أبو حسن الحسن
08-22-2009, 09:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
• تنبيهات :
الأول : كتبتُ أصلَ المقالةِ بعد الجريمةِ بيومين ، وأخَّرْتُ نشرَها ؛ لتُقرأ وقد هدأت النفوسُ وذهبَت سكرةُ الغضبِ (وإن بقي هو) .
الثاني : أضفتُ بعضَ الفقرات – ووضعتها بين معقوفين [..] - بعد سماعي لتسجيلات صوتية فيها تهاتُف المجرمين وقتَ قصفِهم لإخواننا ، ومكالمةً بين أحدِ المجاهدين المحاصرين وأحدِ إخوانِه قبيلَ الاشتباك .
الثالث : ليس نشرُ المقالِ مِن إثارةِ الفتنةِ وشحنِ النفوسِ ؛ فإنَّ ما حصلَ لم يكن سببُه غضبٌ أو اندفاع أو ردة فعل غير محسوبة من حماس ، بل هو سياسةٌ متَّبعةٌ يُعَدُّ لها بالتآمرِ والحمَلاتِ الإعلاميةِ وشحنِ أتباعِهم واستفزازِ الإخوةِ … إلخ . والسكوتُ عن ذلك إذنٌ بمثلِه .
أضافَت حماسُ يومَ الجمعةِ الماضي جريمةً إلى جرائمِها السابقةِ ، وليسَت هذه الجريمةُ أعظمَها ؛ فإنَّ اتَّخاذَ الدستورِ الوضعيِّ -مرجِعًا في الحُكم- والقوانينَ -نصوصًا للتحاكمِ- أعظمُ ، وليسَت الأولى مِن جِنسِها ؛ فقد سبقتْها جرائمُ قتلٍ وتعذيبٍ وأسرٍ لعبادِ الله الموحِّدين ، أشهرُها جريمةُ الصبرةِ المعروفةُ .
ولكن ما يميِّزُ هذه الجريمةَ أنَّنا لا نحتاجُ معها إلى وصفِ أحداثِها وذِكرِ ما حصلَ فيها ؛ فقد شهِدها القاصي والداني وعَرَف الناسُ كثيرًا من تفاصيلِها ، ويميِّزها أيضًا أننا لن نحتاجَ إلى تقصُّدِ ذِكرِ أكاذيبَ حماس وافتراءاتِها لتفنيدِها ؛ فالرجلُ المفترى عليه عَلَمٌ معروف ، اسمُه يكفي لتكذيبِ حماس ، وحكايةُ دعاواهم عليه تفي بغرضِ ردِّها ، وافتراءاتُهم المتناقضةُ تأكلُ بعضَها .
وحسبي أن أقول في هذا المقام : إن قتلَ حماس لأبي النور المقدسي لمبشِّرٌ بانبلاجِ النور ، وإن هدَّها لبيتِه وبيتِ ربِّه لمبشِّرٌ بانتشارِ الهُدى ، وكأنَّ هنيَّةَ المجرمَ قد قال قبلَ قصفِ المسجدِ : باسمِ اللهِ ؛ ربِّ هذا الشيخِ (أبي النور) !
وأقول : حُقَّ لأبناءِ الدَّعوةِ السلفيةِ أن يتلوا في هذا المقامِ قولَه تعالى : (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) ، وإذا كان الفتحُ الذين نزلت فيه السورةُ صلحًا مع المشركين كرِهَهُ بعضُ الصحابةِ أولَ الأمر ، فإنَّني أسمِّي مقتلَ أبي النور وإخوانَه -ظُلمًا وإجرامًا- أسمِّيه فتحًا ، وإن كرهتْه نفسي وكرهه إخواني ؛ (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ، أقول هذا ثقةً باللهِ ، وبعدَ تأمُّلِ سننِ اللهِ الشرعيةِ والكونيةِ ، وليس إلا أن يُريَ أبناءُ الدعوةِ ربَّهم مِن أنفسِهم أهليةً لهذا الفتح ؛ بالتزامِهم بالشرعِ ، وتوكُّلِهم على اللهِ ، واجتهادِهم في العملِ بأسبابِ التمكينِ ؛ فيريهم الله الفتحَ المبينَ لهذهِ الدعوةِ المباركةِ .
إنَّ حماسَ بقتلِها لأبي النورِ قد خطَت آخرَ خطواتِها إلى القضاءِ على حركةٍ إسلاميةٍ مجاهدةٍ ، لا أعني جماعة جند أنصار الله ، بل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، التي نشأت ، وجاهدت ، وظُلِمَت ، فصابرَت ، ثم تمكَّنت ، فتنكَّرَت ، فطغتْ وتجبَّرتْ ، ثم هي تبيدُ قريبًا إن شاء الله . وهي في حياتِها قد مرَّت بأشياءَ متغايرة ، وأحوال متنافرة ؛ فقد قامَت مقام الجهاد ، ثم قامت مقام التشريع ، وقد قادها ياسين ، وقادها مشعل ، وقد ساد فيها الرنتيسي ، وساد فيها هنية ، وقد قاتلت أعداءَ الله ، وقتَّلَت أولياءه ، وقد آذاها الطواغيت قتلاً وأسرًا وافتراءً ، فقامَت هي فينا مقام الطواغيت قتلا وأسرًا وافتراءً .
لا أقول إنَّ غلَبتَها تبيدُ غدًا أو بعد شهر ، ولا أقول إنَّ ما فعلتْه مِن الجرائمِ قبلُ لم يكن خطواتٍ إلى الزوال والاستبدال ، ولكنَّ ما فعلَتْه هذه المرة كان مختلفًا بالكليةِ كما ذكرتُ ، وبه فقدَت دعائمَ كانَت تسندها ، وسُتُرًا كانَت تحجبُ عن الناسِ سوءَتها ، وسبحانَ مَن له في كلِّ شيءٍ حِكمة ، وإذا أراد اللهُ إهلاكَ قريةٍ أمرَ مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ .
فحماسُ قد ذهبَ بها الحماسُ إذ فارقته الحكمةُ ، وقارنه رقةُ الديانةِ ، والتعصُّبُ للحزبِ ، والغرورُ بالقوةِ ، والصَّلفُ في الرأيِ ، فذهب بها الحماسُ إلى تركِ مراعاةِ ما يُعظِّمُ المسلمون حُرمتَه ، أعني دمَ المسلمِ وبيتَ الله ، وإلى تركِ مراعاةِ ما يعظِّمونَه هم ، أعني ما يسمَّى الرأيَ العامَّ ، وإذا كانوا قد تركوا الأوَّلَ لمَّا قتلوا صائب دغمش وإخوانَه -رحمهم الله- في جريمةِ الصبرةِ ، فإنَّهم قد راعَوا فيها الثاني بتوطئتِهم لها برميِ المجاهدين بأنَّهم منفلتين ، وخوارج ، وقوادين ، ونحو ذلك ، ساعدَهم على ذلك أنَّ الإخوةَ مغمورين لا يعرفهم أحدٌ ، وساعدَهم عليه أشياء عشائرية وعائلية أحاطَت بالإخوةِ ، فصدَّقها كثيرٌ مِن الناسِ .. ولكنها اليوم لم تراعِ أيَّ الأمرين ، فهيهات هيهات أن يُصدِّقها اليومَ أحدٌ! حاشا المتعصبين لها ، والجاهلين بأحوالِها وحالِ الشيخ الشهيد -نحسبه والله حسيبه- أبي النور المقدسي ، أما الناسُ في غزة فيعرفونَه حقَّ المعرفة ، يعرفونَه رجلاً خلوقًا خيِّرًا طالبًا للعِلمِ وناشرًا له في خطبِه ودروسِه ، ويعرفونَه بأعمالِ الخيرِ والبِرِّ ، ولم يعهدوا مِنه غلوًّا في تكفيرٍ ؛ ولم يسمعوا منه تكفيرَ المنتسبين إلى حماسَ فضلا عن سائر الشعبِ كما كَذَبَتْ حماسُ ، بل هو كما نعرف عنه ينهى عن هذه المسالكِ ، وقد سمعناه في خطبتِه يقول عن أبناءِ حماس : هم إخوانُنا بغوا علينا ، وجماعةُ جند أنصار الله مثله كما صرَّحوا .
وهم كذلك براءٌ مِن تفجيرِ محالِّ المعاصي كما بيَّنوا ، وهم والشيخُ أعداءٌ للعلمانيين في فتح وغيرِها ، فماذا بقيَ من تهم حماس؟ بقي تقاضي الشيخ لراتبٍ من فتح لعملِه طبيبًا! فسبحان من جرَّأ القومَ على اتِّهامِ الرجلِ بما هم واقعين فيه جِهارًا! فما الذي يجعلُ راتبَ أبي النور حرامًا وعمالةً وهو يصرِّح بمعاداة العلمانية ، ويجعلُ راتبَ أبي العبد هنية حلالا وهو يسمي العلمانيين إخوةً له وينادي بالتوحُّدِ معهم؟ ومتى انقطع راتبُ هنيةَ إلا بعدَ انقلابِه على (الأخ الرئيس) -عنده- الكافرِ المرتدِّ -عندنا- محمود عباس؟ ليس الأمرُ إلا إفلاس حماس وتكلُّفها ما تطعن به في الشيخ أبي النور رحمه الله .
إنَّ لأبي النورِ سيرةً مِن نورٍ كنورِ الشمسِ في ضيائه وصفائه ، ومثلَه في أنها لا تُحجبُ بغربالٍ مِن الأكاذيب ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، ونسأله تعالى أن يتقبل عبدَه أبا النور وإخوانَه شهداءً ، وأن يحقنَ دماءَ المسلمين ، وأن ينيرَ بصائرَ عِبادِه الصالحين إلى حقائقِ الشرعِ وفسادِ مسالكِ أهلِ الضلالةِ .
وبعدُ فإنَّ هذه مسائلُ مهمِّاتٍ لا بُدَّ مِن الوقوفِ عندَها مع هذا الخطبِ الجلَلِ ، أبدأُ بها مستعينًا بالله .
أولاً : إنَّ إعلانَ الشيخِ أبي النُّورِ للإمارةِ الإسلاميةِ خطوةٌ مستغربةٌ مِن مثلِه ، لم يتوقَّعْها مَن عرَفه ، وقد اجتهدتُ في معرفةِ سببِ هذه الخطوةِ ، بمطالعةِ ما سبقَ هذه الأحداث ، وبسؤالِ مَن يعرفون الشيخَ عَن قُربٍ ، فلمٍِ أهتدِ إلى وجهِ اجتهادِ الشيخِ بإعلانِه الإمارةَ الإسلاميةَ على وجهٍ يُجزَمُ معَه بمقصودِ الشيخِ ، إلا أنَّه لا يَبعدُ أنَّ الشيخَ قد أرادَ بهذا ما أومأ إليهِ في خطبتِه : أن يحثَّ حماسَ على سلوكِ سبيلِ الشريعةِ ، أو يستبينَ للناسِ - ومِنهم أبناءُ حماس أنفسُهم- سبيلُها الموصلُ إلى العلمانيةِ الصريحةِ ، وهي تسيرُ فيه بخطوٍ حثيثٍ .
والرَّأيُ أنَّ ما فعلَه الشيخُ ليس بكافٍ لتحقيقِ ما نظنُّه مرادَه ، وأنَّ على مَن بَقُوا بعدَه مِن أهلِ الدعوةِ أن يُتمُّوا ما بدأَه ، بأفعالٍ مدروسةٍ شرعًا وسياسةً .
ونحن إن كنَّا غيرَ موافقين للشيخِ -رحمه الله- في اجتهادِه ، فإننا في ذلك نراعي المصالحَ المعتبرةَ شرعًا ، مِن حقنٍ لدماءِ المسلمين، وحِفظًا للدعوةِ الناشئةِ ، ومنعًا لحماسَ من أن تجدَ ما تبرِّرُ به إجرامَها الذي قد عزمَت عليه ؛ فما تبرِّرُ به حماس قد يقلِّلُ مِن سخط الناس عليها -وهيهات أن يُذهبَ السخط كلَّه- ، وقد يجعلُ للشيخِ -في نظر الناسِ- كِفلاً من التسبُّبِ فيما حصل .
فأقول : إنما بنينا موقفنا على هذا ، لا على كونِ حماس لها سلطانٌ شرعيٌّ لا يجوز إحداثُ غيرِه ، فأنَّى لسلطانٍ لا يقومُ على تحكيمِ الشريعةِ أن يكون له وزنٌ في الشريعةِ ، والسمعُ والطاعةُ للمتغلِّبِ إنما يكون إن اتخذ الشريعةَ دستورًا يرجعُ إليه في الأصلِ ، ولو شابَ هذا الرجوعَ ظلمٌ وتقصيرٌ هو مِن جنسِ المعاصي ، أو تدرَّج صاحبُه –حسب استطاعتِه- في تطبيقِ بعضِ الحدودِ أو منعِ بعضِ المخالفاتِ ونحو ذلك ، وأما التحاكمُ إلى الدستورِ الوضعيِّ وإلزامُ الناسِ بقوانينِه وتركُ الشريعةِ ، فلا ولايةَ شرعية لصاحبِه وإن كانَ في ذلك متأولاً ، فتأولُه عذرٌ قد يمنعُ عنه الكفرَ والمؤاخذةَ ، ولكنَّه لا يصحِّحُ ولايتَه شرعًا ، لعدمِ المقصودِ منها ، وهو القيام بالتوحيدِ وإقامةُ الشرع . وكما تسقطُ طاعتُه – في الأمرِ- إذا أمر بما يخالف الشرعَ ، فإن ولايتَه تسقطُ لو كان مرجعُه غيرَ الشرعِ ، وهذا هو مدلول الإيماءِ في قولِه تعالى : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، وهم العلماءُ لأنَّهم أهلُ فهمِ الشرعِ ، والأمراءُ لأنَّهم أهلُ تطبيقِه ، وهو مفهوم الشرط في الحديث : "اسمعوا وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله" وفي الحديث : “ما أقاموا فيكم الدين" . وهذا هو ما دعا الشيخُ أبو النور رحمه الله حماس إليه ، إلى تحكيمِ الشريعةِ ليسمع لها ويطيع ، وقال إنه وإخوانَه سيكونون خُدَّامًا لها حينذاك ؛ فأبَت إلا قِتالَه لتئدَ دعوتَه السلفيةَ المتناميةَ .
