تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ثورة العرب الموريسكيين في أسبانيا



أحمد الظرافي
06-21-2009, 09:39 PM
ثورة العرب الموريسكيين في أسبانيا
بقلم: أحمد الظرافي




في عام897هـ - 1492 وفي صباح يوم شتائي ممطر ، تم تسليم مفاتيح غرناطة، آخـر معاقل المسلمين في أسبانيا، بعد حملات صليبية متوالية، وحصار خانق استمر لعدة سنوات من قبل الجيوش الأسبانية الكاثوليكية المدعومة من قبل البابا والممالك الأوروبية، وغادرها ملكها المخلوع أبو عبد الله الصغير، باكيا حزينا جريح الفؤاد إلى غير رجعة، تاركا خلفه مئات الآلاف من المسلمين لمصيرهم المجهول، تحت رحمة ملوك الأسبان النصارى، الذين انتهى إليهم الجنوب الأندلسي كله، بموجب معاهدة استسلام مكونة من 60 بندا، قضت بتأمين المسلمين في أنفسهم وأموالهم واحترام دينهم وشعائرهم ومساجدهم، ولغتهم وتراثهم وعاداتهم، وجميع حقوقهم ..

الهدوء الذي يسبق العاصفة
وقد لبثت السياسة الأسبانية الرسمية عدة أعوام بعد سقوط غرناطة وانكسار شوكة المسلمين، تلتزم جانب الروية والاعتدال بشكل عام، واتخذت الأهبة لنقل المسلمين الراغبين في الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، بعد بيع أملاكهم بثمن بخس، بينما بقي القسم الأكبر من المسلمين في غرناطة وما حولها. هذا عدا جموع المدجنين الموجودين في بلنسية، في شرقي الأندلس وفي سرقسطة في شمالها والذين كانت أعداد كبيرة منهم لا تزال تحتفظ بدينها الإسلامي. بيد أن تلك السياسية الأسبانية لم تطل، إلا ريثما يتم نزع سلاح المسلمين، وعزلهم في أحياء وتجمعات سكانية منفصلة عن بعضها البعض. ولم يكن ذلك الهدوء النسبي في الواقع، سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة. إذ لم يلبث الأسبان حتى كشفوا عن وجوههم الحقيقية، وأبانوا عن خبثهم وحقدهم وأنانيتهم وسوء طويتهم، تجاه هذا الشعب الذكي النابه، وكانت الكنيسة الكاثوليكية، تجيش بنزعتها الصليبية الحاقدة، وتضطرم حماسة ورغبة في القضاء على البقية من الأمة الإسلامية في اسبانيا، وكان الأحبار يطالبون الملكين الكاثوليكيين فريدناند وإيزابيلا بإلحاح بالعمل على سحق طائفة محمد واستئصال شأفتها من اسبانيا، وأن يضعهم بين خيارين لا ثالث لهما ، فإما الجلاء أو التنصير لمن يريد البقاء. ومن هنا بدأ الأسبان الكاثوليك مسلسل الغدر المبيت والمنظم برعاياهم المسلمين المعاهدَين. وما حل بالمسلمين على أيديهم كان مرعبا وكانت مأساة من أبلغ مآسي التاريخ، ولما تدرس، ولم تكتب صفحاتها- بعد، لأننا لا نملك وثائقها بين أيدينا، فقد تنكر المنتصرون لكل حرف خطوه في المعاهدة، واستطالوا على أولئك المساكين، ونكبوهم شر نكبة، ولم يذكروا لهم إلا ولا ذمة " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " ( آل عمران:118).
وأطلق الأسبان على تلك الطائفة المسلمة التي غلبت على أمرها، منذ ذلك التاريخ اسم الموريسكيين (Moriscos) ومعناه الأندلسيين القادمين من المغرب العربي والساكنين في أسبانيا. وأصبح هؤلاء الموريسكيين هم القاسم المشترك الأعظم بين كل أعداء إسبانيا، فهم مسلمون مثل العثمانيين وعرب مثل أهل المغرب، وإخوان الشقاء مع الألمان والهولنديين البروتستانت. " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ".

