تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مقتطفات عن التوبة



أم ورقة
08-14-2009, 08:12 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


...وحقيقة التوبةِ ندمٌ وإقلاعٌ وعزيمة .
ويضاف إليها حقيقةٌ غائبة عن أعين الغافلين ، بعيدة عن فهم الغارقين ، تُترجِمُها دموع المستغفرين ، وتُدرِكَها دقات قلوب الخائفين ، الذين تابوا خوفا من عظمة ذي الجلال ، وفرقا من بطش الكبير المتعال ، لم يتب تائبهم راحة من عناء تحصيل الذنوب ، ولا خوفا من افتضاح العيوب ، ولا محافظة على جاه أو منصب ، أو سعيا لمنزلة أو مكانة ، ولا لأن نار الشهوة في قلبه قد خمدت ، وأركانَه عن ممارسة الذنب قد ضعفت ،
بل تاب خوفا من الله ،
ورغبة فيما عند الله ،
وتعظيما لحرماته ، وسعيا لمرضاته .

ولا يركن إلى توبته فتطمئن نفسه بها ، بل يظل خائفا يترقب ، وجلا يتوقى ويتحسب.
جاعلاً علامة قبول توبته ، هطل عينيه.
فإذا جمدت عينه، و لم تجد بدمعها، توجّس خيفة ان لم تقبل توبته.
و إن استمرّت غفلته، وزادت سيئاته فهذه علامة أخرى على رد توبته عليه.
فإذا جادت عينه بالدمع هطّلا، وصحب الخوف من الله قلبه، غير آمنٍ مكر الله، وتقطّع ندماً و حسرةً
فحريُّ بتوبته أن تكون قد قُبلت.
قال سفيان ابن عيينة رحمه الله في قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) قال تقطّعها التوبة.
وقال ابن القيم رحمه الله: ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب و انخلاعه و هذا هو تقطّعه .
وهذا حقيقة التوبة لأنه يتقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه، و خوفاً من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا حسرة على فرط تقطّع في الآخرة...
فلا بد من تقطّع القلب إما في الدنيا أو في الآخرة.
وقال رحمه الله: ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضاً، كسرة خاصة تحصل للقلب،
لا يشبهها شيء، و لا تكون لغير المذنب,
لا تحصل بجوع، و لا رياضة، و لا حبّ مجرّد، و انما هي أمر و راء هذا كله،
تكسر القلب بين يدي الرب، كسرة كاملة،
قد أحاطت به من جميع جهاته، و ألقطعه بين يدي ربه، طريحاً ذليلاً خاشعا

عباد الله، قد يغفل العابدون، ويستهين المخبتون ، مع تنزههم من قاذورات المعاصي ، وبعدهم عن نجاسات الذنوب ، قد يغفلون عن ما هو أكبر من ذنوب العاصين ، وكبائر المذنبين ، وهو ما قد يخطر في قلوبهم من ازدراء أهل الكبائر واحتقارهم ، فتعظم في قلوبهم طاعاتهم ، وتعلو في نفوسهم عباداتهم ، فيمنون بها على الخالق العظيم ، والمنان الكريم ، فبأعمالهم يعجبون ، وبما قدموا يفرحون ، على عكس الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون .
فنسوا ، أو غفلوا عن قوله جل وعلا :( أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون). فمن هنا كانت التوبة ملازمة للتائب مهما كانت منزلته ، ومهما علت مكانته ، فالمنة لله وحده ، هو الذي يوفق من يشاء لطاعته ، ويخلي بين من شاء من عباده وبين معصيته ، فلا يقل الخطر الذي يترقب العاصين ، عن ذلك الخطر المتربص بالمعجَبين ، المدلين على الله ، فليعاجل كل منهم منيته بتوبة نصوح .

