تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أحكام ومسائل رمضانيَّة [ أبو بصير الطرطوسي ] حفظه الله



أبو حسن الحسن
08-28-2009, 03:18 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وبعد، لفشو البدع والإحداث في الدين، نذكِّر بأصل من أصول العبادة وشرط من شروطها، وهو أن العبادة ـ مطلق العبادة ـ يجب أن يُلتمس فيها هدي وسنة النبي r، لا الأهواء والآراء والمذاهب المتباينة والمخالفة للسنة؛ فالابتداع في الدين لا يجوز، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال تعالى في وجوب الاتباع والاقتداء:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( النور:63.
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ( وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.

وقيل له إن قوماً يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان! فقال: أعجبُ لقومٍ سمعوا الحديث وعرفوا الإسنادَ وصِحتَه يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ( وتدري ما الفتنة؟ الكفر! قال الله تعالى:) وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (. فيدعون الحديث عن رسول الله r، وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي؟! ا-هـ[[1] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftn1)].
وقال تعالى:) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( آل عمران:31. فمن علامات صدق المحبة حصول المتابعة، وعلى قدر المتابعة تكون المحبة، والعكس كذلك.
وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" خذوا مناسككم عني ". وقال r:" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقال r:" من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو ردٌّ ". وقال r:" من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد ".
لأجل هذا كله سنجتهد ـ بإذن الله ـ أن نتحرى السنة في كل ما نثبته ونقرره من مسائل وأحكام تتعلق برمضان، وصيام شهر رمضان، والله وحده المستعان.

ـ قبل حلول شهر رمضان.
قبل شهر رمضان يكون شهر شعبان حيث فيهتُرفع أعمال العباد، ويُسن الإكثار من الصيام تمهيداً وتدريباً للأنفس على استقبال وصيام رمضان، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" شعبان بين رجب ورمضان، يغفل الناس عنه، تُرفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم ".
وقال r:" يَطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خلقِه ليلةَ النصفِ من شعبان، فيغفرُ لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مُشاحِن "[صحيح الترغيب:1026].
وقال r:" إنَّ الله يَطِّلعُ على عباده في ليلةِ النصفِ من شعبان، فيغفرُ للمؤمنين، ويُملي للكافرين، ويدَع أهلَ الحقدِ بحقدهم حتى يدَعوه "[صحيح الجامع:1898].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:" ما رأيت رسول الله r في شهرٍ أكثر صياماً منه في شعبان ".
لكن لا يجوز وصل شعبان برمضان لقوله r:" لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه ". وقوله r:" من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم ". ويوم الشك هو اليوم الذي يتقدم شهر رمضان ويُشك هل هو من رمضان أم لا.

ـ كيف يثبت شهر رمضان؟
يثبت شهر رمضان برؤية هلاله فإن غُمت رؤيته في اليوم التاسع والعشرين من شعبان أكملت عدة شعبان ثلاثين يوماً، لقوله r في الصحيحين:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ". وقوله r:" لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تفطروا حتى تروه، فإن أُغمي عليكم فاقدروا له " متفق عليه.

ـ مَن يُثبت شهر رمضان؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال من قبل شخص واحد مسلم عدل، كما في الحديث:" جاء رجل أعرابي من البادية فأخبر النبي r بأنه رأى الهلال فأمرَ r بلالاً أن يؤذِّن بالصيام ".
وعن ابن عمر قال:" تراءى الناسُ الهلالَ فأخبرتُ رسولَ الله أني رأيته، فصام وأمر الناس بالصيام ".
وهذه الرؤية والشهادة من هذا المسلم العدل تُلزم جميع من يسمع بها من أفراد ومجتمعات الأمة على اختلاف أمصارهم ودولهم، وهذا متيسر في زماننا ـ ولله الحمد ـ بحكم توفر وسائل الإعلام التي تقدر على نقل الأخبار خلال ثوانٍ معدودات، وبالتالي لا عذر للدول المعاصرة أن تصوم وتُفطر كل دولة بحسب رؤيتها الخاصة بها، وبزعم أنها لم تر الهلال بعد .. فالذي رأى حجة على الذي لم ير .. ولا تتوقف حجة من رأى على رؤية من لم ير .. فهذا من التفرق في الدين، وهو بخلاف السنة الثابتة عن النبي r.

بل الملاحظ في كثير من الأحيان يكون تحديد مثل هذه الأحكام والأوقات الشرعية ـ وللأسف ـ خاضعاً لأهواء الساسة وطواغيت الحكم في بلاد المسلمين؛ إذ تحملهم الخلافات السياسية الخاصة فيما بينهم على الاختلاف في تحديد وقت دخول رمضان ووقت انتهائه ودخول العيد .. لينعكس ذلك على شعوبهم تفرقاً وعداوة وبغضاء .. وهؤلاء ليس لهم طاعة .. كما لا يجوز للشعوب المسلمة أن تتابعهم في المخالفة للسُّنة والطريقة الشرعية الصحيحة التي يثبت بها شهر رمضان؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثم ترون أيها الناس لو قال لكم طواغيت الحكم في بلادكم صلاة العصر تُصلى بعد غروب الشمس .. هل أنتم تطيعونهم في ذلك .. فإن قلتم لا .. ولا بد من أن يكون الجواب، لا .. أقول: كيف تُطيعونهم في تقديم صيام شهر رمضان أو تأخيره بعد علمكم بثبوته وفق الطريقة الشرعية الثابتة عن النبي r ..؟!
فإن قيل قد ثبت أن معاوية قد صام يوم الجمعة من شهر رمضان، وكان في الشام .. بينما ابن عباس ومن معه في المدينة قد صاموا يوم السبت، فكان لكل منهما رؤيته الخاصة به؟
أقول: هذا يحصل في حال تعثر الإخبار لاتساع الأمصار والبلدان .. فأهل الشام إذ رأوا الهلال يوم الجمعة لم يكونوا يستطيعون أن يخبروا أهل المدينة برؤيتهم للهلال لبعد الشقة فيما بينهم، ولطبيعة وسائل التنقل والاتصالات التي كانت سائدة يومئذٍ .. أما في زماننا لم تعد هذه المشكلة موجودة لسهولة نقل الأخبار وشهادة المُثبت لرؤية الهلال عبر وسائل عديدة من الاتصالات خلال ثوانٍ معدودة .. وبالتالي لا يجوز القياس ولا الاستدلال بالأثر الوارد عن ابن عباس ومعاوية إلا في حال تعثر الإخبار ونقل شهادة المُثبت في نفس اليوم التي تمت فيه الرؤية .. والله تعالى أعلم.