التنصير القسري للمسلمين
وفي عام 1501 أصدر الملك الغادر فرناندو وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا، مرسوما ملكيا يقضي بضرورة تنصير المسلمين، فحاول بعض مسلمي غرناطة الاحتجاج ببنود اتفاقية التسليم، فإذا هي لم تعد تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وعندما قرروا المقاومة والتصدي لهذا المشروع الخطير، ولما حل بشيخهم الزبيري الطاعن في السن من بلاءٍ، سُحق المعارضون في حي البيازين تحت سنابك الخيول، وتحول حي "البيازين" إلى بحر من الدماء، وقتل جنود قشتالة كل من وجدوه أمامهم دون تمييز. وأعلنت إيزابيلا أنه يجب تقديم كل رءوس الثورة إلى محاكم التفتيش. وقام زبانية الكاردينال خمينيس، مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الأسبانية، والذي كلف من قبل فرناندو وإيزابيلا المتعصبين للصليب، للتعامل مع هذه الطائفة، قاموا بناء على توجيهاته، بالقبض على المسلمين لمجرد الشبهة وحشدهم في ساحة غرناطة الرئيسية، وتم إعدام مائتين من علماء المسلمين حرقاً على رءوس الإشهاد، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، كما جمعت كتبهم ومصاحفهم فأحرقها الكاردينال خمنيث أمام الملأ، ولم يستثن منها سوى 300 من كتب الطب، وفرض التنصير على عموم من بقي من المسلمين فرضا، وأغلقت مساجدهم، أو حولت إلى كنائس، وأجبروا على تغيير أسمائهم العربية إلى أسماء نصرانية.. وصدق الله العظيم " كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ" [التوبة 8-9].
وحظر على هؤلاء الموريسكيين كل شيء له علاقة بالإسلام والعروبة:
- فحظروا عليهم التخاطب أو الكتابة بالعربية
- وحظروا عليهم استعمال الأسماء والألقاب العربية.
- وحظروا عليهم ارتداء الثياب العربية الإسلامية
- وحظروا التحجب على نسائهم، وأجبروهن على السفور..
- وحظروا عليهم حمل السلاح أو حيازته، وهذا حتى يسهل القضاء عليهم وسحقهم، دون أن يجدوا ما يدفعون به عن أنفسهم
- وألزموا بدفع أنواع كثيرة من الضرائب التي لم يخضع لها النصارى، لتمويل حروب أسبانيا وحملاتها الاستكشافية لبناء مستعمرات لها فيما وراء البحار.
- وأجبروهم على تغيير أسمائهم العربية إلى أسماء نصرانية.
- وحظروا عليهم الاغتسال من الجنابة
- وحظروا عليهم استعمال الحمامات وأمروهم بهدم المقامة منها، سواء كانت عامة أم خاصة.
- وحظروا عليهم إقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، وأن تجرى الحفلات طبقا لعرف النصارى والكنيسة الكاثوليكية.
- وحظروا عليهم إغلاق المنازل أثناء الاحتفال وفي أيام الجمع وأيام الأعياد، وألزموهم بإبقائها مفتوحة ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع في داخلها من المظاهر والرسوم المحرمة( أي الإسلامية )..
- وحظروا عليهم قائمة طويلة من الأشياء يصعب استقصاؤها.

