخلاف تلك البلاد التي تعج بالمشاكل الإثنية، فالمواطنون متساوون في الولايات المتحدة، يحق لكل واحد منهم أن يتنافس مع غيره في تبوء مراكز السلطة، وهذا ما يعلن (فوكوياما) عن عدم فهم أسراره!

أحقا ما يقول (فوكوياما) بهذا التفرد؟ قد يكون محقا في أن كل المواطنين لهم الحق في التنافس على تبوء مراكز السلطة، لكن الحق أيضا ما نقول: في أنه لا يمكن لهؤلاء المتنافسين أن يصلوا الى تلك المراكز، فمنذ وضع الدستور الأمريكي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والحزبان (الجمهوري والديمقراطي) يتناوبان على ملء تلك المراكز، رغم وجود عشرات الأحزاب التي حاولت وتحاول الوصول الى السلطة. وبالمناسبة فالأحزاب التي تحكم بأمريكا هي أحزاب ليس لها نظرية تنظيمية ولا منظومة أيديولوجية (فلا اجتماعات دورية ولا هناك مناهج تثقيفية) فالطفل يولد جمهوريا ويولد ديمقراطيا وفق رؤية أهله المتناسبة مع النظرة الإمبريالية. كما أن (بوش) سليل العائلة النفطية لا يختلف كثيرا عن (أكينو) سليلة عائلة ملاك الأراضي.

(4)

يمكن الاتفاق مع (فوكوياما) في القول أن التطور العلمي والتقني يدفع باتجاه الاتفاق على تناقل السلطة، فالمنتجون يحبون أن يكون هناك من يتفهم حركات إنتاجهم ويتفاعل معها في سن القوانين. كما أن انخراط الكثير من العمال المهرة والمصدرين والمسوقين يعنيهم ما يصدر عن الدولة من قوانين وتعليمات تخدم حركاتهم ولا تعيقها.

كما أن اكتساب الناس للعلوم والمعارف، يجعلهم لا يقتنعون بسهولة بضرورة الانخراط بالجيش للاعتداء على دولة أو شعب دون قناعات قوية. في حين من السهل على الشعب المتعلم أن ينخدع في اتباع أساليب تغذية أو رياضة تسوق له من أجل الربح.

لقد استفادت كوريا الجنوبية من تدفق العلوم بأشكالها لا من أجل تطوير اقتصادها فحسب، بل من أجل تطور عادة الانتخاب وتحسين نتائج تلك الانتخابات بما يتماشى مع التطور، ففي كوريا (برلمان) هو الأكثر شبابا بين برلمانات العالم حيث يقل متوسط أعمار الناجحين في البرلمان، وهي دلالة على توافق وتناغم أشكال التطور في كل المستويات.

(5)

لكن هناك مشكلة، حاول الكاتب التملص منها، وهي موضوع تلوث البيئة، فإن كان التقدم يفرض على شعب من الشعوب أن يطور أشكال قطاعاته وعلاقاتها مع بعض، فإن السمة العامة لهذا التطور لها علاقة بالربح وزيادة الدخل، سواء للأفراد أو للدولة المستفيدة من ضرائب الأفراد ونشاطاتهم فيها.

أما فيما يتعلق بالبيئة وتلوثها، فهي متعلقة بالجانب الأخلاقي الإنساني وتبتعد عن الجانب الربحي. وقد تساوت في تجاهلها كل نظم الحكم (مركزية أو ليبرالية) لكن الليبراليون يتبجحون بأنهم يتركون المجال لمنظمات مدنية تطالبهم بالالتزام ببيئة نظيفة. نعم تعطيهم ترخيص في التظاهر ضدها، لكنها تعطي نفسها ترخيص بعدم الاستجابة لتلك التظاهرات!

شيركوه
09-19-2009, 10:04 PM
(11)

الإجابة عن السؤال السابق

وهو سؤال كانط: هل بالوسع كتابة تاريخ العالم من وجهة نظر عالمية؟ وإجابتنا الآن مؤقتة، هي: نعم.

لقد زودتنا العلوم الطبيعية الحديثة بآلية أضفى ازدهارها المطرد على تاريخ الإنسانية عبر القرون الماضية غائية وتماسكا منطقيا. وقد باتت هذه الآلية عالمية في عصرنا هذا الذي لم يعد بمقدورنا فيه أن نعتبر تجارب الإنسانية في مجموعها هي تجارب أوروبا وأمريكا الشمالية. فبصرف النظر عن القبائل في أدغال البرازيل وغينيا الجديدة الآخذة بالاندثار سريعا، لا نجد سلالة بشرية واحدة لم تتأثر بهذه الآلية ولم ترتبط بسائر سلالات البشر بفضل الصلات الاقتصادية العالمية التي يخلقها الاستهلاك الحديث. إنها نظرة عالمية لا إقليمية ضيقة نتجت عن نمو حضاري عالمي خلال القرون القليلة الماضية.

من أوجد هذه القاعدة الحضارية؟

إن من يقرأ لهذا الكاتب، وهو يصف ذلك النشاط بأنه نشاط عالمي، وليس إقليمي أو ليس محصورا بأوروبا وأمريكا، سيصف هذا الكاتب بأنه كاتب منصف وعقلاني. لكن عندما يكتشف القارئ أن العالمية التي يقصدها الكاتب هي عالمية من فكرة وتأسيس وصناعة من يبشر لهم، سيكتشف القارئ عندها مدى استعلاء نظرة هذا الكاتب واستحقاره لغيره.

يقول الكاتب مدللا لما رميناه به: لم تستطع دول في إيقاف وحدة عالمية تلك الحضارة، فلم يكن باستطاعة الدولة العثمانية، ولا إمبراطورية اليابان، ولا قوة الاتحاد السوفييتي أو الصين الشعبية أو بورما أو إيران وكوبا وغيرها.

استشعار لتطبيق دورة التاريخ:

يقول الكاتب: أن قوة التقدم العلمي عطلت من فكرة أن (يعيد التاريخ نفسه)، وهنا يشير لمن يطبق فكرة (أن كل دولة أو إمبراطورية مهما بلغت قوتها، فإنها ستمر بأطوار الإنسان من الطفولة حتى الشيخوخة والموت). لا يريد الكاتب أن يشمل الولايات المتحدة بذلك السيناريو. فيقول أن الصراع بين أثينا وأسبارطة بما يعنيه من صراع بين الديمقراطية (أثينا) والدكتاتورية (أسبارطة)، لن يكون مماثلا لما كان يقوم في الحرب الباردة بين الليبرالية (الولايات المتحدة وحلفائها) وبين الشمولية (الاتحاد السوفييتي وحلفائه).

يؤكد الكاتب بأن تطور الليبرالية هو تطور تاريخي دياليكتيكي وجد من خلال تجارب (الشعوب المتحضرة) في حين أن التجربة النازية والشيوعية هي أشبه بالطرق الفرعية التي تنتهي بعلامة (نهاية خط أو الطريق مغلق).

دكتاتوريات صغيرة وطموحات لن تتحقق:

يترك الكاتب الديكتاتوريات الكبيرة (الصين والاتحاد السوفياتي) ، ويلتفت الى دكتاتوريات قبيحة (كما أسماها) كوبا، إيران، سوريا، العراق، أفغانستان، اليمن (الجنوبي)، إثيوبيا، كوريا الشمالية. ومن يتفحص تلك الدول ووضعها سيجدها تشترك في صفة واحدة وهي الفقر النسبي وقلة الإمكانيات، وهذا مما يدفعها لأن تكون ديكتاتورية!

ماذا عن ألمانيا و إيطاليا؟ (النازية والفاشية)

استند الكاتب الى تحليل أو وصف (والت روستو) الذي أطلق عليه: (مرض المرحلة الانتقالية) أي أن المرور بمرحلة الديكتاتورية ضروري جدا للانتقال لمرحلة التصنيع.

حسنا، إذا كان ذلك الوصف يصلح في الدكتاتوريات القبيحة (كما أسماها)، فما هو تفسير ظهور تلك الدكتاتوريات في مجتمعين صناعيين اجتازا مرحلة الانتقال؟ (ألمانيا وإيطاليا).

يمر الكاتب على الإجابة عن ذلك التساؤل بشكل غير مقنع نهائيا، فيقول إننا لا نستطيع أن ندافع عن أن النازية والفاشية هما نتاجان من إنتاج (الحداثة) ولن نضمن أن لا يتكرر نموذجهما مرة أخرى بالتاريخ.. لا ندري إن كان (فوكوياما) يحبذ شمول بوش بالنموذجين الألماني النازي والإيطالي الفاشي!

المحرقة في نظر فوكوياما

اعتاد الكاتب على عدة أنواع من الصياغات، فهو عندما يريد أن يمرر رأيا لا يضمن ردة فعل الآخرين تجاهه، فإنه يورده بشكل (هناك من يقول: كذا) ويدخل رأيه بين ثنايا تلك الصيغة. وأحيانا يريد أن يضع أسهما كالتي تستخدم في إشارات المرور ( الى رأي فوكوياما بالمسألة الفلانية).

هذا ما فعله بموضوع (المحرقة) حيث وصفها: بالحدث التاريخي الفريد، واستبعد أن يتكرر مرة أخرى في التاريخ، ويضع أسبابا وراء ذلك الحدث التاريخي الفريد، فالاحتقانات وخيبة أمل النازية هي التي كانت وراء موضوع المحرقة، وطالما أن النازية لن تتكرر فالمحرقة لن تتكرر، هذا وجه الفرادة في موضوع المحرقة.

من يقول أن المحرقة هي بالسيناريو الذي تم تلقينه للإعلام الخادم للإمبريالية؟ فالمحرقة من زاوية أخرى، هي صنيعة صهيونية للفت نظر العالم لمعاناة اليهود لكي يتم استعجال تهجيرهم الى فلسطين والتمهيد لقيام كيانهم، وبنفس الوقت أن الوشاية التي كان الصهاينة يقدمونها للمخابرات النازية، هي ضد يهود كانوا أعداء لفكرة الصهيونية، وهنا يضرب عصفورين بحجر واحد.

