تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل الانترنت ثقيلة الظل..!!



عزام
03-31-2009, 06:59 PM
بقلم مريم النعيمي
رسائل الانترنت ثقيلة الظل..!!
ثقيلة الظل وليست ثقيلة المعنى باهتة بلا لون، ولا تأثير هي رسائل الانترنت الثقيلة الظل التي لا تحمل من ملامح التميز شيئا يذكر على الإطلاق.
رسائل الانترنت الثقيلة الظل باتت اليوم هما مؤرقا لكثير من القراء الجادين، والكتاب المنصفين، والفئة المستنيرة من هذه الأمة المباركة.
ولأن الأشخاص الكبار معنى ومبنى يغلبهم الحياء، فلا يقولون لثقيل الظل صاحب الرسالة الملغمة، أن رسائلك غالبها من هذا النوع فقد راق لفئة كبيرة من أصحاب الرسائل العديمة الجدوى فعلهم، وبدا لهم أن مراسلتهم لهذا الشخص أو ذاك تضعهم في قائمة معارفه المفضلين أليس يرسل باطراد رسائل على بريد هذا الكاتب الجيد أو الموظف المتميز أو الشخص المؤثر ذو السمعة الطيبة إذن لقد أصبح بحكم الواقع في دائرة معارفه المتميزين وإلا فما معنى أن لا تصله عبر الشهور والأعوام رسالة واحدة تقول له أن اختياراتك من صيد الانترنت لا معنى لها، وأن رأسي صار مثقلا بالصور الباهتة المعنى، وبالاختيارات الضعيفة التي تختار إرسالها إلي!!
الحقيقة الثانية هي أن الجادين من البشر ليس لديهم وقت لإيصال رسالة ساخنة لهذا القارئ أو ذاك وتعريفه بفساد ذوقه في اختيار ما يرسل من رسائل البريد الأمر الذي يجعل الفضوليين والمتطفلين من أصحاب البريد المولعين بالرسائل يطمئنون إلى أن رسائلهم الماطرة قد نالت استحسانا وقبولا لمن راسلوهم وأمطروهم بتلك الهدايا المزرية!!
هذه العلاقة الافتراضية التي صنعها العالم الرقمي وعبر بوابة الانترنت صارت اليوم بحاجة ماسة لفتح ملف شامل ومتنوع حول طبيعة أداء متصفحي الشبكة، ومدى النمو الذي تحقق لهم عبر استخدامهم هذه الأداة كوسيلة هامة في التواصل وتبادل الأفكار.
إن المحزن في تلك الحال المرتبكة التي وصل إليها عدد كبير من متصفحي الانترنت هو غياب المقالات النقدية التي تطالب القراء جميعهم بتحمل مسؤولياتهم تجاه ما يقرؤون وما ينتخبون وما يؤثرون من قراءات قد تكون عواقبها غير سارة ولا مشجعة!!
أسئلة كثيرة تفرزها حالة العجز عن استثمار هذه الوسيلة الفائقة الأهمية في تطوير الفكر والارتقاء بالمعرفة إلى جانب النجاح في التواصل الثقافي عبر وسائط جديدة، وأدوات لم تكن البشرية تعرفها من قبل.
من الموضوعات التي تدل على فساد ذوق عدد كبير من القراء اهتمامهم بموضوعات الإثارة وملاحقة أخبار أهل الفن والطرب، ومتابعة خطوط الموضة إلى جانب القصص الشاذة والغريبة، وأخبار الساقطين والساقطات من أفراد المجتمع.