ـ إذا ثبت دخول رمضان وجب صيامه.
لقوله تعالى:) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة:185. وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة:183.
وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، كما في الحديث المتفق عليه، قال r:" بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".

ـ على من يجب الصيام ؟
يجب الصيام على المسلم، العاقل، البالغ، القادر.
يجب على المسلم: لأن الكافر لا يُقبل منه عمل، والشرك يُحبط الأعمال كلها، لقوله تعالى:) وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:88. وقوله تعالى:) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الزمر:65.
ويجب على العاقل: لأن المجنون يُرفع عنه القلم، ويسقط عنه التكليف، لقوله r:" رُفع القلم عن ثلاثة:ـ منها ـ وعن المجنون حتى يعقل ".
ويجب على البالغ: لأن القلم يُرفع عن الصبي وكذلك البنت إلى أن يدركا سن البلوغ، لقوله r:" رُفع القلم عن ثلاثة ـ منها ـ وعن الصبي حتى يحتلم ". وفي رواية " عن المعتوه حتى يعقل ".
وبالتالي لا يُستحسن إجبار الطفل في سنين مبكرة من طفولته على الصيام .. فهذا قد يُعطي صورة خاطئة عن الإسلام عند الآخرين؛ تحملهم على القول بأن الإسلام ـ وليس أولياء الطفل ـ يظلم الطفولة والأطفال .. ويجبر الأطفال على ما لا طاقة لهم به من الصيام .. لكن الذي يُستحسن أن الطفل كلما اقترب سنه من البلوغ يُستحسن تدريبه وحمله على الصيام بحسب استطاعته .. حتى إذا ما بلغ سن الحلم يكون مُعَدَّاً وجاهزاً للصيام.
ويجب على القادر: لأن العجز يُسقط التكليف باتفاق أهل العلم، إلى أن تتحقق القدرة، لقوله تعالى:) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة:286. وقوله تعالى:) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا (الطلاق:7. وقوله تعالى:) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16.
وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " متفق عليه.
والعجز نوعان: منه الدائم، كالمرض الدائم المستعصي الذي يمنع من الصيام مطلقاً، ونحوه الشيخ الكبير الذي لا يستطيع أن يصوم، وهذا على صاحبه الإطعام عن كل يوم مسكيناً واحداً، لقوله تعالى:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (البقرة:184.
قال ابن عباس في هذه الآية: ليست بمنسوخة؛ هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً " البخاري.
ومنه الطارئ المؤقت الذي يزول بزوال سببه، كالمرض الطارئ القابل للعلاج والشفاء .. وهذا على صاحبه القضاء، لقوله تعالى:) فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر (البقرة:184.

ـ فضل صيام رمضان.
شهر رمضان شهر عظيم فيه أُنزل القرآن، كما قال تعالى:) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة185.
أنزله الله تعالى في ليلة من ليالي رمضان هي خير من ألف شهر، كما قال تعالى:) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (القدر:1-3. أي العبادة فيها ـ إن قُبلت ـ تفضل عبادة ما يُعادل ثلاث وثمانون سنة، وثلاثة أشهر.
قال ابن كثير في التفسير: قال مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس في تلك الشهور ليلة القدر، وهكذا قال قتادة بن دعامة، والشافعي، وغير واحد ا- هـ.
والمراد بالإنزال هنا إنزال القرآن الكريم إلى السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ليتنزل فيما بعد على نبينا r مفرقاً طيلة فترة النبوة بحسب الوقائع والحوادث والمراحل التي كانت تمر بها الدعوة.
قال ابن كثير في التفسير: وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى:) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (. ثم نزل بعده مفرّقاً بحسب الوقائع على رسول الله r.
قال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحدث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يُخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ا- هـ.
تُلتَمسُ ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، لقوله r كما في صحيح البخاري:" تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ".
وفي الصحيح كذلك: أن رجالاً من أصحاب النبي r أروا ليلةالقدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله r:" أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ".
ولاختلاف الناس في المطالع ورؤية الهلال؛ حيث منهم من يقدم الصوم يوماً ومنهم من يؤخره يوماً بناء على اختلافهم في الرؤية للهلال .. يُستحسن ـ من قبيل ضمان قيامها ـ التماسها في الأيام العشر الأواخر من رمضان؛ الشفع منها والوتر، والله تعالى أعلم.

وفي فضل قيامها
فقد صح عن النبي r أنه قال:" من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه " البخاري.
إنه موسم خير قليل وقته كثير خيره ونفعه، سرعان ما يودع؛ فهنيئاً لمن اغتنمه وأحسن استغلاله .. وخاب وخسر من لم يُحسن استغلاله ويستفد منه!

فيه تُفتّح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفَّد الشياطين، كما في الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب النيران وصُفدت الشياطين ".
وقال r:" وإذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ويُنادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة ".
وقال r:" أتاكم رمضان شهر مُبارك فرضَ الله U عليكم صيامه، تُفتح فيه أبوابُ السماء وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهرٍ من حُرم خيرها فقد حُرم ".
وقال r:" إذا دخل شهر رمضان فُتحت أبواب السماء، وغُلقت أبوابُ جهنم، وسُلسِلت الشياطين ". فشياطين الجن تُسَلسَل وتُصفَّد .. وتبقى شياطين الإنس حرةً لتعمل عملها المضاعف عنها وعن إخوانهم من شياطين الجن .. ولتفسد على المسلمين صيامهم في هذا الشهر المبارك العظيم .. فالحذَر، الحذر!

فيه تُغفر الذنوب، كما في الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ".
وقال r:" ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنّ إذا اجتُنبَت الكبائر ".
وقال r:" إن جبريل u عرضَ لي فقال: بُعداً لمن أدرك رمضان فلم يُغفر له، فقلت: آمين ".

