تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نحو نظرة جديدة لمفهوم المعاصي



عزام
04-06-2009, 08:17 AM
ارحب بسماع تعليقاتكم و تصويباتكم خاصة الاخ فاروق لانه وعدني ان يكتب في الموضوع منذ سنة ولم يتسنى له الوقت لذلك للاسف

عزام






مقدمة
حينما نقول نظرة جديدة فلا نقصد فيها نظرة مستحدثة او بدعية انما نظرة تجديدية تعود بنا الى اصل المفهوم المغيب تحت ركام قرون من العادات والممارسات التي ابعدتنا عن المفهوم الحقيقي للمعاصي. وقبل ان نوضح هذا المفهوم الجديد- القديم : دعونا نستعرض اولا المفاهيم الحالية الأكثر انتشارا للمعاصي.
اولا: نظرات مختلفة للمعاصي
1- نظرة المدرسة الفقهية التقليدية
حينما اتكلم عن الفقه التقليدي فاقصد فيه المدرسة المذهبية التي اهتمت بالشكل اكثر من الجوهر حيث نظر هذا الفقه الى المعاصي نظرة تصنيفية فقسمها من حيث الانواع الى معاصي يد ولسان ورجل وقلب وبدن وكذلك قسمها الى كبائر وصغائر حسب قواعد مادية صرفة لا تنظر لخلفيات المعصية ودوافعها... ولهذه النظرة فوائد منها تسهيل التمييز والمقارنة على العامة الا ان مرور الزمن وابتعاد الناس عن الدين وفتنة المنشغل بالفقه فيه قد ساهم في تحول الفقه عند البعض الى مسائل رياضية لا روحية فيها خاصة بعد ان فصل عن سائر العلوم الدينية كالعقيدة وعلم الحديث.. وهنا اريد ان اعرض الى قصور النظرة الفقهية التقليدية في نظرتها الى المعاصي مما ادى الى اجتراء الناس على الصغائر بدعوى انها صغائر وكان الاصوب النظر الى المعاصي من زاوية العقيدة حيث ان خطورتها تتمثل في الخلفية المعنوية التي تحملها سواء كانت ظاهرة ام مبطنة مقصودة ام غير مقصودة.. والى هذا المعنى ترشد القاعدة "اننا لا ننظر الى صغر المعصية بل الى عظمة من نعصي"
2- نظرة المدرسة الفكرية
وبمقابل هذه المدرسة هناك المدرسة الفكرية التي ارادات ان تشرح الاسلام للمسلمين وللاخرين فاعتنت ببيان الحكمة من وراء كل المعاصي وصنفتها على هذا الاساس وهي طريقة جذابة للدعوة واجتذاب الناس الى الاسلام ولكنها قاصرة كالتفسير الفقهي عن شرح تراتبية المعاصي الصحيحة. فبعض المعاصي التي تعد من الكبائر قد لا تحمل احيانا عواقبا حتمية لها في الدنيا. الزنا مثلا يؤدي الى فساد المجتمعات والى ضياع النسل والى الانحلال الاخلاقي الذي بدوره يؤدي الى انهيار الامم. ولكن نلاحظ ان بعض هذه الاضرار قد بدا يفقد قيمته فالمجتمعات الغربية انتشر فيها الفساد الاخلاقي منذ زمن ومع ذلك لم تصل الى هاوية الانهيار.. وذلك عائد الى ان القوانين الغربية تحاول مع الوقت ان تخفف من تأثير هذه المضار على المجتمع خاصة مع قوانين حقوق المساكنة ووسائل منع الحمل وتجريم الاغتصاب.. طبعا لم يستطيعوا ان يقضوا على كل مفاسد الزنا فبعض الاضرار بقيت ولكن المجتمع الغربي تعايش معها كما يتعايش مع التلوث البيئي وحولها من ضرر مدمر الى ضرر ضمن نطاق السيطرة.
ما قلناه ينطبق على الربا ايضا فالربا يتم تصويره على انه استغلال المرابي الغني للمحتاج الفقير ولكن معظم المتعاملين بالربا في ايامنا هذه هم مقتدرون ماديا وبحاجة لسيولة فهل ما زال اسم الربا مرتبطا بالظلم؟؟؟
اما اذا نظرنا للخمر فنرى المدرسة الفكرية تشدد على اضرار الاسكار فيه لكن الغرب نجح الى حد ما في محاربة السكر والثمل دون الخمر الذي اصبح تقليدا اجتماعيا لا يسبب اي ضرر ملاحظ.. وكذلك لحم الخنزير ليس كل من اكله يصاب بالدودة الشريطية واصبح ضرره مثل غيره خاصة ان كل شيء ملوث في ايامنا هذه ويمكن ان يسبب امراضا حتى لحم البقر (جنون البقر) والدجاج (انفلونزا الطيور) والخضروات (التلاعب بالجينات).
وسؤالي اذن: هل التحريم مرتبط دوما بضرر؟؟ هل هكذا ننظر اليه؟؟ وماذا اذا نزعنا الضرر فيه .. هل تزول الحرمة؟؟ لا بالطبع وبالتالي فان هناك بعدا غائبا في المعاصي لم نتناوله بعد.
