تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كيف تدعو الناس ؟!



طرابلسي
04-19-2009, 07:33 PM
كيف
ندعو الناس

الشيخ محمد قطب


مقدمة
الدعوة إلى الله تكليف دائم بالنسبة لهذه الأمة0
((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))([1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn1))0
ذلك أنها أمة خاتم الرسل ، التى تحمل رسالته من بعده، ورسالته موجهة إلى البشرية كافة، وإلى الزمن كله، من لدن بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها0
وهى رسالة ذات شقين: شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد، لدعوتهم إلى الإيمان؛ وشق موجه للذين آمنوا، لتذكيرهم وترسيخ إيمانهم:
((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين))([2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn2))0
((يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل))([3] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn3))0
ولكن الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه فى تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهى أدنى من ذلك بكثير!
ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها فى الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذى تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، فى الوقت الذى تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها))0 قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن))0 قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))([4] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn4))0
وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان0 والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة فى الأرض، على الرغم من كل الحرب التى تشنها الجاهلية فى الأرض كلها على الإسلام0 ولكنها مهمة شاقة فى الغربة الثانية للإسلام: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ))([5] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn5))00 مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة0
ففى الغربة الأولى كان الإسلام معلوماً عند الناس فى أصوله العامة على الأقل، وهى الإيمان بالله الواحد والإيمان بالوحى والنبوة والإيمان بالبعث، سواء فى ذلك من دخل فى الدين الجديد، ومن وقف يحاربه أشد الحرب، ويرصد طاقته كلها لمحاولة القضاء عليه، وإنما كان سبب الغربة قلة المؤمنين به، وضعفهم وهوانهم على الناس، وكثرة الرافضين له، وطغيانهم فى الأرض0
قال ورقة بن نوفل لرسول الله حين أخبرته خديجة رضى الله عنها بقصة الوحى: ليتنى أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك! قال: ((أو مخرجى هم؟)) قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودى!([6] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn6))0
وسأل رجل رسول الله: إلى أى شئ تدعو الناس؟ قال: ((أدعوهم لـ لا إله إلا الله))0 قال: قال هذا أمر لا تتركه لك العرب!
أما فى الغربة الثانية فالأمر مختلف، وإن كانت الغربة غربة فى جميع الأحوال0
الإسلام اليوم غريب على أهله، فضلاً عن غربته على باقية الناس، وحين تعرضه عليهم على حقيقته يستوحشون منه، ويقولون لك: من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو الإسلام الذى نعرفه!
حين قول للطائف حول الضريح، يتمسح به، ويطلب البركات من صاحبه المتوفى منذ سنين أو منذ قرون: أن هذا شرك لا يجوز! يقول لك: من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذى تريد أن تجرد الإسلام من روحانيته!

[1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref1) سورة آل عمران: 104 0

[2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref2) سورة الذاريات: 55 0

[3] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref3) سورة النساء: 136 0

[4] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref4) أخرجه أحمد وأبو داود

[5] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref5) أخرجه مسلم0

[6] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref6) انظر كتب السيرة0



يتبع

salwa
04-20-2009, 04:48 PM
تقصيرنا في مجال الدعوة كبير جداً...... فكم هي المنكرات التي نراها حولنا لكننا لا نحرّك ساكناً......... ربما خجلاً.... أو ططنيشاً.... أو لقصور الهمة......

أريد هنا ذكر تجربة قام بها شخص أعرفه... كان شاباً يدرس في إحدى الدول الأجنبية فأهدى مدرّسته الكافرة مجموعة من الكتب المعرّفة عن الإسلام وحين سألها بعد فترة إن كانت قد قرأت تلك الكتب أم لا كانت المفاجأة أنها أخبرته باعتناقها الإسلام......مجهود بسيط قام به ذلك الشاب لكنه أتى بنتيجة رائعة بفضل الله.

تجربة أخرى قمت بها بنفسي ....مررت يوماً بجانب صيدلية تقع في منطقة مكتظة تعرض في واجهتها صورة فاضحة عملاقة ....لم أتمالك نفسي ودخلت الصيدلية وأمرت بالمعروف فاستجاب موظفوها و نزعوا الصورة, جزاهم الله خيراً..... بكلمات قليلة أزلت منكراً عاماً.... أسأل الله الإخلاص ورفع الهمم في الدعوة إليه

طرابلسي
04-20-2009, 08:14 PM
أحسنت أحسن الله إليك

--------------------

وحين تقول لمن يشرع بغير ما أنزل الله، ولمن يرضى بشرع غير شرع الله: هذا شرك0 يقول لك: من أين جئت بهذا؟ هذا تطرف وجمود ورجعية! الدنيا تطورت! أو يقول لك على أقل تقدير: شرك دون شرك! شرك لا يخرج من الملة!
وحين تقول لأستاذ علم الاجتماع، وأستاذ علم النفس، وأستاذ التربية، وأستاذ التاريخ000 إن ما درستموه من علوم الغرب، وما تدرسونه لطلابكم مخالف للمفاهيم الإسلامية، وفى بعض الأحيان مصادم مصادمة صريحة للعقيدة، يقولون لك- إلا ما رحم بك-: ما للإسلام وهذه الأمور؟ تريدون أن تحشروا الإسلام فى كل شئ؟ هذا علم، والإسلام دين! والدين لا دخل له بالعلم!
ومئات من الأمور00 حين تعرض حقيقة الإسلام فيها للناس يستوحشون،وفى أقل القليل يستغربون، وتحتاج إلى جهد كبير لإقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند الله، وليس ما تصوروه هم على أنه الإسلام!
وذلك كله فى مجال((المعرفة))00 أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!
إن المعرفة وحدها لا تكفى، وإن كانت هى البداية التى لابد من البدء بها قبل كل شئ، وقد كانت الكلمة الأولى التى بدأ بها الوحى هى كلمة((اقرأ))([1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn1))، ثم نزل على رسول الله بعد فترة قوله تعالى: ((فاعلم أنه لا إله إلا الله))([2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn2))0 والعلم- كما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم- ليس مجرد المعرفة، إنما هو المعرفة التى تؤدى إلى العمل، ومن ثم انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها0
ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم لا إله إلا الله قد استغرق من جهد الرسول شيئاً غير قليل فى غربة الإسلام الأولى، فإن الجهد الحقيقى الذى بذله رسول الله - فى مكة خاصة- كان هو تربية المؤمنين الذين قبلوا الحق وآمنوا به، على مقتضيات لا إله إلا الله، مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق، بدءاً بتربية القاعدة الصلبة الراسخة البنيان، ثم تربية سائر الناس0
واليوم- فى غربة الإسلام الثانية- تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد فى الأمرين معاً: التعريف والتربية0
فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون فى الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل0 أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف00 فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة، بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التى تواحهها0
ومن المهم- إلى الدرجة القصوى- أن نعرف كيف ندعو الناس00 فالأزمة التى يمر بها العالم الإسلامى اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به فى التاريخ00 وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار0 وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله
وما لم نسر فى طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة فى ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقى0

[1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref1) سورة العلق: 1 0

[2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref2) سورة محمد: 19 0



يتبع

المنتظر
04-20-2009, 08:49 PM
جزاك الله خيرا فهذا الكتاب من الكتب المهمة التي يجب ان تدرس في هذا العصر وان يستفاد من خبرة الشيخ الدعوية ,
وهذا الكتاب غير متوفر على ما اعلم في مكتبات طرابلس الاسلامية .
فهل استطيع الحصول على نسخة منه ؟ ومن اين ؟
وجزاك الله خيرا

أم عمر
04-20-2009, 09:33 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن كانت كتبه على النت أرجو أن تزودونا بالرابط

كل ما عندي بعضها ....والشيخ كتبه قيّمة

من هناك
04-21-2009, 04:30 AM
تقصيرنا في مجال الدعوة كبير جداً...... فكم هي المنكرات التي نراها حولنا لكننا لا نحرّك ساكناً......... ربما خجلاً.... أو ططنيشاً.... أو لقصور الهمة......

أريد هنا ذكر تجربة قام بها شخص أعرفه... كان شاباً يدرس في إحدى الدول الأجنبية فأهدى مدرّسته الكافرة مجموعة من الكتب المعرّفة عن الإسلام وحين سألها بعد فترة إن كانت قد قرأت تلك الكتب أم لا كانت المفاجأة أنها أخبرته باعتناقها الإسلام......مجهود بسيط قام به ذلك الشاب لكنه أتى بنتيجة رائعة بفضل الله.

تجربة أخرى قمت بها بنفسي ....مررت يوماً بجانب صيدلية تقع في منطقة مكتظة تعرض في واجهتها صورة فاضحة عملاقة ....لم أتمالك نفسي ودخلت الصيدلية وأمرت بالمعروف فاستجاب موظفوها و نزعوا الصورة, جزاهم الله خيراً..... بكلمات قليلة أزلت منكراً عاماً.... أسأل الله الإخلاص ورفع الهمم في الدعوة إليه
اهلاً وسهلاً بالأخت سلوى في المنتدى وجزاك الله خيراً

إن الأمر بالمعروف اسهل مما نتصور والله اعلم ولكنه بحاجة إلى يقين وقلب ثابت وثقة بنصر الله. متى تخطى الإنسان عقدة الخوف والتردد الشخصي، سيجد ان ما خلف ذلك سهل جداً

طرابلسي
04-21-2009, 06:18 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يمكنكم تحميل الكتاب من هنا

http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?s=&threadid=26710

وللحديث بقية إن شاء الله

moon3000
04-21-2009, 10:27 AM
بارك الله فيك أخي الحبيب طرابلسي

موضوع قيم يستحق المتابعة

ولكن لي ملاحظة: لو تقدر أن تعمل تصليح لبعض حروف الإنجليزي في الموضوع أو أن يقوم الأخ مقاوم بفعله.

على سبيل المثال :

الرسل r
رسول اللهr
ورسالته r

وهناك الكثير
فأعتقد ان هذا الحرف يرمز إلى صلى الله عليه وسلم أو عليه السلام

ايضا نعطي مثالآ اخر في موضوعك وهو

تكاليف00

فهناك الكثير من الأصفار في الموضوع مما يفقده رونقه أخي الحبيب ، فأعتقد ان الاصفار بهذا الشكل 00 تعني نقط بهذا الشكل ..

والله أعلم

مقاوم
04-21-2009, 02:38 PM
ولكن لي ملاحظة: لو تقدر أن تعمل تصليح لبعض حروف الإنجليزي في الموضوع أو أن يقوم الأخ مقاوم بفعله.
حاضرين للطيبين. تم التعديل.

moon3000
04-21-2009, 07:26 PM
تفضلت على راسي عمي مقاوم

يسلموا يا طيب

طرابلسي
04-21-2009, 07:43 PM
فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون فى الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة،

بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التى تواجهها
ومن المهم- إلى الدرجة القصوى أن نعرف كيف ندعو الناس فالأزمة التى يمر بها العالم الإسلامى اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به فى التاريخ وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله .صلى الله عليه وسلم
وما لم نسر فى طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة فى ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقى .


ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيرى منذ أمد ليس بالقصير، فيرد على خاطرى سؤال ملح: كيف ندعو الناس؟ ما الأسلوب الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى فى مسيرة الدعوة- بين الحين والحين- ما يبدو أنه تقصير فى بعض الجوانب، أو تعجل فى بعض الجوانب، أو انحراف فى بعض الجوانب فأقول فى نفسى: إنه لابد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلال ما يزيد عن نصف قرن؛ حتى نستكمل ما وقع فى مسيرتنا من نقص، ولا نكرر ما وقعنا فيه من أخطاء، وحتى نستفيد من عبرة الماضى لتقويم الحاضر، وتسديد العمل من أجل المستقبل، وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة فى كل مرحلة من مراحل السير
وفى هذه الصفحات، أحاول أن أعرض ما يجول فى خاطرى من أفكار فى هذا الشأن، وهو أولاً وآخراً اجتهاد يخطئ ويصيب، أدعو الله أن يوفقنى فيه إلى السداد: ((إن أريد إلا صلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب))(هود : 88)
محمد قطب

يتبع ....
تأملات في نشأة الجيل الأول

مقاوم
04-21-2009, 09:08 PM
تفضلت على راسي عمي مقاوم

يسلموا يا طيب
يسلم راسك أخي الحبيب.

طرابلسي
04-22-2009, 07:12 PM
تأملات في نشأة الجيل الأول




نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : ((ولتصنع على عينى))(طه : 39)، ونشأ على يدى أعظم مرب فى تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان جيلاً فريداً فى تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحى، ويتابعه رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة فى أعلى صورة، فأصبح كالدرس ((النموذجى))، الذى يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم.

ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية – لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكى لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم !
فما كان فى هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحى المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))(الحجر:9)
وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الربانى، الذى يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذى قام به رسول الله لصلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) (النحل: 44) . ((وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى))(النجم : 3-4)

أما قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر، فلم يكن هو فى ذاته الخارقة: ((إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان))(الأنفال : 12) فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله فى أية مناسبة: ((إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون(30) نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة)) (فصلت : 30-31)
إنما كانت الخارقة هى رؤية المؤمنين للملائكة وهى تقاتل معهم : ((وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم))(آل عمران : 126)
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم : ((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان))(الأنفال : 41) .. فهى التى كتبت التاريخ، وليس فى كل يوم يكتب التاريخ .. إنما تكتب منه سطور إثر سطور!

وفيما عدا هذه الخارقة التى اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول،صلى الله عليه وسلم فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف فى المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار فى الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هى دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هى قابلة للتطبيق فى كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا فى كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ – الذى هو فى الحقيقة مجرى السنن فى عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا فى كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه وقد استوقفنى فى أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتى فى تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها فى مسيرتنا الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور فى هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل



* * *


من أشد ما استوقفنى فى مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الربانى للمؤمنين أن يكفوا أيديهم فى مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر فى قوله تعالى، مذكراً به: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))(النساء : 77)

وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسولصلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أمرنا بقتالهم))
ولم يرد فى النصوص – لا فى الكتاب ولا فى السنة – بيان لحكمة هذا الأمر الربانى، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا فى معركة مع قريش فى ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التى تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا فى معركة فى ذلك الوقت أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهى أمر الدعوة الجديدة فى معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار ونفترض أن المعركة – على الرغم من عدم تكافئها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث فى وقتنا الحاضر لمن كانت الشرعية فى تلك المرحلة فى مكة؟ لقد كانت فى حس الناس جميعاً لقريش..!وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية ! ومن حق صاحب الشرعية – ولاشك – أن يؤدب الخارجين عليه ! وصحيح أن قريشاً تشتد فى ((التأديب)) إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر فى حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن

المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ فى معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟! كلا بالطبع ! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الربانى وكفوا أيديهم
لقد تمت أمور كثيرة فى الحقيقة ففى البيئة العربية المعروفة ((بإباء الضيم))، والتى تحدث فيها المعارك الضاربة، لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء([2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn2)) فى البيئة التى يمتشق فيها الرجل الحسام لأدنى إهانة توجه إليه، والتى يقول فيها عنترة :

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر *** للحرب دائرة على ابنى ضمضم
الشاتمى عرضى لولم أشتمهما *** والناذرين إذا لم القهما دمى !

ويقول غيره :

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا !

فى تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب، منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يردون!
شىء يلفت النظر ولاشك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة
بعبارة أخرى، شىء ليس من صنع البيئة فلابد أن يكون من صنع شىء آخر خلاف البيئة!
ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!
هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففى سبيل أى شىء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟
أفى سبيل شرف القبيلة؟ أفى سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفى سبيل شهوة من شهوات الأرض؟
لا شىء من ذلك كله إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها

وقد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى فى سبيلها –وهم لا يردون – فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد !

ثم نمضى شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد.
إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلفون عن عقيدتهم!
لا يمكن – فى عرف البيئة، ولا فى عرف البشر عامة – أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل إنما لابد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله بل إن هذا الحق الذى يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته وحتى من نفسه، حتى من حياته
تلك المعانى كلها، التى برزت للوجود من خلال ((كفوا أيديكم)) هى التى أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال فى مكة !


نستطيع أن نقول فى عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذى شاء الله لهم أن يهتدوا إليه


* * *



ولم يكن هذا وحده هو الذى اتضح للأنصار، من خلال ((كفوا أيديكم)).. لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة فى خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية))
يقول سبحانه وتعالى فى سورة الأنعام، وهى سورة مكية: ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين))(الأنعام : 55)
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين

وورود هذا المعنى فى آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغى أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل فى قوله تعالى : ((ولتستبين)). ونزول هذه الآية فى الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هى من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة فى الفترة الأولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة


فما الذى تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذى يسلكونه، والذى من أجله أصبحوا مجرمين

فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى فى القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء فى الخلق ولا فى التدبير، ولا فى أى شأن من الشئون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب))(ص:5)

ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون))(الأعراف: 3)

وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوا وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم وإذن، فأين تقع قريش فى هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هى صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون فى نظر قريش، وفى نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتبعده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هى صاحبة الشرعية، وبقى المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!

إنها نقلة هائلة فى خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا فى المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق
وهنا نسأل : لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى حس الناس أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر فى خلد أحد – كما استقر فى خلد الأنصار – أن القضية لها معيار أخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله.. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذى لا شىء بعده إلا الضلال، وأن هذه هى القضية الكبرى التى يقاس بها كل شىء، وينبنى عليها كل شىء؟

هل كان يمكن أن يصل الحق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقى لها فى حس الناس وجود على الإطلاق؟! أظن الصورة واضحة لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هى سر الموقف كله !

كانت هى التى أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهى قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأى قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التى أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التى لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله.. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : ((ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حى عن بينة))(الأنفال : 42)
هذا الوضوح الذى أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة .. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن المعقول، وتظل الدعوة ترواح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !
وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول فى التاريخ !



* * *


ولنا هنا وقفة عند هذه القضية
من هم الأنصار ؟
هل هم جماهير متحمسة، ألهب حماستها الإعجاب بشخص الرسولصلى الله عليه وسلم، والتعاطف مع هذه الفئة الفذة من البشر، الذين صبروا على الابتلاء، هذا الصبر الطويل الجميل، وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلاء ؟!

أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد، ويدخلون فى صف المجاهدين؟
ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك في خط سير الدعوة !
لاشك أن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة رأوا وسمعوا عن خاصله الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد كان نموذجاً فريداً فى البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين فى الأرض، كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب
ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذى يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله .. آمنوا بالله ربا، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تمنعونى؟)) قالوا : نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا : لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه
جندية كاملة للدعوة الجديدة
لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون فى موعدهم المقدر عند الله

ولكن ماذا لو كان الأنصار رضى الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب.. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتى الإذن من الله العلى القدير برد العدوان ؟!
أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم فى الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك.. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم فى العقيدة، فأمر لا نظنه كذلك موضع شك .. أما أن الرسولصلى الله عليه وسلم كان سيتحرك بهم فى خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول لهم : ((تمنعونى))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهى تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق
لم يكن الرسولصلى الله عليه وسلم سيتحرك بهم، لو أنه رأى من أحوالهم أنهم مجرد جماهير متحمسة، لم تجند نفسها بعد للدعوة .. ولم يكن سيعتبر أن القاعدة قد اتسعت بتلك الجماهير المتحمسة التى آمنت – نعم – ولكنها لم تجند نفسها لاحتمال التكاليف



* * *


متى جند الأنصار أنفسهم للدعوة؟
قلنا من قبل: إن النار التى اصطلى بها المؤمنون فى مكة، هى النور الذى استضاء به الأنصار فى المدينة، فجاءوا يعرضون أنفسهم لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين الجديد
لقد جاءوا بقدر من الله – نعم – ولكن بسنة من سنن الله كذلك
إن وجود النموذج الواقعى، الذى يشهد للدعوة الجديدة، هو النواة التى يحدث حولها التجمع، ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة ((الأم))، ثم يتسارع بعد ذلك، كلما زاد حجم النواة.. سنة ربانية فى الكون المادى وفى حياة البشر سواء !
والنواة الأم كانت هى الجماعة المؤمنة التى تكونت فى مكة حول رسول الله، والتى شكلها الوحى المنزل من عند الله، وصقلها المربى العظيم صلى الله عليه وسلم بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته.. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله
ومن خلال ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الأم التى صنعت التاريخ !
ولو كان المؤمنون قد دخلوا فى معركة مع قريش فى مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التى اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذى كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء



* * *


والآن فلنستعرض ما تم حتى الآن من خلال ((كفوا أيديكم))
ولقد تمت أمور على غاية من الأهمية فى مسيرة الدعوة
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير إنه قضية ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من القضايا
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة))
ليس الصراع على ((شرف)) سدانة اليبت، ولا ((وجاهة)) خدمة الحجيج ليس على القوة الاقتصادية التى تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قرب ولا بعيد الصراع كله على القضية الكبرى التى هى – والتى يجب أن تكون دائماً – القضية الأولى، والقضية الكبرى فى حياة الإنسان، قضية من المعبود؟ ومن ثم من صاحب الأمر؟ من المشرع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة، التى ستحمل البناء وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين وتم أخيراً اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التى اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية فى الصراع ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك، هو التجرد لله

إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التى تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.

ولقد تعمق التجرد لله فى قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية فى مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة فى شخص الرسولصلى الله عليه وسلم، يعلمهم بالسلوك العملى كيف يكون إخلاص العبادة لله
كان عليه الصلاة والسلام، فى مبدأ قيامه بالدعوة، شديد التأثر بتكذيب الناس له، شديد الحرص على هدايتهم، شديد الحزن عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الربانى، وذلك بما فطر عليهصلى الله عليه وسلممن حب الخير لجميع الناس وكان الوحى يتنزل عليهصلى الله عليه وسلم ، لتسليته والتسرية عنه : ((قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون))(الأنعام : 33) ((واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون))(النحل : 127)
ويتنزل الوحى لصرفه صلى الله عليه وسلم عن شدة الحزن، وشدة التطلع لآية من عند الله تجعلهم يؤمنون: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا(7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا))(الكهف : 6-8) . ((وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الأرض أو سلما فى السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين(35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون))(الأنعام : 35-36)

ويتنزل الوحى ليقول للرسولصلى الله عليه وسلم : إن مهمته هى البلاغ فحسب، أما النتائج فمن صنع الله وحده : ((إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين))(القصص:56)
ومن أشد ما يلفت النظر فى هذا الشأن، أنه فى خلال فترة التربية فى مكة، لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسولصلى الله عليه وسلم، إنما كان يقال له: ((وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب))(الرعد : 40) . بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول خباب بن الأرت رضى الله عنه : شكونا إلى رسول الله وهو صلى الله عليه وسلمم توسد بردة له فى ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ (وذلك لما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين فى مكة) فقال صلى الله عليه وسلم : ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))

وبتوجيهات الوحى، تجرد قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته، وتجرد للبلاغ. ثم ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، كما تحكى عنهم كتب السيرة، وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة لله ولما علم الله من قلوبهم أنها تجردت له، مكن لهم فى الأرض، وأذن لهم فى رد العدوان : ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز(40) الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور))(الحج : 39-41)


[1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref1) انظر كتب السيرة .