وفي فضل الصيام عموماً جاءت أحاديث عدة: منها قوله r:" من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض ".
وقال r:" ومن صام يوماً في سبيل الله زَحزَحه اللهُ عن النار سبعين خريفاً ".
وعن أبي أمامة t قال: قلت يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة، قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثْلَ له ". وفي رواية " عليك بالصوم فإنه لا عِدْلَ له ".
وقال r:" كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدعُ شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ".
وقال r:" الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعان ".
وقال r:" إن في الجنة باباً يُقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً ".
وقال r:" من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله خُتمَ له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتم بها دخل الجنة، ومن تصدَّق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخلَ الجنة ".

ـ من يتعمد الإفطار في رمضان من غير عذر:
من تعمد الإفطار في رمضان من غير عذر شرعي معتبر، فقد وقع في ذنب عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، يستحق الوعيد الشديد يوم القيامة، كما في الحديث عن أبي أمامة الباهلي t قال: سمعت رسول الله r يقول:" بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضَبُعي ـ بعضُدَي ـ فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: سنسهله لك. فصعدت، حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصواتٍ شديدة. قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقومٍ معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء ؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلَّة صومهم .."!

قلت: هذا فيمن يفطر قبل تحلة الوقت فكيف بمن يتعمد الإفطار خلال نهار رمضان أو لا يصوم مطلقاً ..؟!
فإن قيل: هل لمن تعمَّد الإفطار في رمضان قضاء أو كفارة؟
أقول: من أهل العلم من قاس كفّارة المفطر المتعمد على كفارة الذي يُجامع زوجته في نهار رمضان .. وهذا خطأ؛ لعدم التطابق في علة الإفطار .. ولانعدام النص الذي يُلزم بالكفارة أو القضاء لمن تعمد الإفطار .. والراجح أنه ليس عليه قضاء ولا كفّارة .. ولو صام الدهر كله لما كافأ يوماً من أيام رمضان .. وإنما يُلزَم بالتوبة النصوح .. كما يُستحب له الإكثار من صيام النفل والتطوع .. وكذلك الإكثار من التصدّق في أوجه الخير، والله تعالى أعلم.

ـ معنى الصيام.
بعد أن بينا حكم صيام شهر رمضان، وفضل صيامه، وجزاء من يتعمد الإفطار فيه، نُشرِع ـ بإذن الله وتوفيقه ـ في بيان بعض الأحكام والمسائل التفصيلية ذات العلاقة بالصوم.
فأقول: الصوم لغة الإمساك. وشرعاً:" الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية ".

ـ مبطلات الصوم:
1- الردة: إن طرأت على المسلم الصائم الردة بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ بطل صيامه .. لقوله تعالى:) وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام:88. ونحوه لو كان تاركاً للصلاة .. فصيامه لا يُقبَل.
2- تعمد الأكل والشرب: فمن تعمد أن يُدخل شيئاً إلى جوفه من طعام أو شراب، أو غير ذلك، فقد أفطر وبطل صومه، وكذلك لو تناول الحقن والإبر المغذية؛ فحكمها حكم الطعام والشراب.
أما من أكل أو شرب ناسياً فليس عليه شيء، وليتم صومه، لقوله r:" رُفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه ". وفي الصحيحين:" إذا نسي فأكلَ وشرِبَ فليتمَّ صومَهُ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه".
3- الجماع: فمن واقع زوجته في نهار رمضان بطل صومه بالإجماع، وكفارته: عتق رقبة، فإن لم يجد يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يقدر يُطعم ستين مسكيناً .. كما هو مبين في حديث أبي هريرة المتفق عليه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي r إذا جاء رجلٌ، فقال: يا رسول الله هلكتُ، قال: ما لك؟ قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله r: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجدُ إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي r فبينا نحن على ذلك أُتي النبي r بِعَرقٍ فيها تمر ـ والعَرَق: المِكتل ـ قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدّق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي. فضحك النبي r حتى بدت نواجذه ثم قال: أطعمه أهلكَ ". وفي رواية:" وصم يوماً مكانه ".
4- تعمد القيء: فمن استقاء بطل صومه وعليه القضاء، أما من غلبه القيء فلا شيء عليه، لقوله r:" من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ ".
5- خروج دم الحيض، والنفاس: كذلك لو فاجأ المرأة الصائم خروج دم الحيض خلال النهار، يبطل صيامها ويتعين عليها الإفطار، ومن ثم القضاء، كما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت:" كان يُصيبنا ذلك ـ أي الدورة الشهرية ـ فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ".

ـ وجوب تبييت النية.
لصيام فرض رمضان يجب تبييت النية من الليل قبل الفجر، لقوله r:" من لم يُبيت الصيام من الليل فلا صيام له ". وقوله r:" من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ".
ولا يُشترط في تبييت النية التلفظ بها، وإنما يكفي انعقادها في القلب.
بخلاف صوم النافلة فيجوز عقد نية الصوم خلال النهار، فقد كان النبي r يحضرُ أهلَه ولم يطعم شيئاً بعد فيقول:" هل عنكم غداء ؟" فيقولون: لا، فيقول:" إني صائم ".

ـ السحور وأهميته.
السحور سنة مؤكدة ومستحبة، فقد صح عن النبي r أنه قال:" هلموا إلى الغداء المبارك ". وأراد به السحور. وقال r:" تسحروا فإن السحور بركة ". وقال r:" إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ". وقال r:" تسحروا ولو بجرعة ماء ". وقال r:" السحور أكلةُ بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء ".
كذلك فإن السحور مما يميز صيام المسلمين عن صيام غيرهم من أهل الكتاب، كما في الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" فصلٌ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السّحر ". وهذا التمايز ـ من قبيل تحقيق المخالفة ـ لا بد من أن يحرص عليه المسلمون.

ـ وقت السحور.
يُستحب تأخير السحور إلى ما قبل ظهور الفجر الصادق بقليل، لقوله تعالى:)وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (البقرة:187.
عن زيد بن ثابت t قال: تسحرنا مع النبي r، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدرُ خمسين آية ".