3- النظرة التصوفية للمعاصي
وهي تركز على كون الطاعة والعبادة والذكر تقرب الى الله وان المعصية هي كل ما يبعد عن الله ولكن لما كانت هذه النظرة عاطفية وقلبية فقد ساد الجهل كثير من المتصوفين ووقعوا في اخطاء كبيرة بسبب جهلهم بالدين كالابتداع و اتباع الهوى والسلبية والتكاسل والتواكل في المجتمع. فلا تكفي محبة الله لا ستجلاب الرحمة انما علينا أن نطيعه وكي نطيعه علينا ان نعرف ماذا امرنا..
ثانيا: ما هي النظرة الشاملة للمعاصي اذن؟
استطيع اختصارها بجملة واحدة وهي التعدي على حدود الله... وهذا المعنى لمحت له في الكلام الذي نقلته انفا: نحن لا ننظر الى صغر المعصية ولكن الى عظمة من نعصي. فما المطلوب منا اذن كي نفهم خطورة لمعاصي التي نقترفها؟
غيرة الله على عباده المخلصين
ان ادراك معنى لا اله الا الله الحقيقي هو التوكل على الله في كل امر وادراك انه هو الرازق الحقيقي وهو الشافي على الحقيقة وهو الناصر وهو القوي وهو الملك والمالك لكل شيء. فلا يغرنا عالم الاسباب عن خالق السبب. وقد يسهى الانسان في غمرة انغماسه بالحياة عن هذه الحقائق. فيظن ان الطبيب هو الشافي وينسى قول القرآن الكريم على لسان ابراهيم "واذا مرضت فهو يشفين". كذلك ممكن يظن ان رئيسه في العمل هو ولي نعمته وينسى ان الرب هو الرازق. "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" وممكن يظن ان قوته الذاتية هي التي نصرته " قال إنما أوتيته على علم عندي" وينسى قوله تعالى "وما رميت اذ رميت ولكن لله رمى"
اذن لا يكتفي الله من عباده بالتسليم لسانيا بصفاته بل يطلب منهم ان يطبقوا الايمان بها في كل حال. ويبتليهم بمواقف تمتحن قوة ايمانهم الفعلي بهذه الامور. لذلك نرى ان رب العالمين ترك المسلمين ينهزمون لمجرد انهم اعتمدوا على قوتهم الذاتية يوم حنين حينما قالوا "لا نغلب اليوم من قلة". " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" فكيف بنا اليوم ونحن نعتمد على كثرة الكفار لننتصر. هل سننتصر حقا؟
ومن المواقف التي تتجلى فيها غيرة الله على عباده المخلصين من ان يتكلوا على غيره ما ورد عن سيدنا يوسف عليه السلام انه اتكل على الساقي ليخرجه من السجن ونسي ان يتوكل على الله ويلجأ اليه فلبث في السجن بضع سنين. " وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين" (التفسير هنا خلافي ولكن نسوقه للاستئناس وليس هو عمدة ادلتنا). ايضا من المواقف التي تتجلى فيها معاتبة الله تعالى لعباده المخلصين اذا غفلوا عن التوكل عليه انه لما سأل اليهود نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الروح وعن اهل الكهف قال "غدا اخبركم" ونسي ان يقول ان شاء الله فتأخر الوحي عليه خمسة عشر يوما واهتزت الدعوة يومها.. وتضايق الرسول صلى الله عليه وسلم نفسيا بشكل كبير لأن بعض الناس بدأ يشك بنبوته وبعضهم كفر والعياذ بالله. ثم جاء الجواب بعد خمسة عشر يوما على اسئلتهم ونزل التنبيه الالهي " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله". وتبقى اللطيفة الاخيرة ان الله يعطي بلا حساب حينما يتوكل العبد عليه ويوكله الى عالم الاسباب حينما يركن العبد اليه فسيدتنا مريم كان يأتيها رزقها بلا تعب ولا نصب حينما كانت تتوكل على الله بيقين " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" لكنها لما سألت الملائكة كيف يرزقها الله طفلا بدون ان يمسها رجل ادخلت نفسها في عالم الاسباب ونست ما كانت تقول من كون الله يرزق بغير حساب فاصبح علياه ان تحصل رزقها بتعب منها ومن هنا قال القرآن الكريم " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا"
ثالثا: اياك والاغترار