فظائع محاكم التفتيش
وفي غضون ذلك جاء دور محاكم التفتيش الكنسية. تلك المحاكم سيئة الصيت التي جاء الإعلان عن تشكيلها في غرناطة في إطار خطة مبرمجة لإلغاء الإرث العربي ، الإسلامي، الأندلسي في أسبانيا بالإقناع حينا، وبالعنف في اغلب الأحيان.فقد سلطوها على المسلمين بوحشيتها وهمجيتها، وفظاعة أساليبها في التحقيق والتعذيب، والتي لم يعرف لها التاريخ مثيلا، إلا في أبي غريب وجوانتناموا وقاعدة باجرام مؤخرا، وبزعامة الكاردينال المتحجر القلب خمنيس نفسه، الذي أصبح هو المفتش الأعظم الذي أنيط به أن يحمي حق المسيح على الأرض، والذي كان يضطرم حماسة لسحق دين محمد ولمطاردة المسلمين وتنصيرهم. وهكذا انتشر قساوسته في كل أرجاء غرناطة يقبضون على أي أحدٍ من المسلمين لمجرد الشبهة. وقد ألفت محاكم التفتيش في هذه الفئة المستضعفة أخصب ميدان لنشاطها، فأخضعتهم لرقابتها الدائمة، وجعلتهم شغلها الشاغل فصادرت أموالهم، وانتهكت أعراضهم، ونكلت بهم أشد تنكيل، وسامتهم سوء العذاب، وأقامت لهم المحارق الجماعية، وملأت منهم سجونها المظلمة والعفنة، وتفننت في أساليب تعذيبهم وإرهاقهم جسديا ومعنويا، وبصورة تدمي القلوب وتفطر الأكباد ،وكانت تنظر لهم كعنصر دخيل وكورم خبيث ينبغي استئصاله. وقامت في إرهاقهم وإبادتهم بأعظم دور، وتركت في مأساتهم أعمق الأثر، وأسبغت عليها صبغتها الأليمة المفجعة، وكان مجرد ذكر اسم هذا الديوان يثير الرعب والفزع.
ومن الأساليب الوحشية التي كانت تتبعها محاكم التفتيش في تعذيب المسلمين: الجلد علنا, والكي بالنار، وحرق الأقدام بالفحم المشتعل, وربط أطراف المتهم في إطار مثلث الشكل, والتجويع التدريجي، وتعذيب الأسياخ المحمية للبطن والعجز، وسحق العظام بالآت ضاغطة، وتمزيق الأرجل وفسخ الفك وغيرها من الوسائل الهمجية المثيرة التي لا تخطر على البال وما زال بعضها يتكشف إلى اليوم.
وكان من صلاحيات محاكم التفتيش القبض على الأبرياء دون حرج، ومطاردتهم لأدنى شبهة وتقديمهم للتحقيق والتعذيب والمحاكمة، دونما حاجة لتوافر البيّنة أو الأدلة القاطعة، واقتحام منازلهم للتفتيش فيها على مصحف مخبأ ، أو أي أثر من شعائرالمسلمين، مع استجواب الأطفال القصر، وسؤالهم إن كانوا يرون آباءهم أو أمهاتهم يصلون أو يقرؤون القرآن، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر المحققين من أقوى الأدلة على الردة، ويعرض المتهم لأقسى أنواعالعذاب والعقاب.
وتابعوهم متابعة دقيقة، حتى إنهم كانوا يفتشون عن عورة الصبي، أو الرجل فإن وجدوهمختونا علموا أنه مسلم، فبطشوا بأهله وبزوجته وبأبنائه بأشد أنواع البطش والفتك.
وكان بعض المحققين في بعض الأحيان يقرون اغتصاب البنات والزوجات وغير ذلك من وسائل الضغط والظلم الفظيع الذي يجري باسم التحقيق الكنسي المقدس وبماركته وفي ظله.
وكانت دستور محاكم التفتيش يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتصادر أموالهم، وتوقع العقوبات عليهم مثلهم مثل الأحياء بأن تعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق كما يحرق الأحياء.
وكان يشترط في المحققين في هذه المحاكم أن يكونوا متقدين حماسة لسحق طائفة محمد، وأن يتمتعوا بقلوبٍ متحجرة وأفئدة قاسية بحيث لا تضعف أمامالتوسلات والتضرعات التي يظهرها بعض المتهمين بالهرطقة.