ثم لماذا تسليط الأضواء على المحرقة تلك ونسيان محارق أبادت سكان قارات كاملة (أمريكا واستراليا)، أو ما حدث في (هيروشيما ونجازاكي بعد ضربهما بالقنابل النووية). كما أن سنين الحصار على العراق والضحايا التي حدثت وتحدث لغاية اليوم تفوق عدة محارق (مزعومة). هذا غير ما يخلفه تلويث أرض العراق والمنطقة سيشوه الكثير من أبناء البشرية!

شيركوه
09-19-2009, 10:06 PM
(12)

لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين

بات واضحاً الآن أن الآلية التي بسطنا قواعدها هي في جوهرها تفسير اقتصادي للتاريخ، والواقع أن " منطق العلوم الطبيعية الحديثة " لا يملك قوة في حد ذاته مستقلة عن البشر الذين يريدون استخدام العلوم لتذليل الطبيعة من أجل إشباع احتياجاتهم، أو تأمين أنفسهم من أخطارها. أما العلوم في حد ذاتها (سواء في صورة الإنتاج الآلي، أو التنظيم المنطقي للعمالة).

لقد حاول (فوكوياما) أن يقول لمن كان يؤمن بالأفكار الاشتراكية، بأن الاشتراكية وعلى لسان ماركس بشرت بالعدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاهية للناس بطريقة عادلة، أقر فوكوياما بذلك، لكنه سخر من الماركسية بأنها لم تحقق ما بشرت به في حين استطاعت الرأسمالية تحقيق ما عجزت عنه الاشتراكية. وهنا يورد فوكوياما فقرة من المجلد الثالث من كتاب رأس المال لماركس ليؤشر للقارئ ما يريد إثباته:
(( لا يبدأ ملكوت الحرية في الظهور إلا باختفاء العمل الذي تمليه الضرورة والاعتبارات الدنيوية. فهو إذن، وبطبيعة الأشياء، خارج نطاق الإنتاج المادي الفعلي. وكما أن على الهمجي أن يُغالب الطبيعة من أجل إشباع احتياجاته والبقاء على قيد الحياة والتناسل، فكذا على الإنسان المتحضر أن يفعل كل هذا في كافة التشكيلات الاجتماعية وفي ظل كل صور الإنتاج الممكنة. وبتطور الإنسان يتسع مجال الضرورة المادية نتيجة احتياجاته. غير أن قوى الإنتاج التي تشبع هذه الاحتياجات تتزايد هي الأخرى وفي نفس الوقت. ولا يمكن للحرية في هذا المجال إلا أن تقوم على التفاعل مع الطبيعة، بحيث يتحكم الإنسان فيها بدلا من أن يذعن لها إذعانه لقوى الطبيعة العمياء، على أن يتحقق ذلك بأقل جهد ممكن وفي ظل أنسب الظروف للطبيعة البشرية وأجدرها بها. ومع ذلك، فإن الأمر لن يتعدى مجال الضرورة. أما خارجه، فتبدأ تنمية الطاقة البشرية التي هي غاية في حد ذاتها، وهي ملكوت الحرية الحقيقي الذي لا يمكن مع ذلك أن يزدهر إلا باتخاذه مجال الضرورة أساسا له. والشرط الأساسي لهذا هو تقصير ساعات العمل))

لم يكن ل(فوكوياما) أن يكون كريما بهذا الشكل عندما يقتبس تلك الفقرة المطولة، لو لم يعتقد أن فلسفتها تنطبق على (الليبرالية الإمبريالية). فهو يتهكم بعد إدراجها على مصير الحالمين الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية الذين كانوا يحلمون بتقليص ساعات العمل الى أربعة ليقضوا باقي يومهم في التزلج أو كتابة الأشعار ومراقبة المسرحيات والباليه. بل كانوا يقضون باقي ساعات يومهم في طوابير الانتظار للحصول على سلعة أو شرب (الفودكا) وإن حصل وتنزه أحدهم فإنه سيكون بأشبه بنزلاء المصحات الواقعة على شواطئ ملوثة.

ما أراد قوله فوكوياما في موضوع الديمقراطية

ينتهي فوكوياما في هذه المقالة الى أن الديمقراطية ليست متعلقة بالوضع الاقتصادي فحسب، بل هي آتية من إرادة روح الليبرالية وفهمها. ويضرب مثالين: أن أكبر الثورات في العصور الحديثة كانتا في الولايات المتحدة وفرنسا، وهما لم تقوما على هامش التطور الاقتصادي والصناعي بل قامتا بوازع يتعلق بالحرية الليبرالية.

كما أن المعالجات الاقتصادية التي تحاكي النموذج الليبرالي كالصين مثلا، لا توصل الى حالة ديمقراطية. كما يمكن سحب هذا الكلام على (لي كوان يو) في سنغافورة الذي ذهب الى أن الديمقراطية ستكون عقبة في سبيل النجاح الباهر في سنغافورة.

يريد فوكوياما أن يقول للعالم إن تداول السلطة والديمقراطية لن تتحقق بالشكل المطلوب إلا بالصورة التي تسير عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

نقد وتعليق

إن النقاط الفلسفية التي اختارها فوكوياما مما اقتطفه من كتاب رأس المال لماركس، صحيحة في جانب وكاذبة في جانب آخر:

1ـ إن الماركسية التي كانت شكلا من أشكال الرفض لسحق إنسانية العمال في بداية الثورة الصناعية، هي وما رافقها من أشكال احتجاج فكري وعملي من خفض ساعات العمل في البيئة الرأسمالية من 14 ساعة لما هي عليه الآن. فلم يكن الضمان الاجتماعي والصحي وتخفيض ساعات العمل كرما من الرأسمالية بل كانت نتيجة صراعات وإضرابات قام بها العمال من اليونان الى أمريكا حتى أصبح الشكل للتعاطي مع قضايا العمال كما هو عليه، وإن الدول التي تناوبت فيها الاشتراكية (المحسنة والمهادنة للرأسمالية) [ الدول الاسكندينافية وألمانيا] هي أكثر ثباتا وقوة من تلك التي انفردت بها الرأسمالية [الولايات المتحدة وبريطانيا]. وما يحصل اليوم من انهيارات مالية هو شاهد كبير.

2ـ إن كان يعاب على النظام الشمولي [الاتحاد السوفييتي وغيره] من أنه يبتعد عن أساليب تناقل السلطة بعدل. فإن هذا العيب موجود بالنظام الرأسمالي الليبرالي، فالديمقراطية المركزية التي كانت تجري في الدول الشمولية تنتخب المندوبين من بين أعضاء الحزب الحاكم في القرى والقصبات لترسلهم الى المدن ومن ثم تنتخب من بين أولئك المندوبين مندوبين أقل عددا لترسلهم للعاصمة، ليختاروا قياداتهم، وهي صورة يطلق عليها أعداء النظم الشمولية بأنها ديكتاتورية الحزب الواحد.

فإن الصورة لا تختلف كثيرا في الدولة الليبرالية، حيث يترشح من يملك الملايين لمتابعة حملته ويقوم (قادة الرأي) للتبشير بهذا القائد الجديد وتتبنى الشركات العملاقة تمويل الحملات بعد أن تتفاهم على عدد مرشحيها مع غيرها من الشركات، فهي ديكتاتورية رأس المال التي لا تعير اهتماما للجمهور، بل تسرقه لإنقاذها (حسب خطة إنقاذ بوش).

إن العيب البارز في النظام الشيوعي في إلغاء المواطن كفرد بشكل نهائي، لا يعطي الأفضلية للنظام الرأسمالي، حيث لا يلغى الفرد فحسب بل تلغى الإنسانية جمعاء لضمان رفاهية نخبة عفنة. والعالم ينتظر نموذجا أفضل ولا بد من ولادته.

شيركوه
09-19-2009, 10:07 PM
الجزء الثالث: الصراع من أجل نيل الاعتراف والتقدير.

13ـ في البدء كانت معركة حياة أو موت من أجل المنزلة الخالصة

( وليس بالوسع نيل الحرية إلا بالمخاطرة بالحياة. حينئذ فقط يمكننا التدليل على أن جوهر وعي الإنسان بذاته ليس مجرد البقاء على قيد الحياة، ولا هو مجرد الصورة المباشر التي يبزغ فيها هذا الوعي لأول مرة .. فالفرد الذي لا يخاطر بحياته قد يُعْتَرَف به فردا، غير أنه لم ينل حقيقة هذا الاعتراف باعتباره وعيا مستقلا بالذات)
............................. ج.ف.هيجل: [فينومينولوجيا العقل]

(( الرغبة الناشئة عن طبيعة الإنسان ـ الرغبة التي يتولد عنها الوعي بالذات وواقع الإنسان، هي في أصلها تعبير عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير. وما المخاطرة بالحياة التي يبزغ بها واقع الإنسان الى النور، إلا مخاطرة من أجل إشباع تلك الرغبة. وبالتالي فإن أي حديث عن مصدر الوعي بالذات هو بالضرورة حديث عن معركة حياة أو موت من أجل الاعتراف والتقدير))

....................... ألكسندر كوجيف: [مقدمة لقراءة هيكل]

يستهل الكاتب مقالته هنا، والتي تتصدر الجزء الثالث، باقتباسين اثنين، ومن يجمع اقتباسات الافتتاح للكاتب يستطيع أن يتعرف على الدينامو المحرك لتفكيره أو ما يطلق عليه (الدافع الإبستمولوجي). فهو يريد أن يقرر أن الليبراليين هم ورثة كل المفكرين الجادين، والذي يحرص الكاتب أن يكونوا كتابا من الغرب.

أخطار و مخاوف وأحلام.

ما هي الأخطار والمحاذير بالنسبة لشعوب العالم؟ (يتساءل المؤلف): ويجيب: إنها ثقل الكولونيلات المكروهين أو قادة الأحزاب الذين يضطهدون غيرهم، والحكام الذين يلجئون للاعتقال التعسفي للمواطنين. إن الشعوب تحلم بالعيش دون خوف، والتمتع بقدر من الرخاء. ولكن الرخاء لن يأتي إلا بالديمقراطية والرأسمالية، وحتى إن جاء الرخاء في ظل حكومات غير ليبرالية كما في كوريا وسنغافورة وتايوان (وهي حكومات أوتوقراطية) فإن هذا الرخاء لن يكتمل إلا بالليبرالية!