الوقفةُ الثانيةُ : مع ما دعا إليه الشيخُ ، وأذكرُه ليضعَه الإخوةُ نصبَ أعينِهم ، فإنَّ الشيخَ -رحمه الله- كما عرفنا عنه مِن شهاداتِ مَن عرفَه ، وكما سمعنا مِنه في خطبتِه الأخيرةِ ، وكما سمعنا من إخوانِه في جماعة جند أنصار اللهِ ، وكما صرحوا مرارًا في بياناتِهم ، إنَّه لم يكن يُكفِّرُ المنتسبين إلى حماسَ فضلا عن تكفير عامَّةِ الشَّعبِ ، ولم تكن دعوتُه الاقتتال مع حماس ، ولا البداءةُ معهم في حربٍ ، بل كان همُّه نشرُ دعوتِه بالحجةِ والبرهانِ ، وهو ما كان ، حتى انتشرَت دعوتُه وأحبَّه الناسُ ؛ فلم ترَ حماسُ سبيلاً إلى منعِه إلا القوةَ ، فأنَّى لمنهجها الزائفِ المتهافتِ المصطنعِ أن يقفَ في ميدان الحجةِ نِدًّا لما يدعو إليه الشيخُ السلفيُّ؟ فكان أن رأت حماسُ -وحتفُها فيما رأت- أن تمنعه بالقوةِ مِن الدعوةِ إلى اللهِ لئلا تزاحمَ حركتَهم دعوةٌ ، فأرسلَت إليه وكان ما كان مما رأينا .. فينبغي التنبُّه إلى أنَّ إعلان الشيخِ الإمارةَ إنما هو مبرِّرٌ وذريعة لقتالِه ، وأما سببُ القتالِ : فهو دعوتُه التي انتشرَت وحجَّتُه التي انتصرَتْ ، وإلا فهل كان الشيخُ معلنًا لإمارةٍ لما أرسلوا إليه يريدون أخذَ مسجدِه؟ وهل كانت جماعة جند الله قد بايعت إمارةً لما أخذت حماسُ عتادها الذي تقاتِل به اليهود ثم حاولت أسر أبي عبد الله المهاجر لتسليمِه للمصريين؟ وهل أبو حفصٍ أميرُ جيش الأمةِ قد أعلن إمارةً أو بايعَ أميرًا؟ وهل مئات الشبابِ الذين تطاردُهم حماسُ وتأسرُهم وتعذبُهم -ويطلق جلاوزتها النارَ على مفاصل ركبهم وأكتافهم تنكيلاً- قد أعلنوا أو بايعوا إمارةً؟ الأمرُ بيِّنٌ لغيرِ مَن أعماه هواه .
فالذي يُجزَمُ به وهو ظاهرٌ لقاصدِ الحقِّ مريدِ الإنصاف : أنَّ حماسَ تكذبُ إذ تدَّعي أن الشيخَ وجماعةَ الجند يكفرونَ المنتسبين إليها ، أو يدعون لقتالِها ابتداءً ، أو تركوا قتال اليهودِ بحجةِ كفرِ حماس أو كفرِ عامةِ أهل غزة ، أو أنَّ هؤلاء يفجرون الأعراسَ ومحالَّ الفسادِ ، وقد كان الأميرُ أبو عبدُ الله المهاجر -تقبله الله- مثلَ شيخِه : ينهى عن ذلك ، ويردُّ مَن يثير تلك المسائلَ ولا يقبلُه في تنظيمِه ، فما هذه التهمُ إلا تَكرارٌ لأكاذيبَ يقتفون فيها سنةَ فرعون وكلَِّ طاغيةٍ (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهِر في الأرضِ الفسادَ) .
قال تعالى : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) ، وما نالَ الشيخَ مِن تشويهٍ ، نال من قبلِه دعاةَ التوحيدِ الأنبياءَ وورثتَهم ، وهي سنةُ أهلِ الضلالةِ إذا أعيتْهم الحججُ الغالبةُ وليسَت ابتداعًا مِن حماس ، وهو أحدُ أنواعِ الأذى التي تنالُ دعاةِ التوحيدِ من الكفَّارِ والمبتدعةِ والجهلةِ وسائرِ المخالفين ، وقد قلتُ في حاشيةٍ على الأصول الثلاثة : والأذى للداعيةِ يكونُ مِن المخالفين والجهلةِ على أنواع ، فمِنه :
1- إخراجُه مِن بلدِه ومُطاردتُه في الأرضِ ، كما في حديثِ عائشةَ المتقدِّمِ أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال لورقةَ : (أومُخرِجِيَّ هُم ؟ ) قال : نعم .
2- قذفُه ورميُه بالكذب والتُّهَم الباطلةِ ، قال تعالى : (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص 4] ، وقال : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر 26] .
3- رميُه بالجنون والاستهزاءُ به ، قال تعالى : (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الحجر 11] ، وقال تعالى : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات 52-53] ، وقال تعالى : (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) [الزخرف 47] .
4- تسليط الظَّلمةِ عليه ، قال تعالى : (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف 127] .
5- قتالُه ، وتقدَّم قولُ فِرعون ، وقال تعالى : (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة 217] .
6- تعذيبُه وقَتلُه ليرتَدَّ عن دينِه ، فعن خباب – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال : (لقد كان مَن كان قبلَكم يُحفَرُ له حفرةٌ ، ويجاءُ بالمِنشارِ فيوضَعُ على رأسِه ؛ فيُشَقُّ ، ما يَصرِفُه عَن دينِه ، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ عَظمِه مِن لحمٍ أو عصبٍ ، ما يَصرِفُه عَن دينِه . ولَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ مِن صنعاءَ إلى حَضرَمَوتَ لا يخشى إلا اللهَ والذِّئبَ على غَنَمِه ، ولكنَّكم تَعجلون) رواه أحمد وابن حبان . وروى مسلم : في قِصَّةِ الغلامِ والملكِ والرَّاهبِ ، أنَّ الملكَ جاء بالرَّاهبِ وجليسِ الملكِ فقال لكلٍّ مِنهما : ارجع عن دينك ، فأبى ؛ فوضع المئشارَ في مفرِقِ رأسِه ؛ فشقَّه ، حتى وقَعَ شِقَّاه ... الحديث . وفي آخرِه : أنَّ الناسَ آمنوا ، فأمر الملكُ بالأخدودِ أن تضرمَ فيها النيران ، وقال : مَن لم يرجع عن دينِه فأحمُوه فيها ؛ ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبيُّ لها ، فتقاعَسَت أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري ؛ فإنَّك على الحقِّ . مختصرةٌ مِن حديثِ صهيب - رضي الله عنه - .
7- تكذيبُه ، وهو أصلُ الأذى ، قال تعالى : (لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام 34]. اهـ النقل .
[وبعضُ مَن لم يتبصَّرْ في سبُلِ هؤلاء يستغربُ أن يكونَ أبناءُ القسَّامِ الذين يقاتلونَ اليهودَ بهذا الإجرامِ في قتالِهم للمسلمين ، ولكنَّ مَن عرَف كيف يربِّي الإخوان المسلمون أتباعَهم لم يستغرب ذلك ؛ ولم يستغرب كيف يجدُ كثيرًا مِنهم يحبُّون الخميني وحسن نصر الله .. فإنَّهم يربونهم على (النفسية الإخوانية) شديدةِ التعصُّبِ للجماعةِ ، المتعاليةِ على المخالفين ، المحتقرةِ للسلفيين (أصحاب الفقه البدوي والنظرة الضيقة ..إلخ) ، ومِن أهمِّ ما يُرَبَّون عليه : مطلق السمع والطاعة لقادتِهم ، وقبولُهم لما يلقونَه عليهم ، وعدم مناقشتهم في شيء ، مع كون أكثر أولئك القادة من الجهلةِ وليسوا من طلبةِ العلم الشرعيِّ الذين يشرع للعاميِّ تقليدهم ، وهذه سمةُ تيار الإخوان : يقودُهم جُهَّالُهم ويتصدَّرون فيهم بدعوى أنَّهم "مفكِّرون" و"سياسيون" .
فأقول : إنَّ شبابًا هذه سماتُهم ، يسهلُ على قادتِهم "تعبئتُهم" وإيغارُ صدورِهم على إخوانِهم بأوهى الحُجَجِ ، مستغلين "القول الهدية" وما شابهه من الكتاباتِ ، واندفاعَ بعضِ الإخوةِ وأخطاءهم ، بل ويلفقون لهم بعض الأعمال التي فيها تجاوزات شرعية ؛ ينسبونَ هذا كلَّه إلى التيار السلفيِّ والجماعاتِ السلفيةِ والمشايخِ السلفيين ، والمسكين يصدِّقُ ولا يفرِّقُ ، ولو جئتَه بألفِ آيةٍ على براءةِ المنهجِ السلفيِّ وأهلِه من تلك الأمور -وأنَّها بين فريةٍ ملفقةٍ وشذوذٍ ينكرُه أكثرُنا- لما آمنَ لك ؛ فيكون السلفيون في ذهنِه خطرًا على "المشروعِ الإسلاميِّ" ، و"يخدمون العلمانيين" و"عملاء لهم" ، وخوارج تكفيريين ؛ فيصبح القساميُّ بذلك ذلك المجرمَ الذي رأيناه في "الصبرة" وفي "رفح" ؛ يعدم المصابين ، ويقصف الجامع ، ويشتم المجاهدين والمشايخ بأقبح الألفاظ ، ويعتقل الموحدين ، ويعذِّب المجاهدين ، محتسبًا ذلك عند ربِّ العالمين! .. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ] .
الوقفة الثالثة : مع المطفِّفين ، الذين كتبوا واتهموا المجاهدين السلفيين في العراقِ بالغلوِّ وسفكِ الدماءِ والغرور والتفرُّدِ بالرأيِ ...إلخ ، لما أعلنوا دولةً تحكم بالكتاب والسنة ، ولما قتلوا بعض العملاء المتعاونين مع الصليبيين مِن المنتسبين إلى جماعاتٍ مقاتلةٍ ، أينكم أيُّها المطففون مِن دماء إخواننا أبي النور ومن معه التي أراقتْها حماسُ بلا شبهة ولا دافعَ إلا التجبُّر والظلم؟ ليتكم إذ فارقكم الإنصافُ سكتُّم ، ولكنَّكم إذ ركبكم الهوى برَّرتُم لحماسَ ولمزتُم إخوانَنا ، (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) ، اعلموا أنّكم بهذا تعينون الظالمَ على ظلمِه ولا تطفئون الفتن ، فإنَّ حماسَ بأمثالكم تتجرأ على مزيدٍ من الدماءِ ، وباستغفالِكم تتقوى وتحسِّن صورتَها ، فهذه نصيحة محب لبعضكم مشفقٍ عليكم : دعوا ما لا تحسنون ، واعلموا أنَّ السدادَ في مثل هذه المسائل ليس بالعلمِ وحدَه ؛ فإنَّ له شروطًا من فقد أحدَها عزَّ عليه السدادُ وإن حققَ بعضَها : العلمُ ، والإنصافُ ، والحكمةُ ، والتجربةُ .
فأدعو هؤلاء -وسائرَ المسلمين- إلى تبرئةِ ذمَمِهم ، وعدمِ المشاركةِ في سفكِ دماءِ المسلمين ، والسعيِ إلى حقنِها ؛ فإنَّ حماسَ قد استغلَّت هذه الأحداث فأسرت نحوَ (التسعين) مِن إخوانِنا السلفيين [وقد زادوا اليومَ كثيرًا] ، ولا تبدو نيِّتُها فيهم خَيرًا ، فكثير مِنهم مصابٌ أُخِذَ مِن المستشفى إلى أوكارِهم للتحقيقِ معَه ، باستغلال تلك الجراحاتِ للضغطِ عليهم ، وتعذيبِهم ، فأدعو المسلمينَ كافةً : إلى الإنكارِ على حماس ، والضغطِ عليها لفكِّ أسرِ أولئك الأخيار ، ولإعطاءِ أهلِهم والمنظمات المختصة الفرصةَ لتطبيبِهم ، وإلى قطعِ الطريقِ أمامَها لئلا تُعدِمَهم كما أعدمَت مَن قبلَهم مِن الجرحى ، ثم تدعي قتلهم في المواجهةِ أو بأثرِ جراحاتِهم ، وليس هذا مِن سوءِ الظنِّ ، وإنما هو توقعٌ مناسبٌ لما اقترن بالأمرِ من توحُّشِ تلك الجماعةِ ، واندفاعِها في سفكِ دماء السلفيين قتالاً في الاشتباكِ وقتْلاً بعد الأسرِ ، ومن تَكرارِ كذباتِها المفضوحةِ ، وأمنِها من إنكارِ المنكرين ، وما صاحب ذلك مِن تعتيمٍ إعلاميٍّ مِنها على مواقعِ المواجهاتِ والمستشفياتِ لئلا يُنقلَ عَنها إجرامُها بالتصويرِ والروايةِ [كما سمعنا في التسجيل قائدَهم ينهى عن التصويرِ] ، ولو كانَت نيَّتُها غيرَ ذلك لما منعت الإعلاميين ، ولما أخذت المصابين من المستشفيات .. فهذه رسالةٌ إلى كلِّ مسلمٍ صادقٍ في إرادتِه حقنَ الدماء .
الوقفة الرابعة : مع مَن ظهر أنَّهم عمدوا إلى ردِّ الظلمِ بالظلمِ ، والإجرامِ بالإجرامِ ، وابتغَوا نصرَ اللهِ بِما يُسخِطُه ، وبحثوا عن الانتصارِ بما هو سببُ الهزيمةِ والفشلِ ، أعني أولئك الذين تنادُوا بتكفيرِ كلِّ منتسبٍ إلى حماسَ ، ودَعوا إلى استهدافِ المرابطينَ ، وتفجيرِ المساجدِ ، واغتيالِ المنتسبين إلى تلك الحركةِ انتقامًا منها ، وعَجبٌ مِن هؤلاءِ ، أهُم طُفَيلياتُ الفِتَنِ أحفادُ ابن سبأ من اليهود والعَلمانيين؟ أم هم من (إعلامِ حماسَ) أرادوا سَتْرَ سوءَتِها وإحداثَ ما يُبرِّرُ جريمَتَها؟ أم هم إخوةٌ لنا صادقونَ غَضِبوا لإخوانِهم وآذاهم إجرامُ حماسَ وتقتيلُها لهم فلم يضبطوا ردودَ أفعالِهم بالشرعِ؟ الذي أجزمُ به أنَّ تلكَ الأصوات خليطٌ مِن هذا كلِّه .
وأقول في هذا المقامِ : إنَّ كثيرًا مِمَّا رأيناه مِن الدعواتِ غلوٌّ ولا شكَّ ، وليس صاحبُه أهلٌ للنصرِ ، ولا للنُّصرةِ فيما يريد ، بل هو حقيقٌ بأن يؤخذَ على يدِه ، ويُنكَرَ عليهِ ، ساعيًا كانَ إلى تلك الأعمالِ أم محرِّضًا عليها .
وأجزمُ بأنَّ تلك الدعواتِ لا تصدرُ مِن أهلِ العِلمِ والحكمةِ ، ولا يؤيِّدُها مشايخُنا في أفغانستان قادةُ قاعدةِ الجهادِ ، ولا غيرُهم مِن المنتسبين إلى العلمِ ، حتَّى مَن يكفِّرُ رؤوسَ حماس .
وأقول لإخواني السلفيين في غزةَ : أيُّها الأحبةُ ، إنَّ القلوبَ لتحزنُ ، وإنَّ العيونَ لتدمعُ ، وإنَّ المصابَ عظيمٌ ، وإنَّ الخطبَ لجللٌ ، ولكَن ليس لنا أن نقول إلا ما يرضي اللهَ ، أو نفعلَ إلا ما وافقَ شرعَه ، وليس لنا أن نشفيَ صدورَنا بما يَسخطُه اللهُ!