الثورة الموريسكية الشاملة
طوال خمسة وسبعين عاما عجافا نحسات، ورغم المصائب التي أصابتهم والنكبات التي أوقعتها بهم محاكم التفتيش، ظل الموريسكيون قابضين على دينهم في السر مثل القابض على الجمرة. وحتى إن كان بعضهم قد اضطر أن يعلن التنصر، وأن يربي أبناءه على النصرانيةعلنا، لتفادي العذاب والمحارق إلا أنه كان يخفي الإسلام. ولأن الكثيرين منهم كانوا تجارا ميسورين وأصحاب مزارع وحرفيين فقد استطاعوا من خلال ما كانوا يدفعونه من ضرائب إضافية أو رشاوي وإتاوات للأمراء المحليين، ولدعم الخزينة الأسبانية، استطاعوا أن يخففوا من وطأة الكثير من القوانين الجائرة الصادرة ضدهم أو تجميدها أو تأجيل سريانها ، وقد استمر ذلك حتى أتي الملك فيليب (1555-1598 )، فكان عهده بحق كابوسا مرعبا بالنسبة للموريسكيين، وفيه تم تجديد وتعزيز معظم القوانين المجحفة التي صدرت في عهد أسلافه، وأظهر هذا الملك إصرارا منقطع النظير على وضع كل تلك القوانين دفعة واحدة، موضع التنفيذ، وبشكل حازم وجازم وشديد الصرامة ودون أية هوادة فيها أو رحمة. وقد تم الإشعار بذلك في أول يناير1567وهو اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، واتخذته أسبانيا عيدا قوميا لها تحتفل به كل عام.
وفي غضون ذلك بلغ اليأس بالموريسكيين في غرناطة ذروته، ولم يعد بمقدورهم الصبر على الظلم الفادح، وما لقوه ولا زالوا يلقونه من الحيف والجور، فتذامروا وتداعوا إلى الثورة والمقاومة ذبا عن دينهم وأنفسهم وكرامتهم، إزاء هذا العسف والتعنت المضني، الذي لم يُعرف له مثيل. ونشبت الثورة في غرناطة في ليلة عيد الميلاد، ديسمبر1568، واضطرمت الثورة - التي هي أهم حرب أو ثورة مسلحة يقوم بها المسلمون بعد سقوط غرناطة – اضطرمت في أنحاء منطقة البشرّات، ووثبت الجموع المسلحة من الموريسكيين الثوار على الحاميات الأسبانية وعلى النصارى القاطنين بين أظهرهم ففتكوا بهم ومزقوهم شر ممزق، وصبوا جام غضبهم بصفة خاصة على القسس لكونهم سبب بلائهم ومصائبهم.
وما لبث أن عم لهيب الثورة معظم أنحاء الأندلس، ودوت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة والموت، مع الإمبراطورية الاسبانية، أقوى إمبراطورية في العالم في ذلك الوقت.

محمد بن أمية صاحب الأندلس
واختار الثوار الموريسكيون فتى قويا وسيما نبيل المحتد في سن العشرين من أهل البيازين في غرناطة، يدعى الدون فرناندو دي كردوبا فالور – اختاروه أميرا عليهم وزعيما لإمارتهم الإسلامية والقائمة في بعض مناطق جنوب أسبانيا، والمستقلة عن الدولة النصرانية.
وكان هذا الفتى في الواقع من بقايا أحفاد ملوك بني أمية الذين سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس. وما أن تسامع الموريسكيون بإمارة هذا الفتى هذا الفتى الأموي النبيل، حتى هرعت نحوه الوفود والجموع من كل ناحية، إلى معسكره في الجبال،لتأييده ومبايعته. وقد احتفل الموريسكيون بتتويجة أميرا عليهم في 29ديسمبر1568 ، في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلّة، فصلى عليها الأمير متجها نحو مكة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة.
وتسامع المسلمون وراء البحار بهذه الثورة فتداعوا لنجدة إخوانهم المنكوبين، وهرعت إلى نصرتهم ونجدتهم جموع مجاهدة جريئة من بلدان المغرب العربي – ووفدت معهم فرقة من المجاهدين الترك. وقد خاطرت هذه الجموع المجاهدة بنفسها، وعبرت البحر إلى الشواطئ الأسبانية.
وبمقدم هؤلاء تفاقمت الثورة وتعاظم شأنها، فجرد الأسبان الحملة تلو الحملة للقضاء عليها فلم يستطيعوا. ومني الطرفان بخسائر فادحة في الأرواح وفتك الأسبان بالنساء والأطفال فتكا ذريعا، وهدموا مدن الموريسكيين وقراهم فوق رءوس أهلها من الشيوخ والنساء والأطفال، لإجبار الثوار على وضع السلاح.
ومع كل ذلك إلا أن تلك الحملات الأسبانية الطائشة فشلت في تحقيق أهدافها، وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير قادرة على حرمان الثوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيين في الجزائر ، ولم يؤد الاستخدام المفرط للقوة والمجازر الجماعية التي قامت بها القوات الأسبانية، ضد الثوار والسكان العزل إلى التخفيف من حد الثورة، بل على العكس كان ذلك سببا في استفحالها وفي زيادة وتيرتها واستماتة المجاهدين المسلمين في الدفاع عن دينهم وكرامتهم واستقلالهم.
وشيئا فشيئا تراخت قبضة النظام الاسباني على جنوب الأندلس نتيجة لضربات الثوار، الذين وصلتهم بعض قطع الأسلحة عبر البحر من إحدى قطع الأسطول العثماني المرابطة في خليج تونس، حيث كان قائد الأسطول ينتظر الأوامر والمدد من السلطان العثماني للتدخل في اسبانيا لصالح المسلمين. وقد أدى ذلك إلى ضجة كبيرة في مدريد، عاصمة الإمبراطورية الأسبانية، وسادت أجواء الذعر الشديد في بلاط الملك الأسباني الكاثوليكي المتعصب فيليب من أمكانية وصول القوات العثمانية النظامية وأسطولها، وتدخلها في الحرب لصالح الموريسكيين. وأثناء حوار مع الرسول البابوي، أعلن المسئولون الأسبان أنه إذا حصل تدخل من جانب العثمانيين، فإن أسبانيا قد تسقط في أيدي المسلمين. وخلص الملك فيليب والقادة الأسبان والبابا ورجال الكنيسة إلى ضرورة تدخل الجيش الأسباني بكل ثقله لوضع حد لتلك الانتفاضة ولإخمادها بأسرع ما يمكن، قبل أن يتمكن السلطان العثماني من جمع قواته المنتشرة في البلقان وشرقي أوروبا ومن ثم توجيهها إلى أسبانيا.