[2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref2) معركة نشبت فى أواخر العصر الجاهلى بين قبيلتى عبس وذبيان، بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والأخرى تسمى الغبراء، فاختلفت القبيلتان على نتيجة السباق، فقامت بينهما الحرب، وانضم لكل قبيلة حلفاؤها، وطالب الحرب وقتل فيها خلق كثير، حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما، فوضعت الحرب أوزارها.

[3] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref3) سنتكلم عن عملية التربية فى فصل قادم .

[4] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref4) رواه البخارى

يتبع

طرابلسي
04-23-2009, 08:07 PM
موضع القدوة فى الجيل الفريد




يرى كثير من الناس أن ما كان طبيعياً ومناسباًن للجيل الأول فى فترة التربية بمكة، لا ينطبق على وضعنا الحاضر، ومن ثم فعلينا أن ندرسه للتاريخ، وليس للعبرة ولا للقدوة !
وهذا الأمر يحتاج إلى تجلية واضحة، لأنه مفرق طريق فى العمل الإسلامى فى الوقت الحاضر، وما لم تتضح الصورة تماماً – وبموضوعية كاملة – فستظل تيارات العمل الإسلامى تتصادم مع بعضها البعض، ولا تصل إلى موقف موحد أو متجانس، بينما أعداء هذا الدين يقفون موقفاً موحداً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، متكالبين كلهم على الأمة الإسلامية، يجاهدون للقضاء عليها، متعاونين متساندين، كما حدث فى البوسنة والهرسك، وفى كشمير، وفى بلاد الشيشان، وفى كل مكان على ظهر الأرض.

هل نحن فى المرحلة المكية، حيث المجتمع مشرك شركا واضحاً لا لبس فيه، والمؤمنون هم أولئك القلة التى آمنت بالدين الجديد، مستضعفة منبوذة من ذلك المجتمع، تتحرك حسب مقتضيات ذلك الوضع؟ أم نحن فى مجتمع مسلم منحرف عن الإسلام، نعمل على تصحيح الأوضاع فيه، بردها إلى الصورة الإسلامية الصحيحة؟ أم ماذا نحن على وجه التحديد؟
ولخطورة هذه القضية ، وما ثار حولها من جدل، وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة، نود أن نتدارسها بروية، وأن نصل فيها إلى تصور واضح، غير متأثرين فيه بعواطفنا، أو بمواقف نحبها أو نكرهها.

لسنا فى المرحلة المكية بكل تأكيد! فنحن – العاملين فى حقل الدعوة، والمستجيبين لها – نصوم ونحج، وقد فرض الصيام ولحج فى المدينة! ونحن نحرم كل ما حرم الله، ونوجب كل ما أوجب الله، غير منحصرين فيما نزل من التحريم والتحليل فى مكة !

ولسنا فى المرحلة المدنية بكل تأكيد! فليس الدعوة ممكنة فى الأرض، وشريعة الله ليست هى المحكمة فى الجزء الأكبر من العالم الإسلامى، والقائمون بالدعوة إما مغيبون فى السجون، أو معلقون على أعواد المشانق، وإما مضيق عليهم بمختلف وسائل التضييق.
فأين نحن على وجه الدقة؟ وأى منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذى اتبعه الرسول فى مكة بأمر من الله؟ أم هو منهج الرسول فى المدينة، الذى اتبعه بأمر من الله؟ أم شىء أخر غير هذا وذاك، نجتهد فيه من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!
قضية – كما ترى – لها أهميتها، وتحتاج إلى تحديد.



* * *


هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع ولا شك، يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع.
لقد كان الناس فى المجتمع المكى ينكرون فكرة الإله الواحد إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول من التوحيد : ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب)) (ص: 5) بينما نحن فى العالم الإسلامى كله نقر بأن الله واحد، ولا نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع الله.

وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول من عقيدة البعث: ((وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد(7) أفترى على الله كذباً أم به جنة))(سبأ : 7-8) .. بينما نحن – فى العموم – نؤمن بالبعث، والجزاء والحساب، والجنة والنار، ودع عنك القلة القليلة الملحدة التى لا يقام لها وزن فى هذا المجال.

وكان الناس ينكرون بعثة محمد ورسالته، كما حكى القرآن عنهم: ((وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب)) (ص: 4)، كما قالوا : ((أؤنزل عليه الذكر من بيننا))(ص:8) ونحن – ودع عنك القلة الملحدة التى لا يقام لها وزن – نؤمن ببعثة الرسول، وأنه مرسل من ربه، وأن القرآن كلام الله، أنزله على رسوله، لا هو من كلام البشر، ولا هو من أساطير الأولين.

ولا شك أن هذا كله حقائق.
ولكن تعال ننظر من الجانب الآخر
جاء الإسلام لينفى كل وساطة بين العبد والرب، ويجعل الصلة مباشرة بين العباد وبين الله: ((وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون))(البقرة : 186)

فماذا فعلت الصوفية فى عقائد الناس؟ لقد جسمت الشيخ فى حس المريد، حتى أصبح واسطة بين العبد وربه، لا يملك أن يدعو الله باسم من أسمائه الحسنى إلا بإذن الشيخ، الذى يطلع على الأفئدة، ويقرر لكل فؤاد ما يصلح له من الأسماء، والمدة التى يستخدم فيها الاسم الممنوح له، ويظل سلطان الشيخ قائماً فى قلوب المريدين، حتى بعد موته بألف عام، فالموت لا يحول بين السلطان الروحى وبين القلوب والتمسح بالضريح، والدعاء عنده، والاستغاثة والاستعانة والذبح، هى علامات الإخلاص من المريد للشيخ، وهى كذلك وسائط التقرب إلى الله!

هل يختلف هذا كثيراً عن قول الذين كانوا يقولون : ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى))(الزمر : 3) أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

وجاء الإسلام ليلغى كل تشريع من صنع البشر، ليقيم شريعة الله وحدها، وربط ذلك بأصل العقيدة : ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) (المائدة: 44) وجعل علامة النفاق الذى ينفى الإيمان، الإعراض عن شريعة الله: ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون(48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين(49) أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون(50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون))(النور : 47- 51).

وجعل اتباع البشر فيما يشرعون بغير ما أنزل الله بمثابة اتخاذهم أرباباً من دون الله، على مستوى عبادة غير الله سواء بسواء: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون))(التوبة : 31).

فماذا فعلت العلمانية فى حياة الناس؟ كم حكومة فى الأرض الإسلامية تحكم بما أنزل الله؟ وماذا يقال على ألسنة العلمانيين عن شريعة الله؟ أليس هذا شركاً واضح الأركان؟
كيف نحكم إذن على هذه الأوضاع؟

يكمن الإشكال فى الحكم على الأوضاع القائمة اليوم فى العالم الإسلامى، فى التناقض الشديد بين ما يعلنه الناس عقيدة لهم، وما يمارسونه فى الواقع ثم الاختلاف فى الحكم على هذا التناقض، هل هو مخرج من الملة، أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى: الإشكال هو الحكم على الناس
وفى رأيى – من سنوات عديدة – أن هذه القضية لا ينبغى أن تشغلنا فى مجال الدعوة، ولا ينبغى أن نقف عندها ونفترق حولها، ونتجادل ونتحزب، ويذهب كل فريق منا فى اتجاه.

إن الناس – إلا من رحم ربك – واقعون فى الشرك لا جدال فى ذلك، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك الحاكمية (شرك الاتباع) .. ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة، فليس كل من وقع فى الشرك يحكم عليه بأنه مشرك، إلا إذا توفرت فيه شروط معينة، وانتفت عنه الموانع التى تمنع تنزيل الحكم عليه.

يقول ابن تيمية رحمه الله :
((وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة، من إطلاق القول تكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهى مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن فى الوعيد مطلقة، كقوله : ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)) الآية .. وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهى بمنزل قول من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة. والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة0 وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً))([1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn1))

وقال رحمه الله فى مكان آخر([2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn2)): ((فإن نصوص الوعيد التى فى الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها فى حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق فى ذلك بين الأصول والفروع))

وقال فى موضع ثالث([3] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn3)): ((وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها، التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضاً وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع، ولكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده فى النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه فإنما نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة فى قاعدة التكفير))

وهذا هو مفتاح القضية بالنسبة للدعوة ومنهج الحركة
فالناس- إلا من رحم ربك- واقعون فى شرك يشبه شرك الجاهلية، وإن لم يكونوا بالضرورة كلهم ممن يتنزل عليهم حكم الشرك والذى يهمنا فى الدعوة هو بيان حقيقة الإيمان، وبيان نواقص الإيمان، ودعوة الناس إلى ترك ما هم واقعون فيه من الشرك- بصرف النظر عن كونهم مشركين أو غير مشركين فى حكم الله- ودعوتهم إلى اعتناق الإسلام الصحيح، وممارسته فى عالم الواقع، لا فى عالم الأمانى، ولا فى عالم الأوهام.

ليس الذى يهمنا أن نقول لفلان من الناس: أنت مشرك(أو نقول عنه ذلك)، إنما مهمتنا أن نقول له: إن ما تفعله شرك، وندعوه- بالحكمة والموعظة الحسنة- إلى الخروج من ذلك الشرك،والدخول فى حقيقة الإسلام.
هذا من جانب الواقع الذى يعيشه الناس، وواجبنا تجاهه.

ومن جانب آخر فإن الأوضاع القائمة فى العالم الإسلامى- إلا ما رحم ربك- أوضاع تحارب الدعوة، وتمنع الدعاة من بيان الحقيقة كاملة عن الإيمان ونواقص الإيمان، خاصة فيما يتعلق بالتشريع بغير ما أنزل الله؛ والسجون والمعتقلات والمشانق محشودة فى الطريق، تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة لا إله إلا الله كما أنزلت من عند الله.

فما المنهج الأنسب للدعوة؟ إلى أى شئ ندعو؟ وعلى أى شئ نركز؟ وأى الوسائل يوصلنا- أو يقربنا- لما نريد؟
إذا تصورنا الأوضاع القائمة على حقيقتها، وتخلصنا فى الوقت ذاته من الإشكالات التى تترتب على إصدار أحكام على الجيل الحالى من الناس، قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من الدعوة،وإن لم نكن فى وضع مماثل لها تماماً، بسبب بعض الفروق بين هذا الوضع وذاك، وهى فروق قد تتسبب فى اختلاف الحكم على الناس، ولكنها لا تغير الحكم على الأوضاع، والأوضاع هى التى تقرر فى الحقيقة منهج الدعوة، وتقرر أقرب الوسائل إلى بلوغ الأهداف.
ومن هنا نجد أن موضع الاقتداء بالجيل الأول أوسع بكثير مما قد يبدو عند الوهلة الأولى، وأن قضايا كثيرة يلزمنا أن نرجع فيها إلى تلك الفترة، نتدبرها ببصيرة مفتوحة، ونستلهم منها طريقنا فى الدعوة، ونتطلع إلى فضل الله أن يلهمنا فيها الصواب.