معاشر المسلمين : إن كثيرا من الناس اليوم يشكون ضنكا في معيشتهم ، وقسوة في قلوبهم ، وجمودا في أعينهم ، وغربة بين أحبابهم ، وكم أعياهم الدواء ، وهو بين أيدهم ، فكل من نسي الله أنساه نفسه ، كيف يصفو عيش من أعرض عن الله ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ؟
يأمره بسؤاله فيعرض ، ويعطيه من غير سؤال فيرفض ، بل هو دائم الشكوى منه ، يشكوه وهو البر الرحيم ، إلى من لا يرحمه ، بل يشمت به ويفرح بمصابه ،
ينعم عليه بالصحة والعافية فيستعملها في المعصية ، وينعم عليه بالمال ، فيغدق عليه العطايا ، فيقابل ذلك بأن لا ينفق منه في سبيله ، ولكن ينفقه على كل ما يسخطه . فهو في عافيته فرح فخور ، وفي بلائه يئوس كفور . يدعوه الغني إلى بابه هلم فادخل ،لا يقف له عند باب ، ويفتح له فلا يلج ، ومع كل هذا الإعراض من ذلك الفقير عن هذا الغني فإنه لم يؤيسه من رحمته ، فمتى عاد إليه قبله ، ليلا أو نهارا ، بل يقول الغني ، الحميد ، الكبير المتعال يقول : ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ! ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ! وإذا أقبل إلي يمشي ، أقبلت إليه أهرول . أخرجه مسلم . ويقول تبارك وتعالى مخاطبا كل مذنب : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله ، يجد الله غفورا رحيما ). ويخاطب المسرفين في الذنوب ، بلغت ذنوبهم ما بلغت ، فيقول لهم : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم .

عباد الله : لقد وصف ربنا جل وعلا نفسه تقدست نفسه ، بأنه الغفار ، والغفور ، وذو المغفرة ، وغافر الذنب قابل التوب ، قال جل وعلا : (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعملا صالحا ثم اهتدى ). فهو الرحيم الغفور ، ذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وهو الحليم الشكور . ولما كان ربنا كذلك فقد أمرنا أن نستغفره ، وأن نتوب إليه ، ليغفر لنا ، وليتوب علينا ، وفتح بابا ما أوسعه ليتوب المسيء ، وليستغفر المذنب ، ففي كل ليلة ينزل جل وعلا ، إلى سماء الدنيا بعد أن يذهب ثلثا الليل ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فأعطيه . وذلك كل ليلة . وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ، متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه . وعند مسلم : لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها ، قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح . فتأمل يا عبد الله كيف يفرح مولاك وسيدك بتوبتك ، وهو الغني عنك ، وأنت الفقير إليه ، فيفتح لك كل باب ، ويدعوك من كل ناحية ، لتقبل ، ولتتوب إليه . أي كرم أعظم من هذا الكرم ، الغني ، ملك الملوك ، يناديك : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم : لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة . وعند مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه : يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم . وعند ابن ماجة : أن الله تبارك وتعالى يقول : يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فسلوني المغفرة أغفر لكم ، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني بقدرتي غفرت له . ووصف سبحانه عباده المتقين فقال عنهم : (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) . وامتن على من أشرك به ، وزعم أنه ثالث ثلاثة فقال لهم فاتحا لهم باب الرجاء : (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) . وقال لمن قتل أولياءه وعذبهم فيه ، وأحرقهم بالنار : (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا) . فما أسعدنا بربنا .

( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) . فعجبا لهذا الإنسان يعبد غير خالقه ، ويأمل الرزق عند من لا يرزقه ، يتحبب إليه مولاه بالنعم ، ويبارزه بالمعاصي !
فلله الحمد كم أفاض على خلقه من نعمة ، حين كتب على نفسه الرحمة .
ولله الحمد على قوله :( إن الله يحب التوابين ). فيقع المرء في المعصية ، فيتوب فيكون محبوبا إلى مولاه ، مقربا منه .
وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال : لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها . أخرجه البخاري . إذا تيقنت من هذا فتأمل سيد الاستغفار : اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .

فاطرح عبد الله ، بين يدي مولاك ، فهو أرحم بك من أمك التي ولدتك ،
فر إليه ، واهرب من عدوك وعدوه إليه ،
وألق بنفسك طريحا ببابه ، لائذا بجنابه ، ممرغا خدك على أعتابه ،
باكيا بين يديه ، متملقا بذلتك إليه ،
فهو معاذك ، وبه ملاذك ، وإليه معادك ، فتب إليه توبة تمحو عجراتك وبجراتك ، وتغفر ذنوبك وسيئاتك ، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له .

.
( مقتطف من خطبة جمعة )