التصعيد الأسباني وسياسة الفـرز
واستقر الرأي في مدريد على إرسال أفضل وحدات الجيش الإسباني بقيادة دون خوان النمساوي ( 1547-1578) ودعمه بكل الإمكانات البشرية والحربية، لسحق انتفاضة العرب الموريسكيين في غرناطة وما حولها.
ولكن برغم ضخامة القوات التي حشدتها أسبانيا وجهوزيتها، فقد رأى أصحاب الرأي في بلاط الملك فيليب، أن الحل العسكري غير ناجع بمفرده للقضاء على الثورة، ودعوا إلى أن يكون الحل العسكري متزامنا مع اللجوء إلى أساليب السياسة والدهاء والحيلة، أي بعبارة أخرى دعوا إلى استخدام سياسة العصى والجزرة ، وإلى سياسة فرق تسد، وحظيت هذه الخطة بالدعم والتأييد من قبل الملك الذي أعطى توجيهاته بوضعها موضع التنفيذ، فراح السياسيون الأسبان يبحثون عن حصان طروادة ليكون مطية لهم يتسللون من خلالها إلى المجاهدين لاختراق صفوفهم، ومن ثم إحداث الانشقاق في قيادتهم.
فعملوا على تقسم المجتمع الموريسكي إلى قسمين: فئة الموريسكيين المحاربين، وهم الذين حملوا السلاح وقاموا بالثورة دفاعا عن دينهم وأنفسهم وأعراضهم، وفئة الموريسكيين المسالمين، وهم الذين لم يحملوا السلاح، ولم يشتركوا في الثورة وضلوا على ما هم عليه من ولاء وخضوع للأسبان رغم المهانةٍ والحياةٍ الذليلة التعيسة التي كانوا يعيشونها.
وعلى هذا الوتر الحساس بدأ السياسيون الأسبان يعزفون، فجاءوا بزعماء ممن أطلقوا عليهم "الموريسكيين المسالمين" الذين لم يكن بوسعهم سوى تنفيذ ما يملى عليهم، وبعثوا بهم كوفد إلى إخوانهم من قيادة الثوار في الجبال، ليدعوهم إلى إلقاء السلاح، وليناشدوهم وقف الحرب وحقن الدماء، وليحبذوا لهم التفاهم مع الحكومة والقبول بالأمر الواقع. وانبرى أحد هؤلاء الزعماء " المسالمين" واسمه الدون ألونسوا فنيجاس، وهو زعيم عربي أجبر على تغيير اسمه ودينه وهويته، أنبرى ليكتب إلى محمد بن أمية أمير الثوار بخطاب يعاتبه فيه، ويتهمه بمجانبة العقل والحزم وتعريض أمته للهلاك.. وسواء كان هؤلاء الزعماء المسالمين يدركون عواقب فعلهم هذا من عدمه فإنهم قد سمحوا لأنفسهم بممارسة الضغط على إخوانهم الثوار، وقبلوا أن يكونوا أداة في يد الأسبان للتشويش على جهادهم، ولمحاولة الإيقاع بينهم، بدلا من أن ينتظموا في سلك الثورة لتعزيزها إلى جانبهم. ثم عن أي هلاك كان يتحدث عنه أولئك الزعماء المسالمون ؟ وهل كان هناك هلاكا أشد مما كان فيه الموريسكيون قبل الثورة؟ وماذا عساهم أن يخسروا أكثر مما قد خسروا؟ وهل هناك خسارة أكبر من أن يجبر المرء على تغيير دينه واسمه وهويته وعاداته وتقاليده نتيجة لساسة الإرهاب والبطش؟ وأين كان هذا الدون فنيجاس وغيره من الزعماء ممن برزوا دعاة للسلام والمصالحة، أين كانوا عندما كان هؤلاء المستضعفون يُطحنون تحت رحى محاكم التفتيش؟
بيد أن تدخل هؤلاء " المسالمين" على خط الوساطة بين الحكومة الأسبانية والثوار الموريسكيين جوبه بالرفض في بداية الأمر ، فقد شككت أغلب قيادات الموريسكيين والترك والمغاربة في مصداقيته وجدواه، وفطنوا – فيما يبدو – إلى المخطط الشرير الذي يهدف إليه الأسبان من وراءه بعد أن أخفقوا في القضاء على الثورة بالقوة المسلحة، واستطاع هؤلاء أن يفرضوا رأيهم على الأمير محمد بن أمية والقاضي بمواصلة الثورة حتى نيل الاستقلال الكامل، لاسيما أنهم كانوا لا زالوا يراهنون على تدخل الدولة العثمانية لصالحهم ولم يفقدوا الأمل في وصول النجدة منهم والتي قد تأتيهم من وراء البحار.