يضيف الكاتب: وحتى نقف المعنى الحقيقي لليبرالية علينا الرجوع الى ما قبل (هيجل)، أي الى عهد ( توماس هوبز ـ توفي 1679)و(جون لوك المتوفى 1704) حيث منابع الليبرالية، لكنه يفضل الوقوف عند ما كتب (هيجل المتوفى عام 1831)، لأنه يفهمنا الليبرالية بطريقة أكثر نبلا، ولأن الآخرين كانوا يميلون لتغليب الحلم البرجوازي الذي ينشغل باستمرار برخاء عيشها المادي. في حين أن الليبرالية تتوجه للجانب الإنساني في فكرها.

لقد أنكر هيجل أن هناك طبيعة بشرية ثابتة لا تتغير، فالإنسان عنده حر غير محدد، وقادر على تشكيل طبيعته عبر الزمن التاريخي. وقد ذكر هيجل في كتابه (فينومينولوجيا العقل) أن الإنسان الأول (الطبيعي) يشترك مع الحيوان في حاجات طبيعية أساسية كالطعام والنوم والمأوى والحفاظ على حياته، لكن الإنسان الأول يتفوق على الحيوان في أنه يرغب أن يقدره الآخرون ويعترفون به وبوجوده وآثاره، وبقدر ما يفعلون ذلك بقدر ما يحس أنه كائن اجتماعي يختلف عن الحيوان.

انتصار وهزيمة ومخاطرة

يقرر هيجل بأن الإنسان هو كائن اجتماعي يميل للمخاطرة، واجتماعيته لا تؤدي به الى الحياة في مجتمع مدني يسوده السلام، وإنما الى صراع عنيف حتى الموت من أجل المنزلة الخاصة. التقى اثنان من (الإنسان الأول) ودارت بينهما معركة، وقد تسفر هذه المعركة الدموية عن نتيجة من ثلاث: فقد يموت المتصارعان، فتنتهي بموتهما الحياة نفسها. وقد يموت أحد المتنافسين، فيظل المنتصر غير راض عن الوضع إذ لم يعد ثمة وعي بشري آخر ليعترف به. وقد تنتهي المعركة بقيام علاقة بين سيد وعبد، إذ يقرر أحد المتنافسين الإذعان لوضع العبودية مفضلا إياه على خطر الموت. وحينئذ يشعر السيد بالرضا إذ خاطر بحياته ونال الاعتراف والتقدير بسبب هذه المخاطرة من كائن بشري آخر.

هذا التدريج بالفهم لحركة البشر، تكلم عنه أيضا (هوبز) في موضوع الطبيعة وعلاقتها بالإنسان. كما تكلم عنها (لوك) في الحديث عن (الحرب).

التراتب الاجتماعي والطبقية

إذا كان المجتمع عند (هيجل) و(لوك) ينقسم الى فئتين: فئة على استعداد أن تخاطر بحياتها وهم (السادة) الذين يرسمون في النهاية شكل حركة عبيدهم وكمية الضرائب الواجب عليهم دفعها الخ، وطبقة الذين ليسوا على استعداد للمخاطرة بحياتهم وهم العبيد، فإن ماركس رفض هذا التقسيم وآثر تقسيم المجتمع الى مالكين لأدوات الإنتاج (أرض، آلات، أموال الخ) وعمال أو زراع يقدمون جهدهم لهؤلاء رغما عنهم وبطريقة غير عادلة.

لكن هيجل يسوق أمثلة تدلل على نظريته، فيورد مثل الصخرة التي تتدحرج من أعلى جبل بفعل ثقلها وبفعل الجاذبية الأرضية، لا يوقفها شيء ويرجع ذلك الى حرية الظواهر الطبيعية. كما يضرب مثلا: دب جائع يتحرك بوحشية لسد جوعه. ولكن الإنسان بإنسانيته يرفض أن تكون الطبيعة هي من يوجه حركته و (يحدد حريته)، فكلما استطاع الوقوف في وجه تدخلها كلما اقترب من إنسانيته وكان حرا أي غير ملبي لنداء الطبيعة.

من هنا يشارك هيجل، كل الفلاسفة الذين يعتبرون أن الحروب، حتى لو كانت لأسباب تافهة، فهي تعبر عن الإنسان مستعد للمخاطرة بحياته ضد من يحاول إجباره على القبول بشيء. ويعاود هيجل للقول: أنه إذا كان صراع الحيوانات من أجل إطعام نفسها أو صغارها، أو تحديد الرقعة التي يتحرك فيها الحيوان، فإن الأمر يختلف عند الإنسان فقد يقاتل من أجل علم (راية) أو لتقلد منصب أو يهلك نفسه في تمارين من أجل وسام.

تعليق:

يستطيع أي متأمل ـ لغاية الآن ـ أن يفهم مغزى الترابط بين المقالات السابقة التي تمجد من الإنسان الليبرالي الغربي، الذي ورث فلسفة وحكمة من سبقه من أبناء بيئته، ليكون الإنسان المنتصر من أجل الإنسانية، والمستحق لقيادتها، مبعدا الهمجية من طريقه.

لقد قالها قبل (فوكوياما) كل من (مونتسكيو) و (فولتير) (روسو)، عندما مهدوا للثورة الفرنسية [ التي يجلها فوكوياما]، حيث كانت فحوى دعواهم بأنه لا يجوز احتلال ملك الغير إلا بقانون ولا يجوز قتل الغير إلا بقانون ولا يجوز سن قانون إلا بوجود ممثلين لمن تُسَن لهم القوانين (الشعب)، ولكن بعد عقدين من الزمن وجدنا أن رواد الثورة الفرنسية قد احتلوا (مصر) وكأن من يقطنها هم كائنات غير بشرية، وهذا ما تكرر في تبجح (فوكوياما) بإنسانية (ليبراليته) التي أذاقت العالم من ويلاتها في عقد من الزمن ما لم يذقه في قرون!

شيركوه
09-19-2009, 10:08 PM
14

الإنسان الأول

((ذلك أن كل إنسان يسعى الى أن يقيمه زميله كتقييمه لنفسه. فإن بدرت من زميله بادرة تشير الى احتقاره أو الانتقاص من قدره، كان من الطبيعي أن يحاول، بقدر ما تواتيه الجرأة، أن ينتزع أكبر قدر من التقدير ممن ناصبوه الاحتقار، عن طريق إيذائهم، ومن الآخرين بجعلهم عبرة لهم)).
توماس هوبز[ الوحش البحري المخيف]

(1)

لم تظهر الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة من خلال ضباب التقاليد، وإنما خلقها البشر عامدين عند نقطة معينة من التاريخ. وليس من السهل تحديد بدايات ظهور الليبرالية نظريا، وحتى إن كان كارل ماركس هو من نبه على وجودها، فإن التعرف على آراء (توماس هوبز) سيعطينا فكرة أنه سبق غيره في التفكير بطريقة ليبرالية.

لقد اتصف (هوبز) بهجومه على الإنسان الطبيعي (الفطري) ووصفه بأنه وحيد، فقير، قميء، متوحش، قصير العمر. كما اتصف بهجومه على الحكومات وربط شرعيتها بقبول المحكومين لها، واستنكر ما وصف في عهده بالحق الإلهي الذي يتمتع به الملوك ويطلبون من الشعب القبول به دون مناقشة.

يصنف هوبز دوافع النزاعات عند البشر الى ثلاثة أسباب رئيسية: أولها التنافس وثانيها فقدان الثقة بالنفس وثالثها المجد.

وقد تدفع الرغبة في المجد الناس الى الغزو بسبب تفاهات، ككلمة قيلت، أو ابتسامة، أو رأي مخالف، أو أية إشارة تحمل في طياتها الاحتقار، إما للأفراد أنفسهم، أو لأولادهم وأقاربهم، أو لأصدقائهم، أو لأمتهم، أو لمهنتهم أو لاسمهم.

وقد يتنازع الناس في رأي (هوبز) على الضروريات، غير أن الأغلب أن يتنازعوا على التفاهات، وبعبارة أخرى من أجل نيل الاعتراف والتقدير. ولا تحسب الخسارات المادية في مثل تلك النزاعات. وهذا الشيء أطلق عليها (هيجل) العاطفة الإنسانية الشاملة للكبرياء واحترام الذات أو الغرور والصلف والأنانية في شكل آخر.

(2)

الخوف من الموت على حلبة الصراع.
هذه النقطة هي التي تجعل المغلوب و المهزوم أن يعيش في شكل دوني (عبد) مع الغالب والمنتصر (سيد). وتلك النقطة يلتقي بها هوبز مع هيجل، إلا أن هوبز يعتبر هذا الوضع بدائيا وقريبا من عصر الإنسان الأول، في حين يعتبرها هيجل نتيجة طبيعية تحول دون حدوث الفوضى بحيث يكون السيد المنتصر هو من يتحكم في العلاقات بين أفراد الشعب، ويمنعهم من أن يكون أحدهم ضد الكل مجربا قوته في النيل من أي أحد.

لكن هوبز يحاول أن يجد شرطا (وجدانيا)، إذ يطالب الأفراد الذين يريدون أن يجنبوا أنفسهم من الموت، مقابل التمتع بما ينالهم من نفع مادي، أن يتنازلوا عن كبريائهم و تطلعاتهم الذاتية.

من هنا كان سر تسمية أشهر كتبه (الوحش البحري المخيف) بهذا الاسم، وهو يرمز بهذا الرمز الى (الدولة) كونها كائن حي لا يشبع، لقد كان كتاب (هوبز) يسبق الثورة الأمريكية 1776 بعدة سنوات. ويعتبر هو أول من أشر على الروح الليبرالية بشكلها الأولي، وجاءت الثورة الأمريكية لتسير قدما في تطوير تلك الروح!