* * *



إذا درسنا أحوال الأمة الإسلامية- كما ينبغى أن نصنع- فسنجد انحرافات كثيرة،وقعت فى مسيرة الأمة خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، ظلت تبعد الناس رويداً رويداً عن حقيقة الإسلام، حتى صار الإسلام إلى غربته الثانية التى أخبر عنها رسول الله : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ))([4] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn4))

وإذا تتبعنا هذه الانحرافات- وينبغى لنا أن نفعل، لأنه لابد لنا من تشخيص الداء، لتحديد نوع العلاج- فسنجد أن الانحراف لم يقتصر على السلوك وحده، إنما تطرق إلى المفاهيم، وأن كل مفاهيم الإسلام قد أصابها الانحراف، حتى مفهوم لا إله إلا الله- بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله- بالإضافة إلى مفهوم العبادة، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة، ومفهوم التربية، ومفهوم الجهاد إلخ([5] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn5)).

فإذا كان الأمر كذلك، فبأى شئ نبدأ؟ هل لنا مناص من أن نبدأ بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله؟ وهل يمكن تصحيح حياة الناس على قاعدة إسلامية، إذا لم نصحح مفهوم لا إله إلا الله فى عقول الناس وقلوبهم؟ فأما العقول فمهمتها إدراك الحق، وأما القلوب فمهمتها تحويل الإدراك الذهنى إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملى فى عالم الواقع وهذا هو طريق الإصلاح.
والآن فلننظر ماذا أصاب مفهوم لا إله إلا الله فى حس الناس؟

لقد أصابه انحسار شديد، حتى أصبحت لا إله إلا الله مجرد كلمة تقال باللسان، لا تأثير لها فى واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك، بل إنها لم تعد مانعة من الوقوع فى الشرك عند كثير من الناس، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك التشريع
والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلى وقت البعثة، أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح، ويرفضون فى الوقت ذاته أن يقولوا : لا إله إلا الله .. أما الناس فى واقعنا المعاصر – إلا من رحم ربك – فإنهم يقولون بأفواههم : لا إله إلا الله، ثم يقعون فى الشرك بنوع من أنواعه، أو بجميع أنواعه
لذلك فإننا نحتاج إلى منهج شديد الشبه بمنهج الرسول فى مكة، لبيان حقيقة لا إله إلا الله، ثم تحويلها إلى واقع معاش فى حياة الذين يعتنقون هذا الدين.

وفى ظنى أنها مهمة شاقة، لا تقل مشقة، ولا حاجة إلى بذل الجهد، عما بذل فى الجولة الأولى، لإزالة الغربة عن الإسلام أول مرة، بل ربما كانت الغربة الثانية أعسر فى إزالتها من الغربة الأولى، حيث كان رسول اللهr حاضراً بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع الإلهام

لقد كان العسر فى الجولة الأولى ناشئاً من لدد الخصومة، بالإضافة إلى شدة التمسك بعرف الآباء والأجداد: ((فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدا))(مريم : 97) . ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))(البقرة : 170)

أما فى الجولة الثانية، فلن نجد مشقة فى أن نجعل الناس ينطقون بأفواههم: لا إله إلا الله، فهم ينطقونها صباح مساء! ولكن المشقة أنهم يظنون أنهم بمجرد نطقهم للا إله إلا الله صاروا مسلمين، ولصقت بهم صفة الإسلام، أياً كان سلوكهم الواقعى، وأياً كان مدى نقضهم لمقتضيات لا إله إلا الله فى عالم الواقع! وأنك إن قلت لهم: إن للا إله إلا الله مقتضيات لا يثبت للإنسان إسلامه إلا بالتزامها، وإلا أخذ عليه إقراره اللسانى واعتبر مرتداً، كذبوك! وقالوا : ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين!

إنهم – معظمهم – واقعون فى لوثة الفكر الإرجائى، الذى يقول: ((من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام))! والذى يقول: ((الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلاً فى مسمى الإيمان))! والذى يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها، مجرد معاص، ثم يقول: ((لا يضر مع الإيمان معصية))!

وإزالة آثار هذه اللوثة من حياة الناس، وردهم إلى المفهوم الصحيح للإيمان، الذى كان عليه السلف الصالح، والذى يقول: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، هو المهمة كالحقيقية ((للغرباء))، الذين بشرهم رسول اللهr بجزيل الأجر: ((طوبى للغرباء))، وقال عليه الصلاة والسلام : ((فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتى))([6] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn6))

وسنتحدث عن التربية فى فصل مستقل، ولكنا هنا نقرر أن نقطة البدء فى الدعوة يجب أن تكون هى التعريف بلا إله إلا الله، التى صارت حقيقتها مجهولة فى غربة الإسلام الثانية، وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!
ونقرر كذلك أن التعريف بلا إله إلا الله – فضلاً عن التربية على مقتضياتها – ليس مجرد معلومات تلقى، وليس مجرد خطبة أو درس أو موعظة، إنما هو جهد حقيقى دائب، يحتاج إلى متابعة ومثابرة، ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها، لتنقيتها من الغبش الذى أحدثه الفكر الإرجائى، فضلا عن الغبش الذى أحدثه الفكر العلمانى المستحدث، وكلاهما حمض أكال يوهن بناء العقيدة، ويفرغها من محتواها الحى، ويفقدها قوتها الفاعلة التى كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها الله.

ثم نقرر أخيراً أن الاستعجال فى هذا الأمر – على أساس أنه أمر بدهى واضح، لا يحتاج إلى بذل الجهد فيه، أو على أساس أن ما بذل من الجهد فيه، فيه الكفاية، أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة، وليس لدينا وقت كثير ننفقه فى التعريف بلا إله إلا الله – فضلاً عن التربية على مقتضياتها- هذا الاستعجال لا يأتى بخير، ولا يخدم الدعوة، ولا يجعل لها مردوداً مثمراً فى نهاية المطاف.

وموضع الاقتداء هنا بالجيل الفريد، أن نتدبر مدى عناية القرآن الكريم بهذه القضية، وعناية الرسول ببيانها، فضلاً عن التربية على مقتضياتها، وأنها استغرقت الجزء الأكبر من مجموع سنوات الدعوة، ومن جهدها كذلك.
وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية فى السور المكية، أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين، فلنتذكر أننا نواجه اليوم بالدعوة قوماً واقعين فى الشرك، وإن لم يكونوا كلهم بالضرورة مشركين، وأن الشرك الذى هم واقعون فيه هو من ذات الأنواع التى كان العرب المشركون واقعين فيها : شرك الاعتقاد، وشرك العبادة ، وشرك الحاكمية.

ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن التركيز على هذه القضية ليس سببه دائماً أن المخاطبين مشركون! فالمؤمنون كذلك يحتاجون إلى مداومة التذكير بها وبمقتضياتها، والدليل على ذلك أن الحديث عن لا إله إلا الله لم ينقطع فى القرآن الكريم، حتى بعد أن تكونت الجماعة المسلمة، وتمكنت فى الأرض، ودخلت المعارك من أجل لا إله إلا الله، فقد أنزل الله فى سورة النساء: ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً))(النساء : 136)

وأنزل الله آيات كثيرة فى السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلا إله إلا الله ومقتضياتها.
((قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير (26) تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب(27) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران : 26-28).
((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))(النساء : 59).
والأمثلة على ذلك كثيرة .
ومن ثم فليست لا إله إلا الله درساً يتلى ثم ينتقل منه إلى غيره، إنما هى – كما قلت فى كتاب سابق – درس يتلى وينتقل معه إلى غيره، ويظل هو حديث الأمة المسلمة إلى قيام الساعة.



* * *



ما السبيل للتعريف بلا إله إلا الله ؟
إنه كما حدده الله تعالى : الحكمة والموعظة الحسنة : ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين))(النحل : 125).

ويجب أن ندرك أن الحكمة والموعظة الحسنة ليست هى التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، ودغدغة مشاعرهم، لكى يرضوا عنا ويتقبلوا منا !
فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول إلى عمه أبى طالب، فقالوا : سفه أحلامنا وسب آلهتنا وكفر آباءنا! وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك، هى مقتضى الحكمة كما نفذها رسول الله!
إنما كانت الحكمة كف الأيدى، وعدم الدخول مع المشركين فى معركة فى ذلك الأوان، مع عدم استفزازهم بما يعطيهم مبرراً للعدوان، مع التصريح بالحقائق كلها بلا نقصان.

وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر، لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد: هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا- أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
أما العدوان من جانب أى سلطة لا تحكم بما أنزل الله، فأمر لابد أن نتوقعه دائماً؛ لأنه سنة من سنن الله، ولم يحدث قط أن سلطة جاهلية رضيت عن دعوة لا إله إلا الله، أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة!

حينما قال شعيب عليه السلام لقومه : ((وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)) (الأعراف : 87)، لم يقبل الملأ هذه المهادنة، وأصروا على إخراج المؤمنين أو إكراههم على ترك دينهم : ((قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(الأعراف: 88)
وفى الجاهليات الحديثة التى تسمى نفسها ((ديمقراطية))، تتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات، إلا الفئة التى تدعو للا إله إلا الله!

ويكفى ما حدث فى الجزائر نموذجاً لما نقول، حيث التزم الإسلاميون – بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه([7] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn7)) – التزموا قواعد الجاهلية ومنهجها، فوصلوا إلى الأغلبية عن طريق صندوق الانتخاب كما تشترط الجاهلية، فإذا تلك الجاهلية تتنكر لكل مبادئها، التى تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها، وتقف للإسلاميين بالعنف تقول لهم : لنخرجنكم أو لتعودن !

لا مجال لأن يسأل سائل : هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة، لا تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالأمر مفروغ منه! إنما السؤال الذى سألناه : هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا – أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
وللإجابة على هذا السؤال نعود لمراجعة الدرس المستفاد من تاريخ النشأة الأولى، والذى عالجناه فى الفصل الماضى، فنسأ بادئ ذى بدء : متى أذن الله للمسلمين فى رد العدوان بقوله تعالى : ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير))(الحج : 39)؟
جاء الإذن بعد أن تحقق ما يأتى : تحرير قضية لا إله إلا الله تحرير قضية الشرعية.. بناء القاعدة على أسس متينة اتساع القاعدة بمجئ الأنصار تربية القاعدة على التجرد لله.

والآن فلننظر، ماذا تحقق من هذه الأمور فى المسيرة الحالية، وبأى قدر تحقق؟
هل تم تحير قضية لا إله إلا الله، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟
هل وضح عند الدعاة أن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الإيمان، وأن الرضى بهذا التشريع هو كذلك شرك مخرج من الإيمان؟ أم لا يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية، ما بين شاك وبين مقتنع؟

ودع عنك قضية الحكم على الناس، فتلك قضية لا نتعرض لها هنا، وندعو دائماً ألا تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة لا إله إلا الله.
إنهما قضيتان منفصلتان – أو يجب أن تكونا منفصلين – إحداهما عن الأخرى إحداهما قضية تعليمية، قضية بيان الحقائق للناس، تلك الحقائق التى صارت مجهولة عند كثير من الناس بسبب الغربة الثانية للإسلام، وهى أمانة الله لا بد من أدائها وعدم كتمانها، مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها والثانية قضية تطبيقية، والتطبيق لابد أن يسبقه إقامة الحجة على الناس أولاً، بالبيان المستفيض المتحمض للبيان، بلا اشتباك بأى قضية أخرى تغشى عليها، وتلقى عليها ظلالاً تصرف الناس عن حقيقتها.