ومع ذلك فلم ييأس أولئك الزعماء الموريسكيين – ومن خلفهم السياسيون الأسبان- من التدخل ومن مكاتبة قادة المجاهدين ودعوتهم إلى إلقاء السلاح، والجلوس إلى التفاوض، وظلوا يضغطون على أعصاب محمد بن أمية، ويمنونه ويعدونه الوعود على لسان أسيادهم الأسبان النصارى، وكان ذلك مقدمة لبذر بذرة الشر بين المجاهدين، ولسوء التفاهم بين الأمير محمد بن أمية، وقادة المتطوعين الترك والمغاربة. لميل الأول بمبدأ القبول بالتفاهم مع الحكومة الأسبانية، ولاستمرار المتطوعين الترك والمغاربة وطبعا مع تأييد قيادات أخرى من الموريسكيين، في رفضه. ووقف هؤلاء عقبة في طريقه للتفاهم مع الحكومة.
وتمادى أولئك الزعماء "المسالمون" في تدخلهم، فدعوا محمد بن أمية زعيم الموريسكيين – إلى طرد الترك والمغاربة، حتى يتحقق التفاهم مع الحكومة ويفوز بشروط أفضل، باعتبار أن هؤلاء دخلاء وافدين على الأندلس، وليسوا مواطنين أسبان مثلهم. ونتيجة لذلك اخذ سوء التفاهم ذاك يتضخم شيئا فشيئا، ولم تنته هذه المسألة إلا بحادثٍ دمويٍ مؤسفٍ وهو مقتل الأمير محمد بن أمية زعيم الثوار على يد المتطوعين الترك، نتيجة لمكيدة دبرت بليلٍ وأوقعت بينهم وبينه، ولم تكشف تفاصيلها حتى الآن.