وإنَّ مِن أخصِّ خصائصِ المؤمِن أن يُسلِّمَ بما قدَّرَه اللهُ ، وإنَّ مِمَّا ينافي التسليمَ بما قدَّرَه اللهُ : ما نراهُ اليومَ مِن غلوٍّ في التكفيرِ ، ودعواتٍ إلى سفكِ الدماءِ انتقامًا بما يجاوزُ الشرعَ ! فليَعلمَ مَن وقعَ في هذا غضَبًا أنَّه مِنه جاهلية ، فليَتب منه ولا يزيَِّنْه له هواه ، واللهُ يعفو عنا جميعًا .
واعلموا أنَّ ما أنتم فيه يطيشُ بعقلِ الحكيمِ ، ويذهبُ بتحقيقِ العالِمِ ؛ فإنَّ الحُزنَ والغيظَ والغضبَ انفعالاتٌ نفسية ، والظلمَ وفقدَ الأحبةِ والمطاردةَ أحوالٌ مؤثِّرةٌ ، والانتقامَ والمعاملةَ بالمثلِ شهواتٌ ، وإنَّ هذا كلَّه يكونُ في النفسِ (هوى) خفيًّا عن صاحبِه ، يقارِنُ التأولَ ؛ فيؤثِّرُ في النظرِ ، ويُخرجِه من دائرةِ الاجتهادِ المحضِ ، إلى الاجتهادِ المشوبِ بهوى ، فيقلُّ تأثيرُه أو يكثُر ، بحسب عِلمِ المرءِ وديانتِه وتقواه وعقلِه وحكمتِه ؛ ثمَّ تخرجُ الأحكامُ بحسبِ ما غلبَ مِن الأضدادِ : العِلمِ والإخلاصِ ، أو الجهلِ والهوى ، والعالِمُ قد يشوبُ عِلمَه جهلٌ وقصدَه هوى ، إلا أنَّه لا يكونُ ذا جهلٍ أو هوى محضٍ ، ولذا فإنَّ العالِمَ وإن أخطأَ بقولٍ مرجوحٍ أو شاذٍّ ؛ فإنَّك ترى في كلامِه روحَ الشريعةِ ونَفَسَ المتشرِّعةِ ، وفي أحكامِه القربَ مِن أحكامِها.
وأمَّا الجاهلُ فإنَّك راءٍ مِنه الشذوذَ منهجًا ، والغلوَّ سمةً ، والخطأَ لازِمًا ؛ قال الإمامُ الشافعيُّ : (ومَن تكلَّف ما جهِل وما لم تُثبِتْه معرفتُه كانت موافقتُه للصوابِ -إن وافقه مِن حيثُ لا يعرِفُه- غيرَ محمودةٍ ، والله أعلم ، وكان بخطئه غيرَ معذورٍ ، إذا ما نَطَقَ فيما لا يُحيطُ عِلمُه بالفَرْقِ بين الخطأِ والصوابِ فيه) [الرسالة 53] ، ويروى عن ابن عباس : (مَن قال في القرآن برأيه فقد أخطأ) ، وإنَّ الكلامَ في الشريعةِ إما أن يكونَ عن علمٍ ونظرٍ في مصادرِها ، أو عَن رأيٍ محض ، والجاهلُ ليس عندَه علمٌ ؛ فإنَّ للنظرِ في دقائقِ الوحيين آلةً ليسَت عِندَه ، وشروطًا ذكرها أهلُ العلمِ لم يحصِّلْها ، فما هو إلا الرأيُ المحض ، وإن تأولَه عِلمًا .
فمثلُ هذا فرضُه التقليدُ في الأحكامِ والنوازلِ إجماعًا ، ولا يجوزُ له التصدُّرُ لها ، وقد قال تعالى : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، قال الحافظُ أبو عمر ابن عبد البر – رحمه الله- بعد ذِكرِه آثارًا عن السلفِ في ذمِّ التقليدِ : (وهذا كلُّه لغيرِ العامَّةِ ؛ فإنَّ العامةَ لا بُدَّ لها مِن تقليدِ عُلمائها عِندَ النازلةِ تنزلُ بها ؛ لأنَّها لا تتبين موقع الحجةِ ، ولا تصل بعدمِ الفَهمِ إلى عِلمِ ذلك ؛ لأن العلمَ درجاتٌ لا سبيل مِنها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامَّة ِوبين طلبِ الحجةِ ، والله أعلم .
ولَم تختلفِ العلماءُ أن العامَّة عليها تقليدُ علمائها ، وأنَّهم المرادون بقول الله عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، وأجمعوا على أنَّ الأعمى لا بُدَّ له مِن تقليدِ غيرِه مِمَّن يثقُ بمَيزِه بالقِبلةِ إذا أشكلت عليه ، فكذلك مَن لا عِلمَ له ولا بصرَ بمعنى ما يَدين به ؛ لا بُدَّ مِن تقليدِ عالِمِه .
وكذلك لم يختلف العلماءُ أن العامةَ لا يجوز لها الفتيا ، وذلك -والله أعلم- لجهلِها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقولُ في العلم) [جامع بيان العلم 2/230] . وهذا مع عمومِه على المؤهِّلِ في الأحكامِ ، يتأكَّدُ في المسائلِ دقيقةِ المنزعِ كتفصيلاتِ ما يُعتبرُ مِن الأوصافِ مانعًا ، واعتبارِ الأحوالِ والقرائنِ والاحتمالاتِ ونحو ذلك ، وفي المسائلِ جليلةِ القدْرِ كمسائلِ تكفيرِ الأعيانِ وقتالِ الطوائفِ ، والسياسةِ الشرعيةِ التي زلَّ فيها علماءُ لم يجاهدوا ، ومجاهدون لم يَعلموا ، وعلماءُ مجاهدون لم يستشيروا ؛ فزلُّوا وخالفوا الشريعةَ وأفسدوا مِن حيثُ لَم يشعروا .. فأينَ مِن مراعاةِ هذا بعضُ إخوانِنا -الذين تظهرُ عامِّيَتُهم في كلماتِهم- إذ يفتونَ بكفرِ أقوامٍ واستباحةِ دمائهم؟ بل قد رأيتُ مَن ينهى مستفتيًا في دماء عن الاستفتاء فيها قبلَ سفكِها ، ورأيتُ مَن يصرِّحُ بأنَّه لا ينتظرُ فتاوى العلماء ليَحكم ، ورأيتُ مَن يحرِّضُ على نساءِ وذُرِّياتِ القومِ ، فما دينُ الخوارجِ إن لم يكن هذا دينُهم؟
ولا يؤهِّلُ المرءَ للفتيا في هذه المسائلِ العِظامِ أن يحصِّلَ مِن العلمِ طرفًا أو يعرفَ من الأدلةِ ظاهرًا يستدلُّ به ؛ فليحذر إخوانُنا من الاغترارِ بما يزيِّنُ به هؤلاءِ أقوالَهم ، فلا يكادُ الباطلِ يكونَ محضًا بل يشوبُه حقٌّ ويستدلُّ له بما يظنُّه صاحبُه دليلاً مِن عامٍّ خُصَّ أو متشابهٍ أُحكِمَ أو قاعدةٍ عامةٍ ونحو ذلك .. ولا يَغترَّ إخواننا بأن وَجَدوا عندَهم ما جهلوه هُم فيظنوهم من أهلِ العِلمِ ؛ فإنَّ الجاهلَ لا يرى مَن هو في العِلمِ فوقَه إلا وظنَّه عالِمًا ، ولا يكادُ يميِّزُ بينَ العالِمِ وغيرَه ، وكَم اغترَّ شبابُ الإسلامِ قديمًا وحديثًا بمَن عندَه شيءٌ مِن آثارِ العِلمِ يجادلُ بها فظنوه عالمًا ، والواجبُ على هؤلاءِ : أن لا يثقوا إلا بمن وثَّقَه أهلُ العِلمِ وصيارفتُه ، وأذنوا له بالاجتهادِ والفتيا ، فهؤلاء هم مَن يقلِّدُ مِنهم العاميُّ أوثقَهم عندَه ديانةً وعِلمًا .
وليس المقامُ مقامَ بسطِ الكلامِ في هذه الآفةِ التي أصابَت الصحوةَ الإسلاميةَ بتياراتِها كافةً ردًّا على متعصِّبةِ المذاهبِ المقلِّدةِ ، أعني آفةَ نبذِ التقليدِ مطلقًا ، ودعوى الاجتهادِ مِمَّن ليس بأهلٍ ، وجعلِ الاجتهادِ في الدينِ وأحكامِه مباحًا للمثقِّفِ والمبتدئِ بل العاميِّ ، إلا أنَّ مرادي من الإشارةِ إليها تقريرُ أنَّ الواجبَ على إخوانِنا أن يتقوا اللهَ ، ويتحرَّوا ما عليهِ علماؤهم ، ولا يجتهدوا في الفتيا ، وأن يحذروا أن يغتروا بأنصافِ المتفقِّهةِ ، أو أن يتبعوا فتاوى المجاهيل ، أو يتأثروا بما رأوا الكثرةَ عليه ؛ فإنَّ الكثرةَ مِن العامةِ في الفتنِ كقطراتِ الماءِ المجتمعةِ ، تتوجَّهُ تيَّارًا قويًّا مندفعًا حيثُما حُفِرَ له يجرفُ الشَّجرَ الرَّاسخةَ جذورُه .
إنني اليومَ أدعوكم إلى ما دعاكم إليه من قبلُ مجددو دينِ الأمةِ في التوحيدِ والجهادِ .. فعليكُم باتباعِ أهلِ العِلمِ الثِّقاتِ ، وعليكُم بأهلِ الاتزانِ والعقلِ مِنهم ، وما أكثرَهم! فهذا أبو يحيى الليبيُّ ، وهذا عطيةُ الله ، وهذا أبو الوليد الأنصاريُّ ، وهذا أبو اليزيد -وهو طالبُ علم- ، وهذا أيمنُ الظواهري -وهو مِن أهل الحكمة والتجربة ، ولا يصدر إلا عن أهل العلم- ، وهذا أبو قتادةَ الفلسطيني ، وهذا أبو بصير الطرطوسي ، وهذا أبو محمد المقدسي ، وغيرهم كثير .. لم يذهب منهم أحدٌ إلى تلك المذاهب البعيدةِ عن الشرعِ والحكمةِ ، نعم قال بعضُهم بكفرِ رؤوسِ حماس ، وهو في هذا مخطئٌ ، ومخالفٌ لأكثرِ إخوانِه ، إلا أنَّ أحدًا مِنهم لم يقل بكفرِ المنتسبين إلى حماس كافةً ، ولم يفتِ أحدٌ مِنهم -فيما أعلم- بقتالِها ابتداءً وإعلانِ الحربِ عليها ، وأكثرُهم قد عذروا القومَ –ولم يصوِّبوهم- في تركِهم الحكمَ بالشريعةِ بتأولاتٍ ظنَّوا بها أنَّ لهم رخصةً وأنَّهم عاجزين ومكرهين ، وأنَّهم بما يفعلون يتدرجون في التطبيق... إلخ ؛ ووجه الشركِ في الحكمِ هو الخروجُ عن شريعةِ اللهِ والحكمُ بغيرِها ، وهم قد تأولوا أنَّ ما هم فيه من الخروج عن الشريعةِ هو عين ما تأمرهم به الشريعة ؛ وهذا يجعلُ التأولَ –في هذا المحلِّ- مانعًا معتبرًا لو تحقَّقَ ، وهم –كما قدمتُ- لهم التأولات المذكورة وغيرُها ، وهذا ما قدَّره أهلُ العِلمِ فعذروهم به ولم يكفروهم مع إنكارِهم عليهم وإبطالِهم لمذهبهم ، قد حُفِظَ عن كثير من العلماءِ المجاهدين وطلبةِ العلمِ منهم إعذارُ هؤلاءِ مع وقوعِهم فيما وقعوا فيه ، مِنهم الشيخ أبو الوليد الأنصاري ، وعطية الله ، والشيخ العالِم المحقق أبو قتادة ، والشيخ أبو يحيى ، والشيخ أبو اليزيد ، (بل والشيخ أبو النور نفسه) ، وغيرهم ، فضلا عن مشايخِ غيرِ ما يسمى بتيار الجهادِ ممن ناصح حماس وأنكر عليهم سبيلَهم ، كالشيخ ابن غنيمان ، والشيخ ابن جبرين رحمه الله ، والشيخ الحوالي ، والشيخ الطريفي ، والشيخ الصادع بالحقِّ الملقب بفقيه مصر محمد ابن عبد المقصود شفاه الله ، وكثيرٌ غير هؤلاء .. فتحرَّوا لدينِكم هو أتقى لكم ، وقدِّموا مِن العلماء أرسخَهم عِلمًا وأهدأهم نفْسًا وأقدَمَهم تجربةً ، لا مَن وافقَ اجتهادُه أهواءً عرَضَتْ لكم ، فإنَّ العالِم قد يفتي بما يخالفُ الشريعةَ ويؤجَر ، ويتبعُه على فتياه أقوامٌ ويأثمون .
وفي الوقفةِ التاليةِ كلامٌ في هذا مِن جهةِ اعتبارِ المصلحةِ والسياسةِ .
الوقفةُ الخامسةُ وفيها : أنَّ هذه الجريمةَ كما ذكرتُ ليست كسابقاتِها ، وقد ذكرتُ في تعليقٍ سابقٍ على جريمةِ الصبرةِ بأنَّ حماسَ ستُسقِطُ -بغرورها وصلفها- نفسَها بنفسِها ، وما علينا إلا أن نعينَها على ذلك وندفعَها إليه ، وأن لا نقعَ فيما شأنُه تأخيرُ سقوطِها مِن أعيُنِ المسلمينَ . واليومَ صرنا نرى طوائفَ السلفيين ، والحركاتِ الإسلامية ، وعامة المسلمين ، يتكلمون في سياسةِ حماس ، ويتنبهون إلى إجرامِها بعد أن كانوا يُصمُّون آذانهم عن كلِّ كلمةٍ تقال عنها ، ويتعامون عن رؤيةِ سوءاتِها ثقةً فيها .. وما هذا بتدبيرِنا وحسنِ أفعالِنا ، بل هي سُنَّةُ اللهِ في الظالمِ ، وهو أثرُ الحمقِ والغرور وسكرة السلطة ، وأنتم ترون ضعفَ أصواتِ المرقِّعين لها في أسماعِ المسلمين ، وتلاحظون تغيُّرًا جليًّا في موقفِهم منها .. وما تلاحظونَه أنتم تلاحظُه حماس أيضًا ، وهذا هو سببُ تخبُّطِهم في الكذبِ على غيرِ العادةِ (أعني التخبطَ لا الكذبَ فإنَّه لهم عادةٌ ولهم فيه براعة ، والمرء على دين خليلِه ، وأخلاؤهم معروفون بالكذب) ، وهو سببُ مسارعتِهم في التبريراتِ والتصريحاتِ غيرِ المدروسةِ ، ولم يجدوا حجةً لها عند الناس وجه : إلا إعلان الإمارة .. وغايةُ أثرها على الناس : أن لاموا إخواننا رحمهم الله ، مع إنكارِهم لإجرامِ حماس .. فالواجبُ علينا مع هذا أن لا نقدِّمَ لحماسَ ما تستعينَ به علينا ، وأن لا نشفيَ صدورَنا بكلامٍ تقطفُ به حماسُ رؤوسَ إخوانِنا ، فما أسعدَ حماسَ بظهورِ مَن يكفِّرُ المنتسبين إليها ويدعو إلى قتالِهم! فإنَّ هذا مصدِّقٌ لما ادَّعتْه زورًا على إخوانِنا أبي النور وتنظيم الجند ، وإعلامُ حماس الرسميُّ والمتعاونُ -كالجزيرة- سيضخِّمُ تلك البيانات ، وسيُعرِضُ عن نصِّ أبي النورِ وبياناتِ الجند بعدم تكفير المنتسبين إلى حماس وعدم الدعوة إلى قتالِهم ، وسيُعِدُّ افتراءاتٍ جديدةً (مُحرَّرةً) .