واعلم أن الفجر فجران، فجر كاذب لا يُحل الصلاة ولا يُحرم الطعام، وصفته بياض ساطع مصعّد في السماء ثم ينخفض، وفجر صادق يحل الصلاة ويُحرم الطعام والجماع، وصفته أحمر مستطير منتشر يعم الأفق يتقدم ظهور الشمس من جهة الشرق، فقد صح عن النبي r أنه قال:" وكلوا واشربوا، ولا يهيدنَّكم ـ أي لا يزعجنكم فيمنعنكم ـ الساطع المصعّد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمرُ ". وقال r:" لا يغرنّكم أذانُ بلال، ولا هذا البياض لعمود الصبح حتى يستطير ".
فإن اعتراك الشك ولم تقدر على التمييز بين الفجر الصادق من الكاذب، فكل ما شككت حتى تتيقن من أن الفجر فجر صادق، فقد صح عن ابن عباس أنه قال:" أحل الله لك الأكل والشرب ما شككتَ ". فالفجر لا يظهر دفعة واحدة .. وإنما يظهر بتدرّج وبشكل بطيء فيختلط بياضه بسواد الليل إلى أن يغلب بياضه سواد الليل .. ويظهر الفجر الصادق.
وكذلك لو سمعت أذان الفجر وفي فمك لقمة أو في يدك إناء للشرب، فابتلع لقمتك بهدوء، واقض حاجتك من الإناء، وليس كما يقول بعض الشيوخ الجهلة المتشددين أن المرء إذا سمع النداء وفي فمه طعام أو شراب فعليه أن يبصق ويُخرج مما في فمه!
فقد صح عن النبي r أنه قال:" إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه ".
وعن أبي أمامة t قال: أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر قال: أشربُها يا رسول الله؟ قال:" نعم "، فشربها.
ومنه نعلم بطلان توقيت الإمساك الذي ابتليت به بعض الأمصار، حيث يحملون الناس على الإمساك عن المفطرات قبل الأذان الثاني بعشرين دقيقة وربما أكثر .. بدعوى الاحتياط .. علماً أن هذا الوقت يكون هو الوقت المناسب للسحور المبارك كما تقدم.
فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر والقاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ فقال رسول الله r:" كلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أمِّ مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلعَ الفجر ". قال القاسم: ولم يكن بين أذانِهما إلا أن يرقى ذا ويَنزلَ ذا .

قلت: رغم هذا الفارق الضئيل جداً بين أذان بلال وأذان ابن أم مكتوم، وهو لا يتعدى من الوقت سوى أن يرقى ذا وينزل ذا، ومع ذلك كان النبي r يأمر المسلمين بأن يأكلوا ويشربوا وقت أذان بلال .. ويعد أذانه بليل!
ونستفيد كذلك أن التوقيت الشرعي الثابت للإمساك ورفع أذان الفجر هو بزوغ الفجر
الصادق وليس تلك المواقيت الفلكية التي تُعَد ـ على أيدي أناس مجهولي الدين والعدالة ـ قبل سنة من حلول شهر رمضان .. والتي تحمل الناس على الامتناع عن المفطرات، وعلى الأذان وإقامة الصلاة، قبل ظهور الفجر الصادق بعشرين دقيقة وأكثر!
في الأذان الأول يمنعون المسلمين من تناول الطعام والشراب عشرين دقيقة بزعم الإمساك للاحتياط .. وفي الأذان الثاني للصلاة يؤذنون قبل ظهور الفجر الصادق وحلول الوقت الشرعي بعشرين دقيقة .. فيكون مجموع الوقت الذي يمنعون فيه المسلمين من الطعام والشراب أربعين دقيقة تقريباً قبل بزوغ الفجر الصادق .. فتأمل!!

ـ توقيت الإفطار.
التوقيت الشرعي للإفطار غروب قرص الشمس فإذا غربت الشمس أفطر الصائم، لقوله r كما في الصحيحين:" إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ".
وإذا كان النبي r صائماً أمر رجلاً فأوفى على نشَزٍ، فإذا قال: قد غابت الشمسُ، أفطرَ.
هذا هو التوقيت الشرعي لتحديد وقت إفطار الصائم .. وليس التوقيت الفلكي الذي يكون خطؤه أكثر من صوابه .. ومع ذلك ترى كثيراً من المسلمين يقدمون توقيت الإمساكيات الفلكية على التوقيت الشرعي رغم علمهم بخطأ التوقيت الفلكي وأنه في الغالب يكون بعد غروب الشمس ـ التوقيت الشرعي ـ بعشر دقائق وربما أكثر!
فإن تعسر على المرء تحري غروب الشمس بنفسه أو بواسطة غيره من الإخوان بحكم تطاول البنيان السائد في بلاد المسلمين الذي يُحيل بين المرء ورؤيته لغروب الشمس .. أو لغير ذلك من الأسباب .. له حينئذٍ أن يعتمد التوقيت الفلكي .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرجاً إن شاء الله.

ـ استحباب تعجيل الفطور.
من السنة تعجيل الفطور، لقوله r:" لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور " . ولقوله r: " لا يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون ". ولقوله r في الحديث القدسي:" أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً ". والعجلة هنا لا ينبغي أن تُفهَم بتعجيل الفطر قبل التحقق من غروب قرص الشمس كاملاً.
ولقوله r:" ثلاثٌ من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين
على الشمال في الصلاة "[[2] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftn2)].
ولقوله r:" لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم ". كما هو حال الشيعة الروافض الذين يؤخرون إفطارهم ـ اقتداء باليهود والنصارى ومخالفة لأهل السنة والجماعة ـ إلى ما بعد غروب الشمس إلى حين تضرب النجوم في كبد السماء!

ـ استحباب الفطور على التمر أو الماء:
لقوله r:" من وجد تمراً فليفطر عليه، ومن لم يجد تمراً فليفطر على الماء فإنه طهور ". ثم يقوم فيصلي الصلاة لوقتها ..
وكان r يقول:" ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ".