لا ريب ان الامثلة التي سقناها في المقطع السابقة بينت للقارىء الكريم ان رب العالمين يغضب حينما نتوكل على غيره ويغضب اذا انتهكت حدوده وتتحول الصغائر الى كبائر ان صاحبها فخر وعزة.. وتتحول الكبائر الى صغائر ان عقبها الذل والانكسار... ومن هنا اقوال العلماء:
لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وقولهم: رب معصية أورثت ذلا وانكسارا ورب طاعة أورثت عزا واستكبارا.. دعونا نذكر بعضا من الصفات النفسية التي تضاعف خطورة المعصية
التكبر
1- الكبرياء رداء الله

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ) ، وروي بألفاظ مختلفة منها ( عذبته ) و ( وقصمته ) ، و ( ألقيته في جهنم ) ، و ( أدخلته جهنم ) ، و ( ألقيته في النار ) . (الحديث أصله في صحيح مسلم وأخرجه الإمام أحمد و أبوداود ، و ابن ماجة ، و ابن حبان في صحيحه وغيرهم ، وصححه الألباني .)
هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر والاستعلاء على الخلق ، ومعناه أن العظمة والكبرياء صفتان لله سبحانه ، اختص بهما ، لا يجوز أن يشاركه فيهما أحد ، ولا ينبغي لمخلوق أن يتصف بشيء منهما، وإذا كان كذلك فإن كل من تعاظم وتكبر ، ودعا الناس إلى تعظيمه وإطرائه والخضوع له ، وتعليق القلب به محبة وخوفا ورجاء ، فقد نازع الله في ربوبيته وألوهيته ، وهو جدير بأن يهينه الله غاية الهوان ، ويذله غاية الذل ، ويجعله تحت أقدام خلقه.
2- الفرق بين آدم وابليس (بين الكبر والانكسار)
وهذا مثال يبين اهمية البعد الذي تحدثنا عنه فاذا نظرنا الى المعصية كشكل مادي فقط فآدم عليه السلام ارتكب نفس معصية ابليس ولكن مع اختلاف المنطلقات النفسية (شهوة، كبر) ومع اختلاف التصرف عند التذكير (توبة واستغفار، تمرد وجحود). لذلك يقول العلماء أول ذنب عُصي الله به هو الكبر، وهو ذنب إبليس حين أبى واستكبر وامتنع عن امتثال أمر الله له بالسجود لآدم، ولذا قال سفيان بن عيينه : " من كانت معصيته في شهوة فارجُ له التوبة ، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهياً فغُفر له، ومن كانت معصيته من كِبْر فاخشَ عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلُعِن " ، فالكبر إذاً ينافى حقيقة العبودية والاستسلام لرب العالمين ، وذلك لأن حقيقة دين الإسلام الذى أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه هي أن يستسلم العبد لله وينقاد لأمره.
الاغترار بالعمل والعلم والمال والقوة الذاتية
وكنا قد ذكرنا من قبل الامثلة عن معركة حنين.. ونذكر الآن امثلة اخرى