الأمير الجديد، مولاي عبد الله
ومما لاشك فيه أن هؤلاء الزعماء " المسالمين" لم يكونوا يتحركون، من تلقاء أنفسهم، وخوفا على مصالح الجماعة كما كانوا يزعمون، بل الأكيد أن الأصابع السياسية الأسبانية، هي التي كانت تحركهم وتوجه مسارهم، طبقا لخططها وأهدافها ومصالحها.
وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء عملاء للحكومة الأسبانية، بل أنهم قد يندفعون في خطتها تلك بسبب نزعة الخوف التي في قلوبهم منها أو حبا للظهور، أو لنفي تهم السلبية عن أنفسهم، أو ليقال عنهم أنهم مسالمون أو معتدلون، أو لأي مصلحة دنيوية أخرى.
ومن الطبيعي أن يتقمص هؤلاء وأشباههم- أيا كانت دوافعهم أو نواياهم- دور الحكماء والمصلحين، وأن يتشدقوا باسم السلام والمصلحة العامة، وباسم الأمن والاستقرار، حتى يبرروا جبنهم وتخاذلهم، وليمرروا سوء أفعالهم وتصرفاتهم، وحتى يلبسوا على الناس أمرهم الواضح الجلي، ويغرروا بهم ويشككوهم في أنفسهم، وحتى ينخدع بقولهم قليلو الفهم أو عديمو الخبرة. والمهم أن سوء التفاهم أخذ يتضخم شيئا فشيئا، ولم تنته هذه المسألة إلا بحادثٍ دمويٍ مؤسفٍ وهو مقتل الأمير محمد بن أمية زعيم الثوار على يد المتطوعين الترك، نتيجة لمكيدة دبرت بليلٍ وأوقعت بينهم وبينه.
ولكن بالرغم من هذا الحادث المؤسف الذي أودى بحياة محمد بن أمية أمير الموريسكيين فقد وقى الله الثوار المسلمين الفتنة التي كان يسعى إليها الأسبان، من خلال أزلامهم " المسالمين" فقد كان الثوار الموريسكيون يثقون بالمتطوعين الترك والمغاربة ويقدرون لهم هبتهم لنجدتهم، وتم طي هذه الصفحة بسرعة، وأجتمع الزعماء في الحال، واختاروا ملكا جديدا هو ابن عم الملك القتيل، فتسمى بمولاي عبد الله محمد. وكان هذا الأمير أكثر فطنة وروية وتدبرا وخبرة من محمد بن أمية، فحمل الجميع على احترامه، وشغل حينا بتنظيم الجيش واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، وألتف حوله جيشا مدربا قوامه زهاء عشرة آلاف مقاتل، بمن فيهم المتطوعون المغاربة والترك، فضلا عن الأعداد الكبيرة من المتطوعين المشاة. وحصل مولاي عبد الله على تعزيزات من قيادة الجيش العثماني في الجزائر وكان ذلك سببا في نجاح حملاته الأولى ضد النصارى الأسبان، وطوق جيشه مدينة أرجيه. ومع هذا التصعيد راح زعماء الثورة الموريسكية يكتبون إلى ملوك المسلمين شرقاً وغرباً يناشدونهم الله في الإغاثة، وكانت أكثر كتبهم إلى مولاي عبد الله ملك السعديين في فأس، لأنه كان القريب إلى أراضيهم، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أما الأسبان الكاثوليك فإنهم من جانبهم، لم يستكينوا ولم يهدأ لهم بال، بل استمروا في حربهم الشعواء على الثورة وضربهم لها بيد من حديد وبشكل متواصلٍ، ولم يتركوا وسيلة عدوانية وسياسية، إلا استخدموها في محاربة الموريسكيين. وقام دون خوان النمساوي القائد الأسباني الذي كلفه الملك بقمع الثورة ووفر له مختلف أنواع الدعم، قام خلال عامي 977-987هـ/1569-1570م، بأقذر أنواع الحروب في التاريخ ضد الموريسيكين ثوارا ومدنيين، فذبح النساء والأطفال عنوة، وأحرق المساكن ودمر البلاد وهجر السكان، وأفرغ كثير من القرى منهم، وكان شعاره لا هوادة، وانتهت هذه الحملات الدموية الفظيعة بإذعان مسلمي الأندلس، مؤقتا للأسبان.

الانشقاق في صفوف الثوار
بيد أن الموريسكيين بعد أن التقطوا أنفاسهم ما لبثوا حتى أعادوا الكرة من جديد بقيادة مولاي عبد الله. وبدورهم قام الأسبان باستئناف الحملات ضد الموريسكيين بصورة أشد من أي وقت مضى. وأرسلوا الحملات التي اجتاحت مدن وقرى الموريسكيين وذرعتها طولا وعرضا ودكتها دكا بالمدافع الضخمة التي جلبوها من إيطاليا وسائر أوروبا، وحولت تلك المدن والقرى إلى خرائب وأطلال تسكنها الأشباح وتنعق فيها البوم والغربان. وفي الوقت ذاته ظلوا يراهنون على أولئك الزعماء "المسالمين" في شق العصى بين الثوار، وفي القضاء على الثورة. وظل أولئك الزعماء " المسالمون" يواصلون الإرجاف، ويضغطون على الثوار، ويشوشون على جهادهم، ويخذلونهم ويشيعون في أنفسهم اليأس والهزيمة، ويروجون بينهم للمشاريع الاستسلامية الوهمية، كل ذلك والنصارى الأسبان يتفرجون لهم مسرورين، وينظرون إلى حماستهم فيبتسمون، وأرسل الدون فنيجاس لأبي عبد الله زعيم الثوار رسالة كتلك التي أرسلها من قبل للأمير القتيل محمد بن أميه، ولكن لم يكن لها أي صدى لدى أبي عبد الله. ولكن جانب الثوار لم يكن يخلو من طامحين، ومن هم مستعدون من القادة والزعماء لبيع أنفسهم وللتضحية بالمبادئ، مقابل تحقيق مصالحهم الشخصية، والعودة للحياة الطبيعية، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استطاع الأسبان استمالة أحد الزعماء والقادة الميدانيين الموريسكيين واسمه ( الحبقي )، مقابل بعض الإغراءات والتسهيلات التي لوحوا له بها، فأنشق عن الثوار بمن كان معه، وأعلن وإياهم ، الاستسلام للسلطات الأسبانية، بعد مفاوضات سرية مع وفدها، وكان لذلك أثر خطير على معنويات باقي الثوار المرابطين في الجبال والسهول. لكن الحبقي دفع حياته ثمنا لعمله الخياني الجبان هذا فقد استدرجه الثوار إلى مقرهم ونفذوا فيه حكم الإعدام.