(3)

كانت رؤية (هوبز) لحكم الملوك أنهم ينزلقون تدريجيا الى الاستبداد. وكثيرا ما يكون من الصعب، دون آلية المؤسسات كالانتخابات التي تسجل رضا الرعية، أن نعرف ما إذا كان هذا الملك أو ذاك يتمتع بمثل هذا الرضا.

كان من السهل على (جون لوك) أن يلتقط تلك الإشارة من جانب (هوبز) فيعدل عليها، بتطوير المؤسسات البرلمانية دون الاضطرار للمس بالنظام الملكي، حيث تكون المؤسسات تضبط أداء الدولة محافظة على رمزية ومركزية الحكم المتمثل بالملك، ومراعية لحقوق الشعب بانتخابه لممثليه في كل مؤسساتهم التي يحكمها الدستور وتضبط حركتها القوانين التي يشرعها ممثلو الشعب، ويباركها الملك المهيوب جانبه من قبل مؤسسات الشعب.

رغم أنه يبدو أن الارتباط بين هوبز والنظام الأمريكي هو الأقوى، لكن الواقع يشير الى غير ذلك، فبالرغم من أن النظام في أمريكا هو جمهوري، إلا أن تأثره بأفكار (جون لوك) أكبر من تأثره بأفكار (هوبز).


تعليق

ليلاحظ القارئ الكريم كيف أن أسس هذا الفكر الليبرالي مهزوزة، يسهل التلاعب بها وتحويلها لتقوم بتفسير ما يريده الكاتب، أو لنقل ما يريده كل أصحاب هذا اللون من التفكير، والذي هو ـ مع الأسف ـ لا تزال السيادة على العالم بيده.

فمن جانب، يريد الكاتب وصف الصراعات بين البشر غير المتمدن (وهو ما اختار له عنوان الإنسان الأول) بأنها تقوم على أسباب تافهة، لا يهم فيها الربح المادي بقدر ما تكون أسبابها آتية من استصغار أو شتم الخصم لمن يبدأ الصراع. ولو أننا بحثنا في الصراعات خلال قرنين من الزمان في كل العالم لوجدنا مسببيها هم من أولئك التي يتغنى برجاحة عقولهم (فوكوياما).

كانت الولايات المتحدة، ولا تزال، كبقعة أرض واسعة، من أخصب وأغنى أراضي العالم، وكان شعبها من أغنى شعوب العالم، فبماذا تريد قياداتهم الليبرالية أن تستقوي من شعب أفغانستان، لتدفعه للتوجه لزراعة المخدرات ولتعطل نموه في كل الأصعدة؟ ألم تتشابه بسلوكها مع حيوانات الغابة التي تبول على حجر أو ساق شجرة لتعلم الآخرين بحدود سيطرتها؟ وهكذا فعلت مع غرينادا وبنما وتفعل مع العراق؟

أي فكر يبشر به هذا الأحمق، وعلمنا أنه تراجع عنه قبل سنتين وتنبأ بتراجع قوة أمريكا، وحماقة سلوك إدارة بوش، رغم أن فوكوياما كان أحد الموقدين لنار غزو العراق.

لكننا نحاول هنا في تلك المساهمة أن نطلع القارئ العربي على الحاضنة التي تخرج منها قرارات تلك القوى التي لا تتركنا نعيش بسلام كما نريد.

شيركوه
09-19-2009, 10:09 PM
15ـ إجازة في بلغاريا

(( ثم نطهر مدينتنا الفاضلة من كل هذه الأشياء، بادئين بالأبيات التالية:
إني لأفضل البقاء في الأرض، عبداً لغيري،
عبداً لرجل لا يملك إلا القليل،
على أن أكون سلطاناً على كل الهالكين ...))
سقراط، في جمهورية أفلاطون، الكتاب الثالث

(1)

كعادته، يبدأ (فوكوياما) مقالته بفقرة تعزز مفهوم أن الليبرالية الغربية الحديثة هي وريثة ذلك التراث العميق الإنساني والفكري، وأن تراكم هذا التراث هو من أنتج ذلك اللون من التسيد المطلق الجميل!

ولا ينسى (فوكوياما) أن يربط تلك القيم التي عملت كروافع لإيصال الحالة الراهنة، فيختار أسماء تلك القيم ويربطها بمفكرين معروفين عالميا بانتمائهم للحضارة الغربية فأفلاطون يطلق على تلك القيمة اسم (الثيموس) وميكافيللي يطلق عليها (المجد) وهوبز يطلق عليها (الكبرياء) وألكسندر هاملتون يطلق عليها (حب الشهرة) وهيجل يطلق عليها (الاعتراف من قبل الآخرين بالأهلية والأحقية ) الخ.

ويركز (فوكوياما) على مصطلح (الثيموس) عند أفلاطون، ويعترف بأنه لا يستطيع ترجمته إلا في (الهمة والشجاعة)، وقد يكون مفهوم الثيموس هنا ضائعا بين ثنايا الترجمات ولن نقف عنده الآن.

(2)

يورد الكاتب بعض الأمثلة للتدليل على ما يقصده في موضوع (الثيموس)، ففي المثال الأول: إذا كان هناك شخص عطشان وعرض عليه الماء ويتعرف بخبرته أن الماء ملوث، فإنه سيمتنع عن الشرب!

وفي المثال الثاني يورد مما كتبه سقراط عن جلاد اسمه (ليونتيوس) انتابته موجة من الصراع الداخلي، وهو أمام مجموعة من جثث ضحاياه، فغطى وجهه بكفيه بالمرة الأولى مشمئزا من فعلته، ثم أجبر نفسه (تحت رغبته) على فتح عينيه وخطى نحو الجثث قائلا: أنظرا أيتها العينان الملعونتان وحملقا ما شئتما في هذا المنظر الجميل!

في المثال الثالث: يتعمد الكاتب للحديث عما كتبه (فاسلاف هافيل) الذي كان معارضا سجينا في عهد الحكم الشيوعي في (تشيكوسلوفاكيا) ثم أصبح بعد انهيار المعسكر الاشتراكي رئيسا للجمهورية: كتب يتندر على الحالة السائدة في العهد الشيوعي عن بائع خضراوات يضع بين الجزر والبصل قطعة مكتوب عليها (يا عمال العالم اتحدوا).

يعلق الكاتب متسائلا: هل يعِ بائع الخضراوات ما علقه بين خضراواته؟ وكيف سيتحد عمال العالم بعد أن يشتري بعض المشترين الخضروات منه؟ ولمن تلك الرسالة؟ هل هي رسالة الى العمال فعلا من أجل اتحادهم؟ أما رسالة الى الأجهزة السرية الشيوعية ليقول لها أنه متماشيا معها ولا شأن له بمعارضتها؟

ويتهكم (فوكوياما) كما تهكم من قبله كاتب الفقرة السابقة (الرئيس التشيكوسلوفاكي) ويقول ماذا لو صدرت التعليمات لذلك البائع بأن يضع قطعة مكتوب عليها: (أنا خائف، ولذا فأنا مطيع بدون شك).. يستنتج الكاتب أن البائع لم يكن مكترثا بمعنى اليافطة التي كتبها، فما الضير لو أن عمال العالم اتحدوا؟ فالسبب أن البائع لا يريد أن تُخدش قيمه (الثيموس) إن وضع على يافطته كلاما يصف حقيقته (أنه خائف وجبان).

(3)

إن فكرة عنوان المقالة (إجازة في بلغاريا) تكمن في الجانب الذي أراد فوكوياما أن يستهزئ به وهو أقصى متعة كان من الممكن أن يحصل عليها الشيوعي في ظل الأنظمة الشمولية صورة متدنية جدا عن تلك التي يعيشها المواطن في ظل الليبرالية التي ينادي من أجلها.

تعليق

أولا: فيما يخص الثيموس

في تملصه من تعريف الثيموس، أراد فوكوياما أن يبقي القاعدة التي ينطلق منها ذات شكل مبهم ليركب عليها صورا يضفي عليها طابعا أكاديميا وغير قابل للنقاش.

في حياتنا اليومية، نتقابل مع أشخاص يزعم أحدهم أن يقدم حلولا للمجتمع الذي يعيش فيه خلال حديث لمدة خمسة أو عشر دقائق، كأن يقول: يُقضى على الفساد، ويُصار لتوعية الناس، ويُصار الى تنظيم انتخابات شفافة، ويصار الى نقل التكنولوجية وإشاعة الأمن فتنتهي المشكلة.

لم يفعل ذلك المتكلم، إلا أن استخدم (نائب الفاعل) و (الفعل المبني للمجهول)، وهذا النمط من الحديث والتفكير نشاهده عند عموم الناس، من مثقفيهم الى عامتهم. لكن من سيكون الفاعل الحقيقي ومتى وكيف سيتم تنفيذ ذلك؟ لا يعنيه.

عند الفلاسفة، يُستعاض عن نائب الفاعل والفعل المبني للمجهول، ويتم اختراع (فاعل) له اسم ابتكره ذلك الفيلسوف (لوغوس، ثيموس الخ)

وبالنسبة ل (الثيموس) يستطيع من أراد تتبع ذلك اللفظ أن يجده عند سقراط المقتول عام 399 ق م، ويستطيع أن يجده عند تلميذه (أفلاطون المولود سنة 428 ق م والمتوفى سنة 348 ق م) ثم سيجدها عند أرسطو طاليس تلميذ أفلاطون (ولد عام 384 ق م وتوفي عام 322ق م). ومن أراد متابعة ذلك المصطلح سيجده عند الفارابي في مدينته الفاضلة المتأثرة بجمهورية أفلاطون (وعلى فكرة لم يكن لأفلاطون مثل تلك الجمهورية بل له كتاب اسمه السياسة تناقله بعض الإخباريون باسم (جمهورية أفلاطون).

كما سيجده عند (ابن رشد) ولكن مطعما بمسحة إيمانية، كما هي عند الفارابي، وبعيدة عن الإلحاد كما هي عند سقراط وأفلاطون وأرسطو.