هذه التوليفة الغربية التي تدل على فساد الذوق وانحداره وضمور ملكات التفكير المتزن لدى فئة من القراء تستوجب الوقوف والتعرف على مؤشر النمو الفكري، ومدى تحقق مستوى السمو والنبل في اختيار القراء لما يقرؤون، وما يتابعون ناهيك عن اختيارهم إرسال نفس الرسائل والصور التافهة إلى قراء جدد، ومعارف التقطوا بريدهم الالكتروني من هنا وهناك فبدا لهم أن يتحفوهم بتلك الموضوعات التي لا وزن لها ولا قيمة!!
يعجب المرء ويحق له العجب من الانحدار في الذوق وفساده إلى حد يختار المرء فيه ملاحقة الشذوذ، والضعف وقبوله بدور المتطفل الباحث عن الموضوعات الصفراء، قياسا على الصحف الصفراء، ومدى استفحال هذه الحالة لدى الجمهور. وكما أن التغذية الفكرية الجيدة تؤدي لتكوين مناعة فكرية ونفسية على المدى الطويل فكذلك الأمر بالنسبة للفئة التي تغريها الموضوعات المبهرجة والمواد ذات الوزن الخفيف والأثر الباهت.
إن القبول بقراءة مواد سامة وإدمان هذه الحالة، ولو كان في البداية من باب الفضول والرغبة في التعرف على ما يجري في الواقع، فإن المداومة على تلك الموضوعات يؤدي مع مرور الوقت إلى القبول والسرور بتصفح تلك المواد السامة، والدليل الدامغ إعادة إرسال تلك المواد إلى قراء آخرين ما يؤكد وجود حالة من التبلد الذهني والتراخي العقلي عن استثمار الطاقة الذهنية المتوفرة لدى تلك الفئة في الاتجاه الصحيح!!
سلوك فج آخر يحتاج لوقفة طويلة، ولكتابات جادة من قبل الغيورين على البنية الثقافية والمعرفية لمجتمعاتنا ظهر وتواصل عبر الكتابات على الانترنت يتجلى في الكتابة الجديدة ذات الحروف المتشابهة المكررة مرات ومرات للتأكيد على كلمة يريدها الكاتب!!
من ذلك كلمة (شكرا)، تكتب هكذا (مشكووووووور)، وكل كاتب فرح بإبداعه الجديد وابتكاره اللغوي الذي فات عمالقة اللغة في عصر التأصيل للغة القرآن وترسيخ جذور لغة هي من أعظم لغات الأرض!!
فكلمة (شكرا)، كما نعرفها سابقا باتت اليوم غير كافية للتعبير عن الشكر الحار ولو كتب المرء مثلا (أنا أشكرك كثيرا) أو ( شكرا جزيلا) فهذه أيضا صياغة لا تكفي للتعبير عن الشكر الجزيل، أما (شكرا) بلغة عرب هذا الزمن، فهي هكذا (مشكووووووور)، وكلما كررت الواو في هذه الكلمة كلما دل ذلك على كرم أخلاق كاتبها، وفيض مودته، وسخاء نفسه!!
إذن كرر حرف الكاف كثيرا حتى يعرف المسجل في المنتدى، أو الزائر الجديد انك تقصد الشكر الجزيل بتلك (الكافات) التي صارت حروفا متتالية يجري كل حرف فيها وراء الثاني، ويلحق كل حرف بأخيه في متوالية عجيبة ابتدعها شباب بني يعرب، ورجالاتها الأشاوس الذي فاقوا علماء اللغة علما وقدرا، وجاوزا سماء اللغة كياسة وعقلا، فرجحت عقولهم
فوق تلك العقول الراجحة، وتاقت نفوسهم المجددة لتجديد دماء اللغة التي بدت لغة عجوزا بالية غير قادة على الوفاء بمتطلبات العصر الجديد الأمر الذي يستوجب لغة من نوع مختلف، وحروفا متظافرة يركض بعضها خلف بعض ليؤكد المعنى الكبير الذي فات زيدا وعمرا من علماء اللغة وشعرائها وأدبائها ومشايخها، ومن كتب منهم في الأوزان الشعرية، ومن سبق في التأصيل لقواعد النحو واللغة، ومن سافر بالكلمات إلى آفاق جديدة واشتق للغة من المعاني ما هو حي حتى يومنا هذا !!


رحم الله ابن منظور الذي وضع كتاب لسان العرب وقال في مقدمته: "ولا أدعي فيه دعوى، فأقول: شافهت أو سمعت، أو فعلت أو صنعت، أو شددت الرحال، أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء، أو حملت، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالاً، ولم يخليا لأحد فيها مجالاً، فإنهما عيّنا في كتابهما عمن رويا، وبرهنا عما حويا، ونشرا في خطبهما ما طويا، ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا... وليس في هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في هذه الكتب... وأديت الأمانة في نقل الأصول بالفص، وما تصرفت بكلام غير ما فيها من النص، فليعتد من ينقل عن كتابي أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة".
والأصول الخمسة التي عناها ابن منظور هي كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري، وكتاب "المحكم" لابن سيده، و"الصحاح" للجوهري، و"حاشية الصحاح" لابن بري، و"النهاية في غريب الحديث" لعز الدين بن الأثير.
ورحم الله أبا الأسود الدؤلي وسيبويه الذي ولد سنة 14 هـ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ولد سنة1هـ والفيروزبادي ولد سنة 729 هـ، وإسماعيل بن حماد الجوهري أحد أركان اللغة ومن أذكياء العالم كما قال عنه الذهبي، وابن جني الذي كان أباه روميا مملوكا فحصد بعلمه ما لم يدركه كثير من أبناء العرب الأقحاح . والذي أنشد قائلا:
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
عـلى أني أؤول إلى ... قرومٍ سـادة نجـب
قيـاصرة إذا نطقوا ... أرَمّ الدهـر ذو الخطب
أولاك دعا النبـي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي


