تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : وشددنا الرحال إلى المسجد الأقصى..



من هناك
09-02-2009, 07:09 PM
وشددنا الرحال إلى المسجد الأقصى..


بقلم سحر المصري

وحان موعد المسير.. الأحد 30/8/ 2009.. كان اليوم مختلفاً مذ تنفّس الصبح وعانق نسمات شوقنا إلى ومضة من سنا القدس.. يمّمتُ قلبي شطر المسجد الأقصى حين انطلق الركب من طرابلس الفيحاء باتّجاه أقصى الجنوب.. لنشمّ شذاه ونحن قاب قوسين منه أو أدنى.. فالهواء هناك يحيي السقيم.. وأكثر!

خمس ساعات مضت ونحن نعارك الانتظار فنصرعه حيناً ويصرعنا أحياناً أُخرى.. وكان مما يزيد من حماسنا أناشيد مقدسية تلهب في القلوب أوار الشوق والحنين.. وفي جنوبنا المحرَّر تزيّنت الأشجار والجدران بصور الشهداء الذين روّوا الأرض بالدماء فأزهر النصر وأينع.. حتى إذا ما هلّت بيت ياحون بنسائمها لحقتها مارون الرّاس وهي العروس التي تزيّنت بتاج التحرير من قريب.. وبدت الجموع التي تجمهرت لمسيرة شد الرحال وأعلامها ترفرف: "قادمون يا أقصى"! وإنّا وربي قادمون..

اِنضممنا إلى القلوب العاشقة والعيون تفتش عنها.. أين وِجهة فلسطين؟!

أشار عاشق: "إنها تلك الأرض الخضراء الرائعة!" كحّلت عيوني برؤياها فانخلع قلبي وتسارعت الخفقات علّها تجد طريقها للبوح بمكنون الجَنان ولكنها تحشرجت ولم تجد لها مخرجاً إلاّ الدموع التي تغرغرت في المقل.. هي ذا محبوبتي! بهيبتها وخضارها وروعتها وسحرها.. وأنّى لهم ألا يسرقوها وهي بتلك الروعة والجمال؟! جنّة مباركة وما حولها.. وربٌّ كريم..

تأمّلتها فإذا بها صبيّة بهيّة الطلعة مثار الطمع والانجذاب.. اجتُثَّت من قلبِ أمِّها وسيقَت إلى ساحةٍ عامّة لتُغتَصَبَ فيها أمام الناظرين.. والكلّ صامتٌ تغشاه الصدمة ويلفّه ذلّ مكين.. وتمرّ السنون.. والصبية لا زالت مزدانة بالجمال كله ولكنها باهتة تسأل أمجاداً ضائعة ومجداً تليدا! تعيش في دار المغتَصِب والصمت مهيمن على الأفواه والمخدِّر قد غيَّب العقول..

من دهور! والصبيّة ما زالت حسناء تُشتَهى!

وحضرني حديث الحبيب عليه الصلاة والسلام حيث قال: "وليأتينّ على الناس زمان ولقيد سوط الرجل حيث يرى منه بيت المقدس؛ خير له أو أحب إليه من الدنيا جميعاً".. جئنا لنراها يا حبيب الله ولكنّا مُنِعنا وهي والله أحب إلينا من الدنيا جميعا.. أفتشفع لنا نيّاتنا المخلِصة لربنا جل وعلا؟!

شردتُ طويلاً على تلك التلة التي تقابل فلسطين السليبة.. كيلومترات قليلة تُبعِدني عن الأقصى الحبيب.. هي أقل بكثير مما تبعدني عن بيتي في الشمال.. ولكن بيني وبينه أسلاكٌ مكَهربةٌ.. وآلة صهيونية –أميركية- مقيتة .. وصمتٌ عربي مخزٍ.. وتواطؤ للخائنين حقير.. ومؤازرة لقِوى "عُظمى" تطعن الحسناء وتصبّ في جسدها الصديد.. علّها تنقلب خسيسة حاسرة.. ثمّ تربت على كتف المغتصِب.. وتشجِّعه.. وتحِنّ لمعاقرة الرذائل وتستجيب!

أوّاه أيتها الغالية! صرخةٌ انطلقت من عمق القلوب ولم تجد عمراً يحرِّر.. ولا صلاحاً يلبّي.. ولا خليفةً يؤمّ..