1- مثال قارون (الاغترار بالقوة الذاتية)
{قال إنّما أوتيته على علم عندي} (آية 87، سورة القصص) وقارون هو ذلك الرجل من بني اسرائيل من قوم موسى عليه السلام، الذي آتاه الله من المال حتى أنّ مفاتيح خزائن تلك الأموال كانت تحتاج الى الجماعة من الرجال ليحملونها وهو الذي لم يكن كذلك من قبل. فانقلب حال الرجل الى الجحود بدل الشكر، والى نُكران الفضل بدل الإقرار به، فاستعلى واستكبر حتى أنّه لما نُصح من بعض قومه بألاّ يغترّ ولا يستكبر ولا يفسد في الأرض رفض النصيحة، بل إنّه نفى أن يكون لأحد فضل عليه، وأنّ ما بين يديه من المال إنّما هو من تعبه وبذله وذكائه ومهارته في جمعه.
2- مثال صاحب الجنتين (الاغترار بالمال والعزة)
مثال آخر هو صاحب الجنتين الذي ورد ذكره في سورة الكهف..
( وكانَ لهُ ثمرٌ فقالَ لصاحبِهِ وهو يُحاورُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفَراً ـ 34 ).
ايضا اغتر هذا الرجل بكثرة ماله وعشيرته وقبيلته ، أي بالغنى والحسب ، يقوله افتخارا لا تحدثا بنعمة الله عليه بدليل العقوبة التي حصلت له.
3- مثال بلعم بن باعوراء (الاغترار بالعلم)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}
إن من أبغض الأمور إلى الله، والموجبة لسخطه وانتقامه، كفر نعمه وعدم شكره بالقلب واللسان والفعال، و إن من أعظم النعم الإلهية والمنح الربانية التي يجب شكرها على نحو ما وصف نعمة العلم والهداية، وعلى كل من أوتيهما أن يؤدي شكرهما، فيعترف أولا بأن مسديهما هو الله وحده لا شريك له.
رابعا: المعاني الحقيقية للمعاصي وفق هذا المفهوم

القتل ازهاق للروح -التي خلقها الله- بغير اذنه ومن هنا فان عقوبة الانتحار عند الله لا تقل عن عقوبة القاتل وان اختلفت نظرة المجتمع للقاتل عن المنتحر.
الزنا استحلال للفروج التي حرمها الله الا باذنه.. وفي حين فرق الغرب بين الزاني والقاتل فان الاسلام يضعهما في مرتبة واحدة: مرتبة الكبائر التي يحد عليها بالقتل مع ان الانسان يستبشع القتل لما فيه من منظر دماء وقد لا يستبشع الزنا لأنه برضى الطرفين ولكن العبرة هي بالتعدي على حدود الله.
الحكم بما لم ينزل الله شرك وكفر وظلم لما فيه من شبهة المنازعة في الالوهية والربوبية..
حرمة نحت التماثيل لما فيها من مضاهاة الخالق في عملية الخلق والتصوير وبالمثل حرمة اي عمل فيه مضاهاة للخالق في صفة من صفاته فبالاولى يحرم التكني باسماء مثل ملك الملوك وسلطان السلاطين..
نمص الحواجب وتفليج الاسنان لما فيه من تغيير خلق الله وكل عمليات التجميل التي تستهدف تغيير خلق الله لا ازالة تشويه معين.
الاكل مما ذبح ولم يسم عليه لكون ذبح الحيوان واستحلال لحمه لا يكون الا باذن الله... وبالمثل قتل الحيوان والتمثيل بجثته وتعذيبه واتخاذه هدفا للرمي لا يجوز..
وقس على ذلك سائر المعاصي...