إن هؤلاء العلماء الراسخين في علم اللغة قد صاروا بميزان فئة من القراء العرب اليوم تاريخ وانقضى، فأتوا لمرحلة سابقة ووضعوا قواعد لعصر عرف بالبطء والتأني والتؤدة، أما أبناء الألفية الثالثة من العرب، فهؤلاء أتوا في زمن السرعة، والزمن السريع يتطلب لغة سريعة لذا لا بد من فقه جديد، ومؤصلون آخرون يبتكرون قوالب لم تعرفها اللغة في السابق، لكن إيقاع العصر بات يطلبها فما لهم إذن ودراسة لغتهم القديمة ليبادروا على وجه السرعة في تلبية حاجتهم للتواصل اللغوي، وليحفظ الله هذه العقول الواعدة فهي ما زالت غضة وولادة، وقادرة على الإتيان بالجديد!!
ولقد أتوا بالعجائب، وفاجؤونا بالغرائب، والميزان الجديد الوحيد بسيط للغاية كل ما يلزمك فعله للتعبير عن رضاك، وعن غضبك، عن قبولك أو رفضك للتعبير عن رأيك في أي موضوع هو أن تأخذ حرفا أو حرفين فتكررهما حرفا تلوا آخر في متوالية غير موزونة ولا متسقة بميزان إلا ميزانك أنت اكتب شكرا هكذا (مشكوور) أو هكذا (مشكووور) أو زد حرف الراء راء، أو راءين خلف حروف الكلمة وبهذا تصل لمبتغاك، ويصل للقارئ المعنى الذي قصدت!!


ليست هناك مشكلة مع العقول الجديدة الخلاقة التي أراحت شباب اليوم من أثقال النحو والبلاغة والأدب، ناهيك عن الإملاء واشتراط صحة حروف الكلمة. كل ذلك صار قديما لا معنى له أو غاية، فالغاية الجديدة التبسيط والتسهيل ورص الحروف خلف بعضها البعض ليصل إلقاء المعنى العميق من وراء ما تكتب، خاصة وأن ما تكتب عظيم وفائق الجودة وكيف لا وأنت وأبناء جيلك قد اكتشفتم لغة جديدة، وصرتهم منظّرين، وفقهاء لغة سهّلوا الصعب وهوّنوا ما كان يحتاج لجهد وعناء!!
وإن كانت كتاباتك خربشات ـ حسب ميزان الأمس ـ فهي لغة شبابية حسب الميزان الجديد، وإن خفت في الماضي أن لا يأبه لما تقول أحد لأنك ببساطة لا تستطيع أن تكتب فقرة واحدة متماسكة فلا بأس ذاك ماض وذهب، وتلك أيام غابرة أكل الدهر عليها وشرب!!
الجديد اليوم أن الجميع بإمكانه أن يكون كاتبا كبيرا، ومن كان يخشى أن يقرأ خربشاته في الماضي أقرب الناس إليه صار اليوم مشرفا على مواقع كبيرة، وصاحب مدونات يغدو عليها الغادي ويروح . وفيلسوفا عبقريا فوق العادة يعبر عن شتى المعاني بلغته الجديدة، وطريقته الفريدة في التعبير عن الأفكار والآراء!!
لا يهم حجم الدمار الذي تتسبب به هذه اللوثة الفكرية في الكتابة والتعبير، واستبساط اللغة لدرجة الاستهبال، هذا أمر لم يعد يثير القلق لدى الكثيرين فلا مجامع لغوية ستنتفض، ولا مراكز بحثية ستغضب، ولا جامعات في اللغة ستفصل هذا الطالب الذي يكتب بأسماء مختلفة ويعيث فسادا في لغة القرآن، ولغة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.
وحتى لو كان كاتب هذه اللغة الجديدة طالب في قسم اللغة العربية أو التاريخ أو في أقسام الدراسات الإسلامية والشريعة أو في علوم الاجتماع فلا باس أن يواكب إيقاع العصر وأن يندمج مع هذه الصرعة الخفيفة الظل المستحسنة من شباب اليوم.
إن التخفيف على القراء شيء جميل ومداهنة الواقع أجمل وأولئك الذين ما زالوا يقرؤون لابن جني والفراهيدي وابن منظور لن يعرفهم أحد ولن يتقبل منهم إلا أمثالهم من الذين يعقدون الأمور وينظرون للآخرين من بروج عاجية !!
هذا وحتى إشعار آخر، سوف تمتد هذه الموجه الهجينة لتأكل في طريقها أروع وأرق المشاعر تجاه لغة عظيمة، وسوف تتقزّم الأفكار تبعا لتقزّم أساليب التعبير، وطرائق عرض المعتقدات والآراء.
وكلما تباعدت الهوة بيننا وبين قواعد اللغة، كلما زاد حجم الضياع وفقدان الصلة بالهوية، وزاد مؤشر الاغتراب ارتفاعا وتضاعفت مساحة الشذوذ والضعف، وأي فهم لا ينطلق من الاقتناع بالغيرة على اللغة، هو فهم سقيم يحتاج لإصلاح وإعادة ترميم وكيف لا ومعجزة نبي الإسلام قرآن تحدى الله ببلاغته الثقلين، وكان سببا لإيمان من عرفوا اللغة وأدركوا طرائقها