أبو حسن الحسن
08-28-2009, 03:22 AM
ـ أمور لا بأس بها للصائم.
هناك أمور لا حرج بها لو فعلها الصائم، منها: التقبيل والمباشرة من غير توسع؛ خشية الوقوع في المحظور وهو الجماع، فقد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي r يُقبل ويُباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه ". وفي رواية " لأَرَبه " بفتح الهمزة والراء؛ ويعني لحاجته.
وعن حكيم بن عقال أنه قال: سألت عائشة:" ما يحرم عليّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها ".
وعن عمر بن الخطاب t قال: هشِشْتُ فقبَّلتُ وأنا صائم، فقلت: يا رسولَ الله، صنعتُ اليومَ أمراً عظيماً؛ فقبلت وأنا صائم، قال:" أرأيت لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم؟" قلت: لا بأس به، قال:" فمه ؟"[[3] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftn3)].
لكن من قبيل سد الذرائع لا يُنصح الشباب ومن كان حديث عهد بالزواج بالتقبيل والمباشرة، للحديث الذي رواه أبو هريرة t، أن رجلاً سأل النبي r عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر فنهاه؛ فإذا الذي رخَّص له شيخ، والذي نهاه شاب[[4] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftn4)].
ومنها: استخدام السواك، ونحوه فرشاة الأسنان من غير مبالغة، روى البخاري في صحيحه عن النبي r أنه استاك وهو صائم. وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخرَه ولا يبلع ريقه.
قال عطاء: إن ازدرد ريقه لا أقول يُفطر. وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم؟ قال: والماء له طعم وأنت تمضمضُ به ا- هـ.
ومنها: الحجامة واستخراج الدم الفاسد، ونحوه التبرع بالدم، وكذلك غسل الكلى لمن كان مبتلى بها، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال:" احتجم النبي r وهو صائم ".
وقال ابن عباس وعِكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج.
وقوله r:" أفطر الحاجم والمحجوم ". منسوخ بفعله r كما هو ثابت في حديث البخاري أعلاه، وبقوله r كما في الحديث عن سعيد الخدري قال:" رخّص رسول الله r في القبلة للصائم، والحجامة ". والرخصة تكون بعد العزيمة أو الحظر.
ومنها: الاستنشاق والمضمضة من غير مبالغة، لقوله r:" بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماًً " مفهوم الحديث جواز الاستنشاق للصائم لكن من غير مبالغة.
قال البخاري: قال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرُّدِ للصائم.
وقد تقدم معنا حديث عمر الذي يفيد جواز المضمضة للصائم.
ومنها: غسل الرأس، والاستحمام، والسباحة .. أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: كان النبي r يُدركه الفجر جُنباً في رمضان من غير حُلم فيغتسل ويصومَ ".
وعن ابن عمر أنه بلَّ ثوباً فألقى عليه وهو صائم.
ودخل الشعبيُّ الحمام وهو صائم. وقال أنس: إن لي أبزنَ أتقحَّمُ فيه وأنا صائم ا- هـ. والأبزن هو حجر مجوف كالحوض.

فإن قيل: إن دخل الماء الحلق خطأ ؟
أقول: لا حرج عليه لقوله تعالى:) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب:5. ولقوله r:" رفع عن أمتي الخطأ ".
أخرج البخاري في صحيحه عن عطاء قال:" إن استنثر فدخل الماءُ في حلقه لا بأس إن لم يملك ا- هـ. أي إن لم يملك دفعه.
ومنها: تذوق الطعام من غير ازدراده، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس t قوله:" لا بأس أن يتطعَّمَ القِدْرَ أو الشيء.
وقال:" لا بأس أن يذوق الخل أو الشيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم ".
ومنها: التكحل، والتطيب، ونحوها قطرة العين، قال البخاري في صحيحه:" لم ير أنسٌ، والحسن، وإبراهيم بالكحل للصائم بأساً ".
وأخرج عن ابن مسعود قوله: إذا كان صومُ أحدكم فليُصبح دهيناً مترجلاً.
قال ابن حجر في الفتح 4/183: فقد استحب السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل والادهان والكحل ونحو ذلك ا- هـ.
والترَجُّل، والترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه، وتحسينه، كما في اللسان.
ومنها: الإبر والحقن غير المغذية .. فهذه كذلك لا حرج فيها مادامت لا تصل إلى المعدة، وليس لها أية قيمة غذائية .. فالأصل في مثل هذه الأمور المستجدة الإباحة ما لم يرد نص على حرمتها، والله تعالى أعلم.

ـ حالات يُرخَّص لها الإفطار.
يُرخص الإفطار في رمضان للمريض، والمسافر، لقوله تعالى:)فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة:185.
وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" ليس من البر الصيام في السفر ".
وكذلك يرخص الإفطار للمجاهد في حالة القتال ومواجهة العدو، لقوله r:" إنكم ملاقو عدوكم والفطر أقوى لكم ".

فإن قيل: ما صفة المرض والسفر الذي يجيز الإفطار، وهل الإفطار في مثل هذه الحالات رخصة يُندب لها أم أنها عزيمة واجبة؟
أقول: أيما مرضٍ يشكل مشقة على الصائم فالفطر في حقه رخصة، وأيما مرض يزيده الصيام مرضاً ويُضاعفه على صاحبه فالفطر حينئذٍ يكون واجباً؛ إذ لا ضرر ولا ضرار!
وكذلك السفر ـ الذي يُسمى عرفاً سفراً بغض النظر عن المسافة المقطوعة ـ فإنه رخصة للإفطار ـ إن شاء صام وإن شاء أفطر ـ أما إن كان في السفر من المشقة ما يؤدي إلى إتلاف وهلاك المسافر الصائم فحينئذٍ يكون الإفطار عزيمة وواجباً.
كما في الحديث عن جابر t أن رسول الله r مرَّ على رجلٍ في ظلِّ شجرة يُرشُّ عليه الماء، فقال:" ما بال صاحبكم ؟". قالوا: يا رسول الله صائم. قال:" إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخَّص لكم فاقبلوها ".
وقال r:" إن الله تبارك وتعالى يُحبُّ أن تؤتى رُخصَه كما يكره أن تُؤتَى معصيتُه ".