وإنَّ دعوتَنا السلفيةَ الجهاديةَ اليومَ -في غزةَ خاصَّةً- تنتصرُ بالإعلامِ والأقلامِ -بعد طاعةِ الله- ، فتأييدُ المسلمين ووصولُ دعوتِنا إليهم مِن أهمِّ ما ينبغي أن نحرصَ عليه ؛ فقوةُ حماس في سمعتِها التي اكتسبتْها مِن جهادِها وصبرِها ، ثم بدأت تخسرُها بظلمِها وإجرامِها ، وبعضُنا يسعى من حيث لا يدري في إحيائها .
وقوَّتُنا في إيماننا والتزامُنا بشرعِ ربّنا -ومنه الأحكامُ على الناسِ- ، وفي طلبِ أسبابِ التمكين ، ومِن أهمِّها : أن نسعى لإزالةِ ما علِقَ في أذهانِ الناسِ من أكاذيبَ شوَّهَتْ تصوَّرَهم لدعوتِنا السلفيةِ ، وهذا بإظهارِ ذلِّنا لأهلِ الإيمانِ ، وصبرِنا على الأذى ، وحديثنا إياهم بما يعرفون ، وإعراضنِا عَن فعلِ ما يُكذِّبونَ نسبتَه إلى دينِ الله ما وسعنا ذلك شرعًَا ، وأن نتجنَّبَ تصديرَ غيرِ العلماءِ ، والاستقلالَ بالآراءِ ، وردود الأفعالِ التي دافعُها التشفي وإذهابُ الغيظِ .. فإنَّ هذا ما يريدُه القوم ويسعون إليه .
وأعظمُ ما يضادُّ إيصال دعوتِنا إلى الناسِ -بعدَ أن اقتربَت مِنهم- ، ويسترُ عن أعينِهم سوءاتِ حماس ، ويعينُ المجرمينَ على أن يئدوا دعوتَنا ويستأصلوا إخواننا ، ما يعملُه بعضُنا -غيظًا أو جرأةً على الدين لا فيه- مما سلَف إنكارُه ، من الأحكامِ والتصريحاتِ والأفعالِ .
وأمثلُ ما نفعلُ : أن لا نعطيَ القومَ فرصةً لتبريرِ إجرامِهم ، وأن ننشطَ –بحمَلاتٍ منظَّمةٍ على الشبكةِ وفي غزة وفي مجالسِ أهلِ العِلمِ وسائر وسائل الإعلام- لتوثيقِ الأحداثِ وبيان الحقائقِ ، لزيادةِ جلاءِ الأمرِ ، ولإيصالِ الحقيقةِ إلى المسلمين داخل غزة وخارجَها ، فاليومَ يومُ جندِ الإعلامِ ، كونوا مِنهم ، أو لا تكونوا مع حماس ضِدَّهم!
وأقترحُ أن ينظِّمَ مركزُ اليقين -أو أي منبر إعلاميٍّ عُرِفَ بالإتقانِ- حملةً إعلاميةً ، يقدِّمُ فيها تقاريرَ عن ما حصلَ ، تحتوي على التسجيلاتِ المرئية والمسموعةِ ، وتفريغِها النصيِّ ، وبياناتِ حماس ، وما يكذِّبُها من تصريحاتِ الشيخِ وبياناتِ الجُندِ ومن الوثائق الصوتية المذكورةِ ، بحيث تقدَّمُ هذه التقارير بأسلوبٍ متقنٍ ، وبعرضٍ للحقائقِ مجردٍ عن الأحكامِ ؛ لئلا تؤثِّرَ في نفسِ القارئِ ، ويَحسنُ أن تُعَدَّ تقارير فيها حكايةٌ للأمرِ منذ مراحلِه السابقةِ ، بذكرِ ما حصلَ في الصبرةِ وأخواتِها ، لبيانِ حقيقةِ مراحلِ حربِ حماس للسلفيةِ وإجرامِها وافترائها عليهم بالوثائقِ والبيِّناتِ . [وإنَّ المكالمةَ التي سجلَها أحدُ الإخوةِ مع أحدِ المجاهدين المحاصَرين وهو يذكِّرُ جنودَ حماس بالله ، ويَذْكُرُ أنه وإخوانَه يصلون خلفَهم ، ولا يكفِّرُونهم ، وأنَّ المجاهدين يتجنَّبُون ما لا تريده حماس مما يُشرَع فعلُه ويجوز تركه دفعًا للمفاسد ، وأنَّهم إنما يريدون الدعوةَ إلى الله ونبذ الشرك ، وقتال اليهود ، وغير ذلك مما لا تشوبه شائبة .. إنَّ هذا لأشدُّ وقعًا على قادةِ حماس مِن قنابلِ اليهودِ ؛ لكرهِهم لانتشارِه وهدمِه صروحًا من الأكاذيب بنوها ، ولهو أشدُّ وقعًا على المخلصين المخدوعين منهم مِن قنابلِ اليهودِ ؛ لمعرفتِهم به أنَّهم قاتلوا إخوانَهم المجاهدين ظلمًا وعدوانًا ونصرةً لحزبٍ لا لله ، ورِفعةً لكراسي قادتِهم لا لشرعِ الله .
وإنَّ تلك الكلمات لتقدِّمُ دعوتَنا إلى الأمامِ بما يزيد عن تأخيرِ أكاذيب حماس لها ، فأسأل الله أن يتقبل ذلك المجاهدَ ويغفر له ، ويفكَّ أسرَه إن كان أسيرًا ، وأن يجعل مَن بقيَ بعدَ تلك العصابةِ المؤمنةِ يقتدون بها في إنصافِها والتزامِها بشرعِ ربِّها ، ولا ينقادون لدعواتٍ تسرُّ العِدا وتضرُّ الأولياء وتؤَخِّرُ الدعوةَ وتفرِّقُ الصفَّ ، وأشيرُ هنا : إلى أنَّ أولئك –خلافًا لضرر دعواتهم- قد خذلوا إخوانَهم ووقفوا عثرةً في طريقِ الوحدةِ مِرارًا لأعذار واهية ، والعارفُ عارفٌ ، وحسبي الإشارة! ] .
ولستُ فيما أنكرتُ آخذًا جانبَ حماس أو خاذلاً لإخواني ؛ فصديقُك مَن صَدَقك لا مَن صدَّقك ، ومخالفةُ هوى الصاحبِ لمصلحتِه مِن صدقِ صُحبتِه ، والنصحُ للإخوةِ حقٌّ فرضَه اللهُ تعالى ، ودعوتُنا أمانةٌ في أعناقِنا جميعًا ، ومِن العارِ تركُها لمَن يقضي عليها بعداوتِه أو سوءِ تصرُّفِه .
الوقفةُ السادسةُ : مع سفكةِ دماءِ المسلمين .. ولستُ بواقفٍ مع الآمرِ بل المأمورِ ؛ أعني مَن تربَّى في المساجِدِ وحفظ كتاب الله ، ثمَّ انقلبَ إلى قصفِ المساجدِ وقتالِ حفظةِ كتابِ اللهِ! من حضر مجالسَ العِلمِ ، ثمَّ انقلبَ يقاتِلُ أهلَ العِلم .. مَن كان إرهابيًّا يقاتِلُ اليهودَ ويخشاه الأمريكان ثمَّ انقلبَ جنديًّا من جند الحربِ على الإرهابِ .. يقاتلُ من يعيقُ قيامَ دولةٍ لحِزبِه يرضى –بظنِّه- عنها الأمريكان ، ويتعاون معها الطواغيتُ .. "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة .. فإن العزة لله جميعا" ..
لستُ بما في قلبك بعليم ، ولكنَّ الله به عليم ، وأنتَ لا شكَّ تعلمُه .. أطاعةً للهِ تقاتلُ إخوانكَ وتطارُدهم وتؤذيهم أم لطاعةً كبراءِ جماعتِك؟ أنصرةً لدينِ اللهِ خرجتَ تقاتلُ مَن يسمِّيهم صحبُك في مجالسِهم "بالتلفية" و"التكفيريين" أم نصرةً لحزبِك؟
لستُ أدعوكَ هنا إلى شيءٍ ، إلا إلى التأمَّلِ في قلبك ، والنظرِ في نفسِك ، وتذكُّرِ نشأتِك في هذه الجماعة : أأرضعوكَ ناشئًا الولاءَ والعصبيةَ للمسلمين أم للإخوانِ المسلمين؟ أغرسوا في نفسِك تعظيمَ أوامرِ اللهِ وطاعتَه أم تعظيمَ أمرِ المسؤولِ وطاعتَه؟
وإنِّي سائلك : أعندكَ فيما سفكتَ برهانٌ تطمئنُّ إليه نفسُك ، وترجو أنَّه يومَ القيامةِ عذرُك؟
أدعوكَ وأنا لك ناصح : أن تنظرَ فيما فعلتَ متجرِّدًا مِن الهوى ومن الولاءِ لكلِّ ندٍّ لله إلا ولاءً خالصًا لله ، وأن تطَّلِعَ على كلامِ مَن سفكتَ دماءًهم سمعًا للقومِ وطاعةً وهو منشورٌ في الشبكةِ بالبياناتِ والخُطَبِ : أبان كما نقلَه كبراءُ قادتِك لك (تكفير لك وللمسلمين) أم تبيَّن لك زيفُه ، وأنَّك سفكتَ دم عالمٍ ومجاهدين بما ليس فيهم؟
اعلم أنَّك تبعثُ وحدَك ، وتحاسَبُ وحدَك لا يجيبُ عنك مرشدُك ؛ فتجازى على عملِك ، ولا ينفعُك عِندَ اللهِ عُذرًا فيما فعلتَ قولُك "ربنا إنا أطعنا سادتَنا وكبراءنا" .. والعاقلُ مَن تدبَّرَ حالَه ، وعظَّم حرماتِ اللهِ ، ولم يترك نفسَه وما تهوى ، ولم يُسلِّم قِيادَه إلى غيرِه يقوُده إلى حيثُ لا يدري .. وانظر كيف آلَ حالُ (الشيخ المجاهد) سياف ، ورباني ، وطارق الهاشمي ، وأتباعِهم .. إنَّها سبيلٌ مَن وضعَ قدمَه في أوَّلِها جرفتْه وهو لا يشعرُ إلى ما كان مِن قبلُ يحذرُه ويتَّقيه ؛ ثمَّّ يقع راضيًا فيه .. احذر يا عبدَ الله قوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) .. وتأمَّل قولَه تعالى : (فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) .. وكلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة .
وهذه آخر الوقفات : وأدعو فيها أهلَ العِلمِ ذوي الكلمةِ المسموعةِ أن يستشعروا الخطرَ ، ويهتمُّوا بالأمرِ ، فإنَّ هذه الأوقات فيها عواملُ كثيرةٌ لما نحذرُ وتحذرون ، ونكرَه وتكرهون : فإنَّ فيها الظلمَ ، والسَّجنَ ، وسفكَ الدماءِ ، وجرأةَ السفهاء ، وقلةَ العلماءِ ، انتشارَ الفتَّانين العملاء ، وظهورَ الأهواءِ ، وتسارُعَ الأحداثِ ، وقلةَ الصادعين بالحقِّ ، وكثرةَ المزيِّنين للباطلِ ، والمتحيِّزين للظالمِ ، فماذا سيصنعُ مَن أحاطَ به هذا كلُّه؟ ولمن سيسمَع؟ اعلموا أنَّكم إن لم تتكلموا بالحقِّ تكلَّم غيرُكم بالباطلِ ، وإن لم يسمع الشبابُ صوتَكم فسيستمعون إلى غيرِكم ، وإن لم يُذهِب غيظَهم حججُ الهدى أذهبَه اتِّباعُ الهوى ، والخطبُ لا يكادُ يثبتُ فيه العالِم العاقلُ إن لم يثبته الله ، فكيف بعامَّةِ الشبابِ؟ فأدعو مشايخَنا وأخصُّ مِنهم أبا يحيى الليبيَّ وصاحبَه عطية الله والشيخَ الظواهري أن لا يكتفوا بتعليقٍ على الحدثِ ، بل يجعلوا لإخوانِهم في غزةَ نصيبًا عظيمًا مِن خُطَبِهم مستقبلاً ، وحظًّا وافرًا مِن توجيهاتِهم تَكرارًا ؛ لبيان حُججِ الشرعِ ، والدلالةِ إلى مسالكِ الحكمةِ وحسن التصرُّف ، وليعلموا بأنَّ لهم قادةً ومشايخ يطَّلعون على أخبارِهم ويعلمون أحوالَهم ويهتمُّون بتوجيههم ، وليشعروا بثقلِ مسؤوليتِهم ، وبأنَّهم طلائعُ الدعوةِ السلفيةِ وليسوا بمعزلٍ عنها .. وإلا فإنَّ في الزوايا مَن سينقلبُ إلى الصَّدْرِ ، وحسبي هذا .
أسألُ اللهَ تعالى أن يتقبَّلَ عبدَه أبا النور وعبدَه أبا عبد الله ، وسائرَ القتلى شهداءَ ، وأن يفكَّ قيد إخواننا الأسرى ، وأن يشفيَ الجرحى ، وأن يحفظ دعوةَ التوحيدِ والسنةِ والجهادِ في غزةَ مِن كيدِ الأعداءِ ، وتربُّصِ الخصوم ، وأن يجعلَ قيادَها بأيدي علمائها على الكتابِ والسنةِ ويقيَها شرَّ تصدُّرِ الجهالِ ، وأن يبصِّرَ إخوانَنا بمسالكِ النصرِ وأسبابِ التمكين .
اللهم اجمع على الحقِّ كلمةَ المسلمين ، واحقن دماءهم ، وقهم الفتن في الأقوال والأعمال . وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه/ عبد العزيز بن شاكر الرافعي .