خامسا: ادلة اضافية على اهمية بعد التعدي على حدود الله في مضاعفة خطورة المعاصي
الرجل الذي قتل مائة نفسا
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ؟ فقال: ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)). صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل ... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
وفي رواية أخرى : ((فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوُجد إلى هذه أقرب بشبر)). صحيح، صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب حديث الغار، حديث (3470)، صحيح مسلم: كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل ... (2766). ومسند أحمد (3/20، 72)، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة، حديث (2626).
وشاهدنا في القصة قول ملائكة العذاب : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً أبدا فهل هناك كبيرة اكبر من ذلك الا الشرك؟ ومع ذلك فقد فقد غفر الله له لنيته الصادقة في التوبة في حين ان الحديث سكت عن الراهب الذي قنطه من رحمة الله ولربما يكون عقابه كبيرا لأنه تجرأ على التعدي على حق من حقوق الله واعتبار نفسه في مقام يحق له ان يحكم على انسان ما بالنار.. وما اوحى الله للارض الطيبة ان تتباعد الا لتبكيت هذا المتعالم الذي وضع نفسه في مقام الالوهية حين حكم على المصير الآخروي لإنسان ما.. فهلا يتعظ التكفيريون الذي يكفرون المسلم بهذه القصة ويتفكروا ولو للحظة ان مصيرهم قد يكون كمصير هذا الراهب ومصير من حكموا عليه بالنار كمصير هذا القاتل؟
الكلب والهرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر : ( أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار ، يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش ، فنزعت له بموقها ، فغفُر لها ) رواه مسلم .

وفي الصحيحين "دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"
إننا أمام بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، لم تقع في صغيرة تمحوها الصلاة وأنواع الذكر، ولم تزلّ قدمها في كبيرة من الكبائر لتقوم بعدها من كبوتها، ولكنها امتهنت الفاحشة واستسهلت الرذيلة، حتى صار ذلك لها علماً بين الناس. ومع ذلك نفعتها رحمتها لهذا المخلوق البائس اليائس فكان صنيعها معه سبباً للتجاوز عن سيّئاتها ومغفرة ذنوبها ، كرماً منه وفضلاً. وفي المقابل دخلت امرأة النار لأنها عذبت هرة ولم تطعمها فانظر رعاك الله كيف افادت الرحمة هذه البغي وكيف ضرت قسوة القلب هذه المرأة.. فهل بعد ذلك من شك ان الكبائر والصغائر لا تصنف دوما بمعاييرنا القاصرة.. بل معيارها الاساسي هو مقدار حجم التعدي على حدود الله.

الرجل الذي شك في البعث
قال رجل لم يعمل خيرا قط: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني ثم اسحقوني، ثم ذروني في البر والبحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ففعلوا، فقال الله للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو مخافتك فغفر له بذلك. وفي رواية: أن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا فقال لبنيه لما حضر أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ففعلوا فجمعه الله عز وجل فقال ما حملك قال مخافتك فتلقاه برحمته
رواه البخاري (3481، 7067)، ومسلم (2756) عن أبي هريرة، ورواه البخاري أيضاً (3478، 6116، 7069) ومسلم (2757) عن أبي سعيد الخدري.
ومع الخلاف في تفسير هذا الحديث فان التفسير الارجح هو أن الرّجل لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات، ولا مدركاً للقدرة الإلهيّة على وجه التفصيل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفرٌ باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك "، ويكون الحديث بذلك دليلاً على مسألة الإعذار بالجهل في بعض التفاصيل المتعلّقة بقضايا الإيمان. والحديث بسياقه دليلٌ على ما قاله بعض أهل العلم من أن أعمال القلوب في بعض المواقف قد تكون أعظم عند الله من أعمال الجوارح؛ فالرّجل لم يكن له نصيبٌ يُذكر من أفعال الخير، إنما كان عنده الخوف من الله تعالى، وهو عملٌ قلبيٌّ محض.