ونعود للسؤال: هل وضحت قضية التشريع بغير ما أنزل الله عند الدعاة أنفسهم – ودع عنك الآن جماهير الناس – أم لا يزال يختلط عليهم قول ابن عباس رضى الله عنهما : كفر دون كفر، كفر لا يخرج من الملة؟!

إن الذى قال عنه ابن عباس رضى الله عنهما إنه كفر دون كفر، ليس هو التشريع بغير ما أنزل الله، إنما هو الحكم فى قضية معينة بغير ما أنزل الله، جهلاً أو تأولاً أو شهوة أو لقاء رشوة أو هوى، دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم الله.
إن القاضى الذى يؤتى له بإنسان ثبت شربه للخمر، وتفوح من فمه رائحته، فلا يقيم عليه الحد، لأنه تلقى رشوة من أهل الرجل، فالتوى عن حكم الله بحجة من الحجج، هو قاض فاسق، ولكنه لا يكفر بفسقه .. أما يوم يقول : إن شرب الخمر ليس جريمة، أو إنها جريمة لا يقام عليها حد، إنما توقع عليها عقوبة أخرى، فإنه يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، لأنه أنشأ حكماً فى القضية مخالفاً لحكم الله، وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً.

حين حكم التتار بالياسق وهو – كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : مجموعة أحكام بعضها مأخوذ من القرآن، وبعضها من الإنجيل، وبعضها من التوراة، وبعضها من وضع جنكيز خان – قال ابن كثير رحمه الله ، فى مناسبة تفسير الآية الكريمة : ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون))(المائدة : 50) : ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهى عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذى وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت فى بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير))([8] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn8))

وقد علق على هذه القضية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ([9] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn9)) فى رسالة ((تحكيم القوانين الوضعية)) – وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة فى الحق – بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه الله :

((فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد. وما جاء عن ابن عباس رضى الله عنه فى تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن ملة الإسلام، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة؛ أما الأول وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:

أحدها : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعى، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسولr ، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.

الثانى: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونه حكم الله ورسوله حقا، ولكن اعتقد أن حكم غير الرسولr أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة لما استجد من الحوادث التى نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التى هى محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد وحكم الله ورسوله لا يختلف فى ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها فى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، نصا ظاهرا، أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.

الثالث: ألا يعتقد أنه أحسن من حكم الله ورسوله، ولكنه اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، فى كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقول الله عز وجل ((ليس كمثله شىء)) ونحوها من الآيات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، فى الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.

الرابع: أن لا يعتقد كون الحكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله. فهذا كالذى قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه.

الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادا، وإرصادا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فلهذه المحاكم مراجع هى القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسى، والقانون الأمريكى، والقانون البريطانى، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.

السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادى ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التى يسمونها ((سوالف)).

وأما القسم الثانى من قسمى كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذى لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضى الله عنه لقول الله عز وجل: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) قد شمل ذلك القسم، وذلك فى قوله رضى الله عنه فى الآية ((كفر دون كفر)) وقوله أيضاً ليس بالكفر الذى تذهبون إليه أ.هـ، وذلك أن تحمله شهوته على الحكم فى قضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو حق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.

وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة، فإن معصيته عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سماها الله فى كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنه ولى ذلك والقادر عليه))



* * *



فهل اتضحت القضية عند الدعاة أنفسهم، أم ما يزال بعضهم تختلط عليه الأمور، مرة من مقالة ابن عباس رضى الله عنهما، ومرة من أثر الفكر الإرجائى الذى يفصل بين الإيمان والعمل، حتى لو كان نقضاً صريحاً للا إله إلا الله، كالتشريع بغير ما أنزل الله؟

وإذا كان الأمر ما يزال مختلطاً عند بعض الدعاة، فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد ما زال أمامنا، حتى تتضح هذه القضية بغير غبش فى حس الناس، ويتمكنوا من رؤية الحق الربانى فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!

هذا فى قضية الحاكمية، وهى ليست وحدها التى تحتاج إلى تجلية فى قضية لا إله إلا الله.. فتحرير القضية يستلزم تخليصها كذلك مما يشتبك بها من قضايا الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية، وأمثال ذلك من القضايا التى تداخلت معها فى مسيرة الدعوة.

لقد كانت أمام الرسول قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للاستكثار من ((الجماهير)).

كان الفرس يحتلون جزءا من الجزيرة العربية، والروم يحتلون جزءاً أخر، وكان فى إمكان الرسول أن يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير، حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم : قولوا لا إله إلا الله.

وكانت هناك قضية اجتماعية، فالأغنياء يصلون إلى درجة الثراء الفاحش، والفقراء يصلون إلى درجة الفقر المدقع، ولا أحد يفكر فى الحد من غنى الأغنياء، بالغاء الربا – على الأقل- وأخذ جزء من الفائض عند الأغنياء، ورده على الفقراء لرفع مستواهم، وكان فى إمكان الرسول أن يثير القضية، فتلتف حوله جموع الفقراء المسحوقين، فيكون منهم قوة يواجه بها جبروت قريش، وفى حمية الصراع يقول لهم : قولوا لا إله إلا الله.

وكان غير ذلك من القضايا مادة مفيدة فى تجميع الجماهير وإثارة حماستهم، ثم استمالة الناس للدعوة من خلال تلك القضايا العامة، التى تستهوى بطبيعتها كثيراً من الناس، فيتجمعون لها بسهولة، ويلتفون حول من ينادى بها، ويمنحونه ودهم وحماستهم. ولكن رسول الله - بتوجيه من الوحى الربانى – لم يثر أية قضية من هذه القضايا فى فترة التربية بمكة؛ وإنما أثار القضية الواحدة التى جلبت له عداء ((السادة)) وبالتبعية عداء الجماهير، وظل مصرا عليها وحدها، حتى أذن الله أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

ولم يكن ذلك لأن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية فى حياة الأمة، كلا! فقد تناولتها الحركة الإسلامية كلها واحدة إثر الأخرى؛ ولكن لأن القضية الكبرى – فى المنهج الربانى وفى واقع البشر – هى قضية لا إله إلا الله، التى يتوقف عليها منهج حياة الإنسان فى الدنيا، ومصيره فى الآخرة، ولأن قضايا الحياة كلها – فى المنهج الربانى – يجب أن تكون نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً، فيتوفر لها الصدق والإخلاص والتجرد . ومن ثم جرى المنهج الربانى على تحرير قضية لا إله إلا الله أولاً ، وتجريدها من أى شىء يمكن أن يشوبها فى مرحلة التكوين، لتكون عبادة خالصة لله، هدفها رضوان الله وحده، حتى إذا تمحضت فى قلوب أصحابها، وصلت بها كل قضايا الأرض اللازمة لحياة الأمة، دون خشية من اختلاط الأمور فى تلك القلوب، بينما الخشية قائمة فى مرحلة التكوين، وحين يحدث الاختلاط فى المنشأ، فما أسرع ما تغلب مصالح الأرض، وتصبح مداخل للشيطان!

هل تجردت قضية لا إله إلا الله فى قلوب الدعاة أنفسهم – ودع عنك الآن قلوب الجماهير – فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة لله، غير مختلطة بقضايا القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية، والدعاة – من أجل استمالة الجماهير – يتحدثون عن ((اشتراكية الإسلام))، ((وديمقراطية الإسلام))، و((التعددية فى الإسلام))؟



* * *



هل تم تحرير قضية الشرعية، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟
ما مفهومنا عن الشرعية؟
فى الغربة الثانية للإسلام – وخاصة بعد تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم فى معظم بلاد المسلمين – نسينا معاييرنا الإسلامية، واستبدالنا بها معايير الغرب، خاصة فى مجال ((السياسة الشرعية)).

والغرب يقول : إن مقياس الشرعية هو النجاح فى الانتخابات.. فمن فاز بأكبر عدد من الأصوات فهو صاحب الشرعية الذى يحق له أن يتولى الحكم.

ودعك مؤقتاً من التغير الحاد الذى أصاب هذا المعيار، حين كان الفائزون بأكبر عدد من الأصوات هم الإسلاميين فى الجزائر! فقد عودنا الغرب ((العظيم!)) أن يكيل بمكيالين فى أى قضية يكون المسلمون طرفا فيها، وذلك لشدة إيمانه بالقيم والمبادئ واحترام الآخر، واحترام حقوق الإنسان!!

دعك من الغرب ومواقفه، وتعال نسأل الإسلاميين: هل هذا هو المعيار الإسلامى فى هذه القضية؟
هب أن إنساناً أو حزباً أو هيئة – أو ما يكون من الأشكال السياسية – حصل على أغلبية ساحقة فى الانتخابات، حصل على مائة فى المائة من أصوات الناخبين، ثم لم يحكم بما أنزل الله، فهل تكون له شرعية فى دين الله؟!

لقد اختلط علينا – فى غربة الإسلام الثانية – أمران مختلفان: طريقة اختيار الحاكم، ونوع الحكم الذى يحكم به الناس.
وحين كان الإسلام هو الحاكم فى الأرض الإسلامية، تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة فى الحاكم، وتكلموا عن البيعة الحرة، وعن الشورى، وعن غيرها من الأمور المتعلقة بسياسة الحكم، وتحدثوا عن ((فقه الضرورة)) ، وما يمكن التنازل عنه من الشروط تحت ضغط الضرورة، فقالوا : ((وللمتغلب السمع والطاعة)) .. ولكن لم يدر فى خلدهم قط أن حاكماً يمكن أن يشرع بغير ما أنزل الله، ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!

إن الشرط الأساسى لشرعية الحكم فى الإسلام، أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية، ومر بنا أنفاً قول ابن كثير رحمه الله فى الحاكم الذى لا يحكم بما أنزل الله، إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة.
فهل تحررت هذه القضية فى أذهان الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير.. أم إن حديثنا كله يجرى حوله الانتخابات، وهل هى حرة أم مزورة؟ وكم صوتاً نلنا حتى الآن فى البرلمان؟ وكم يلزمنا من الجهد لزيادة نصيبنا من الأصوات؟!

إن الظن بأننا إذا حصلنا على أغلبية فى البرلمان، فسيترك لنا المجال لتطبيق شريعة الله، ظن ساذج إلى أقصى درجات السذاجة، ويكفى واقع الحال فى الجزائر دليلاً على ذلك.
ولكن اختيارنا لهذا الطريق – من حيث المبدأ – من أجل الوصول إلى الحكم، ثم محاولة تطبيق شريعة الله من هذا الطريق، مخالفة شرعية؛ لأنه يجعل الناس هم المرجع فى اختيار نوع الحكم الذى يحكمون به، ((ولا نتحدث هنا عن اختيار الحاكم))، فإذا اختاروا الإسلام حكم الإسلام، وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو الإسلام؟!

وأين نحن من قوله تعالى : ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الأحزاب : 36)
إن مصدر الإلزام فى تحكيم شريعة الله ليس هو اختيار البشر أو عدم اختيارهم ما داموا مسلمين.. فما داموا مسلمين فقد لزمهم التحاكم إلى شريعة الله بداهة، وإلا انتفى الإيمان عنهم إن أعرضوا عن شريعة الله، واتجهوا إلى غيرها من الشرائع، وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!