• تنبيهات :
الأول : كتبتُ أصلَ المقالةِ بعد الجريمةِ بيومين ، وأخَّرْتُ نشرَها ؛ لتُقرأ وقد هدأت النفوسُ وذهبَت سكرةُ الغضبِ (وإن بقي هو) .
الثاني : أضفتُ بعضَ الفقرات – ووضعتها بين معقوفين [..] - بعد سماعي لتسجيلات صوتية فيها تهاتُف المجرمين وقتَ قصفِهم لإخواننا ، ومكالمةً بين أحدِ المجاهدين المحاصرين وأحدِ إخوانِه قبيلَ الاشتباك .
الثالث : ليس نشرُ المقالِ مِن إثارةِ الفتنةِ وشحنِ النفوسِ ؛ فإنَّ ما حصلَ لم يكن سببُه غضبٌ أو اندفاع أو ردة فعل غير محسوبة من حماس ، بل هو سياسةٌ متَّبعةٌ يُعَدُّ لها بالتآمرِ والحمَلاتِ الإعلاميةِ وشحنِ أتباعِهم واستفزازِ الإخوةِ … إلخ . والسكوتُ عن ذلك إذنٌ بمثلِه .
أضافَت حماسُ يومَ الجمعةِ الماضي جريمةً إلى جرائمِها السابقةِ ، وليسَت هذه الجريمةُ أعظمَها ؛ فإنَّ اتَّخاذَ الدستورِ الوضعيِّ -مرجِعًا في الحُكم- والقوانينَ -نصوصًا للتحاكمِ- أعظمُ ، وليسَت الأولى مِن جِنسِها ؛ فقد سبقتْها جرائمُ قتلٍ وتعذيبٍ وأسرٍ لعبادِ الله الموحِّدين ، أشهرُها جريمةُ الصبرةِ المعروفةُ .
ولكن ما يميِّزُ هذه الجريمةَ أنَّنا لا نحتاجُ معها إلى وصفِ أحداثِها وذِكرِ ما حصلَ فيها ؛ فقد شهِدها القاصي والداني وعَرَف الناسُ كثيرًا من تفاصيلِها ، ويميِّزها أيضًا أننا لن نحتاجَ إلى تقصُّدِ ذِكرِ أكاذيبَ حماس وافتراءاتِها لتفنيدِها ؛ فالرجلُ المفترى عليه عَلَمٌ معروف ، اسمُه يكفي لتكذيبِ حماس ، وحكايةُ دعاواهم عليه تفي بغرضِ ردِّها ، وافتراءاتُهم المتناقضةُ تأكلُ بعضَها .
وحسبي أن أقول في هذا المقام : إن قتلَ حماس لأبي النور المقدسي لمبشِّرٌ بانبلاجِ النور ، وإن هدَّها لبيتِه وبيتِ ربِّه لمبشِّرٌ بانتشارِ الهُدى ، وكأنَّ هنيَّةَ المجرمَ قد قال قبلَ قصفِ المسجدِ : باسمِ اللهِ ؛ ربِّ هذا الشيخِ (أبي النور) !
وأقول : حُقَّ لأبناءِ الدَّعوةِ السلفيةِ أن يتلوا في هذا المقامِ قولَه تعالى : (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) ، وإذا كان الفتحُ الذين نزلت فيه السورةُ صلحًا مع المشركين كرِهَهُ بعضُ الصحابةِ أولَ الأمر ، فإنَّني أسمِّي مقتلَ أبي النور وإخوانَه -ظُلمًا وإجرامًا- أسمِّيه فتحًا ، وإن كرهتْه نفسي وكرهه إخواني ؛ (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ، أقول هذا ثقةً باللهِ ، وبعدَ تأمُّلِ سننِ اللهِ الشرعيةِ والكونيةِ ، وليس إلا أن يُريَ أبناءُ الدعوةِ ربَّهم مِن أنفسِهم أهليةً لهذا الفتح ؛ بالتزامِهم بالشرعِ ، وتوكُّلِهم على اللهِ ، واجتهادِهم في العملِ بأسبابِ التمكينِ ؛ فيريهم الله الفتحَ المبينَ لهذهِ الدعوةِ المباركةِ .
إنَّ حماسَ بقتلِها لأبي النورِ قد خطَت آخرَ خطواتِها إلى القضاءِ على حركةٍ إسلاميةٍ مجاهدةٍ ، لا أعني جماعة جند أنصار الله ، بل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، التي نشأت ، وجاهدت ، وظُلِمَت ، فصابرَت ، ثم تمكَّنت ، فتنكَّرَت ، فطغتْ وتجبَّرتْ ، ثم هي تبيدُ قريبًا إن شاء الله . وهي في حياتِها قد مرَّت بأشياءَ متغايرة ، وأحوال متنافرة ؛ فقد قامَت مقام الجهاد ، ثم قامت مقام التشريع ، وقد قادها ياسين ، وقادها مشعل ، وقد ساد فيها الرنتيسي ، وساد فيها هنية ، وقد قاتلت أعداءَ الله ، وقتَّلَت أولياءه ، وقد آذاها الطواغيت قتلاً وأسرًا وافتراءً ، فقامَت هي فينا مقام الطواغيت قتلا وأسرًا وافتراءً .
لا أقول إنَّ غلَبتَها تبيدُ غدًا أو بعد شهر ، ولا أقول إنَّ ما فعلتْه مِن الجرائمِ قبلُ لم يكن خطواتٍ إلى الزوال والاستبدال ، ولكنَّ ما فعلَتْه هذه المرة كان مختلفًا بالكليةِ كما ذكرتُ ، وبه فقدَت دعائمَ كانَت تسندها ، وسُتُرًا كانَت تحجبُ عن الناسِ سوءَتها ، وسبحانَ مَن له في كلِّ شيءٍ حِكمة ، وإذا أراد اللهُ إهلاكَ قريةٍ أمرَ مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ .
فحماسُ قد ذهبَ بها الحماسُ إذ فارقته الحكمةُ ، وقارنه رقةُ الديانةِ ، والتعصُّبُ للحزبِ ، والغرورُ بالقوةِ ، والصَّلفُ في الرأيِ ، فذهب بها الحماسُ إلى تركِ مراعاةِ ما يُعظِّمُ المسلمون حُرمتَه ، أعني دمَ المسلمِ وبيتَ الله ، وإلى تركِ مراعاةِ ما يعظِّمونَه هم ، أعني ما يسمَّى الرأيَ العامَّ ، وإذا كانوا قد تركوا الأوَّلَ لمَّا قتلوا صائب دغمش وإخوانَه -رحمهم الله- في جريمةِ الصبرةِ ، فإنَّهم قد راعَوا فيها الثاني بتوطئتِهم لها برميِ المجاهدين بأنَّهم منفلتين ، وخوارج ، وقوادين ، ونحو ذلك ، ساعدَهم على ذلك أنَّ الإخوةَ مغمورين لا يعرفهم أحدٌ ، وساعدَهم عليه أشياء عشائرية وعائلية أحاطَت بالإخوةِ ، فصدَّقها كثيرٌ مِن الناسِ .. ولكنها اليوم لم تراعِ أيَّ الأمرين ، فهيهات هيهات أن يُصدِّقها اليومَ أحدٌ! حاشا المتعصبين لها ، والجاهلين بأحوالِها وحالِ الشيخ الشهيد -نحسبه والله حسيبه- أبي النور المقدسي ، أما الناسُ في غزة فيعرفونَه حقَّ المعرفة ، يعرفونَه رجلاً خلوقًا خيِّرًا طالبًا للعِلمِ وناشرًا له في خطبِه ودروسِه ، ويعرفونَه بأعمالِ الخيرِ والبِرِّ ، ولم يعهدوا مِنه غلوًّا في تكفيرٍ ؛ ولم يسمعوا منه تكفيرَ المنتسبين إلى حماسَ فضلا عن سائر الشعبِ كما كَذَبَتْ حماسُ ، بل هو كما نعرف عنه ينهى عن هذه المسالكِ ، وقد سمعناه في خطبتِه يقول عن أبناءِ حماس : هم إخوانُنا بغوا علينا ، وجماعةُ جند أنصار الله مثله كما صرَّحوا .
وهم كذلك براءٌ مِن تفجيرِ محالِّ المعاصي كما بيَّنوا ، وهم والشيخُ أعداءٌ للعلمانيين في فتح وغيرِها ، فماذا بقيَ من تهم حماس؟ بقي تقاضي الشيخ لراتبٍ من فتح لعملِه طبيبًا! فسبحان من جرَّأ القومَ على اتِّهامِ الرجلِ بما هم واقعين فيه جِهارًا! فما الذي يجعلُ راتبَ أبي النور حرامًا وعمالةً وهو يصرِّح بمعاداة العلمانية ، ويجعلُ راتبَ أبي العبد هنية حلالا وهو يسمي العلمانيين إخوةً له وينادي بالتوحُّدِ معهم؟ ومتى انقطع راتبُ هنيةَ إلا بعدَ انقلابِه على (الأخ الرئيس) -عنده- الكافرِ المرتدِّ -عندنا- محمود عباس؟ ليس الأمرُ إلا إفلاس حماس وتكلُّفها ما تطعن به في الشيخ أبي النور رحمه الله .
إنَّ لأبي النورِ سيرةً مِن نورٍ كنورِ الشمسِ في ضيائه وصفائه ، ومثلَه في أنها لا تُحجبُ بغربالٍ مِن الأكاذيب ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، ونسأله تعالى أن يتقبل عبدَه أبا النور وإخوانَه شهداءً ، وأن يحقنَ دماءَ المسلمين ، وأن ينيرَ بصائرَ عِبادِه الصالحين إلى حقائقِ الشرعِ وفسادِ مسالكِ أهلِ الضلالةِ .
وبعدُ فإنَّ هذه مسائلُ مهمِّاتٍ لا بُدَّ مِن الوقوفِ عندَها مع هذا الخطبِ الجلَلِ ، أبدأُ بها مستعينًا بالله .
أولاً : إنَّ إعلانَ الشيخِ أبي النُّورِ للإمارةِ الإسلاميةِ خطوةٌ مستغربةٌ مِن مثلِه ، لم يتوقَّعْها مَن عرَفه ، وقد اجتهدتُ في معرفةِ سببِ هذه الخطوةِ ، بمطالعةِ ما سبقَ هذه الأحداث ، وبسؤالِ مَن يعرفون الشيخَ عَن قُربٍ ، فلمٍِ أهتدِ إلى وجهِ اجتهادِ الشيخِ بإعلانِه الإمارةَ الإسلاميةَ على وجهٍ يُجزَمُ معَه بمقصودِ الشيخِ ، إلا أنَّه لا يَبعدُ أنَّ الشيخَ قد أرادَ بهذا ما أومأ إليهِ في خطبتِه : أن يحثَّ حماسَ على سلوكِ سبيلِ الشريعةِ ، أو يستبينَ للناسِ - ومِنهم أبناءُ حماس أنفسُهم- سبيلُها الموصلُ إلى العلمانيةِ الصريحةِ ، وهي تسيرُ فيه بخطوٍ حثيثٍ .
والرَّأيُ أنَّ ما فعلَه الشيخُ ليس بكافٍ لتحقيقِ ما نظنُّه مرادَه ، وأنَّ على مَن بَقُوا بعدَه مِن أهلِ الدعوةِ أن يُتمُّوا ما بدأَه ، بأفعالٍ مدروسةٍ شرعًا وسياسةً .
ونحن إن كنَّا غيرَ موافقين للشيخِ -رحمه الله- في اجتهادِه ، فإننا في ذلك نراعي المصالحَ المعتبرةَ شرعًا ، مِن حقنٍ لدماءِ المسلمين، وحِفظًا للدعوةِ الناشئةِ ، ومنعًا لحماسَ من أن تجدَ ما تبرِّرُ به إجرامَها الذي قد عزمَت عليه ؛ فما تبرِّرُ به حماس قد يقلِّلُ مِن سخط الناس عليها -وهيهات أن يُذهبَ السخط كلَّه- ، وقد يجعلُ للشيخِ -في نظر الناسِ- كِفلاً من التسبُّبِ فيما حصل .
فأقول : إنما بنينا موقفنا على هذا ، لا على كونِ حماس لها سلطانٌ شرعيٌّ لا يجوز إحداثُ غيرِه ، فأنَّى لسلطانٍ لا يقومُ على تحكيمِ الشريعةِ أن يكون له وزنٌ في الشريعةِ ، والسمعُ والطاعةُ للمتغلِّبِ إنما يكون إن اتخذ الشريعةَ دستورًا يرجعُ إليه في الأصلِ ، ولو شابَ هذا الرجوعَ ظلمٌ وتقصيرٌ هو مِن جنسِ المعاصي ، أو تدرَّج صاحبُه –حسب استطاعتِه- في تطبيقِ بعضِ الحدودِ أو منعِ بعضِ المخالفاتِ ونحو ذلك ، وأما التحاكمُ إلى الدستورِ الوضعيِّ وإلزامُ الناسِ بقوانينِه وتركُ الشريعةِ ، فلا ولايةَ شرعية لصاحبِه وإن كانَ في ذلك متأولاً ، فتأولُه عذرٌ قد يمنعُ عنه الكفرَ والمؤاخذةَ ، ولكنَّه لا يصحِّحُ ولايتَه شرعًا ، لعدمِ المقصودِ منها ، وهو القيام بالتوحيدِ وإقامةُ الشرع . وكما تسقطُ طاعتُه – في الأمرِ- إذا أمر بما يخالف الشرعَ ، فإن ولايتَه تسقطُ لو كان مرجعُه غيرَ الشرعِ ، وهذا هو مدلول الإيماءِ في قولِه تعالى : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، وهم العلماءُ لأنَّهم أهلُ فهمِ الشرعِ ، والأمراءُ لأنَّهم أهلُ تطبيقِه ، وهو مفهوم الشرط في الحديث : "اسمعوا وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله" وفي الحديث : “ما أقاموا فيكم الدين" . وهذا هو ما دعا الشيخُ أبو النور رحمه الله حماس إليه ، إلى تحكيمِ الشريعةِ ليسمع لها ويطيع ، وقال إنه وإخوانَه سيكونون خُدَّامًا لها حينذاك ؛ فأبَت إلا قِتالَه لتئدَ دعوتَه السلفيةَ المتناميةَ .