فقد زرعوا في كلِّ وادٍ شياطين لهم.. وفي كلِّ مفرقٍ جنداً وعتادا.. وفي كلِّ مكانٍ مُغتَصَبَة تقبع على أرض حَوَت ذكرياتٍ لتقتيل وتهجير وتشريد واعتقال.. إلا أنّ ذاكرة الأرض لا تموت وإن دُفِنت فيها صنوف العذاب.. وستلفظ الدخلاء والجبناء والخائنين.. وتستقطب أهلها.. وإنّ الصبح لقريب!

نقّبت في وجوه الحاضرين فإذ بي أرى شيوخاً وعجائز سكب القهر على وجوههم تجاعيد سمراء تئن فتتجمّد الدماء في العروق.. ثم تسيل بإذن ربها جل وعلا.. قسمٌ كبير منهم هُجِّروا من تلك البقعة المباركة واقتُلِعوا بعد تشبُّث.. فجاؤوا يبكون ماضٍ جميل ويتحسّرون على أرضٍ لطالما عشقوها علّها تحضنهم من جديد بعد شظفٍ للعيش وكدر.. وأتَوا بأولادهم ليتعرّفوا على معشوقتهم التي ما فتئوا يترنّمون بحبّها.. حتى باتت فلسطين أهازيج حرية وأحلام عودة وأزملة نصر.. لله درّها من أرضٍ توحّدت القلوب عليها فانسابت كجداول عشقٍ في جنّات الهوى!

وجوهٌ.. دموعٌ.. ابتهالاتٌ.. دهشةٌ.. وعشق..لا تقف عند صغائر الأمور التي تعوّدنا الوقوف عندها ذات "دنيا".. من أي بلد؟ من أي منطقة؟ من أي دين؟ من أي طائفة؟ من أي حزب؟ كلنا قرأنا في تعابير بعضنا شغفاً واحداً أبى إلا أن يطفح ويصرخ.. إنّا للأقصى عشّاق! فتذوب في تلك المعاني الراقية كل سفاسف الأمور.. وتتكسّر أمام عتبة فلسطين كل محقِّرات التشرذم والفِرقة..

وتبدأ الفعاليات.. ويتكلم شيخنا حسام الغالي.. أمين عام رابطة "شباب لأجل القدس".. هوذا عاشقٌ من الطراز الأول.. لا يألو جهداً في حشد القلوب والنفوس والهِمم لخدمة الأقصى والقدس وفلسطين.. فكان خير من عرَّف وحرَّك المشاعر وحضّ على العمل للقضية..

ويعتلي المنصّة بعده رجلٌ أحبَّ القدس فأحبّته وببركة هذا الحب أحبّه وقدّره الناس جميعاً.. رئيس مؤسسة القدس الدولية الدكتور أكرم العدلوني الذي أسرج قلبه للأقصى والقدس وما استكان.. فذكّر بالأقصى.. إذ هو أرض المحشر والمنشر يحتمي فيه الناس زمن فتنة المسيح الدجال.. وهو قِبلة المسلمين الأولى لستّة عشر شهراً؛ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة.. وقد زاده الله جل وعلا شرفاً ليلة الإسراء وصلاة النبي عليه الصلاة والسلام فيه إماماً بالأنبياء.. واليوم يتعرّض لمخاطر التدويل والتقسيم والتهويد وتئنّ جهاته المختلِفة من الحفريات تحته حيث بلغت خمساً وعشرين حفرية منها المكتملة ومنها النشِطة.. وتنوح القدس من التهجير ومصادرة الأراضي في محيطه وتغيير الأسماء العربية في المدن لإعطاء صبغة يهودية لما حول الأقصى.. ونحن غافلون!