((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور : 47-48)
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء : 65)

حقيقة إنه لا يمكن فى عالم الواقع أن يحكم الإسلام ما لم يكن هناك مؤمنون، يصرون على تحكيم شريعة الله، ويرفضون أى شريعة سواها، يقيناً منهم أن الرضى بشرع غير شرع الله كفر مخرج من الملة. . وأن هذه العينة من المؤمنين هى الآن قلة فى المجتمع تستضعفهم الجاهلية وتعصف بهم .. هذه حقيقة، ولكن مقتضاها هو أن نظل ندعو، ونظل نبين للناس هذه الحقيقة، أنه لا إيمان لأحد إذا رضى بشرع غير شرع الله، ونظل نربى الناس على مقتضيات هذه الحقيقة، حتى تصبح القاعدة المؤمنة من القوة بحيث يصبح فى يدها مقاليد الأمور، وهذه هى مهمة الدعوة فى وقتها الحاضر، مهما طال بها الأمر لتحقيقها، وليست مهمتها أن تستفتى الناس عن طريق صناديق الانتخاب: هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم لا يريدون!

فهل وضحت هذه القضية فى حس الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير، أم إنهم انزلقوا بغير وعى منهم إلى معايير الديمقراطية التى تجعل الجماهير – فى ظاهر الأمر على الأقل([10] (http://www.saowt.com/forum/#_ftn10)) – هم المحكمين فى نوع الحكم، وليس الله الذى له الخلق والأمر : ((ألا له الخلق والأمر)) (الأعراف: 54).. وهذا مفرق طريق رئيسى بين الجاهلية والإسلام!



* * *



هل تم بناء القاعدة على أسس متينة؟
نقول بادئ ذى بدء : إنه إذا كانت لم تتبلور بعد قضية لا إله إلا الله، ولا قضية الشرعية فى حس بعض الدعاة على الأقل، فكيف تكون القاعدة قد قامت على المواصفات المطلوبة؟
إن القاعدة المطلوبة – وهى تتكون أساساً من جيل الدعاة الذين يعدون لنشر الدعوة على نطاق أوسع – تقوم على أساسين كبيرين : فهم واع لحقيقة الإسلام، وتربية عميقة على متطلبات هذا الدين وتكاليفه.
وقد رأينا أن الفهم الواعى لحقيقة الإسلام، ما زال يعتوره النقص فى قضيتين رئيسيتين من قضايا الإسلام، وهما قضية لا إله إلا الله، وقضية الشرعية، فضلاً عن قضايا أخرى سيأتى الحديث عنها فيما بعد، تتعلق بمنهج الحركة، أما التربية فشأنها أخطر، والنقص فى مجالاتها أشد.

وإذا رجعنا إلى النشأة الأولى، فقد كان الهم الأكبر لرسول اللهr فى الفترة المكية هو تربية القاعدة على أسس متينة غاية فى المتانة، راسخة شديد الرسوخ، فائقة من جميع المجالات: الإيمانية والأخلاقية، التصورية والسلوكية، الوجدانية والعملية.
وقد لا يتكرر جيل مثل جيل الصحابة رضوان الله عليهم إلى قيام الساعة – وإن لم يخل جيل من الأجيال من أفراد على ذلك المستوى الرفيع – ولكن يبقى موضع القدوة لنا فى ذلك الجيل الفريد، أن القاعدة ينبغى أن تكون على أعلى ما هو متاح لها من إمكانات الرسوخ العقدى والسلوكى، وأعلى درجة فى حدود طاقتها من التمثيل الصادق لحقيقة الإسلام، لأنه على أكتافها ستقوم الدعوة، وفى أشخاصها ستكون القدوة، وعلى جهدها يتوقف مردود الحركة فى إزالة الغربة الثانية للإسلام، كما ألقى على عاتق الجماعة الأولى مهمة إزالة الغربة الأولى للإسلام.

وسنخصص لموضوع التربية فصلاً رئيسياً من فصول الكتاب، ولكن نقول هنا: إنه يجب علينا أن نعلم ابتداءً أن المطلوب للجولة الحالية – بالنسبة للقاعدة – ليس أى مستوى على علاته، إنما مستوى خاص؛ لأنها تقوم بمهمة خاصة، وتواجه عقبات من نوع غير عادى، وعداوة فذة فى كيدها وتدبيرها، ومقدار الغل الذى تحمله فى صدرها للإسلام.. وليس أى مستوى يصلح لتلك المهمة العظيمة، ولا لمواجهة تلك العقبات وتلك العداوات.

وعلى الرغم من المشقة الواضحة فى الوصول إلى المستوى المطلوب، فإنه أمر لا حيلة فيه ولا غنى عنه، والأمة – ممثلة فى طليعتها – تدفع ثمن تقاعسها وتفلتها من حمل تكاليف هذا الدين، ذلك التقاعس الذى أوصلها إلى تداعى الأمم عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها.. ولابد من جهد غير عادى تبذله اليوم، يعوض شيئاً من ذلك التقاعس الذى استمر أكثر من قرنين من الزمان، تمكن العدو فيهما من الأمر، وجثم على صدر الأمة لا يريد أن يتحرك.
وإذا كان الجيل الأول، وفيهم رسول الله ، والوحى يتنزل عليهم، قد بذلوا جهداً غير عادى لإزالة الغربة الأولى للإسلام.. فنحن – وليس فينا رسول الله بشخصه، ولا يوجه الوحى خطانا توجيهاً مباشراً كالجيل الأول – أحوج إلى بذل أقصى غاية الجهد، مستعينين بالله العلى العظيم، الرءوف الحليم، أن يبارك جهدنا ويسدد خطانا، ويكتب على أيدينا إزالة الغربة الثانية.
وأشد المجالات حاجة إلى بذل الجهد هو بناء القاعدة، ولكن الذى نراه اليوم من عثرات فى العمل الإسلامى دليل لا يخطئ على أننا تعجلنا الخطى، ولم نعط قضية التربية ما تستحقه من الجهد، بل لم ندرك فى بعض الأحيان أن هذا الأمر أو ذاك محتاج إلى تربية وإعداد!



* * *



هل اتسعت القاعدة إلى الحد المعقول، الذى يتناسب ما هو مطلوب منها فى الجولة الحالية؟!
فأما إن قصدنا القاعدة الجماهيرية، فقد اتسعت ولا شك من خلال عمل الدعوة الدائب، ما يزيد على نصف قرن، ومن خلال الشهداء الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فى سبيل الدعوة، ومن خلال حماقات الجاهلية فى إزاقة الدماء والسجن والتشريد والتعذيب للمسلمين، وتلك سنة ربانية يغفل عنها الطغاة دائماً : أن الدعوة التى يقدم لها الدم لا تموت! والطغاة يحسبون أنهم إن أكثروا من إراقة الدماء، والسجن والتشريد والتعذيب، فسيقضون على الدعوة، ويجعلون هذا تحدياً قائماً أمامهم لابد أن ينتصروا فيه، فيكون هذا ذاته هو قدر الله لتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين فى نهاية المطاف: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين(139) ن يمسسكم قرح فق دمس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين(139) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران : 139-141)

نعم، اتسعت القاعدة الجماهيرية، وتفرعت وتشعبت وشملت العالم الإسلامى كله، وانضم إليها ألوف وألوف من الشباب، ولدوا فى ظل النظم الجاهلية، ولكن أراد الله لهم أن يختاروا طريق الإسلام، متأثرين بنشاط الدعوة وحماقات الجاهلية، ولكن ما وزن هذه الجماهير بالنسبة للحركة؟
أما أن الدعاة قد فرحوا باتساع القاعدة على هذا النحو فأمر لا شك فيه، وأما أن هذه الجماهير قد جندت أنفسها للدعوة، كما جند الأنصار أنفسهم لدعوة الرسول، فأمر تحوطه الشكوك!

ونسأل أولاً : هل هذه الجماهير المتحمسة للإسلام تظل على حماستها حين ترتكب الجاهلية حماقاتها، فتقتل المسلمين وتعذبهم وتشردهم، وتسلبهم أمنهم وطمأنينتهم، وتلاحقهم بالأذى والتنكيل، أم يقول قائلهم يومئذ : لذلك الحد لم تبلغ صداقتنا! ويتخلى عن الطريق؟!
بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلاد، فقامت الجاهلية العالمية: الصليبية الصهيونية، تحاربهم بالحصار الاقتصادى – ودع عنك الوسائل الأخرى – فهل تصبر هذه الجماهير المتحمسة على الجوع من أجل إقامة حكم الإسلام؟ أم ترتد على أعقابها بحثاً عن لقمة الخبز؟!

بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلاد ولم تتعرض لهم الجاهلية العالمية بالحرب، لا الحرب الاقتصادية ولا غيرها من أنواع الحرب، ولكنهم فقط ألغوا الأغانى المتسيبة المتميعة من الإذاعة، وألغوا المشاهد الخليعة من التلفزيون، وحرموا التبرج فى الطريق.. فهل هذه الجماهير المتحمسة ستظل كلها على حماستها، أم يتقاعس بعضها على الأقل ويقول: هذا تزمت لا موجب له!!
أليس من الضرورى أن تتلقى هذه الجماهير قدراً من التربية على الأقل، لكى تجند نفسها لتكاليف الإسلام، ولا تنفر من هذه التكاليف حين يواجهها الأعداء بالحرب، أو حين تقام فى الأرض أحكام الإسلام؟
ومن الذى يربى تلك الجماهير، والقاعدة ذاتها لم تستكمل حظها من التربية، ولم تعد نفسها للتوسع الجماهيرى، فجاءت الجماهير تلهبها الحماسة فلم تجد المربين؟!

أما الحديث عن التجرد لله فحديث شائك! وما بنا أن نتكلم فى حق أحد يعينه، وما نبرئ أنفسنا، والله وحده هو المطلع على دخائل النفوس: (( يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور))(غافر:19) . ولكنا نقول فقط إن ظاهرة التنازع والشقاق والتشرذم التى تحيط بالعمل الإسلامى اليوم تحمل دلالة معينة: أن هناك نقصاً فى تربية ((الأخوة الإسلامية)) فى نفوس العاملين فى حقل الدعوة، ونقصاً فى التجرد الحقيقى لله
ليس الخلاف فى ذاته عيباً، وإن كان ينبغى أن تكون له ضوابط تضبطه، بحيث لا يصبح تعصباً لهوى فى النفس، أو لشخص من الأشخاص، أو فرقة من الفرق. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون، ولكنهم لم يكونوا يفترقون، وهذا هو محور القضية. حين نختلف نونحن متجردون لله، متجردون للحق، فسيقل التنازع والشقاق والتشرذم دون شك، وتقل ظاهرة التحزب القائمة اليوم فى العمل الإسلامى، والتى تؤدى إلى التعصب للرأى، وللفكر، وللقائد، وللجماعة، وللطريق.

وبطبيعة الحال ليس الاجتماع مطلوباً فى ذاته ولو كان على الخطأ، فالخطأ لا يخدم الدعوة، والإصرار عليه مفسدة، ولكن التجرد فى بيان الحق أدعى إلى تأليف القلوب، من التنابذ بدعوى تصحيح الخطأ وإظهار الصواب!
وخلاصة القول: أننا تعجلنا الطريق، وأن أمامنا مشواراً لابد أن نقطعه، لنستحق عند الله التمكين.
لقد بين الله لنا طريق التمكين : ((هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين(62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم(63) يأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين(64) يأيها النبى حرض المؤمنين على القتال.))(الأنفال: 62-65)
فتلك شروط أربعة، فى أربع آيات متواليات من سورة واحدة، تبين الشروط الأساسية للنصر: وجود مؤمنين صادقى الإيمان، متآلفة قلوبهم، متجردين لله، مستعدين للقتال حين تقتضى ذلك ظروف الجهاد0
فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة فى ضوء هذه الشرط فسنجد ولا شك أننا قطعنا شوطاً، ولكننا استعجلنا الطريق!

[1] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref1) مجموع الفتاوى- المجلد الثالث- ص230-231.