وكذلك الجهاد كلما كان الإفطار للصائم أقوى لمواجهة العدو كلما كان أقرب للوجوب وأن يكون عزيمة، كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال:" سافرنا مع رسول الله r إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله r: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله r في السفر "مسلم.
عن حمزة بن عمرو الأسلمي، قال للنبي r أأصوم في السفر؟ ـ وكان كثير الصيام ـ فقال:" إن شئت فصُم، وإن شئتَ فأفطر ". فمرد الأمر لما يترتب على الصيام من مشقة، ونوع هذه المشقة وأثرها .. وعلى ضوء ذلك نحدد متى يكون الإفطار رخصة ومتى يكون عزيمة.

ـ وكذلك المرأة الحائض: إذا أدركتها الدورة الشهرية وهي صائم يجب عليها الإفطار .. ومن ثم تقضي أيامها بعد رمضان .. كما في الحديث عن عائشة:" كان يُصيبنا ذلك ـ أي الدورة الشهرية ـ فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ". ونحوها المرأة النفساء.

ـ وكذلك المرأة الحامل والمرضع: يفطران ويُطعمان عن كل يوم مسكيناً من غير قضاء، لقوله r:" إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم ".[ الترمذي وقال: حديث حسن ].
وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس .. قال ابن عباس:" إذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويُطعمان مكان كل يومٍ مسكيناً، ولا يقضيان صوماً ". ونحوه عن ابن عمر.
قلت: هذا إذا كانت الوالدة ترضع وليدها عاماً كاملاً أو حولين كاملين؛ أي عامين كاملين، كما قال تعالى:) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ (البقرة:233. فأيامها كلها بين الحمل والرضاعة .. فينقضي العام كله وهي في حالة إرضاع لوليدها .. فهذه التي لها رخصة في أن تُطعم مكان كل يوم تفطره من رمضان مسكيناً؛ إذ لا متّسع ولا وقت لها للقضاء .. أما إن كانت ترضع وليدها عدة أشهر ـ كما هي عادة غالب نساء هذا الزمان ـ ثم بعد ذلك تتوقف عن الرضاعة لتكمل الحول أو الحولين معتمدة على حليب البقر .. فهذه لو أفطرت في رمضان من أجل الرضاعة .. عليها القضاء ولا يُجزئها الإطعام؛ لأنها تملك الوقت والسعة للقضاء من غير حمل ولا رضاعة، والله تعالى أعلم.

ـ وكذلك الشيخ الكبير والمرأة العجوز: إذا كانا لا يُطيقان الصومَ .. يفطران .. ويُطعمان فقط عن كل يومٍ مسكيناً، وهو قول ابن عباس وغيره من أهل العلم.
عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( قال ابن عباس: ليست بمنسوخة؛ هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً " البخاري.

ـ قضاء الفوات من رمضان.
تُقضى الأيام الفائتة من رمضان وجوباً على التراخي، وبشكل متفرق أو متتابع خلال أيام وأشهر السنة، فلا حرج إن شاء الله، كما في الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها
قالت:" كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيَهُ إلا في شعبان ".
وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن قضاء رمضان، فقال:" إن شاء فرَّق وإن شاء تابع ".
فإن مات من كان عليه صوم من رمضان ـ أو صوم نذرٍ ـ صام عنه وليه ولا بد، لقوله r في الحديث المتفق عليه:" من مات وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّهُ ".
أما إن كان من ذوي الأعذار الدائمة ممن يدفعون فدية إطعام مسكين عن كل يوم ثم مات وعليه أيام لم يُطعم عنها .. فإنه يجب على وليه أن يُطعم عنه الأيام التي لم يُطعم عنها .. ولا يجب عليه الصوم .. فالقضاء والوفاء يكون من جنس المتروك.

ـ أمور ينبغي للصائم اعتزالها:
ليستفيد الصائم من صيامه يجب عليه ـ إضافة إلى ترك الطعام والشراب ـ اعتزال الفواحش والمنكرات، والمعاصي، والفحش في القول وسوء الخلق .. فهذه الموبقات والمعاصي وإن كان يتعين تركها في كل وقت وعلى مدار الأشهر والأيام إلا أنها في رمضان ـ ليستفيد الصائم من صيامه ـ يزداد التوكيد على اعتزالها وتركها، فقد صح عن النبي r أنه قال:" من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
وقال r:" من لم يدع الخنا والكذب؛ فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه ". والخنا: الفحش في القول.
وقال r:" ليس الصيامُ من الأكل والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحدٌ أو جهِلَ عليك فقل: إني صائم، إني صائم ". وهذه عبارة لو قِيلت فلها بالغ الأثر والدلالة على الطرف المشاجِر المقابِل.
وقال r:" لا تَسابَّ وأنت صائم، فإن سابَّك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاجلس ".
وقال r:" رُبّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش ".
وقال r:" الصوم جُنَّة ـ أي من النار ـ ما لم يخرقها ". أي يخرقها بالغيبة والنميمة وسوء الخلق.
فالصوم الكامل الممدوح والمراد شرعاً ـ إضافة إلى الصوم عن الطعام والشراب ـ هو صوم الجوارح الظاهرة والباطنة وإمساكها عن كل ما هو معيب وغير شرعي .. لا بد للصائم من أن يتفطن لهذا المعنى، هذا إذا كان حريصاً على أن يكون من عتقاء شهر رمضان المبارك.