ويزيد من التعبئة النفسيّة.. فالأقصى يمرّ بأخطر اللحظات في هذه الحقبة المظلِمة من تاريخه ولا بدّ من وقفة شعبية وهَبّة عربية كبرى بعدما خذله الحكّام واللئام.. وأكّد أن وقفتنا على هذا الصعيد المبارك ليست كافيةً وإنما هي جهد المُقِلّ لإبراء ذمّتنا أمام الله جل وعلا وجزء يسير من الواجب المُلقى على كل عربي.. وإلا فإن الأقصى تهون فداه الدماء والأرواح والقلوب.. وأقل القليل تجاه هذه القضية المحورية في عصب الأمّة المؤازرة لتعريف العالم بأسره بها وأنّها قضية سياسيّة حضاريّة إنسانيّة يجب أن يدافع عنها كل الناس وكل جمعيات حقوق الإنسان ضد الظلم والغطرسة الصهيونية والتواطؤ الدولي! وعلى الجامعات والمدارس العربية تعريف أبنائنا العرب بالقدس والأقصى ونشر ثقافة المقاومة.. وأطلق محِبّ القدس صيحات مدوّية لو وصلت نخوة معتصم لأصمّته ولأُغشِيَ عليه من هول المصاب.. فدعا عشية التفاوض إلى إطلاق سراح المعتقلين ليقوموا بواجبهم.. ودعا المقاومة إلى دحر الاحتلال.. ودعا أصحاب القرار لدعم صمود سكان القدس.. ودعا جامعة الدول العربية التي أُنشئت أصلاً بمناسبة إحراق المسجد الأقصى لتأخذ دورها في هذه الفترة المفصلية من حياته.. وصرخ بكل أصمّ أن كفاكم خذلاناً وهواناً وسباتاً! وأنهى بأن الرباط والمسيرة اليوم رمزيان وغداً ندخله مهلِّلين مكبّرين فاتحين بعزِّ عزيزٍ أو بِذلِّ ذليلٍ.. وسنبقى في رباط مستمر إلى يوم القيامة، ظاهرين على الحق لا يضرّنا من خالفنا ولا من خذلنا حتى تقوم الساعة!

وتتالت الرسائل من المحدِّثين في هذا اليوم المبارك فمن رسالة إلى الأمّة، تلتها رسالة إلى العدوّ الصهيوني أن الأقصى في قلوبنا ولن نتخلى عنه أبداً.. وأن القدس تلتقي عليها الأمّة جمعاء فلا تهزم التسويات إرادة الفلسطينيين الذين برهنوا أنهم مدرسة في النضال.. وكانت تذكرة لهذا العدو المتمَترِس وراء دباباته وطائراته وقنابله العنقودية النووية - الأميركية الصنع – أن قد جرّبتم الحرب فما حصدتم إلا الهزيمة.. وإنّا قد أعددنا لكم العدّة من إيمانٍ وقوةٍ ورباطٍ وجهاد.. فأعِدّوا أنتم الأكفان!

وكانت رسالة إلى أنفسنا وأبنائنا وأهلنا لنتربى معهم على معاني الجهاد والتضحية والفداء.. ولتكون وحدة تحت لواء الجهاد ولن تموت قضية آمن بها أهلها.. فالقدس أقدس من روحٍ على جسد!

وانتهى المسير بدعوة إلى شد الرحال إلى المسجد الأقصى مراراً وتكراراً.. فهي سنّة نبويّة طوبى لمن أحياها، حيث قال الحبيب عليه الصلاة والسلام "لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"..

وكان قسَماً أن نحمي المسجد الأقصى المبارك بكل ما أوتينا من عزم وقوة.. وكلنا أملٌ أن يبزغ فجر تحريرها.. فلِلّيلِ ساعاتٌ ويرحل!

وكان دعاءا ألهب القلوب العاشقة وعهداً أن تكون هذه المسيرة هي أولى خطوات التلبية نحو الأقصى باتّجاه التحرير.. لتعود للتاريخ حروفه الأبجدية!

عدتُ لتطوف عيوني في رباها.. وراء هذا الجبل يرابط الأقصى في وجه الظلم شوكة في أعناقهم.. ويردِّد لساني.. "إنّما الأقصى عقيدة.. ووسامٌ وقصيدة.. وهو صرحٌ أبَتِ العلياء إلا أن تُشيده.. إنما الأقصى عقيدة فافتدوا تلك العقيدة.. أين من يحمي حدوده؟!.. ليتني كنتُ شهيدة!".. إي وربي إنّه لعقيدة وأيّ عقيدة! ويا له من حلمٍ دغدغ وجداني مذ أسلمتُ وجهي لله جل في علاه.. الشهادة على أعتاب الأقصى! وما ذلك على الله بعزيز!

ويعلو صوت النفير.. أن أيتها الجموع انتشري.. وأن أيتها القلوب تعاهدي على الوحدة والوفاء ما حييتِ وحتى ترفل الحسناء تحت عباءة الإسلام.. فأسارعُ إلى أقرب مكان أعانق منه تربها ولو بالعيون.. وأودِّعها بعد عهد.. أن تبقى عنواني الذي أتوق إليه مهما باعدت بيننا الأقدار.. وأن أنصرها بالدعاء والمال والروح إن جاد عليّ ربي جلّ وعلا.. وأن أمارس كل أنواع المقاومة التي أستطيع.. علّني أنال شرف السجود على أرضها قبل الممات.. وأحلام اليوم حقائق غدٍ مشرق بإذن الله جل وعلا.. لو ثبتنا!