الوقفةُ الثانيةُ : مع ما دعا إليه الشيخُ ، وأذكرُه ليضعَه الإخوةُ نصبَ أعينِهم ، فإنَّ الشيخَ -رحمه الله- كما عرفنا عنه مِن شهاداتِ مَن عرفَه ، وكما سمعنا مِنه في خطبتِه الأخيرةِ ، وكما سمعنا من إخوانِه في جماعة جند أنصار اللهِ ، وكما صرحوا مرارًا في بياناتِهم ، إنَّه لم يكن يُكفِّرُ المنتسبين إلى حماسَ فضلا عن تكفير عامَّةِ الشَّعبِ ، ولم تكن دعوتُه الاقتتال مع حماس ، ولا البداءةُ معهم في حربٍ ، بل كان همُّه نشرُ دعوتِه بالحجةِ والبرهانِ ، وهو ما كان ، حتى انتشرَت دعوتُه وأحبَّه الناسُ ؛ فلم ترَ حماسُ سبيلاً إلى منعِه إلا القوةَ ، فأنَّى لمنهجها الزائفِ المتهافتِ المصطنعِ أن يقفَ في ميدان الحجةِ نِدًّا لما يدعو إليه الشيخُ السلفيُّ؟ فكان أن رأت حماسُ -وحتفُها فيما رأت- أن تمنعه بالقوةِ مِن الدعوةِ إلى اللهِ لئلا تزاحمَ حركتَهم دعوةٌ ، فأرسلَت إليه وكان ما كان مما رأينا .. فينبغي التنبُّه إلى أنَّ إعلان الشيخِ الإمارةَ إنما هو مبرِّرٌ وذريعة لقتالِه ، وأما سببُ القتالِ : فهو دعوتُه التي انتشرَت وحجَّتُه التي انتصرَتْ ، وإلا فهل كان الشيخُ معلنًا لإمارةٍ لما أرسلوا إليه يريدون أخذَ مسجدِه؟ وهل كانت جماعة جند الله قد بايعت إمارةً لما أخذت حماسُ عتادها الذي تقاتِل به اليهود ثم حاولت أسر أبي عبد الله المهاجر لتسليمِه للمصريين؟ وهل أبو حفصٍ أميرُ جيش الأمةِ قد أعلن إمارةً أو بايعَ أميرًا؟ وهل مئات الشبابِ الذين تطاردُهم حماسُ وتأسرُهم وتعذبُهم -ويطلق جلاوزتها النارَ على مفاصل ركبهم وأكتافهم تنكيلاً- قد أعلنوا أو بايعوا إمارةً؟ الأمرُ بيِّنٌ لغيرِ مَن أعماه هواه .
فالذي يُجزَمُ به وهو ظاهرٌ لقاصدِ الحقِّ مريدِ الإنصاف : أنَّ حماسَ تكذبُ إذ تدَّعي أن الشيخَ وجماعةَ الجند يكفرونَ المنتسبين إليها ، أو يدعون لقتالِها ابتداءً ، أو تركوا قتال اليهودِ بحجةِ كفرِ حماس أو كفرِ عامةِ أهل غزة ، أو أنَّ هؤلاء يفجرون الأعراسَ ومحالَّ الفسادِ ، وقد كان الأميرُ أبو عبدُ الله المهاجر -تقبله الله- مثلَ شيخِه : ينهى عن ذلك ، ويردُّ مَن يثير تلك المسائلَ ولا يقبلُه في تنظيمِه ، فما هذه التهمُ إلا تَكرارٌ لأكاذيبَ يقتفون فيها سنةَ فرعون وكلَِّ طاغيةٍ (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهِر في الأرضِ الفسادَ) .
قال تعالى : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) ، وما نالَ الشيخَ مِن تشويهٍ ، نال من قبلِه دعاةَ التوحيدِ الأنبياءَ وورثتَهم ، وهي سنةُ أهلِ الضلالةِ إذا أعيتْهم الحججُ الغالبةُ وليسَت ابتداعًا مِن حماس ، وهو أحدُ أنواعِ الأذى التي تنالُ دعاةِ التوحيدِ من الكفَّارِ والمبتدعةِ والجهلةِ وسائرِ المخالفين ، وقد قلتُ في حاشيةٍ على الأصول الثلاثة : والأذى للداعيةِ يكونُ مِن المخالفين والجهلةِ على أنواع ، فمِنه :
1- إخراجُه مِن بلدِه ومُطاردتُه في الأرضِ ، كما في حديثِ عائشةَ المتقدِّمِ أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال لورقةَ : (أومُخرِجِيَّ هُم ؟ ) قال : نعم .
2- قذفُه ورميُه بالكذب والتُّهَم الباطلةِ ، قال تعالى : (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص 4] ، وقال : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر 26] .
3- رميُه بالجنون والاستهزاءُ به ، قال تعالى : (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الحجر 11] ، وقال تعالى : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات 52-53] ، وقال تعالى : (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) [الزخرف 47] .
4- تسليط الظَّلمةِ عليه ، قال تعالى : (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف 127] .
5- قتالُه ، وتقدَّم قولُ فِرعون ، وقال تعالى : (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة 217] .
6- تعذيبُه وقَتلُه ليرتَدَّ عن دينِه ، فعن خباب – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال : (لقد كان مَن كان قبلَكم يُحفَرُ له حفرةٌ ، ويجاءُ بالمِنشارِ فيوضَعُ على رأسِه ؛ فيُشَقُّ ، ما يَصرِفُه عَن دينِه ، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ عَظمِه مِن لحمٍ أو عصبٍ ، ما يَصرِفُه عَن دينِه . ولَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ مِن صنعاءَ إلى حَضرَمَوتَ لا يخشى إلا اللهَ والذِّئبَ على غَنَمِه ، ولكنَّكم تَعجلون) رواه أحمد وابن حبان . وروى مسلم : في قِصَّةِ الغلامِ والملكِ والرَّاهبِ ، أنَّ الملكَ جاء بالرَّاهبِ وجليسِ الملكِ فقال لكلٍّ مِنهما : ارجع عن دينك ، فأبى ؛ فوضع المئشارَ في مفرِقِ رأسِه ؛ فشقَّه ، حتى وقَعَ شِقَّاه ... الحديث . وفي آخرِه : أنَّ الناسَ آمنوا ، فأمر الملكُ بالأخدودِ أن تضرمَ فيها النيران ، وقال : مَن لم يرجع عن دينِه فأحمُوه فيها ؛ ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبيُّ لها ، فتقاعَسَت أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري ؛ فإنَّك على الحقِّ . مختصرةٌ مِن حديثِ صهيب - رضي الله عنه - .
7- تكذيبُه ، وهو أصلُ الأذى ، قال تعالى : (لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام 34]. اهـ النقل .
[وبعضُ مَن لم يتبصَّرْ في سبُلِ هؤلاء يستغربُ أن يكونَ أبناءُ القسَّامِ الذين يقاتلونَ اليهودَ بهذا الإجرامِ في قتالِهم للمسلمين ، ولكنَّ مَن عرَف كيف يربِّي الإخوان المسلمون أتباعَهم لم يستغرب ذلك ؛ ولم يستغرب كيف يجدُ كثيرًا مِنهم يحبُّون الخميني وحسن نصر الله .. فإنَّهم يربونهم على (النفسية الإخوانية) شديدةِ التعصُّبِ للجماعةِ ، المتعاليةِ على المخالفين ، المحتقرةِ للسلفيين (أصحاب الفقه البدوي والنظرة الضيقة ..إلخ) ، ومِن أهمِّ ما يُرَبَّون عليه : مطلق السمع والطاعة لقادتِهم ، وقبولُهم لما يلقونَه عليهم ، وعدم مناقشتهم في شيء ، مع كون أكثر أولئك القادة من الجهلةِ وليسوا من طلبةِ العلم الشرعيِّ الذين يشرع للعاميِّ تقليدهم ، وهذه سمةُ تيار الإخوان : يقودُهم جُهَّالُهم ويتصدَّرون فيهم بدعوى أنَّهم "مفكِّرون" و"سياسيون" .
فأقول : إنَّ شبابًا هذه سماتُهم ، يسهلُ على قادتِهم "تعبئتُهم" وإيغارُ صدورِهم على إخوانِهم بأوهى الحُجَجِ ، مستغلين "القول الهدية" وما شابهه من الكتاباتِ ، واندفاعَ بعضِ الإخوةِ وأخطاءهم ، بل ويلفقون لهم بعض الأعمال التي فيها تجاوزات شرعية ؛ ينسبونَ هذا كلَّه إلى التيار السلفيِّ والجماعاتِ السلفيةِ والمشايخِ السلفيين ، والمسكين يصدِّقُ ولا يفرِّقُ ، ولو جئتَه بألفِ آيةٍ على براءةِ المنهجِ السلفيِّ وأهلِه من تلك الأمور -وأنَّها بين فريةٍ ملفقةٍ وشذوذٍ ينكرُه أكثرُنا- لما آمنَ لك ؛ فيكون السلفيون في ذهنِه خطرًا على "المشروعِ الإسلاميِّ" ، و"يخدمون العلمانيين" و"عملاء لهم" ، وخوارج تكفيريين ؛ فيصبح القساميُّ بذلك ذلك المجرمَ الذي رأيناه في "الصبرة" وفي "رفح" ؛ يعدم المصابين ، ويقصف الجامع ، ويشتم المجاهدين والمشايخ بأقبح الألفاظ ، ويعتقل الموحدين ، ويعذِّب المجاهدين ، محتسبًا ذلك عند ربِّ العالمين! .. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ] .
الوقفة الثالثة : مع المطفِّفين ، الذين كتبوا واتهموا المجاهدين السلفيين في العراقِ بالغلوِّ وسفكِ الدماءِ والغرور والتفرُّدِ بالرأيِ ...إلخ ، لما أعلنوا دولةً تحكم بالكتاب والسنة ، ولما قتلوا بعض العملاء المتعاونين مع الصليبيين مِن المنتسبين إلى جماعاتٍ مقاتلةٍ ، أينكم أيُّها المطففون مِن دماء إخواننا أبي النور ومن معه التي أراقتْها حماسُ بلا شبهة ولا دافعَ إلا التجبُّر والظلم؟ ليتكم إذ فارقكم الإنصافُ سكتُّم ، ولكنَّكم إذ ركبكم الهوى برَّرتُم لحماسَ ولمزتُم إخوانَنا ، (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) ، اعلموا أنّكم بهذا تعينون الظالمَ على ظلمِه ولا تطفئون الفتن ، فإنَّ حماسَ بأمثالكم تتجرأ على مزيدٍ من الدماءِ ، وباستغفالِكم تتقوى وتحسِّن صورتَها ، فهذه نصيحة محب لبعضكم مشفقٍ عليكم : دعوا ما لا تحسنون ، واعلموا أنَّ السدادَ في مثل هذه المسائل ليس بالعلمِ وحدَه ؛ فإنَّ له شروطًا من فقد أحدَها عزَّ عليه السدادُ وإن حققَ بعضَها : العلمُ ، والإنصافُ ، والحكمةُ ، والتجربةُ .
فأدعو هؤلاء -وسائرَ المسلمين- إلى تبرئةِ ذمَمِهم ، وعدمِ المشاركةِ في سفكِ دماءِ المسلمين ، والسعيِ إلى حقنِها ؛ فإنَّ حماسَ قد استغلَّت هذه الأحداث فأسرت نحوَ (التسعين) مِن إخوانِنا السلفيين [وقد زادوا اليومَ كثيرًا] ، ولا تبدو نيِّتُها فيهم خَيرًا ، فكثير مِنهم مصابٌ أُخِذَ مِن المستشفى إلى أوكارِهم للتحقيقِ معَه ، باستغلال تلك الجراحاتِ للضغطِ عليهم ، وتعذيبِهم ، فأدعو المسلمينَ كافةً : إلى الإنكارِ على حماس ، والضغطِ عليها لفكِّ أسرِ أولئك الأخيار ، ولإعطاءِ أهلِهم والمنظمات المختصة الفرصةَ لتطبيبِهم ، وإلى قطعِ الطريقِ أمامَها لئلا تُعدِمَهم كما أعدمَت مَن قبلَهم مِن الجرحى ، ثم تدعي قتلهم في المواجهةِ أو بأثرِ جراحاتِهم ، وليس هذا مِن سوءِ الظنِّ ، وإنما هو توقعٌ مناسبٌ لما اقترن بالأمرِ من توحُّشِ تلك الجماعةِ ، واندفاعِها في سفكِ دماء السلفيين قتالاً في الاشتباكِ وقتْلاً بعد الأسرِ ، ومن تَكرارِ كذباتِها المفضوحةِ ، وأمنِها من إنكارِ المنكرين ، وما صاحب ذلك مِن تعتيمٍ إعلاميٍّ مِنها على مواقعِ المواجهاتِ والمستشفياتِ لئلا يُنقلَ عَنها إجرامُها بالتصويرِ والروايةِ [كما سمعنا في التسجيل قائدَهم ينهى عن التصويرِ] ، ولو كانَت نيَّتُها غيرَ ذلك لما منعت الإعلاميين ، ولما أخذت المصابين من المستشفيات .. فهذه رسالةٌ إلى كلِّ مسلمٍ صادقٍ في إرادتِه حقنَ الدماء .
الوقفة الرابعة : مع مَن ظهر أنَّهم عمدوا إلى ردِّ الظلمِ بالظلمِ ، والإجرامِ بالإجرامِ ، وابتغَوا نصرَ اللهِ بِما يُسخِطُه ، وبحثوا عن الانتصارِ بما هو سببُ الهزيمةِ والفشلِ ، أعني أولئك الذين تنادُوا بتكفيرِ كلِّ منتسبٍ إلى حماسَ ، ودَعوا إلى استهدافِ المرابطينَ ، وتفجيرِ المساجدِ ، واغتيالِ المنتسبين إلى تلك الحركةِ انتقامًا منها ، وعَجبٌ مِن هؤلاءِ ، أهُم طُفَيلياتُ الفِتَنِ أحفادُ ابن سبأ من اليهود والعَلمانيين؟ أم هم من (إعلامِ حماسَ) أرادوا سَتْرَ سوءَتِها وإحداثَ ما يُبرِّرُ جريمَتَها؟ أم هم إخوةٌ لنا صادقونَ غَضِبوا لإخوانِهم وآذاهم إجرامُ حماسَ وتقتيلُها لهم فلم يضبطوا ردودَ أفعالِهم بالشرعِ؟ الذي أجزمُ به أنَّ تلكَ الأصوات خليطٌ مِن هذا كلِّه .
وأقول في هذا المقامِ : إنَّ كثيرًا مِمَّا رأيناه مِن الدعواتِ غلوٌّ ولا شكَّ ، وليس صاحبُه أهلٌ للنصرِ ، ولا للنُّصرةِ فيما يريد ، بل هو حقيقٌ بأن يؤخذَ على يدِه ، ويُنكَرَ عليهِ ، ساعيًا كانَ إلى تلك الأعمالِ أم محرِّضًا عليها .
وأجزمُ بأنَّ تلك الدعواتِ لا تصدرُ مِن أهلِ العِلمِ والحكمةِ ، ولا يؤيِّدُها مشايخُنا في أفغانستان قادةُ قاعدةِ الجهادِ ، ولا غيرُهم مِن المنتسبين إلى العلمِ ، حتَّى مَن يكفِّرُ رؤوسَ حماس .
وأقول لإخواني السلفيين في غزةَ : أيُّها الأحبةُ ، إنَّ القلوبَ لتحزنُ ، وإنَّ العيونَ لتدمعُ ، وإنَّ المصابَ عظيمٌ ، وإنَّ الخطبَ لجللٌ ، ولكَن ليس لنا أن نقول إلا ما يرضي اللهَ ، أو نفعلَ إلا ما وافقَ شرعَه ، وليس لنا أن نشفيَ صدورَنا بما يَسخطُه اللهُ!