[2] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref2) مجموع الفتاوى- المجلد العاشر- ص372.

[3] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref3) مجموع الفتاوى- المجلد الثامن والعشرون- ص 500-501 .

[4] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref4) أخرجه مسلم.

[5] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref5) انظر إن شئت كتاب((مفاهيم ينبغى أن تصحح)).

[6] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref6) رواه الترمذى وقال حديث حسن.

[7] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref7) سنتحدث عن هذه القضية فيما بعد.

[8] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref8) تفسير ابن كثير ج2 ص68

[9] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref9) المفتى الأسبق للمملكة العربية السعودية ، ومن أكابر علمائها.

[10] (http://www.saowt.com/forum/#_ftnref10) فى مسرحية الديمقراطية تتوهم الجماهير أنها هى التى تحكم ، بينما الحكم فى الحقيقة فى يد الرأسمالية! أما من وجهة النظر الإسلامية فسواء كان الحكم للجماهير حقيقة أم كان فى يد الرأسمالية فهو فى الحالين تشريع بغير ما أنزل الله.

من هناك
04-24-2009, 12:16 AM
صحيح ان الموضوع يصلح كمعلقة ولكن نصفه الأول جيد جداً جداً ولم اتابع القراءة. عسى ان يأتي زمان نتابعه

طرابلسي
04-26-2009, 07:09 PM
أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة


والنتائج التى ترتبت عليه
هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل فى الحركة المعاصرة :
أولاً : عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام
ثانياً : الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهى قريبة المنال
ثالثاً : عدم التقدير الكافى لرد فعل الأعداء
وسنتناول كل واحد من هذه الأسباب بشىء من البيان
حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن حال الأمة قد انكشف تماماً من كل جوانبه، فقد كانت بقايا من المظاهر الإسلامية تخايل للرأى، فيظن أن الخير باق ما يزال.. لم يكن الغزو الفكرى قد تمكن من الأمة تمكنه الحالى، وكانت بقايا التقاليد تستر الخواء القابع وراءها، فلا تظهر الصورة على حقيقتها
فأما الغزو الفكرى فكان قد بدأ منذ وقعت بلاد العالم الإسلامى فى قبضة الغرب، وبدأ العالم الإسلامى من جانبه ينبهر بما عند الغرب من تقدم مادى وعلمى، بينما المسلمون يؤمئذ متخلفون فى جميع الميادين، ثم عملت مناهج التعليم ووسائل الإعلام على تعميق الغزو وترسيخه، وتخريج أجيال تنسلخ تدريجياً من الإسلام، وتدخل تدريجياً فى عملية التغريب.. ولكنه حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن قد آتى ثماره كاملة، فلم يكن يتعرى على الشاطئ إلا نساء الطبقة الأرستقراطية! أما بنات الطبقة المتوسطة فكن ما زلن يستحين من ذلك العرى، وإن اشتهته أنفسهن من كثرة ما تنشر الصحف والمجلات من صوره وأخباره! وأما بنات الشعب فكن ينفرن منه نفوراً ويستنكرنه استنكاراً! وكانت الصداقات ((البريئة!)) بين الأولاد والبنات تتم على استحياء شديد، وفى تكتم عن الآباء والأمهات، والفتاة التى تستعلن به تعتبر ساقطة فى نظر الناس! وكان الفكر الغربى ينشر فى الصحف والكتب إما منسوباً إلى أصحابه الأصليين من مفكرى الغرب، إذا كان الناقل أميناً يحترم نفسه، وإما مسطواً عليه ومنسوباً إلى ناقله فى كثر من الأحيان! وكان المسرح، وكانت السينما، وكانت الإذاعة، كلها تعمل لحساب الغزو الفكرى، ولكن روادها بعد محدودون، وتأثيرها بعد ما يزال فى منشئه
باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التى صارت إليها فيما بعد، والتى قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى الثانية بصفة خاصة
ومن جانب أخر كانت بقايا التقاليد ما تزال قائمة، يخيل للرائى أنها ستصمد لضغط الغزو الفكرى، كما صمدت حوالى نصف قرن قبل ذلك! فقد كان ما يزال هناك من يرتاد المساجد من الشباب، حتى فى العواصم الكبرى التى تركز فيها الغزو الفكرى، وفى رمضان يصوم الصغار والكبار، ولا يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب، حتى لو كان مفطراً فى واقع الأمر! وكان الزواج يتم بمعرفة الأبوين وعن طريقهما فى أغلب الأحيان، وكانت الأسرة ما تزال متماسكة، لرب الأسرة فيها كلمة مسموعة، والأولاد والبنات متقيدون بالتقاليد العامة لا يخرجون عنها، ومن خرج عليها يجد من الناس الإعراض والنفور؛ أما الريف فكان فى مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال، يستنكر الفساد الموجود فى المدينة، ويتحسر على ((أيام زمان))
فى مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفى على الرائى حقائق كثيرة!
لقد كان الإسلام قد تحول منذ فترة غير قصيرة إلى مجموعة من التقاليد أكثر منه شحنة حقيقية حية .. وفى فترة معينة فى حياة الأمم يكون تمسك الناس بالتقاليد شديداً، إلى حد يتوهم معه الإنسان أن الناس على دين حقيقى! ولكن التقاليد تجف بعد فترة حين ينقطع عنها المدد الحى الذى يمنحها الحيوية والفاعلية، فتبدأ تتيبس وتجمد من ناحية، وتفقد تماسكها من ناحية أخرى.. وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف فى المجتمع، وإن كان ما لها إلى التفتت والانهيار فى النهاية، بفعل عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد لا تستطيع أن تصمد، وسرعان ما تنهار
والذى حدث فى العالم الإسلامى أن معاول الهدم- المتمثلة فى الغزو الفكرى- كانت عنيفة شديدة العنف، موجهة بشدة لهدم الإسلام ذاته فضلاً عن تقاليده الظاهرية، فلا جرم تنهار التقاليد انهياراً سريعاً تحت طرقات المعاول التى تعمل ليل نهار، فى دأب لا يفتر، وإصرار لا يتحول عن أهدافه
وفى نصف قرن تغيرت الأمور تغيراً مريعاً، حتى لكأن الأمة الأولى قد ذهبت، وجاءت بدلاً منها أمة أخرى لا صلة بينها وبينها إلا تشابه الأسماء! وسرى الفساد الذى أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً، كسريان السم فى البدن الملدوغ فلم تعد بنات الأسر الارستقراطية وحدهن هن اللواتى يتعرين على الشاطئ، إنما صارت بنات الطبقة الوسطى، ورويداً رويداً وصلت العدوى للريف! وصارت العلاقات بين الأولاد والبنات- البرئ منها وغير البرئ- شيئاً عادياً فى المجتمع، بل أصبحت إحدى أصوله وتفككت الأسرة ولم يعد سلطان عليها، وصار للأولاد والبنات شأنهم الخاص الذى لا يجوز للوالدين أن يتدخلا فيه وأصبح((الدين))عموماً علامة الجمود والانغلاق، وعلامة التخلف عن ركب الحياة الحى المتحرك، وأصبح الثبات على أى شئ عيباً يعير به صاحبه، لأن الأصل فى الأشياء هو التطور وليس الثبات!
فى نصف قرن حدث هذا كله، ونسب إلى التطور وإلى النهضة، وإلى مواكبة العالم المتحضر، وإلى ثورة التكنولوجيا وثورة الاتصالات!
وما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم الإسلامى خارج الأحداث التى تمور بها الأرض، ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً كانت ....قمينة أن تحدث، لو أن الإسلام كان حيا فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح
فأما التقدم العلمى والتكنولوجى فهو لا يشكل مشكلة للإنسان المسلم، وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التى كانت قائمة فى الأرض، ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية، أبرزها استخدام المنهج التجريبى فى البحث العلمى، فضلا عن كشوف علمية أخرى كانت هى نواة التقدم الحالى ولكن المسلم لا تهتز عقيدته حين يتعلم العلم، ولا يهتز إيمانه بالله واليوم الآخر، لأنه صاحب كيان سوى تتجاوز فيه- وتتعاون- نزعة الإيمان ونزعة المعرفة، بلا تعارض ولا تناقص ولا تضاد: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))(فاطر: 28)
إنما حدث التعارض والتناقص فى أوروبا، نتيجة خلل فى الدين الذى كانت تعتنقه، وخلل فى الكيان الذى أورثها إياه ذلك الدين، لا لأن الدين بطبيعته مناقض للعلم، ولا لأن العلم يمكن أن يكون بديلا من الدين! ولو أن الإسلام كان حياً فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح، فقد كانت الأمة الإسلامية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج الجاهلى الغربى الذى ينتقل من اختلال إلى اختلال، والذى لا يستوعب فى أى طور من أطواره إلا أحد شقى الإنسان: إما الشق الروحى، وإما الشق المادى إما الشق الذى يعمل من أجل الآخرة، ويهمل الحياة الدنيا، وإما الشق الذى يعمل من أجل الدنيا ويهمل الآخرة، ويعجز فى جميع الأحوال عن استيعاب الإنسان كله كما خلقه الله، بشقيه معاً مجتمعين مترابطين: قبضة الطين ونفخة الروح: ((إذ قال ربك إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص: 71-72)
وإن عجز الأمة عن استيعاب التقدم العلمى والتكنولوجى الحادث فى الأرض، وعجزها عن تقديم النموذج الحضارى المتميز، كانت له دلالة لا ينبغى أن تفوت صاحب الدعوة دلالته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين فى نفوس أصحابه قد خبت، أو ضعفت إلى الحد الذى يعجزها عن التفاعل الحى مع الأحداث، كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ وهذا الضعف لابد له بطبيعة الحال من أسباب، فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحى الموار بالحيوية، الذى صنع الأعاجيب فى حياة البشرية كلها، حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً، وتحركوا به فى دنيا الواقع ولابد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض الجسد كله: ((ألا إن فى الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب)) ولو انكشفت تلك الأمراض لأصحاب الدعوة من أول الطريق، لعملوا على علاجها أولاً قبل الانطلاق لو اتضح لهم أن كل ألوان التخلف التى وقع فيها المسلمون، من تخلف علمى ومادى وسياسى وحربى وحضارى وثقافى، نشأت كلها من التخلف العقدى الذى أصابهم فى الفترة الأخيرة بصفة خاصة، لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذى ساروا عليه بالفعل، ولكانت لهم رؤية مختلفة فى طريق العلاج
ولا شك أن حقيقة بعد الأمة عن الصورة الصحيحة للإسلام، كانت واضحة وضوحاً كاملاً للدعاة؛ لأنها كانت أظهر من أن تخفى على أحد ولكن مدى هذا البعد ونوعيته، هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة، التى تخيل للرائى أن البناء تحتها ما يزال سليماً، أو أنه لا يحتاج إلا إلى ترميمات قليلة هنا وهناك!
كان ينبغى للدعوة أن تكشف عن الأساس ذاته، لترى إن كان قد بقى سليماً، أم تهرأ خلال الهزات المتوالية التى مرت بالأمة خلال التاريخ، ليتقرر فى حسها نقطة البدء: هل هى ترميم البناء، أم تجديد الأساس
لم يكن الفساد الذى ألم بالأمة هو فساد السلوك وحده، إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم، وفساد المفاهيم أخطر كثيراً وأشق علاجاً من فساد السلوك
حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة، مع وجود مفاهيم صحيحة، فالإصلاح- مهما بلغت مشقته- أيسر منالا وأقرب رجاءً مما لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت، لأنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف، جهد فى تصحيح المفاهيم وهو الأشق، وجهد فى تصحيح السلوك
وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها فى الحقيقة قد فسدت- كما ألمحنا من قبل- حتى مفهوم لا إله إلا الله، بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان، إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس، يؤدونها تقليداً أكثر مما يؤدونها أداء حياً واعياً، يربط الإنسان بمنهج حياة متكامل، يشمل الحياة كلها: عبادتها وعملها، سياستها واقتصادها، روابطها الاجتماعية وروابطها الفكرية كلها فى آن
كانت عوامل كثيرة قد أثرت فى إفساد مفاهيم الإسلام الأساسية فى حس الناس، فلم يعودوا على وعى بها فى صورتها الصحيحة التى أنزلت بها من عند الله، ووعاها ومارسها الجيل الأول رضوان الله عليهم، والأجيال التى تلته
كان الفكر الإرجائى قد أخرج العمل من مسمى الإيمان،! وزعم أن الإيمان هو التصديق والإقرار لا أكثر! وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً من أعمال الإسلام!
وكان الفكر الصوفى قد حول الإسلام إلى سبحات روحية، وأوراد وأذكار، وهيام وجدانى لا يتحرك فى واقع الأرض، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يقوم بجهاد، فضلاً عن الخلل العقدى فى عبادة الأضرحة والأولياء والتقدم إليها بألوان من العبادة لا تجوز لغير الله
وكان الاستبداد السياسى منذ بنى أمية، فبنى العباس، فالمماليك، فالعثمانيين، قد صرف الناس عن الاشتغال بالأمور العامة، ووجههم إلى الاهتمام بشئونهم الخاصة، وحصر مفهوم العبادة فى الشعائر التعبدية، والفضائل الفردية التى لا تتدخل فى شئون المجموع
وتحول التوكل إلى تواكل سلبى دون الأخذ بالأسباب، وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس، بعد أن كانت عقيدة إقدام وجرأة فى مواجهة الأعداء والأحداث: ((قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون(51) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون))(التوبة: 51- 52)
وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بعد أن كان طريقاً واحداً أوله فى الدنيا وآخره فى الآخرة: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))(القصص: 77)0 ((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك: 15)00 فأهمل مجموع الأمة طريق الدنيا، من علم وقوة وتمكن فى الأرض وعمارة لها وتحسين لأحوالها، وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى الله، من حلقات الذكر وهيمان الوجد، بينما انصرف مجموعة من شرار الناس إلى الدنيا بمغرياتها، من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس، ونسوا البعث والنشور، والحساب والجزاء، فعاثوا فساداً فى الأرض، والأمة فى قبوعها السلبى لا تتعرض له بسوء!
وهذه الأمراض كلها، التى أفرغت الدين من محتواه الحى،وأفرغت لا إله إلا الله من شحنتها الفاعلة، كانت تستلزم البدء بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله، وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء، قبل التوجه إلى تجميع الجماهير!