إنها النواميس،(وهناك مؤلف لأفلاطون باسم: النواميس) والناموس مصطلح دخيل على العربية، ويدلل على تلك القيم العليا الثابتة التي تقرها المفاهيم الروحية السائدة، فهي عند فلاسفة المسلمين ترتبط بالعقيدة الإسلامية، وحتى المواطن العادي يستعملها لنقد الآخرين (ناموس ما عنده). إذن فالمصطلح ليس شيئا ثابتا كما هو السماء أو الحجر، بل هو القيمة التي يفترضها الفيلسوف أو المفكر بما يعتقد.

ثانيا: مثال بائع الخضراوات

سهل على أي إنسان أن ينتقي صفة سيئة عند رجل ويركز (الكادر) عليها ليجعلها بصفة كاريكاتورية. فيقول: هو إنسان ولكن أنفه كبير! والصورة التي أوردها فوكوياما، دعنا نبحث عنها عند أصدقاء أمريكا وفي بلادنا بالذات والتي لا يتناولها (فوكوياما) بالتركيز نفسه، فكم شركة ترفع برقيات التهاني لأمير أو ملك أو رئيس جمهورية، وكم فئة تخرج رافعة يافطة صيغت بالكذب والنفاق. وحتى بالولايات المتحدة نفسها، فكم ناخب لا يقتنع لا بالحزب الجمهوري ولا بالديمقراطي، يخرج ويدلي بصوته، ولا يُطلب منه أن يقول عن نفسه جبانا؟

إنه سلوك يلازم ظهور القوة الراهنة التي بيدها الحكم منذ تأسيس الحضارة حتى اليوم، فما أن تنتهي تلك القوة الراهنة، لينتقل التأييد المفتعل الى القوة الراهنة التي سيكون بيدها الحكم.

شيركوه
09-19-2009, 10:09 PM
16ـ الوحش ذو الخَدَيْن الأحمرين

(( فإن شاء الله أن تستمر هذه الحرب حتى تضيع الثروة التي جمعها الرقيق خلال قرنين ونصف قرن من الجهد غير المأجور، وحتى تُدْفَع ثمن كل قطرة دم أسالتها السياط قطرة أخرى تسيلها السيوف، فعلينا أن نقول مع القائلين منذ ثلاثة آلاف عام مضت : { إن حكم الله حق لا ريب فيه}. ))
.......... من الخطبة الافتتاحية الثانية لأبراهام لينكولن 1865

يعود الكاتب في هذا الباب والباب الذي يليه بالإشارة لفعل (الثيموس)، وسنكتفي بالباب هذا للوقوف عند قضية الثيموس، التي جعلها الكاتب قاعدة تنطلق منها الحماسة لموقف، وهنا، يضيف الكاتب عما أورده في الباب السابق، بأن الثيموس، ليس لإثارة الفضيلة التي تخص الفرد نفسه كما ورد في جمهورية أفلاطون أو قضية بائع الخضراوات في تشيكيا، بل يتخطى ذلك في إثارة الفضيلة للدفاع عن الجماعة التي ينتمي لها الفرد.

(1)

إن تحرك الفرد في الدفاع عن نفسه مسألة مفهومة، أما أن يتحرك الفرد في الدفاع عن الآخرين، فهذا ما سيخضعه الكاتب على ضوء نظرية الثيموس.

تنبري إحدى النساء للدفاع عن قضايا المرأة، دون أن تأخذ تفويضا صريحا من النساء، ولا تهتم بالكيفية التي ينظر الناس الى تصديها للدفاع عن نساء ربما لم تلتق بهن أو أنهن يستنكرن تصرفها. كذلك يفعل مواطن أسود من جنوب إفريقيا عندما يحارب العنصرية، إنه يفترض أن لا يعترض على كفاحه أحد من أبناء لونه، وربما لا تؤرقه كثيرا الكيفية التي يتعامل معه فيها أبنا لونه. كذلك يفعل ابن أي بلد أو دولة عندما يغمز أحد أبناء غير دولته في شأن يخص بلده، فإنه يتصدى لذلك، دون انتظار كلمة شكر من رئيس دولته أو تكريما من شعبه.

يرجع الكاتب هذه التحركات الفردية لشيء سماه (الثيموس)، وقد سماه (جوزايا رويس) فلسفة الولاء، وقد تعمدت أن أستعرض الكتاب الأخير في نفس الفترة، لإعطاء المزيد من القدرة على التأمل بتلك النظرية.

(2)

يقول الكاتب: إن الرغبة في الاعتراف الناجمة عن الثيموس هي ظاهرة جد متناقضة حيث إن الثيموس هو الأساس النفسي للعدالة والإيثار، وهو مع ذلك وثيق الصلة بالأنانية. وتطالب الذات التي تسيطر عليها الثيموس باعتراف الآخرين بمفهومها عن تقييمها لنفسها ولغيرها، وتبقى الرغبة في الاعتراف في صورة تأكيد الذات وإسقاط قيم صاحبها على العالم الخارجي، وتستنفر مشاعر الغضب حين لا يعترف الآخرون بتلك القيم.

ويؤدي تأكيد الذات الذي تنطوي عليه طبيعة الثيموس الى الخلط الشائع بين الثيموس والرغبة. والواقع أن تأكيد الذات الناجم عن الثيموس يختلف عن الأنانية الناجمة عن الرغبة. ومثال ذلك الخلاف على تحديد الأجور بين الإدارة والتنظيم العمالي في مصنع ما، والذي يفسره علماء الاجتماع السياسي على أنه صراع بين جماعتين مختلفتين، هما جماعة المدراء وجماعة العمال، حيث يتذرع المدراء بأن زيادة الأجور غير ممكنة في إضافة كلفة جديدة تؤدي للخسارة، في حين ترى جماعة العمال أن الأمر يختلف حيث أن المسألة تتمثل في قطع جزء من أرباح المدراء لصالح العمال.

ويرى فوكوياما أن تلك الحالة تشبه حالة بائع الخضراوات الذي لم يكتب يافطة تقول: (أنا جبان) كما لم يكتب العامل في المصنع يافطة تقول: (أنا جشع، أود ابتزاز الإدارة بقدر الإمكان) .. وإذا كان الوجه المعلن لبائع الخضراوات أن قال: (أنا خائف) فإن الوجه المعلن عند عامل المصنع يقول: ( إنني عامل جيد أستحق أكثر مما تعطيني إياه الإدارة، وبفضلي هي تجني أرباحا، وتحرمني من جزء منها، وهذا ظلم).

إن حالة الثيموس هنا، تتجلى لا في إثبات البطولة، بل بتحقيق مزيد من العدالة ورفع الظلم.

(3)

إن الفقر والحرمان هما مفهومان نسبيان لا مطلقان ناجمان عن دور المال باعتباره رمزاً لقيمة المرء. فإن كان حد الفقر الرسمي في الولايات المتحدة مثلا، يمثل مستوى للمعيشة أعلى بكثير من مستوى معيشة الأغنياء في بعض الدول الإفريقية والآسيوية، فلا يعني أن إحساس فقراء الولايات المتحدة سيكون أقل من فقراء دول العالم الثالث، بل سيحسون بإذلال لا يختلف عن غيرهم.

إن القصور في فهم الثيموس (كما يقول الكاتب)، يؤدي الى سوء فهم السياسة والتطور التاريخي. فمن الشائع مثلا تأكيد أن الثورات تنجم عن الفقر والحرمان، أو أن ازدياد الفقر والحرمان يزيد من إمكانية الثورة. غير أن دراسة (توكفيل) الشهيرة للثورة الفرنسية توضح أن العكس تماما هو الذي حدث. ففي السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية كان الفلاحون ورجال الأعمال المتوسطين يتفوقون على نظرائهم في شرق أوروبا، التي لم تحدث بها ثورة، وحتى ألمانيا نفسها. لكن ما الذي حدث؟ إن الطبقة الوسطى الفرنسية وفلاحوها الأكثر رخاءً من نظراءهم في الدول الأقل رخاءً كانوا وقودا للثورة الفرنسية في انطلاقها نحو التمهيد للعهد الليبرالي.

(4)

يمر الكاتب على الثورة الأمريكية، للتدليل على الخلط بين مفهوم الرغبة ومفهوم الثيموس، إن تلك الثورة التي ذهب ضحيتها 600 ألف قتيل من مجموع سكان الولايات المتحدة البالغ عددهم وقتها 31 مليون نسمة، أي بنسبة 2% من السكان، هي ليست بسبب العوامل الاقتصادية التي يظن علماء التاريخ والاقتصاد السياسي أنها وراء تلك الحرب، بمعنى أنها دارت بين الشمال الرأسمالي الصناعي والجنوب الزراعي التقليدي.

وحسب (فوكوياما)، إن الحرب دارت بأسبابٍ غير اقتصادية، بين نظرة الشماليين الراغبين في بقاء الاتحاد، والجنوبيين الراغبين في تركهم وشأنهم ليعيشوا حياتهم كما اختاروها. وهي عند (أبراهام لينكولن: الأكثر حكمة حسب رأي فوكوياما)، حيث قال: ( كل الناس يعرفون أن الرق هو سبب الصراع) فأهل الشمال كانوا ضد تحرير العبيد، وكانوا يرغبون في إنهاء الحرب بحلول وسط، في حين أن أبراهام لينكولن أرادها أن تبقى مشتعلة حتى لو أتت على جهد 250 سنة من النضال ضد التحرر، حتى يحصل من تبقى من الناس على حريته. ويقول فوكوياما: لا يمكن تفسير ذلك إلا بالثيموس.

(5)

بعد أن يعدد الكاتب أمثلة على ما يريد أن يبرهن عليه من أثر الثيموس، يقول: لكن ليس دائما العوامل الكبيرة أو الهامة هي من تحرك الثورات، بل قد يحركها شيءٌ يبدو تافها وضئيلا، كما حدث في براغ عندما قتلت قوات الأمن عام 1989 طالبا، فتجمعت الجماهير التشيكوسلوفاكية في شوارع براغ واستمرت بانتفاضتها حتى أسقطت النظام، وتبين فيما بعد أنه لم يكن هناك طالب قد قتل، بل هي محض إشاعات.