وإنَّ مِن أخصِّ خصائصِ المؤمِن أن يُسلِّمَ بما قدَّرَه اللهُ ، وإنَّ مِمَّا ينافي التسليمَ بما قدَّرَه اللهُ : ما نراهُ اليومَ مِن غلوٍّ في التكفيرِ ، ودعواتٍ إلى سفكِ الدماءِ انتقامًا بما يجاوزُ الشرعَ ! فليَعلمَ مَن وقعَ في هذا غضَبًا أنَّه مِنه جاهلية ، فليَتب منه ولا يزيَِّنْه له هواه ، واللهُ يعفو عنا جميعًا .
واعلموا أنَّ ما أنتم فيه يطيشُ بعقلِ الحكيمِ ، ويذهبُ بتحقيقِ العالِمِ ؛ فإنَّ الحُزنَ والغيظَ والغضبَ انفعالاتٌ نفسية ، والظلمَ وفقدَ الأحبةِ والمطاردةَ أحوالٌ مؤثِّرةٌ ، والانتقامَ والمعاملةَ بالمثلِ شهواتٌ ، وإنَّ هذا كلَّه يكونُ في النفسِ (هوى) خفيًّا عن صاحبِه ، يقارِنُ التأولَ ؛ فيؤثِّرُ في النظرِ ، ويُخرجِه من دائرةِ الاجتهادِ المحضِ ، إلى الاجتهادِ المشوبِ بهوى ، فيقلُّ تأثيرُه أو يكثُر ، بحسب عِلمِ المرءِ وديانتِه وتقواه وعقلِه وحكمتِه ؛ ثمَّ تخرجُ الأحكامُ بحسبِ ما غلبَ مِن الأضدادِ : العِلمِ والإخلاصِ ، أو الجهلِ والهوى ، والعالِمُ قد يشوبُ عِلمَه جهلٌ وقصدَه هوى ، إلا أنَّه لا يكونُ ذا جهلٍ أو هوى محضٍ ، ولذا فإنَّ العالِمَ وإن أخطأَ بقولٍ مرجوحٍ أو شاذٍّ ؛ فإنَّك ترى في كلامِه روحَ الشريعةِ ونَفَسَ المتشرِّعةِ ، وفي أحكامِه القربَ مِن أحكامِها.
وأمَّا الجاهلُ فإنَّك راءٍ مِنه الشذوذَ منهجًا ، والغلوَّ سمةً ، والخطأَ لازِمًا ؛ قال الإمامُ الشافعيُّ : (ومَن تكلَّف ما جهِل وما لم تُثبِتْه معرفتُه كانت موافقتُه للصوابِ -إن وافقه مِن حيثُ لا يعرِفُه- غيرَ محمودةٍ ، والله أعلم ، وكان بخطئه غيرَ معذورٍ ، إذا ما نَطَقَ فيما لا يُحيطُ عِلمُه بالفَرْقِ بين الخطأِ والصوابِ فيه) [الرسالة 53] ، ويروى عن ابن عباس : (مَن قال في القرآن برأيه فقد أخطأ) ، وإنَّ الكلامَ في الشريعةِ إما أن يكونَ عن علمٍ ونظرٍ في مصادرِها ، أو عَن رأيٍ محض ، والجاهلُ ليس عندَه علمٌ ؛ فإنَّ للنظرِ في دقائقِ الوحيين آلةً ليسَت عِندَه ، وشروطًا ذكرها أهلُ العلمِ لم يحصِّلْها ، فما هو إلا الرأيُ المحض ، وإن تأولَه عِلمًا .
فمثلُ هذا فرضُه التقليدُ في الأحكامِ والنوازلِ إجماعًا ، ولا يجوزُ له التصدُّرُ لها ، وقد قال تعالى : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، قال الحافظُ أبو عمر ابن عبد البر – رحمه الله- بعد ذِكرِه آثارًا عن السلفِ في ذمِّ التقليدِ : (وهذا كلُّه لغيرِ العامَّةِ ؛ فإنَّ العامةَ لا بُدَّ لها مِن تقليدِ عُلمائها عِندَ النازلةِ تنزلُ بها ؛ لأنَّها لا تتبين موقع الحجةِ ، ولا تصل بعدمِ الفَهمِ إلى عِلمِ ذلك ؛ لأن العلمَ درجاتٌ لا سبيل مِنها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامَّة ِوبين طلبِ الحجةِ ، والله أعلم .
ولَم تختلفِ العلماءُ أن العامَّة عليها تقليدُ علمائها ، وأنَّهم المرادون بقول الله عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، وأجمعوا على أنَّ الأعمى لا بُدَّ له مِن تقليدِ غيرِه مِمَّن يثقُ بمَيزِه بالقِبلةِ إذا أشكلت عليه ، فكذلك مَن لا عِلمَ له ولا بصرَ بمعنى ما يَدين به ؛ لا بُدَّ مِن تقليدِ عالِمِه .
وكذلك لم يختلف العلماءُ أن العامةَ لا يجوز لها الفتيا ، وذلك -والله أعلم- لجهلِها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقولُ في العلم) [جامع بيان العلم 2/230] . وهذا مع عمومِه على المؤهِّلِ في الأحكامِ ، يتأكَّدُ في المسائلِ دقيقةِ المنزعِ كتفصيلاتِ ما يُعتبرُ مِن الأوصافِ مانعًا ، واعتبارِ الأحوالِ والقرائنِ والاحتمالاتِ ونحو ذلك ، وفي المسائلِ جليلةِ القدْرِ كمسائلِ تكفيرِ الأعيانِ وقتالِ الطوائفِ ، والسياسةِ الشرعيةِ التي زلَّ فيها علماءُ لم يجاهدوا ، ومجاهدون لم يَعلموا ، وعلماءُ مجاهدون لم يستشيروا ؛ فزلُّوا وخالفوا الشريعةَ وأفسدوا مِن حيثُ لَم يشعروا .. فأينَ مِن مراعاةِ هذا بعضُ إخوانِنا -الذين تظهرُ عامِّيَتُهم في كلماتِهم- إذ يفتونَ بكفرِ أقوامٍ واستباحةِ دمائهم؟ بل قد رأيتُ مَن ينهى مستفتيًا في دماء عن الاستفتاء فيها قبلَ سفكِها ، ورأيتُ مَن يصرِّحُ بأنَّه لا ينتظرُ فتاوى العلماء ليَحكم ، ورأيتُ مَن يحرِّضُ على نساءِ وذُرِّياتِ القومِ ، فما دينُ الخوارجِ إن لم يكن هذا دينُهم؟
ولا يؤهِّلُ المرءَ للفتيا في هذه المسائلِ العِظامِ أن يحصِّلَ مِن العلمِ طرفًا أو يعرفَ من الأدلةِ ظاهرًا يستدلُّ به ؛ فليحذر إخوانُنا من الاغترارِ بما يزيِّنُ به هؤلاءِ أقوالَهم ، فلا يكادُ الباطلِ يكونَ محضًا بل يشوبُه حقٌّ ويستدلُّ له بما يظنُّه صاحبُه دليلاً مِن عامٍّ خُصَّ أو متشابهٍ أُحكِمَ أو قاعدةٍ عامةٍ ونحو ذلك .. ولا يَغترَّ إخواننا بأن وَجَدوا عندَهم ما جهلوه هُم فيظنوهم من أهلِ العِلمِ ؛ فإنَّ الجاهلَ لا يرى مَن هو في العِلمِ فوقَه إلا وظنَّه عالِمًا ، ولا يكادُ يميِّزُ بينَ العالِمِ وغيرَه ، وكَم اغترَّ شبابُ الإسلامِ قديمًا وحديثًا بمَن عندَه شيءٌ مِن آثارِ العِلمِ يجادلُ بها فظنوه عالمًا ، والواجبُ على هؤلاءِ : أن لا يثقوا إلا بمن وثَّقَه أهلُ العِلمِ وصيارفتُه ، وأذنوا له بالاجتهادِ والفتيا ، فهؤلاء هم مَن يقلِّدُ مِنهم العاميُّ أوثقَهم عندَه ديانةً وعِلمًا .
وليس المقامُ مقامَ بسطِ الكلامِ في هذه الآفةِ التي أصابَت الصحوةَ الإسلاميةَ بتياراتِها كافةً ردًّا على متعصِّبةِ المذاهبِ المقلِّدةِ ، أعني آفةَ نبذِ التقليدِ مطلقًا ، ودعوى الاجتهادِ مِمَّن ليس بأهلٍ ، وجعلِ الاجتهادِ في الدينِ وأحكامِه مباحًا للمثقِّفِ والمبتدئِ بل العاميِّ ، إلا أنَّ مرادي من الإشارةِ إليها تقريرُ أنَّ الواجبَ على إخوانِنا أن يتقوا اللهَ ، ويتحرَّوا ما عليهِ علماؤهم ، ولا يجتهدوا في الفتيا ، وأن يحذروا أن يغتروا بأنصافِ المتفقِّهةِ ، أو أن يتبعوا فتاوى المجاهيل ، أو يتأثروا بما رأوا الكثرةَ عليه ؛ فإنَّ الكثرةَ مِن العامةِ في الفتنِ كقطراتِ الماءِ المجتمعةِ ، تتوجَّهُ تيَّارًا قويًّا مندفعًا حيثُما حُفِرَ له يجرفُ الشَّجرَ الرَّاسخةَ جذورُه .
إنني اليومَ أدعوكم إلى ما دعاكم إليه من قبلُ مجددو دينِ الأمةِ في التوحيدِ والجهادِ .. فعليكُم باتباعِ أهلِ العِلمِ الثِّقاتِ ، وعليكُم بأهلِ الاتزانِ والعقلِ مِنهم ، وما أكثرَهم! فهذا أبو يحيى الليبيُّ ، وهذا عطيةُ الله ، وهذا أبو الوليد الأنصاريُّ ، وهذا أبو اليزيد -وهو طالبُ علم- ، وهذا أيمنُ الظواهري -وهو مِن أهل الحكمة والتجربة ، ولا يصدر إلا عن أهل العلم- ، وهذا أبو قتادةَ الفلسطيني ، وهذا أبو بصير الطرطوسي ، وهذا أبو محمد المقدسي ، وغيرهم كثير .. لم يذهب منهم أحدٌ إلى تلك المذاهب البعيدةِ عن الشرعِ والحكمةِ ، نعم قال بعضُهم بكفرِ رؤوسِ حماس ، وهو في هذا مخطئٌ ، ومخالفٌ لأكثرِ إخوانِه ، إلا أنَّ أحدًا مِنهم لم يقل بكفرِ المنتسبين إلى حماس كافةً ، ولم يفتِ أحدٌ مِنهم -فيما أعلم- بقتالِها ابتداءً وإعلانِ الحربِ عليها ، وأكثرُهم قد عذروا القومَ –ولم يصوِّبوهم- في تركِهم الحكمَ بالشريعةِ بتأولاتٍ ظنَّوا بها أنَّ لهم رخصةً وأنَّهم عاجزين ومكرهين ، وأنَّهم بما يفعلون يتدرجون في التطبيق... إلخ ؛ ووجه الشركِ في الحكمِ هو الخروجُ عن شريعةِ اللهِ والحكمُ بغيرِها ، وهم قد تأولوا أنَّ ما هم فيه من الخروج عن الشريعةِ هو عين ما تأمرهم به الشريعة ؛ وهذا يجعلُ التأولَ –في هذا المحلِّ- مانعًا معتبرًا لو تحقَّقَ ، وهم –كما قدمتُ- لهم التأولات المذكورة وغيرُها ، وهذا ما قدَّره أهلُ العِلمِ فعذروهم به ولم يكفروهم مع إنكارِهم عليهم وإبطالِهم لمذهبهم ، قد حُفِظَ عن كثير من العلماءِ المجاهدين وطلبةِ العلمِ منهم إعذارُ هؤلاءِ مع وقوعِهم فيما وقعوا فيه ، مِنهم الشيخ أبو الوليد الأنصاري ، وعطية الله ، والشيخ العالِم المحقق أبو قتادة ، والشيخ أبو يحيى ، والشيخ أبو اليزيد ، (بل والشيخ أبو النور نفسه) ، وغيرهم ، فضلا عن مشايخِ غيرِ ما يسمى بتيار الجهادِ ممن ناصح حماس وأنكر عليهم سبيلَهم ، كالشيخ ابن غنيمان ، والشيخ ابن جبرين رحمه الله ، والشيخ الحوالي ، والشيخ الطريفي ، والشيخ الصادع بالحقِّ الملقب بفقيه مصر محمد ابن عبد المقصود شفاه الله ، وكثيرٌ غير هؤلاء .. فتحرَّوا لدينِكم هو أتقى لكم ، وقدِّموا مِن العلماء أرسخَهم عِلمًا وأهدأهم نفْسًا وأقدَمَهم تجربةً ، لا مَن وافقَ اجتهادُه أهواءً عرَضَتْ لكم ، فإنَّ العالِم قد يفتي بما يخالفُ الشريعةَ ويؤجَر ، ويتبعُه على فتياه أقوامٌ ويأثمون .
وفي الوقفةِ التاليةِ كلامٌ في هذا مِن جهةِ اعتبارِ المصلحةِ والسياسةِ .
الوقفةُ الخامسةُ وفيها : أنَّ هذه الجريمةَ كما ذكرتُ ليست كسابقاتِها ، وقد ذكرتُ في تعليقٍ سابقٍ على جريمةِ الصبرةِ بأنَّ حماسَ ستُسقِطُ -بغرورها وصلفها- نفسَها بنفسِها ، وما علينا إلا أن نعينَها على ذلك وندفعَها إليه ، وأن لا نقعَ فيما شأنُه تأخيرُ سقوطِها مِن أعيُنِ المسلمينَ . واليومَ صرنا نرى طوائفَ السلفيين ، والحركاتِ الإسلامية ، وعامة المسلمين ، يتكلمون في سياسةِ حماس ، ويتنبهون إلى إجرامِها بعد أن كانوا يُصمُّون آذانهم عن كلِّ كلمةٍ تقال عنها ، ويتعامون عن رؤيةِ سوءاتِها ثقةً فيها .. وما هذا بتدبيرِنا وحسنِ أفعالِنا ، بل هي سُنَّةُ اللهِ في الظالمِ ، وهو أثرُ الحمقِ والغرور وسكرة السلطة ، وأنتم ترون ضعفَ أصواتِ المرقِّعين لها في أسماعِ المسلمين ، وتلاحظون تغيُّرًا جليًّا في موقفِهم منها .. وما تلاحظونَه أنتم تلاحظُه حماس أيضًا ، وهذا هو سببُ تخبُّطِهم في الكذبِ على غيرِ العادةِ (أعني التخبطَ لا الكذبَ فإنَّه لهم عادةٌ ولهم فيه براعة ، والمرء على دين خليلِه ، وأخلاؤهم معروفون بالكذب) ، وهو سببُ مسارعتِهم في التبريراتِ والتصريحاتِ غيرِ المدروسةِ ، ولم يجدوا حجةً لها عند الناس وجه : إلا إعلان الإمارة .. وغايةُ أثرها على الناس : أن لاموا إخواننا رحمهم الله ، مع إنكارِهم لإجرامِ حماس .. فالواجبُ علينا مع هذا أن لا نقدِّمَ لحماسَ ما تستعينَ به علينا ، وأن لا نشفيَ صدورَنا بكلامٍ تقطفُ به حماسُ رؤوسَ إخوانِنا ، فما أسعدَ حماسَ بظهورِ مَن يكفِّرُ المنتسبين إليها ويدعو إلى قتالِهم! فإنَّ هذا مصدِّقٌ لما ادَّعتْه زورًا على إخوانِنا أبي النور وتنظيم الجند ، وإعلامُ حماس الرسميُّ والمتعاونُ -كالجزيرة- سيضخِّمُ تلك البيانات ، وسيُعرِضُ عن نصِّ أبي النورِ وبياناتِ الجند بعدم تكفير المنتسبين إلى حماس وعدم الدعوة إلى قتالِهم ، وسيُعِدُّ افتراءاتٍ جديدةً (مُحرَّرةً) .