مجاهدة النفس في لحظة الفاحشة
والقصة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر , فمالوا إلى غار في الجبل , فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل , فأطبقت عليهم , فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة , فادعوا الله بها لعله يفرجها , فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران , ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم , فإذا رحت عليهم فحلبت , بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي , وإنه ناء بي الشجر , فما أتيت حتى أمسيت , فوجدتهما قد ناما , فحلبت كما كنت أحلب , فجئت بالحِلاب , فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما , وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما , والصبية يتضاغون عند قدمي , فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا فرجة نرى منها السماء , ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء , وقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء , فطلبت إليها نفسها , فأبت حتى آتيها بمائة دينار , فسعيت حتى جمعت مائة دينار , فلقيتها بها , فلما قعدت بين رجليها قالت : يا عبد الله , اتق الله ولا تفتح الخاتم , فقمت عنها , اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا منها , ففرج لهم فرجة , وقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ , فلما قضى عمله قال : أعطني حقي , فعرضت عليه حقه , فتركه ورغب عنه , فلم أزل أزرعه , حتى جمعت منه بقرا وراعيها , فجاءني فقال : اتق الله ولا تظلمني , وأعطني حقي , فقلت : اذهب إلى ذلك البقر وراعيها , فقال : اتق الله ولا تهزأ بي , فقلت : إني لا أهزأ بك , فخذ ذلك البقر وراعيها , فأخذه فانطلق بها , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج ما بقي , ففرج الله عنهم) .
والملفت في القصة هي دناءة الشخص الثاني التي لم تتوقف فقط عند حدود الهم بالزنا انما تجاوزتها نحو استغلال ازمة المراة واستغلالها وابتزازها فلسنا امام قصة رجل راودته امراة جميلةعن نفسه فابى انما على العكس نحن امام رجل قام باعمال دنيئة جدا لا تمت الى الاخلاق الاسلامية بصلة وما كان امتناعه عن الزنا في هذه الحالة بالعمل المثالي خاصة وان المرأة مكرهة بل هو اقل ما هو مطلوب من رجل يتمتع بقدر ادنى من المروءة ومع ذلك كله جعل الله امتناعه عن هذه المعصية عملا صالحا يستحق ان يفرج عنه كربه فما السر في ذلك؟ السر في ذلك ان محبته لله وخوفه منه كان شديدا وقويا لدرجة انو استطاع كبح جماح شهوته في موقف يضيع فيه عقل الرجل عادة (هذا امر لا يفهمه الا الرجال) ويلفت بالتالي الى مقدار ثواب مجاهدة النفس وشهواتها خوفا من الله تعالى.. فهلا كففنا عن النظر الى الشهوات التي تنابنا بين حين واخر على انها مشاعر شيطانية؟؟ هي غرائز خلقها الله فيها ولنا اكبر الاجر ان جاهدناها حتى يتيسر لنا الطريق لافراغها بالحلال..
الخاتمة: رحمة الله هي سبيل الخلاص لا عمل الانسان
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا يا رسول الله ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). رواه مسلم..