وفي رومانيا تجمع الناس بعد حبس قسيس مجري في مدينة (تيمشوارا) واستمرت الاحتجاجات حتى سقطت حكومة شاوشيسكو في ديسمبر/كانون الأول 1989.

وهكذا، فبرأي الكاتب، عندما تتفاعل عناصر الثيموس وتتخمر فإن أي سبب تافه يحرك الجماهير من أجل الثورة.

شيركوه
09-19-2009, 10:09 PM
17ـ السيادة والعبودية

(( الإنسان الكامل الحر حرية مطلقة، الذي يرضيه حاله الذي هو عليه على نحو قاطع ونهائي، هذا الإنسان الذي بلغ حد الكمال والاكتمال بهذا الرضا ومن خلاله، هو العبد الذي "انتصر". فإن كانت السيادة الخاملة طريقاً مسدوداً، فإن العبودية النشيطة هي مصدر كل تقدم إنساني واجتماعي وتاريخي. وما التاريخ إلا تاريخ العبد النشيط))
.................. ألكسندر كوجييف: (مقدمة لقراءة هيجل)

حالة الحرب التي سادت (حياة الإنسان الأول) لم تؤدِ مباشرة الى تأسيس مجتمع مدني قائم على عقد اجتماعي، وإنما أدت الى قيام علاقة بين السيد والعبد، وذلك حين (اعترف) أحد المتحاربيْن البِدائيين نتيجة لخوفه على حياته بسيادة المتحارب الآخر وقنع بأن يصبح عبدا له.

لم تكن علاقة السيد بالعبد علاقة مستقرة في المدى الطويل، نظرا لأنه لا السيد ولا العبد رأيا فيها إشباعا لرغبتيهما في الاعتراف. ويمثل هذا الافتقار الى الرضا "تناقضا" ولد الحافز الى المزيد من التقدم التاريخي.

(1)

هنا، يمارس (فوكوياما) تحريك رغبته في التفلسف في هذه المسألة، ويقول أن الصراعات الدموية التي خاضها العبد تجاه سيده لم تحقق له الاستقرار، بل المزيد من العمل هو ما يحقق للبشرية تقدمها واستقرارها! [شهادة إقرار واضحة بقبول الرق].

أما أسباب عدم الرضا عند السيد والعبد، فإنها في رأي (فوكوياما) تختلف عند السيد الذي بنظره أكثر إنسانية من العبد، لأن السيد استعد للتغلب على طبيعته البيولوجية من أجل هدف غير بيولوجي، وهو (نيل الاعتراف). فهو إذ يخاطر بحياته إنما يثبت أنه حر.

أما العبد فقد استسلم لخوفه من القتل في حلبة الصراع، ويظل بالتالي حيوانا محروما غير قادر على جبريته البيولوجية أو الطبيعية. غير أن افتقار العبد لحريته وعدم اكتمال إنسانيته هما مصدر المأزق الذي يعيشه السيد الذي ينشد اعترافا مطلقا من قبل العبيد بسيادته.

(2)

حتى الاعتراف، عند فوكوياما، له طقوسه. فإن اعترف لك العبد من باب الاحترام لأنه عبد، فهو كالكلب الذي يهز ذيله محييا عند عودتنا للبيت، ولكنه قد يهز ذيله لساعي البريد أو للص.

إن التصفيق ومظاهرات التأييد في الدول الشمولية، يختلف عنه في الولايات المتحدة، فالكل يعلم أن الحافلات تحضر المؤيدين للقادة الدكتاتوريين من أجل الهتاف لهم، لكن الصورة تختلف عند شعب ديمقراطي حر، عندما يخرج الناس طوعا لتحية جورج واشنطن أو إبراهام لينكولن.

من هنا تكمن مأساة السيد في نيل اعتراف الآخرين طوعا، فلا يرضيه أن يجبر الآخرين على الحضور للهتاف له، بل يريدهم أن يأتوا من تلقاء أنفسهم، وكونهم لا يأتون فإنه سيمتعض وسيبحث عن وسائل لتغيير طبائع الناس (العبيد).

(3)

حياة السيد ساكنة دون تغيير، فهو لا يعمل ولا يحب العمل، لأن هناك من يعمل من أجله (العبد)، وحياته قوامها فارغ وتعتمد الاستهلاك، ويمكنه الحصول على كل ما يحتاجه أو يتمناه. مع ذلك قد يضحي السيد بحياته في القتال مع سادة آخرين من أجل السيطرة على إقليم، أو القتال مع أخوانه على وراثة عرش، ولكن كل نشاطه هذا ليس له علاقة بالتقدم والتطور التاريخي.

والعبد بدوره غير راضٍ. غير أن سخطه وعدم رضاه لا يؤديان الى جمود قاتل كما في حالة السيد، وإنما الى تغير خلاق. إنه يستعيد إنسانيته غير المعترف بها من قبل سيده، من خلال العمل، فيدرك عندها أنه كائن بشري يتمتع بأخلاقيات تدفعه ليخترع التكنولوجيا، فالعلم الطبيعي ليس من اختراع السادة الذين يتوافر لهم كل ما يشتهون، وإنما هو من اختراع العبيد المضطرين الى العمل والساخطين على وضعهم الراهن.

لم يقل (فوكوياما) أن اتجاه العبد للعمل هو رغبة منه لتغيير الطبيعة التي تضم السادة بين جناحيها، فبتغيير الطبيعة تتغير العلاقات بين السادة والعبيد. لم يقل ذلك ولكنه كاد أن يقوله.

(4)

العبد لا يبدأ بتحدي سيده، وإنما يمر بعملية طويلة عسيرة من تعليم الذات، فيتعلم التغلب على خوفه من الموت، والمطالبة بالحرية التي هي من حقه. وإذ يفكر العبد في حالته وفي المفهوم النظري للحرية، يطرح صورا عديدة مبدئية عن الحرية قبل أن يتبنى الصورة الحقيقية. هذه الصور المبدئية يسميها هيجل وكارل ماركس بالأيديولوجيات.

ثم يمضي (فوكوياما) بالتدرج بتلك الأيديولوجيات، ليقول أن بعض الفلاسفة قد أعلنوا أن الدين (هنا يقول المسيحية) بأنه قدم أيديولوجية واضحة عن فكرة المساواة لتهدي العبيد الى طريق تتشكل فيه مطالبهم بالحرية.

شيركوه
09-19-2009, 10:10 PM
18ـ الدولة العامة والمتجانسة

(( وجود الدولة هو سبيل الله في الأرض))
.................. ج. ف. هيجل [فلسفة الحق]

يُعتبر هذا الفصل من أهم الفصول، كونه يناقش الفهم العام لمسألة الدولة، والفروق الدقيقة بين هذا الفهم بين الليبراليين والماركسيين. ويُعتبر هيجل المساحة البينية بين الفهمين. إذ يستند إلى نظرياته كل من الليبراليين والماركسيين باعتباره مفكرا مؤسسا لأفكارهم.

وإننا ونحن ننتبه الى وجه الخلاف الدقيق بين الفهمين، ندعو القارئ للاستزادة في هذا الموضوع بالاطلاع على ما كتبه المفكر العربي المغربي ( عبد الله العروي)*1 وكيفية مقاربته للفهم الذي أشار إليه هيجل مع الفهم العام الإسلامي لفكرة الدولة، وواقعها الذي تعيشه منذ مدة مأزومة في هذا الشأن، وقد نعود لكتاب العروي في عرض مستقل مستقبلا.

(1)

كانت الثورة الفرنسية في رأي هيجل هي الحدث الذي تبنى الرؤية المسيحية عن مجتمع الحرية والمساواة، وحققه هنا على الأرض. وقد خاطر العبيد السابقون بحياتهم بقيامهم بهذه الثورة، فأثبتوا أنهم تغلبوا على خوفهم من الموت الذي جعلهم في الماضي عبيداً. ثم انتقلت مبادئ الحرية والمساواة الى سائر الدول الأوروبية مع زحف جيوش نابليون الظافرة.

وكانت الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي نشأت في أعقاب الثورة الفرنسية مجرد تجسيد للمثال المسيحي عن الحرية والمساواة العامة بين البشر. ولا يعني هذا أنها كانت محاولة لتأليه الدولة أو إضفاء طابع ميتافيزيقي عليها لا نجده في الليبرالية الأنجلوسكسونية.

الفرق بين الفهم الهيجلي والليبرالي الأنجلوسكسوني، هو أن الدولة في مفهوم الأخير كما جاء على لسان (هوبز ولوك) ممن وضعوا الدستور الأمريكي وكتبوا إعلان الاستقلال، هو ثمرة لعقد اجتماعي بين أفراد لهم حقوق طبيعية معينة، أهمها الحق في الحياة (أي في الحفاظ على الذات) أو حق السعي من أجل السعادة الذي فهمه الناس على أنه يعني الحق في الملكية الخاصة.

أما هيجل فلا تعني عنده الديمقراطية الليبرالية أنها تتيح لنا حرية كسب المال وإشباع جوانب الشهوة في نفوسنا، فالأهم والأجدر بإرضائنا في النهاية ما تتيحه هذه الديمقراطية من الاعتراف بكرامتنا.

(2)

كل المجتمعات تقريباً السابقة على الثورة الفرنسية كانت إما ملكية أو أرستقراطية، لا يُعترف فيها إلا بشخص واحد (الملك)، أو بأشخاص قليلين (الطبقة الحاكمة أو الصفوة).

لقد جاءت الثورة الفرنسية معبرة عن (روح عام 1776): التي تمثلت بالعبارة (لا لانتصار جماعة جديدة من السادة، ولا بزوغ إحساس جديد من العبودية، بل تحقيق السيادة للذات في صورة حكومة ديمقراطية).