* * *
وإذا كانت بقايا التقاليد، التى كانت قائمة فى المجتمع عند بدء الدعوة، قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذى أصاب الأمة فى أساس عقيدتها، فإن حماسة الجماهير فى تلقى الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع
تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة، وتجمع حول الإمام الشهيد فى سنوات معدودة، ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم الكثير من الشباب، وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصرى كله فى ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً، وإذا استبعدنا من تعداد النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا يفكرون فى الانشغال بأى أمر من الأمور العامة، أو يرحبون بأى جديد يظهر فى الساحة!
ولا شك أن الفيض الروحى الذى كان يتمتع به الإمام الشهيد، وقدرته الفائقة على التأثير فى مشاعر الناس، كان لها أثر فى تلك الحماسة الفياضة التى قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس، وما كان يمكن لشخص لا يملك تلك الموهبة، أن يجمع هذا الحشد الهائل من البشر، فى مثل هذا الوقت القصير
ولكن فلننظر من جانب آخر فى تلك الجماهير، لأى شئ تجمعت على وجه التحديد؟
لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية، بطريقة((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التى يلجأ إليها العامة لإشباع روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية، والتى كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور، فوجدوه فى شخص الإمام الشهيد وكلامه المؤثر، يشبع روحانيتهم و يحافظ فى الوقت ذاته على وعيهم، فلا يغرق فى الخدر الذى يسلب الشعور ووجدت من يحى آمالها فى عودة الإسلام إلى الوجود، بعد النكسة الحادة التى أصابت الناس بزوال الخلافة ووجدت من يرتفع بها عن ألوان الدنس التى كانت قد أخذت تلوث المجتمع، ويردها إلى المثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة وكل ذلك دون أن يتعرضوا لأية مخاطر، ولا يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور الاستماع!
ولكن هذه الجماهير التى جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت فى الأفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما كان فى تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لأية مخاطر، ولا كانت مستعدة أى استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ الأمر ما جاءت ولا فكرت فى المجئ!
لم يبق حول الإمام الشهيد إلا الذين رباهم على عينه، ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقى
هل كان كسباً للدعوة مجئ هذه الجماهير الحاشدة التى فرت عند أول بوادر الخطر، أم كان أحد أسباب التعويق؟
سننظر فى هذا الأمر حين نستعرض ردود فعل الأعداء ولكن لنا هنا وقفة: ما الذى جعل الدعوة تتجه فى تلك الفترة الباكرة إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية، يحسن الظن بأحوال الناس، ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هى فساد السلوك، فإذا وعظوا بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة، واستقامت هذه الجماهير على طريق الإسلام، وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد، فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!
لم يتضح لأصحاب الدعوة فى مبدأ الأمر- كما اتضح لهم فيما بعد- أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك، ولكنه واصل كذلك إلى المفاهيم، وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة الله، وأن الأمر فى حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير لقد اتضح ذلك فيما بعد ولكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً فى التوجه إلى((الجماهير))، على أساس أنها صالحة- بالموعظة المؤثرة والشحن العاطفى- أن تكون جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد وبعد ما كان هذا التوجه إلى الجماهير، وحشدها بهذه الصورة، والتحرك بها على الساحة السياسية، قد أثار ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة عند الأعداء
عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية، وحينما تكون الحركة إسلامية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية فى آن واحد وقد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكى ندرك هذا الأمر على حقيقته ينبغى أن نقرأ صفحات من التاريخ
فى القرنين الأخيرين، كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم الإسلامى فى تدهور مستمر فى جميع المجالات فالدولة العثمانية التى كانت أوروبا تخشاها وترهبها، قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص، وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملاكها دون أن تستطيع الرد، أو استرداد ما تفقده من الولايات، وتمردت بلاد البلقان بتحريض الدول الأوروبية، وتمردت الأقليات فى داخل العالم الإسلامى، وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الأحداث أما الأمة الإسلامية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً، فالتخلف يحيط بها من كل جانب، والجهل والفقر، والانغلاق على النفس، والتبلد على الأحداث عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيراً للقضاء على عدوها القديم، فاجتمعت وتآمرت، وخططت للاستيلاء على العالم الإسلامى كله، وإخضاعه للدول الأوروبية فيما سمى((بالاستعمار))، ودخل مع أوروبا الصليبية عنصر جديد، هو اليهودية العالمية التى كانت تخطط لحسابها الخاص، ولكن فى تعاون كامل مع الصليبية، من أجل إنشاء وطن يهودى فى فلسطين
وبعد رفض السلطان عبد الحميد مطالب اليهود بإقامة وطن لهم فى فلسطين، اتحدت تماماً مصالح اليهودية العالمية مع مصالح الصليبية العالمية، فصار التخطيط واحداً وإن كان كل فريق يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة فى نهاية المطاف وكان التخطيط محكماً فى كل اتجاه، وكان تنفيذه ميسراً بالنسبة للصليبية الصهيونية، بسبب فقدان الأمة لوعيها الإسلامى، وعزيمتها الإسلامية التى أوصاها الله بها فى قوله تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران: 139)0
وكان أخطر الأسلحة التى استخدمها الأعداء فى محاربة الإسلام- بعد أن استتب لهم الأمر عسكرياً وسياسياً- هو الغزو الفكرى، الذى كان هدفه قتل روح المقاومة للغزو الصليبي الصهيونى، بالقضاء على مكمن العقيدة داخل القلوب، وتخريج أجيال تتقبل العبودية للغرب راضية بها، إن لم تكن مندفعة إليها مستعذبة إياها، ظانة- وهى تسعى حتفها بظلفها- أنها متجهة فى طريق النجاة!
ولم يخف على الصليبية الصهيونية أن شعوب الأمة الإسلامية قد تستيقظ من غفوتها ذات يوم، وترفض التبعية المذلة للغرب، وتسعى إلى الاستقلال، فرتبت نفسها لهذا الأمر كذلك، ببذر اتجاهات وطنية وقومية، وإنشاء زعامات تتعلق بها الجماهير وتتحلق حولها، وهى مصنوعة على عين الاستعمار، كانت الثورة محدودة المطالب محدودة الأهداف، تطالب بالاستقلال العسكرى- إن قويت عليه- أو العسكرى والسياسى- ظاهراً على الأقل- دون أن تفكر فى الاستقلال الفكرى والثقافى والروحى، فتظل التبعية للغرب قائمة فى واقع الأمر، من خلال الأنظمة الوطنية والقومية، و((الثورات التحررية))، والجماهير فى غفلتها تصفق وتطرب لما يعرض أمام ناظريها من المسرحيات
باختصار لقد كان الذى تخشاه الصليبية والصهيونية، وتسعى لمنعه بكل الوسائل، هو حدوث صحوة إسلامية، فهذه هى التى لا تفاهم معها، ولا التقاء فى وسط الطريق والتى يعرف الأعداء جيداً مدى خطرها على مصالحهم: ((الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم))(البقرة: 146)
وحين بدأت الحركة الإسلامية على يد الإمام الشهيد، كان العالم الصليبى والصهيونى يرقبها بتوجس ظاهر، ويحاول أن يتعرف على مدى خطورتها كتب المستشرق البريطانى جب- والمستشرقون هو جهاز الاستخبارات الثقافى للصليبية الصهيونية- كتب كتاباً بعنوان: ((الاتجاهات الحديثة فى الإسلامin lslam mopern trends ))، ظهرت طبعته الأولى عام 1936م، يتحدث فيه عن حركة جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، ويمتدحها بحماسة ظاهرة، ولكنه عقب فى أحد هوامش الكتاب بالتعقيب الآتى: ((ظهرت بعد ذلك جماعة جديدة تسمى جماعة الإخوان المسلمين، يتزعمها رجل يسمى حسن البنا، ومن السابق لأوانه الحكم على هذه الجماعة، وإن كان من الظاهر أنها ذات خطورة خاصة))
وواضح فى هذا التعليق مدى التوجس، والرغبة فى سبر غور هذه الجماعة ذات الخطورة الخاصة!
كانت الخطورة الخاصة تتزايد بطبيعة الحال فى نظر الصليبية الصهيونية كلما تزايدت الجماهير الملتفة حول الدعوة الجديدة، التى تتحرك باسم الإسلام، ويتجمع الناس حولها باسم الإسلام ولكن الصليبية الصهيونية لم تكن تبينت بعد ما يجرى فى داخل الجماعة، من إعداد خطير غاية الخطورة، إعداد جنود للدعوة، مستعدين أن يموتوا فى سبيل الإسلام!
ولكن القنبلة انفجرت عام 1948، وانفجرت فى أخطر موقع يمكن أن تنفجر فيه، وفى أخطر موعد يمكن أن تنفجر فيه: فى فلسطين، فى لحظة الإعداد لإنشاء الدولة اليهودية
يتبع

0