ـ كيف يقضي الصائمُ يومه في رمضان؟
لا يكفي للصائم أن يجتنب الآثام والموبقات في رمضان وإنما عليه كذلك أن يخص شهر
رمضان بمزيدٍ من الإقبال على العبادة والطاعة، وتلاوة القرآن، والتصدق، وإطعام المساكين، كما في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس t قال:" كان النبي r أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل u يلقاه كل ليلةٍ في رمضان حتى ينسلخَ، يعرضُ عليه النبي r القرآنَ، فإذا لقيه جبريل u كان أجود بالخير من الريح المرسلة ".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي r إذا دخل العشرُ شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله " متفق عليه.
وقالت:" كان رسول الله r يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره ". وهذا بخلاف ما عليه كثير من المسلمين؛ إذ تراهم ينشطون في أول رمضان ويفترون في آخره!
وقال r:" من فطّر صائماً كان له مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيئاً ".
وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان انقطع عن التدريس، وانقطع عن الفقه والفتوى والحديث، واشتغل بمدارسة القرآن، وقال: هذا شهر القرآن.
فإذا عرفت ذلك أيها المسلم الصائم فتأمل كيف يقضي كثير من المسلمين في أمصارهم شهر رمضان؛ تراهم يعدون له عدته من المسلسلات والمسابقات والسهرات التلفزيونية، وغيرها من الملاهي، وكل ما يشغل عن ذكر الله .. وكأن رمضان لم يُشرع إلا لمثل هذه الأعمال المشينة والمخلة بالآداب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وكأن طواغيت الحكم الظالمين يريدون من وراء ذلك أن يُبطلوا فاعلية رمضان وأثره الإيماني في النفوس .. فالإيمان الذي يزداد ويرقى بالنفوس في رمضان ينقصونه ويُبطلونه بما يبثونه من برامج ومسلسلات فاحشة وماجنة عبر شاشات التلفاز التي غزت كل بيت .. فليس لصالح الطواغيت الظالمين أن ترقى الشعوب بإيمانها .. وأن تتحرر من شهواتها ونزواتها .. ويصفى لها ذهنها وتفكيرها .. ولو لشهر واحد!
يعلمون أن شياطين الجن تُصفد في رمضان .. لذا ترى شياطين وطواغيت الإنس يُضاعفون جهدهم الإفسادي في رمضان ليعوضوا النقص وما قد فاتهم من مدد من قبل إخوانهم من شياطين الجن!

ـ صلاة القيام.
اختلف الناس حول عدد ركعات صلاة القيام في رمضان، والصواب الذي نراه موافقاً للسنة، أن لا تزيد صلاة القيام عن إحدى عشرة ركعة، للحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت:" ما كان النبي r يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ".
وعن جابر بن عبد الله t:" أن النبي r لما أحيى بالناس ليلةً في رمضان صلى ثماني ركعات ثم أوتر ".
وعن السائب بن يزيد أنه قال:" أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر " الموطأ[[5] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftn5)].

مسألةٌ هامَّة: من الأوبئة القاتلة المنتشرة في هذه الأيام ما يُعرَف بمرض " انفلوزيا الخنازير " وهو مرض مُعدٍ .. ينتقل من شخصٍ إلى آخر عن طريق التنفس، والعطاس، ونحوه .. وفي كثير من الأحيان يصعب تمييزه عن مرض " الانفلوزيا " العادي .. إلا بعد أيامٍ من الإصابة .. وعليه أقول: من يُصاب بمرض " الانفلوزيا " أرى عليه وجوباً أن يعتزل مساجد المسلمين .. وبخاصة في أوقات صلاة التراويح والتي تكون فيها مكتظة بالمصلين .. حتى لا يتسبب بالعدوى لإخوانه المسلمين .. عملاً بقوله r:" لا ضرر ولا ضِرار ". وقوله r:" لا توردوا الممرضَ على المُصح " البخاري. وفي رواية عند مسلم:" لا يُورد الممرض على المصح ". وكان في وفد ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه النبيُّ r:" إنا قد بايعناك فارجِعْ " مسلم. وقياساً على مرض الطاعون المعدي الذي قضت فيه السنة أن لا يخرج المرء من أرض الوباء إلى أرضٍ سليمة من الوباء .. كما قضت بأن لا يدخلها السليم القادم من أرضٍ سليمة من الوباء، كما في صحيح البخاري، قال r:" الطاعون رجسٌ، أُرسلَ على طائفةٍ من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بارضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ". ونحوه كل مرضٍ مُعدٍ .. أرى لصاحبه أن لا يقترب من مساجد المسلمين وبخاصة في أوقات اقتظاظها بالمصلين .. أرجو من إخواني المسلمين أن يتنبَّهوا ـ مشكورين ـ لهذه المسألة .. ويعلموا أن من حبسه المرض عن القيام .. وكان من عادته أن يُصلي القيام في المسجد .. فله أجر القيام في المسجد وإن صلى في بيته، لقوله r:" إذا مرض العبدُ أو سافر، كُتِبَ له مثل ما كان يعمل مُقيماً صحيحاً " البخاري.

ـ الاعتكاف.
الاعتكاف: صفته أن يعتكف المسلم للعبادة في المسجد طيلة الفترة الزمنية التي نوى اعتكافها، لا يخرج من المسجد إلا لحاجة أو ضرورة ملحة، وهو جائز لقوله تعالى:) وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (البقرة:187.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله r ليُدخِلُ رأسه وهو في المسجد فأرجِّلُه، وكان لا يدخل البيتَ إلا لحاجةٍ إذا كان معتكفاً ".
وعنها رضي الله عنها قالت:" السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازةً، ولا يمس امرأةً، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع "[ صحيح سنن أبي داود:2160 ]. وفي رواية:" ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ".
وهو يجوز في كل الأشهر والأيام، لاعتكافه r في العشر الأواخر من شوال .. ولكن أفضلها العشر الأواخر من رمضان؛ لأن النبي r كان يعتكفها ويواظب على اعتكافها، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي r يعتكف العشرَ الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده ". والحديث فيه دليل على جواز اعتكاف النساء في المساجد.