الوطنية هي مظهر من مظاهر الرغبة في نيل الاعتراف من الآخرين. والوطني مشغول بصفة أساسية لا بالكسب المادي وإنما باعتراف الآخرين به وتحقيق كرامته. غير أن الاعتراف الذي يريده المرء ليس الاعتراف به كفرد، وإنما الاعتراف بجماعة هو عضو فيها. وبدلا من أمراء أفراد يسعون وراء المجد الشخصي، لدينا الآن أممٌ بأسرها تطالب بالاعتراف بقوميتها. هذه الأمم أثبتت استعدادها للمخاطرة بالحياة في سبيل الاعتراف بها.

(3)

يستدرك (فوكوياما) القول، فيشير الى أن الرغبة في الاعتراف القائمة على أساس من الوطنية أو العرق ليست رغبة عقلانية. فالتمييز بين الإنسان وغير الإنسان هو وحده التمييز العقلاني، فالبشر وحدهم هم الأحرار، بمعنى أنهم قادرون ـ كأفراد ـ على الصراع من أجل المنزلة الخالصة.

نجد أن التمييز بين جماعة وأخرى من البشر هو ناتج جانبي وعرضي وتحكمي للتاريخ الإنساني. ويؤدي الصراع بين الجماعات القومية من أجل الاعتراف بالكرامة الوطنية على نطاق دولي، الى نفس المأزق الذي تؤدي إليه المعركة من أجل المنزلة بين السادة والعبيد، فتصبح أمة ما سيداً وأخرى عبداً! [سنعلق على تلك الفقرة فيما بعد]

(4)

يشرح (فوكوياما) الكيفية التي تتعامل بها الليبرالية مع (الآدميين). يقول: يولد الطفل في الولايات المتحدة أو فرنسا، أو أي دولة ليبرالية أخرى، وله حقوق معينة في المواطنة، وليس من حق أحد أن يلحق الأذى بحياة ذلك الطفل سواء كان غنيا أو فقيرا، أسود أو أبيض. يحق له التملك والانتخاب وممارسة شعائره الدينية، ويحق له الترشح لكل المناصب، ويكتب بالصحف.

يستبق فوكوياما ما قد يتعرض له من انتقاد فيقول: قد يعترض متخصص في فلسفة هيجل من فوره قائلا: إن هيجل كان يعترض على مفاهيم (هوبز ولوك) والنهج الذي تقوم عليه الليبرالية الإنجلوسكسونية، والتي تمثل في نظر فوكوياما نهاية التاريخ، ويضيف قد يكون المعترض محقا إذا كان نهج الدولة الليبرالية لا يسير إلا لتحقيق مصالح القائمين عليها! [ سنربط التعليق على ذلك مع سابقه].

(5)

يختتم فوكوياما هذا الفصل بالتطرق لوظائف الدولة الليبرالية، فيقول: إن مهمة الدولة تتجلى في الاقتصاد والاعتراف. أي تنمية اقتصاد الدولة وتأمين الاعتراف بأفرادها بما يشبع (الثيموس : الكرامة، الناموس أي شيء) .

تعليق:

لا يريد فوكوياما أن يُفسد صورة العولمة التي تمثل مرحلة (ما بعد الإمبريالية) والتي باعتقاده وباعتقاد أمثاله من الأمريكان أنهم قد وصلوا إليها، أو وصلوا لقيادة العالم بها، فلا يريدون من ينغص عليهم (أمركتهم للعالم الذي يسمونه عولمة). فيعتبر النشاط الفردي مسموح فيه طالما أنه يخضع لسيطرتهم ولكنه لا يجيز لجماعات قومية أو دينية أن تعترض على نهج أمريكا (من ليس معنا فهو ضدنا ـ بوش).

لكن هذا النهج مسموح للأمريكان في اللعب به لزعزعة الدول التي لا تشاطرهم رؤيتهم، فهم يدعمون أكراد العراق بالانفصال، ولكنهم يقبضون على (عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني) ويسلمونه لأصدقائهم في تركيا.

هم يدعمون القبض على الرئيس السوداني، ومحاكمته دوليا، ولكنهم لا يطيقون انتقادهم في جرائمهم بالعراق أو جرائم ربيبتهم (إسرائيل) في غزة وفلسطين.

إنه نفس النهج الذي يتغنى به مادحا الثورة الفرنسية، والتي لم تجز ـ في مبادئها ـ احتلال أرض الغير. لكنها وبعد مضي عشرة سنوات على ولادتها قامت بغزو مصر واحتلال أرضها. وعندما كان يواجه المدافعون عن مبادئ الثورة الفرنسية بذلك، يقولون أن تلك المبادئ وضعت للفرنسيين وليس للمصريين!

هامش
*1ـ عبد الله العروي/ مفهوم الدولة/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي ط7

شيركوه
09-19-2009, 10:10 PM
الجزء الرابع: القفز فوق رودس.

20ـ أشد الوحوش لا مبالاة

{ (( في مكان ما ثمة بشر وقطعان. لكنهم ليسوا هنا حيث نعيش يا إخواني. فهنا ثمة دول. آه، دولة؟ وما الدولة؟ فلتصغوا جيداً إلي. ففي نيتي أن أحدثكم الآن عن مصرع الشعوب)).

(( الدولة هي اسم أشد الوحوش لا مبالاة. وهي تكذب أيضاً في لا مبالاة. وتخرج الكذبة من فمها فتقول: أنا الدولة، أنا الشعب. وهذا محض افتراء! فالخالقون هم الذين خلقوا الشعوب وزودوها بالإيمان والمحبة وبذا أصلحوا الحياة)).

(( أما من ينشدون العدم فينصبوا الفخاخ في طريق الكثرة ويسمونها دولة، ويشهرون السيف ويغرسون في النفوس عشرات الشهوات)).

(( وهذه آية أسوقها إليكم: كل شعب له لغته الخاصة عن الخير والشر لا يفهمها جاره. قد اخترع لغته عن عاداته وحقوقه. أما الدولة فتكذب بكل لغات الخير والشر. وكل ما تقوله كذب. وكل ما تملكه قد سرقته)). }

...اقتباس من كتاب: هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف فريدريك نيتشه

(1)

في نهاية التاريخ ليس ثمة منافسون أيديولوجيون للديمقراطية الليبرالية!

هكذا يبدأ فوكوياما أول سطر من مقالته بعد الاقتباس السابق. فيقول: كان الناس في الماضي يفضلون الحكومات الثيوقراطية (الدينية) أو الإمبراطوريات أو الحكومات الشمولية على الديمقراطية الليبرالية. أما اليوم، وإذا استثنينا العالم الإسلامي، فإن كل الشعوب تتجه للديمقراطية الليبرالية.

يستدرك ذلك بتساؤل: حسنا إذا كانت تلك الشعوب والدول تتجه الى الديمقراطية الليبرالية، فلماذا لم تحققها، وإن حققتها لماذا سرعان ما تتخلى عنها أو أنها لم تصنها؟

ثم يستعرض دول العالم التي اتجهت الى الديمقراطية الليبرالية منذ أكثر من قرنين، ولم يجد إلا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد حافظتا على تقاليد الديمقراطية الليبرالية! في حين وصل عدد الجمهوريات في فرنسا الى خمس جمهوريات، أي أن ديمقراطيتها لم تكن مستقرة. ودول في أمريكا اللاتينية قد استقلت عن إسبانيا وأسست ديمقراطيات، لكنها سرعان ما كانت تنقلب عليها بانقلاب عسكري.

(2)

يدخل هنا فوكوياما بتحليل الأسباب: فيقول: أن السبب وراء أن الديمقراطية الليبرالية لم تعم العالم، ولم تستطع الاستقرار في بعض الدول، يعود لقصور التجاوب بين الشعوب والدول. فالدول تشكيلات سياسية ذات هدف، أما الشعوب فجماعات معنوية سبقت الدول في الظهور. وهي كما وصفها نيتشه بالاقتباس السابق أن لكل شعب لغته الخاصة عن الخير والشر.

والدول تفرض نفسها على الشعوب من القمة. وهي أحيانا تُشكل الشعوب. فإن كان هم الدولة سياسيا، فهم الشعب لا يكون كذلك، فلذلك تعيش معظم دول العالم في حالة صراع مع شعوبها. فالدولة الشمولية مثلا، في الصين والاتحاد السوفييتي السابق كانت تسعى لهداية الشعب للطريق الاشتراكي على عكس رغبة تلك الشعوب.

نحن إذا تمعنا بنصوص نيتشه، سنجد أن الثقافة لدى شعب تنبع من قدرته على التقييم، وفق تراثه، ففي أمكنة ما في العالم أن الشخص الذي يطيع والديه إنسانٌ صالح، أو أن الإنسان الذي يتناول لحم الخنزير إنسان طالح. إنها قيم لأناس لا تستطيع بالقوة أن تجعلهم يغيرونها.

يخلص فوكوياما في هذه الفقرة الى القول بأن الإنسان حتى يصبح مهيأ لأن يكون ديمقراطيا ليبرالياً، عليه أن يكون: مشاركا و عقلانيا و علمانيا ومتحركا ومتسامحا.

(3)

ما هي العناصر الثقافية التي تعرقل تأسيس الديمقراطيات الليبرالية المستقرة؟

أولا: عناصر تتعلق بدرجة وطبيعة الوعي القومي والعرقي والجنسي في دولة من الدول. ليس هناك تناقض بين الوطنية والليبرالية (الكلام لفوكوياما) بل أنهما في كثير من الأحيان يكونان متحالفتين. (توحيد ألمانيا وإيطاليا في القرن19) انتفاضة بولندا في ثمانينات القرن20 ضد الارتباط بالسوفييت (نقابة تضامن).

غير أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ في دولة تكون فيها النزعة الوطنية أو العرقية مبالغا فيها. لذلك نجحت الديمقراطية في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا (حيث الشعور بضرورة التوحد) ولم تنجح في جنوب إفريقيا (في عهد الفصل العنصري) أو في بيرو حيث أن الطبقة الحاكمة من البيض لا تعادل سوى 11% من السكان (89% هنود حمر)

ثانياً: الدين، يشير فوكوياما أن الديمقراطية لم تأخذ طريقها، إلا بمساعدة البروتستانتية التي نحت جانبا تدخل الكنيسة في الحكم. وقد كان للعلمانية دور كبير في ذلك، كما كان للعلمانية دور في الدول البوذية والكونفوشيوسية. أما الإسلام واليهودية، وبالذات الإسلام فهو يدعو للعدل كما تدعو المسيحية للعدل، لكن لا يحبذ المسلمون الليبرالية ولا الديمقراطية، وهم ينظرون نظرة ريبة نحو الدول الإسلامية التي تحاول التحول للمجتمعات الديمقراطية والليبرالية كتركيا.