صرخة حق
04-06-2009, 03:19 PM
في مسند أحمد يقول الرسول عليه الصلاة والسلام - عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏أَنَّهُ قَالَ ‏ ‏لَا ‏ ‏يُنَجِّي أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ ‏ ‏فَقَالَ رَجُلٌ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ ‏ ‏يَتَغَمَّدَنِي ‏ ‏‏(((‏ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ))) وَلَكِنْ ‏ ‏سَدِّدُوا


إن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى،فليست الأعمال ثمناً للجنة، لكنها سببٌ لدخول الجنة، ولا ندخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة، الذي لا يعمل صالحاً لا يدخل الجنة، فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة، بل ولا تسديد حق نعمة واحدة من النعم. (من محاضرة للشيخ المنجد )

المهاجر7
04-09-2009, 04:13 PM
مقالك جيد أخي عزام , وأرجوا أن تتقبل مني بعض الملاحظات اليسيرة
1)كان الأولى أن تكتب في كلامك ''الحكمة من وراء ترك أو اجتناب المعاصي'' وهذا ماتقصده أنت أو'' العلة من وراء تحريم المعاصي'' بدل'' الحكمة من وراء كل المعاصي'' وهذت خطأ بلاغي لانحوي أو صرفي فلا أظنك ترى حكمة وراء المعصية بذاتها.
2)تحكيم القوانين وإلغاء الشريعة ليس من المعاصي بل هو من الكفريات أو الشركيات كما ذكرت فالأجدر أن لا تضعه في المعاصي كي لا تلتبس الأمور.
3)وأخيرا إضافة على ما قلت , فلا كبيرة مع إستغفار ولا صغيرة مع إصرار , وهذا يعني أن الاصرار على الصغائر يدل على أن صاحب المعصية فيه كبر وعناد لما يجابه به الله من الوقاحة في إصراره , فتصير من الكبائر عند الله لحصول الكبر وربما يؤدي به الأمر إلى الكفر والعياذ بالله لأن المعاصي بريد الكفر , وأما المنكسر والمتذلل إلى الله والمستغفر والتائب إليه فهو في طا عة قلبية روحية لا يصل إليها إلا من وفقه الله إلى ذلك.
تقبل منا هذا
أخوك المحب المهاجر7

عزام
04-09-2009, 05:06 PM
مقالك جيد أخيعزام , وأرجوا أن تتقبل مني بعض الملاحظات اليسيرة

1)كان الأولى أن تكتب في كلامك ''الحكمة من وراء ترك أو اجتناب المعاصي'' وهذا ماتقصده أنت أو'' العلة من وراء تحريم المعاصي'' بدل'' الحكمة من وراء كل المعاصي'' وهذت خطأ بلاغي لانحوي أو صرفي فلا أظنك ترى حكمة وراء المعصية بذاتها.

صحيح بارك الله فيك.. سوء تعبير مني

عزام
04-09-2009, 05:13 PM
2)تحكيم القوانين وإلغاء الشريعة ليس من المعاصي بل هو من الكفريات أو الشركيات كما ذكرت فالأجدر أن لا تضعه في المعاصي كي لا تلتبس الأمور.
3)وأخيرا إضافة على ما قلت , فلا كبيرة مع إستغفار ولا صغيرة مع إصرار , وهذا يعني أن الاصرار على الصغائر يدل على أن صاحب المعصية فيه كبر وعناد لما يجابه به الله من الوقاحة في إصراره , فتصير من الكبائر عند الله لحصول الكبر وربما يؤدي به الأمر إلى الكفر والعياذ بالله لأن المعاصي بريد الكفر , وأما المنكسر والمتذلل إلى الله والمستغفر والتائب إليه فهو في طا عة قلبية روحية لا يصل إليها إلا من وفقه الله إلى ذلك.
تقبل منا هذا

أخوك المحب المهاجر7

متفقون على هذا.. بارك الله فيك.. الشركيات معاصي في النهاية ومقالي عام لا يدخل في التفاصيل ولا يعلم الناس الدين.. انما هو نظرة فكرية هدفها ترسيخ محبة الله في نفوسنا والخوف منه..