فإن قيل: أي المساجد هذه التي يجوز الاعتكاف فيها؟
أقول: قوي الاختلاف في هذه المسألة والراجح عندي أن الاعتكاف جائز في أي مسجد شريطة أن يكون مسجداً جامعاً تُقام فيه الجمعة والجماعة، لحديث عائشة الآنف الذكر، وحتى لا تفوت المعتكف الجماعة أو يضطر للخروج للصلاة في مسجد جامع آخر، فيفسد اعتكافه .. وبهذا قال بعض السلف.
فإن قيل: كيف نفهم قوله r:" لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة "؟
أقول: ينبغي أن يُحمل الحديث على الاعتكاف الأكمل والأفضل؛ أي لا اعتكاف كاملاً وفاضلاً إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
لذا نجد أن ابن مسعود قد خطأ حذيفة عندما استدل بالحديث على منع المسلمين من الاعتكاف في مسجد الكوفة الأكبر، كما في تمام الحديث:" قال حذيفة لعبد الله ابن مسعود t: قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى لا تغير ـ وفي رواية لا تنهاهم ـ ؟! وقد علمت أن رسول الله r قال:" لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ". فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا "[ السلسلة الصحيحة:2786 ].
وقد ذهب الطحاوي في كتابه " مشكل الآثار " إلى أن إنكار ابن مسعود على حذيفة وجوابه إياه بما أجابه هو دليل على أن الحديث منسوخ فحفظ الناس ذلك ونسي حذيفة، فقال 7/205: تأملنا هذا الحديث، فوجدنا فيه إخبار حذيفة ابنَ مسعود أنه قد علم ما ذكره له عن النبي r، وتركَ ابنِ مسعود إنكار ذلك عليه وجوابه إياه بما أجابه به في ذلك قوله:" لعلهم حفظوا " نسخ ما قد ذكرته في ذلك، وأصابوا فيما قد فعلوا، وكان ظاهر القرآن يدل على ذلك، وهو قوله تعالى:) وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ( ا- هـ.
قلت: سكوت حذيفة t على جواب ابن مسعود له، ومن ثم عدم إنكاره بنفسه على المسلمين المعتكفين في المسجد .. دليل على موافقته له في أن الحديث ليس فيه دليل على المنع من الاعتكاف في غير هذه المساجد الثلاثة؛ إذ لو كان ابن مسعود مخطئاً في رده عليه وعلى فهمه للحديث لأنكر عليه حذيفة وصحح له جوابه، ولذهب بنفسه إلى المسجد لينكر على المعتكفين.
والغريب في الأمر أن الشيخ ناصر ـ رحمه الله ـ قد أقر بتخطئة ابن مسعود لحذيفة في استدلاله بالحديث على المنع من الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة .. ثم بعد ذلك خطأ ابن مسعود ورد فهمه للحديث، الذي وافقه عليه حذيفة فيما بعد، واعتبر الحديث مخصصاً للآية التي تبيح الاعتكاف في مطلق المساجد، وإليك قوله في السلسلة الصحيحة 6/667-670: قول ابن مسعود ليس نصاً في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث، بل لعله خطأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة؛ لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملاً ... إلى أن قال: الآية عامة، والحديث خاص، ومقتضى الأصول أن يُحمل العام على الخاص، وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها، وعليه يدل كلام حذيفة وحديثه ا- هـ.

ـ صدقة الفطر وما يتعلق بها من أحكام:
يجب إخراج صدقة الفطر طُعمة ـ وليس مالاً ـ طُهرة للصائم، وهي تُخرج عن العبد والحر، والذكر، والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، كما في الحديث عن ابن عباس t قال:" فرض رسول الله r صدقة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، فمن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات " صحيح الترغيب:1085.
وعن ابن عمر t قال:" فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ".
وقال r:" أدوا صاعاً من بُرٍّ أو قمحٍ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعيرٍ، عن كل حرٍّ وعبد، وصغير وكبير .. ذكر وأنثى ".
والصاع: أربعة أمداد؛ والمد حُفنة بكفي الرجل المعتدل الكفين.

الأشياء التي يجوز التصدق بها: القمح، أو الشعير، أو التمر، أو الزبيب، أو الرز، أو الذرة، أو الأَقِطِ ( لبن مجفف لم تُزل زبدته ).
وقتها: تُخرج قبل صلاة العيد وليس بعده، كما في الحديث عن ابن عمر قال:" أمرنا رسول الله r بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " البخاري.
وقد ثبت عن ابن عمر أنه كان يؤديها قبل الفطر بيومٍ أو يومين.
قلت: إذا تقرر إرسال صدقة الفطر إلى قطر آخر لحصول الكفاية في القطر الذي فيه المتصدق ووجود الحاجة الماسة في القطر الآخر، لا حرج أن يرسلها في وقت مبكر لكي يضمن وصولها إلى ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين في الوقت المحدد والمناسب، إذ لو تأخر في دفعها إلى ما قبل العيد بساعات أو يوم أو يومين .. قد لا تصل إلى أيدي الفقراء في القطر الآخر إلا بعد صلاة العيد بأيام وربما بأسابيع .. فحينئذٍ لا تكون زكاة فطر وإنما صدقة من الصدقات؛ لأن الحكمة من إخراج صدقة الفطر أن تصل إلى أيدي الفقراء طُعمة قبل صلاة العيد، ليستفيدوا منها وأطفالهم في أيام العيد .. وليس مجرد أن تُخرج من يد صاحبها لتوضع في يدٍ مستأمنة أخرى يحبسها في يده أو يخرجها على الفقراء متى شاء وفي الوقت الذي يشاء، والله تعالى أعلم.

ـ صيام ستة من شوال.
فإذا انتهى رمضان ودخل شوال يُسن أن يصوم المرء ستة أيام من الشهر، لقوله r:" من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر " مسلم.
وله أن يبدأ بالصوم بعد العيد مباشرة؛ أي في اليوم الثاني من شوال، لورود النهي عن الصوم في العيد، والله تعالى أعلم.
وبانتهائنا من هذه الفقرة، ننتهي ـ بفضل الله تعالى ومنته ـ من هذا المبحث الموجز "مسائل وأحكام رمضانية "، راجياً من الله تعالى القبول، وأن ينفع به الصائمين في أمصارهم، إنه تعالى سميع قريب مجيب.



وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



عبد المنعم مصطفى حليمة

" أبو بصير الطرطوسي "


25/8/1424هـ.
21/10/2003 م.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
[1] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftnref1) الصارم المسلول، لابن تيمية: 56.
[2] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftnref2) صحيح الجامع: 3038.
[3] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftnref3) صحيح سنن أبي داود: 2089.
[4] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftnref4) صحيح سنن أبي داود: 2090. وفي الحديث دليل على ضرورة مراعاة المآلات .. عندما يُفتي المفتي الآخرين.
[5] (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=postthread&f=4#_ftnref5)قال الشيخ ناصر رحمه الله في كتابه " صلاة التراويح ": هذا سند صحيح جداً. كما أن الشيخ ـ في كتابه المذكور ـ وغيره من أهل العلم: قد ضعَّفوا الروايات التي تنسَب لعمر t أنه صلى في التراويح إحدى وعشرين ركعة أو أمر أن يُصلّى بالناس بإحدى وعشرين ركعة.