ثالثا: العائق الثالث له علاقة بالاستعداد الشعبي لقبول الديمقراطية الليبرالية، فقد ولد الأمريكان والبريطانيون متساوون! لذلك كان سهلا لديهم قبول ذلك النظام، أما دول مثل البرازيل والأرجنتين والدول التي ورثت نظام الدول المستعمرة كإسبانيا والبرتغال، فإن المساواة معدومة، وتقبل النظام الديمقراطي صعب.

رابعاً: العائق الأخير يتعلق بقدرة المجتمع على أن يخلق بنفسه مجتمعا مدنيا سليماً، أي ما يسميه (توكفيل) (فن المعاشرة) دون الاعتماد على الدولة. وقد أشار (توكفيل) أن مسار الديمقراطية يكون أفضل ما يكون عليه عندما يصعد من القاعدة الى القمة، لا العكس. فتنظيم الناس لنقاباتهم وجمعياتهم وتكوين رؤى في تلك التجمعات، كما أن تكون الجامعات والمدن لها تنظيماتها المدنية، فإنها ستعرف الشكل الذي يجب أن يكون عليه شكل الديمقراطية وشكل قوانينها.

(4)

لا يمكن للديمقراطية أن تأتي من الباب الخلفي. بل ينبغي أن تنشأ عن قرار متعمد بإقامة الديمقراطية، ويبقي مجال السياسة بعيدا عن المجال الحضاري المدني، كما يجب أن يكون القائمون على ذلك النظام من الساسة الأكفاء الذين يفهمون فن السياسة فهما حكيما، ولديهم قدرة واضحة على تحييد القوات المسلحة في التدخل بشؤون السياسة والحضارة.

ويذكر الكاتب في نهاية هذا الباب، اندهاشه من التجربة الهندية التي لم يتوفر فيها شرطٌ واحد من الشروط التي ذكرها في تحقيق الديمقراطية، فبالرغم من التدني الحضاري وفقر الدولة وانخفاض مستوى التصنيع، وعدم التماسك القومي وليست بروتستانتية إلا أنها حققت ديمقراطية مستقرة تعيش منذ أكثر من ستين عاما.

شيركوه
09-19-2009, 10:11 PM
21ـ الجذور الثيموسية للعمل

(( كان هيجل يعتقد أن العمل هو الجوهر الحقيقي للإنسان))
........... كارل ماركس

على ضوء الارتباط القوي بين الديمقراطية والتصنيع المتقدم، تبدو قدرة الدول على النمو الاقتصادي على مدى فترات زمنية طويلة. ورغم أن أنجح الاقتصاديات الحديثة قد تكون هي الرأسمالية، فليست كل الاقتصاديات الرأسمالية ناجحة.

وقد كان من رأي (آدم سميث) أن المصدر الرئيسي للاختلاف بين ثروات الأمم هو حكمة أو غباء السياسات الحكومية، وأن السلوك الاقتصادي الإنساني عندما يتحرر من قيود السياسة الخرقاء، سيكون شائع وعام بين الجميع.

العمل، برأي هيجل، هو جوهر الإنسان، والعبد العامل هو الذي يخلق تاريخ البشرية بفضل تحويله لعالم الطبيعة الى عالم صالح لسكنى الإنسان. وكل البشر يعملون عدا فئة صغيرة من السادة الكسالى. ومع ذلك فإن ثمة اختلافات ضخمة في السلوك والدرجة في عمل الناس. وهي اختلافات طالما نوقشت في إطار ما يسمى بأخلاقيات العمل.

تعليق (مُبكر)

حاول الكاتب بذكاء مناقشة أخلاقيات العمل، حتى يردها في النهاية إلى الإرادة الليبرالية، فهو يرى اختلافات في السلوك العملي لدى القوميات، لكن تلك الخلافات ليست نهائية، وهو يرى أن الرغبة في جمع المال والوصول للرفاهية لدى الفرد عاملا حاسما، ولكنه ليس نهائي، وهو يرى أن العامل الديني والثقافي له أثر كبير ولكنه ليس نهائي، وهو يرى أن حب العمل من أجل العمل هو من يخلق الفوارق بين أداء المجتمعات ولكنه ليس نهائي! لنرى.

(1)

يقول (فوكوياما): إن أي شخص قضى زمنا في السفر أو الإقامة خارج وطنه، لا يسعه إلا أن يلاحظ كيف تؤثر الثقافة القومية تأثيرا حاسما في موقف الشعب من العمل. فمثلا، بالشرق الأوسط نجد أن (الأرمن) يتفوقون على أبناء المجتمعات التي يعيشون فيها، من حيث إبداعهم وجديتهم وإتقانهم لعملهم. كذلك هي الحال عند الصينيين في جنوب شرق آسيا، فهم في ماليزيا أو إندونيسيا يتفوقون على السكان المحليين. واليهود في المجتمعات الغربية يتقنون أعمالا تجارية ومصرفية لا يضاهيهم فيها أبناء تلك الدول.

ويضرب الكاتب مثلا على اختلاف الخصائص الثقافية القومية، وهو أنه عندما تمكن البريطانيون من الاستيلاء على بعض أجهزة الرادار الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وهم (أي البريطانيون) من اخترع الرادار، وجدوا أن تلك الأجهزة مدهشة ومتفوقة على البريطانية، ويرجع المؤلف ذلك الى أسباب تعود للعرق الألماني وطبيعة تثقفه الوطني.

لكنه يعود، في مكان آخر، ليناقش كيف أن سور برلين الذي فصل بين الأشقاء الألمان قد أوجد فوارق واضحة بين تفوق الألمان الغربيين عن أولئك الذين يعيشون في ظل الأجواء الشيوعية!

(2)

في حديثه عن تفوق البعض على الآخرين من نفس صنفهم القومي والمهني، مثال ذلك نجد أن طلبة الحقوق والذين سيتخرج منهم المحامون فيما بعد، أن أجر أحدهم تفوق عشرات المرات أجر زميله وربما أخيه الذي تخرج معه، كذلك الحال مع المهندسين أو الأطباء، رغم مساواتهم في الجنس والعرق والمهنة والعلم الذي تلقوه.

فيرجع ذلك الى الرغبة (الثيموسية) في العمل والإبداع به، وليس لجمع المال، ومن هؤلاء النوعية من المبدعين، قد يؤدي تفانيهم بالعمل الى فقدانهم المتعة بالحياة (بمفهومها المعروف عند الجميع) فلا يوالوا عائلاتهم اهتماما كافيا ولا يوالوا صحتهم اهتماما كافيا، فيعيشون في زهد في الحياة ولكنهم يقدمون لعملهم جل وقتهم. إنه (الثيموس).

(3)

هل للديانة أو الطائفة أثر في صنع ذلك (الثيموس)؟ يجيب (فوكوياما) : نعم إن لذلك الأثر الكبير، فالبروتستانتية تجعل من أتباعها وكأنهم نذروا أنفسهم لخدمة الآخرين وتحقيق إرادة الرب في الأرض. وقد تحدث (ماكس فيبر) في كتاباته (أخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية في عامي 1904ـ 1905) مما دفع الكثير من مفكري أمريكا للتحول الى البروتستانتية.

وهذا يتجلى أيضا في الفرقة اليابانية المسماة (الجودو شينشو: أي الأرض الطاهرة) حيث نذرت نفسها للارتقاء باليابان لتقديس العمل الجاد، وتقليل الاستهلاك، والامتناع عن شراء منتجات غير يابانية، وهو يفسر لماذا دائما يميل الميزان التجاري بين اليابان والولايات المتحدة (وهما حليفان ولهما نفس طبيعة النظام الليبرالي) لصالح اليابان.

أما الهند، وهي أكبر ديمقراطية في العالم، فإن الديانة التي فيها تختلف عن كل الديانات فيما يخص عدم المناداة بالمساواة بين الناس، وأن الناس المسحوقين عليهم القبول بوضعهم والتفاني في خدمة من هم أعلى منهم مرتبة، وإنهم إن التزموا بذلك فإنهم سيعودون بعد الموت الى حالة أفضل مما هم عليها في الحياة الدنيا، وإن رفضوا ذلك فسيحرمون من العودة المرضية، وعليهم الاكتفاء بأنهم ينتمون لتلك الطبقات البائسة.

(4)

يعود الكاتب الى موضوع سور برلين، وهو الذي يفصل بين قسمين من شعب واحد يتساوى في كل شيء عدا النظام السياسي، ليرد مرة واحدة على من يقول: إن العلمانية قد أسقطت الفوارق الدينية والفوارق القومية، فيقول أن النظام السياسي الذي يراعي كل بواطن الإبداع ويرعاها بعدم تدخله هو من يضمن السلوك العملي لأبناء البلد.

ولهذا لم تنجح تطبيقات الرأسمالية في أمريكا اللاتينية، رغم ارتباطها السابق بالسياسة الأمريكية، فقد تغلبت العوامل الأخرى على عامل (النقل أو التقليد) وأجهضت نهضة تلك البلدان.

(5)

يرد في مقالة (فوكوياما) التي بين أيدينا، مسألة تتعلق بالشعور بالطمأنينة، وأثرها السيئ على تواصل الإبداع. فيقول: إذا أحس الأستاذ الجامعي أن راتبه يأخذه في نهاية الشهر، فإنه سيتوقف عن الاختراع والتأليف. وهذا الإحساس هو ما جعل الكتلة الشيوعية تنهار لنمطية الحياة عند مستخدميها، فالتطلع للأمام يجب أن يرافقه توترٌ يجعل من الفرد يعمل بجد تخوفا من مصير لا يعلمه.