النهاية الأليمـة
وفي ظل المصاعب الجسام التي كانت تواجهها الثورة، وتجهم الأجواء أمامها، وافتقادها للدعم الخارجي، وخذلان الملك الغالب بالله السعدي لأهل الأندلس بعد وعود المعسولة بالدعم لرسل الثوار، وفي ظل ما كان فيه الثوار وذويهم من متاعب ومجاعة وسوء حال، فقد استجاب لدعوة أولئك الزعماء" المسالمين" والقادة المنشقين، الآلاف تلو الآلاف، فكان الثوار ينقصون ولا يزيدون، ويفت في عضدهم انفضاض إخوانهم من حولهم وتخليهم عنهم ..وشيئا فشيئا أصبح المنخرطون في سلك الثورة أقلية يحاصرهم الجيش الأسباني في الجبال، ويطاردهم في كل مكان، وتلاحقهم سراياه أينما ذهبوا، ويتتبع آثارهم جيش من الجواسيس والخونة، وصاروا وجبة دسمة للوشاة والعيون، ممن كانوا بالأمس أعوانهم وأنصارهم.
وفي نهاية المطاف – ومع وجود أسباب أخرى- فشلت الثورة وسهل القضاء على بقية الثوار، ولكن مولاي عبد الله رفض الاستسلام وقرر المضي في المقاومة حتى الرمق الأخير، ولجأ مع قلة قليلة من الذين بقوا إلى جانبه إلى الحياة في الكهوف في قمم جبال البشرات. وما لبث الأسبان أن احتالوا عليه حتى قتلوه غيلة ونصبوا رأسه فوق أحد أبواب غرناطة تشفيا وحقدا، وظل كذلك زمناً طويلاً . وكان ذلك بعد حوالي عامين من بداية الثورة، وبعد الآلاف من الشهداء وأضعاف أضعافهم من الجرحى والأسرى والمهجرين إلى داخل الأندلس وخارجها. وبعدها لم يتحركوا قط، ولم تقم للإسلام والمسلمين قائمة في هذه البلاد، بينما استمر الأسبان في الحرب على البقية الباقية من الموريسكيين وأصدروا قرارا بطردهم جميعا من البلاد، وأولهم أولئك المسالمون، وكانوا قانونا في الأقل قد أصبحوا كاثوليكا، وظلوا منشغلين بتطهير أسبانيا منهم، وبعملية استئصالهم ماديا وجسميا، لمدة مائة عام أخرى، حتى انتهى أمر الإسلام والمسلمين تماما من أسبانيا. وصارت كلها نصرانية ، ولم يبق فيها من يقول: " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " وعادت الأمور إلى نقطة الصفر، وكأنك يا طارق بن زياد ما فتحت!! وكأنك يا موسى بن نصير ما توليت!! وكأنك يا عبد الرحمن الداخل ما دخلت !! وكأنك يا عبد الرحمن الناصر ما استخلفت !! وكأنك يا منصور بن أبي عامر ما حجبت!!

جواد_الليل
06-22-2009, 06:08 PM
وكـأنـك يا إسـلام لـم تـكـن هـناك ..

وكــأن أبـنـائك لا يـعـلمـون أي إنـهيـار انت فيـه .. !!

ومـازالت قصة الموريسكيين تتـكرر هـنا .. وهـناكـ في شـى بـقاع الاراض الاسلاميـة ..

والمسـالميـن في كـل مـكـان .. " مع القليل من الاختلافات " ..!!