وإنَّ دعوتَنا السلفيةَ الجهاديةَ اليومَ -في غزةَ خاصَّةً- تنتصرُ بالإعلامِ والأقلامِ -بعد طاعةِ الله- ، فتأييدُ المسلمين ووصولُ دعوتِنا إليهم مِن أهمِّ ما ينبغي أن نحرصَ عليه ؛ فقوةُ حماس في سمعتِها التي اكتسبتْها مِن جهادِها وصبرِها ، ثم بدأت تخسرُها بظلمِها وإجرامِها ، وبعضُنا يسعى من حيث لا يدري في إحيائها .
وقوَّتُنا في إيماننا والتزامُنا بشرعِ ربّنا -ومنه الأحكامُ على الناسِ- ، وفي طلبِ أسبابِ التمكين ، ومِن أهمِّها : أن نسعى لإزالةِ ما علِقَ في أذهانِ الناسِ من أكاذيبَ شوَّهَتْ تصوَّرَهم لدعوتِنا السلفيةِ ، وهذا بإظهارِ ذلِّنا لأهلِ الإيمانِ ، وصبرِنا على الأذى ، وحديثنا إياهم بما يعرفون ، وإعراضنِا عَن فعلِ ما يُكذِّبونَ نسبتَه إلى دينِ الله ما وسعنا ذلك شرعًَا ، وأن نتجنَّبَ تصديرَ غيرِ العلماءِ ، والاستقلالَ بالآراءِ ، وردود الأفعالِ التي دافعُها التشفي وإذهابُ الغيظِ .. فإنَّ هذا ما يريدُه القوم ويسعون إليه .
وأعظمُ ما يضادُّ إيصال دعوتِنا إلى الناسِ -بعدَ أن اقتربَت مِنهم- ، ويسترُ عن أعينِهم سوءاتِ حماس ، ويعينُ المجرمينَ على أن يئدوا دعوتَنا ويستأصلوا إخواننا ، ما يعملُه بعضُنا -غيظًا أو جرأةً على الدين لا فيه- مما سلَف إنكارُه ، من الأحكامِ والتصريحاتِ والأفعالِ .
وأمثلُ ما نفعلُ : أن لا نعطيَ القومَ فرصةً لتبريرِ إجرامِهم ، وأن ننشطَ –بحمَلاتٍ منظَّمةٍ على الشبكةِ وفي غزة وفي مجالسِ أهلِ العِلمِ وسائر وسائل الإعلام- لتوثيقِ الأحداثِ وبيان الحقائقِ ، لزيادةِ جلاءِ الأمرِ ، ولإيصالِ الحقيقةِ إلى المسلمين داخل غزة وخارجَها ، فاليومَ يومُ جندِ الإعلامِ ، كونوا مِنهم ، أو لا تكونوا مع حماس ضِدَّهم!
وأقترحُ أن ينظِّمَ مركزُ اليقين -أو أي منبر إعلاميٍّ عُرِفَ بالإتقانِ- حملةً إعلاميةً ، يقدِّمُ فيها تقاريرَ عن ما حصلَ ، تحتوي على التسجيلاتِ المرئية والمسموعةِ ، وتفريغِها النصيِّ ، وبياناتِ حماس ، وما يكذِّبُها من تصريحاتِ الشيخِ وبياناتِ الجُندِ ومن الوثائق الصوتية المذكورةِ ، بحيث تقدَّمُ هذه التقارير بأسلوبٍ متقنٍ ، وبعرضٍ للحقائقِ مجردٍ عن الأحكامِ ؛ لئلا تؤثِّرَ في نفسِ القارئِ ، ويَحسنُ أن تُعَدَّ تقارير فيها حكايةٌ للأمرِ منذ مراحلِه السابقةِ ، بذكرِ ما حصلَ في الصبرةِ وأخواتِها ، لبيانِ حقيقةِ مراحلِ حربِ حماس للسلفيةِ وإجرامِها وافترائها عليهم بالوثائقِ والبيِّناتِ . [وإنَّ المكالمةَ التي سجلَها أحدُ الإخوةِ مع أحدِ المجاهدين المحاصَرين وهو يذكِّرُ جنودَ حماس بالله ، ويَذْكُرُ أنه وإخوانَه يصلون خلفَهم ، ولا يكفِّرُونهم ، وأنَّ المجاهدين يتجنَّبُون ما لا تريده حماس مما يُشرَع فعلُه ويجوز تركه دفعًا للمفاسد ، وأنَّهم إنما يريدون الدعوةَ إلى الله ونبذ الشرك ، وقتال اليهود ، وغير ذلك مما لا تشوبه شائبة .. إنَّ هذا لأشدُّ وقعًا على قادةِ حماس مِن قنابلِ اليهودِ ؛ لكرهِهم لانتشارِه وهدمِه صروحًا من الأكاذيب بنوها ، ولهو أشدُّ وقعًا على المخلصين المخدوعين منهم مِن قنابلِ اليهودِ ؛ لمعرفتِهم به أنَّهم قاتلوا إخوانَهم المجاهدين ظلمًا وعدوانًا ونصرةً لحزبٍ لا لله ، ورِفعةً لكراسي قادتِهم لا لشرعِ الله .
وإنَّ تلك الكلمات لتقدِّمُ دعوتَنا إلى الأمامِ بما يزيد عن تأخيرِ أكاذيب حماس لها ، فأسأل الله أن يتقبل ذلك المجاهدَ ويغفر له ، ويفكَّ أسرَه إن كان أسيرًا ، وأن يجعل مَن بقيَ بعدَ تلك العصابةِ المؤمنةِ يقتدون بها في إنصافِها والتزامِها بشرعِ ربِّها ، ولا ينقادون لدعواتٍ تسرُّ العِدا وتضرُّ الأولياء وتؤَخِّرُ الدعوةَ وتفرِّقُ الصفَّ ، وأشيرُ هنا : إلى أنَّ أولئك –خلافًا لضرر دعواتهم- قد خذلوا إخوانَهم ووقفوا عثرةً في طريقِ الوحدةِ مِرارًا لأعذار واهية ، والعارفُ عارفٌ ، وحسبي الإشارة! ] .
ولستُ فيما أنكرتُ آخذًا جانبَ حماس أو خاذلاً لإخواني ؛ فصديقُك مَن صَدَقك لا مَن صدَّقك ، ومخالفةُ هوى الصاحبِ لمصلحتِه مِن صدقِ صُحبتِه ، والنصحُ للإخوةِ حقٌّ فرضَه اللهُ تعالى ، ودعوتُنا أمانةٌ في أعناقِنا جميعًا ، ومِن العارِ تركُها لمَن يقضي عليها بعداوتِه أو سوءِ تصرُّفِه .
الوقفةُ السادسةُ : مع سفكةِ دماءِ المسلمين .. ولستُ بواقفٍ مع الآمرِ بل المأمورِ ؛ أعني مَن تربَّى في المساجِدِ وحفظ كتاب الله ، ثمَّ انقلبَ إلى قصفِ المساجدِ وقتالِ حفظةِ كتابِ اللهِ! من حضر مجالسَ العِلمِ ، ثمَّ انقلبَ يقاتِلُ أهلَ العِلم .. مَن كان إرهابيًّا يقاتِلُ اليهودَ ويخشاه الأمريكان ثمَّ انقلبَ جنديًّا من جند الحربِ على الإرهابِ .. يقاتلُ من يعيقُ قيامَ دولةٍ لحِزبِه يرضى –بظنِّه- عنها الأمريكان ، ويتعاون معها الطواغيتُ .. "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة .. فإن العزة لله جميعا" ..
لستُ بما في قلبك بعليم ، ولكنَّ الله به عليم ، وأنتَ لا شكَّ تعلمُه .. أطاعةً للهِ تقاتلُ إخوانكَ وتطارُدهم وتؤذيهم أم لطاعةً كبراءِ جماعتِك؟ أنصرةً لدينِ اللهِ خرجتَ تقاتلُ مَن يسمِّيهم صحبُك في مجالسِهم "بالتلفية" و"التكفيريين" أم نصرةً لحزبِك؟
لستُ أدعوكَ هنا إلى شيءٍ ، إلا إلى التأمَّلِ في قلبك ، والنظرِ في نفسِك ، وتذكُّرِ نشأتِك في هذه الجماعة : أأرضعوكَ ناشئًا الولاءَ والعصبيةَ للمسلمين أم للإخوانِ المسلمين؟ أغرسوا في نفسِك تعظيمَ أوامرِ اللهِ وطاعتَه أم تعظيمَ أمرِ المسؤولِ وطاعتَه؟
وإنِّي سائلك : أعندكَ فيما سفكتَ برهانٌ تطمئنُّ إليه نفسُك ، وترجو أنَّه يومَ القيامةِ عذرُك؟
أدعوكَ وأنا لك ناصح : أن تنظرَ فيما فعلتَ متجرِّدًا مِن الهوى ومن الولاءِ لكلِّ ندٍّ لله إلا ولاءً خالصًا لله ، وأن تطَّلِعَ على كلامِ مَن سفكتَ دماءًهم سمعًا للقومِ وطاعةً وهو منشورٌ في الشبكةِ بالبياناتِ والخُطَبِ : أبان كما نقلَه كبراءُ قادتِك لك (تكفير لك وللمسلمين) أم تبيَّن لك زيفُه ، وأنَّك سفكتَ دم عالمٍ ومجاهدين بما ليس فيهم؟
اعلم أنَّك تبعثُ وحدَك ، وتحاسَبُ وحدَك لا يجيبُ عنك مرشدُك ؛ فتجازى على عملِك ، ولا ينفعُك عِندَ اللهِ عُذرًا فيما فعلتَ قولُك "ربنا إنا أطعنا سادتَنا وكبراءنا" .. والعاقلُ مَن تدبَّرَ حالَه ، وعظَّم حرماتِ اللهِ ، ولم يترك نفسَه وما تهوى ، ولم يُسلِّم قِيادَه إلى غيرِه يقوُده إلى حيثُ لا يدري .. وانظر كيف آلَ حالُ (الشيخ المجاهد) سياف ، ورباني ، وطارق الهاشمي ، وأتباعِهم .. إنَّها سبيلٌ مَن وضعَ قدمَه في أوَّلِها جرفتْه وهو لا يشعرُ إلى ما كان مِن قبلُ يحذرُه ويتَّقيه ؛ ثمَّّ يقع راضيًا فيه .. احذر يا عبدَ الله قوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) .. وتأمَّل قولَه تعالى : (فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) .. وكلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة .
وهذه آخر الوقفات : وأدعو فيها أهلَ العِلمِ ذوي الكلمةِ المسموعةِ أن يستشعروا الخطرَ ، ويهتمُّوا بالأمرِ ، فإنَّ هذه الأوقات فيها عواملُ كثيرةٌ لما نحذرُ وتحذرون ، ونكرَه وتكرهون : فإنَّ فيها الظلمَ ، والسَّجنَ ، وسفكَ الدماءِ ، وجرأةَ السفهاء ، وقلةَ العلماءِ ، انتشارَ الفتَّانين العملاء ، وظهورَ الأهواءِ ، وتسارُعَ الأحداثِ ، وقلةَ الصادعين بالحقِّ ، وكثرةَ المزيِّنين للباطلِ ، والمتحيِّزين للظالمِ ، فماذا سيصنعُ مَن أحاطَ به هذا كلُّه؟ ولمن سيسمَع؟ اعلموا أنَّكم إن لم تتكلموا بالحقِّ تكلَّم غيرُكم بالباطلِ ، وإن لم يسمع الشبابُ صوتَكم فسيستمعون إلى غيرِكم ، وإن لم يُذهِب غيظَهم حججُ الهدى أذهبَه اتِّباعُ الهوى ، والخطبُ لا يكادُ يثبتُ فيه العالِم العاقلُ إن لم يثبته الله ، فكيف بعامَّةِ الشبابِ؟ فأدعو مشايخَنا وأخصُّ مِنهم أبا يحيى الليبيَّ وصاحبَه عطية الله والشيخَ الظواهري أن لا يكتفوا بتعليقٍ على الحدثِ ، بل يجعلوا لإخوانِهم في غزةَ نصيبًا عظيمًا مِن خُطَبِهم مستقبلاً ، وحظًّا وافرًا مِن توجيهاتِهم تَكرارًا ؛ لبيان حُججِ الشرعِ ، والدلالةِ إلى مسالكِ الحكمةِ وحسن التصرُّف ، وليعلموا بأنَّ لهم قادةً ومشايخ يطَّلعون على أخبارِهم ويعلمون أحوالَهم ويهتمُّون بتوجيههم ، وليشعروا بثقلِ مسؤوليتِهم ، وبأنَّهم طلائعُ الدعوةِ السلفيةِ وليسوا بمعزلٍ عنها .. وإلا فإنَّ في الزوايا مَن سينقلبُ إلى الصَّدْرِ ، وحسبي هذا .
أسألُ اللهَ تعالى أن يتقبَّلَ عبدَه أبا النور وعبدَه أبا عبد الله ، وسائرَ القتلى شهداءَ ، وأن يفكَّ قيد إخواننا الأسرى ، وأن يشفيَ الجرحى ، وأن يحفظ دعوةَ التوحيدِ والسنةِ والجهادِ في غزةَ مِن كيدِ الأعداءِ ، وتربُّصِ الخصوم ، وأن يجعلَ قيادَها بأيدي علمائها على الكتابِ والسنةِ ويقيَها شرَّ تصدُّرِ الجهالِ ، وأن يبصِّرَ إخوانَنا بمسالكِ النصرِ وأسبابِ التمكين .
اللهم اجمع على الحقِّ كلمةَ المسلمين ، واحقن دماءهم ، وقهم الفتن في الأقوال والأعمال . وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه/ عبد العزيز بن شاكر الرافعي .