تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا نغرق في التنظير؟



عزام
03-23-2009, 06:43 PM
موضوع من كتابتي ومطروح للنقاش
عزام

لماذا نغرق في التنظير؟
مقدمة
اسر لي بعض الاخوة انه لم يفهم الشيء الكثير من مقال "انسان البعد الواحد" الذي نشرته مؤخرا لذا وجدت لزاما علي ان اوضح سببب نشر هذه المقالة والمقالة التي سبقتها عنيت بها مقالة الاخ الاكبر..
المقالة الاولى "الاخ الاكبر" كانت عن انظمة القمع السياسي والفكري التي تحاصر الفرد حتى في افكاره الخاصة.. لكن هذه الانظمة انهارت كما رأينا في كل العالم امام انظمة اكثر ذكاء ومرونة تعمل بطريقة مختلفة ولكن تقودنا الى نفس النتيجة.. عبودية بغيضة لنظام فاسد.. عبودية اختيارية هذه المرة..
انسان البعد الواحد يا صديقي هو الانسان الذي يعيش في المجتمعات المعاصرة.. سمكة تظن انها تسبح وتتحرك بارادتها لكنها في الحقيقية تنجرف في تيار قوي يحدد حركتها ولا يسمح لها الا بالحركة من ضمن مسار محدد سلفا.. وهذا عين ما يقوله المقال: توجه الرقابة الاجتماعية الضمنية الفرد نحو غايات محددة، لا يمتلك حريته في استبدالها، وإذا كان له أن يختار فحريته تتمثل في الاختيار من تشكيلة ممحّصة ومقررة ومفروغ منها، وسيكون اختياره في التحليل الأخير نوعاً من الخضوع والعبودية، فالفرد، ليس له معياره الخاص في الاختيار، شأنه في ذلك شأن العبد الذي له الحرية فقط في اختيار سيّده، وحرية الاختيار هذه لا تلغي لا السادة ولا العبيد.
هيمنة الانظمة على الفرد
ما زال كلامي غامضا؟؟ لنوضح اكثر ثم نعطي بعض الامثلة التطبيقية اذن:
المجتمع المعاصر يقوم على تقديس افكار معينة مثل الوطنية.. النظام والاستقرار .. الدولة.. يقول ماركوز أن المجتمع المعاصر نظّم حياته على فكرة التهديد الخارجي، وهذه الفكرة يلزمها الاستعداد المتواصل، فثمة خطر قائم، وتحديات لا بد من أخذها بالاعتبار، وما دام شبح التهديد حاضراً، فإن أي إنتاج لوسائل التدمير يصبح مسوَّغاً. وبالتالي فإن اي نقد لهذه الافكار مسموح من ضمن الحرية التي يعطيها لك النظام الدمقراطي ولكن خطوة الانتقال الى تطبيق ما تدعو اليه ستحولك الى انسان منبوذ في نظر المجتمع لأنك تتحدى الاسس التي قام عليها وقدسها وتخون هذه المسلمات.. وفي هذه الحالة يصبح صوت حامل لواء الثورة والتغيير نشازا ضمن سمفونية الافكار المهيمنة من تقديس الدولة والاستقرار...
قرأت مرة عن احد الرسامين الذين شوهوا صورة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم انه قال: انا لا اخاف ان اقتل بسبب ما قمت به ولكن يزعجني ان لا احد سيقوم ليدافع عني لانهم يخافون ان يلقوا مصيري.. ومع بعد التشبيه بين هذا الافاك وبيننا الا ان مشكلة الاصلاحي في مجتمعاتنا الحديثة هي نفسها.. ليست القضية فينا ابدا الخوف من الموت او السجن.. بل هي في اليأس والقنوط من لا جدوى التأثير الذي تحدثه كلمتنا على الناس.. وبالتالي الخوف من التضحية بحياتنا من اجل لا شيء.. لقد قرأت عن رجل من رجال الصحوة في العراق تعرض لسبع محاولات اغتيال من قبل المجاهدين فتعجبت.. ان كان الخائن مستعد ان يضحي بحياته فهل ينقصنا اناس مستعدون للتضحية في سبيل الله؟ لا ابدا.. كل ما في الامر هو ان المجتمع الحديث نجح في تشويه افكارنا ومبادئنا الاصلاحية بحيث اصبحت تظهر وكأنها دعوات فوضوية لا عقلانية (دون ان اغفل مسؤولية بعض الاسلاميين عن ذلك ايضا حينما تصرفوا بشكل لاعقلاني في بعض المحطات).. لذا فكراهية الموت وحب الحياة الذي حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم منها لا يبدو بالنسبة لي في الجبن الفردي في مواجهة الموت فحسب انما في الغرق الجماعي حتى الثمالة في مستنقعات المدنية الحديثة القائمة على الاستهلاك ودورة الانتاج والنفعية بدلا من القيام على مبادىء راسخة من العدل والحرية والاخلاق.. انه مرض جماعي وليس فرديا.. داء تخلل للعقول ... غسلها وسطحها.. ثم ارداها ارضا لتصبح عقولا مسيرة بدلا من ان تكون عقولا متفكرة... وهذا هو الموت الحقيقي.. ودعوني اذكر في هذا المجال ما قاله صاحب الظلال بخصوص الافراد المسلمون في مجتمع غير اسلامي: لم يكن الاسلام ليملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام. لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
امثلة تطبيقية
1- رغم كره كثير من العرب في الدول العربية للنظام القائم في بلادهم الا انهم يكتفون باطار النقد وهذا ليس فقط لخوفهم من بطش النظام انما لأن الأنظمة روجت باعلامها وادبياتها ومؤسساتها التربوية ان النظام والاستقرار والوطنية شيء مقدس.. وان اي انسان يقوم باي نقد او تحرك فعلي اصلاحي هو انسان "غير وطني" وخائن مع ان كلمة "غير وطني" ليست مرادفة للخيانة بل هي ككلمة لا ديني او علماني او شيوعي.. عقيدة يحق لها ان تعيش –بالاولى- من عقائد بالية لا تمت لواقعنا بصلة.. الا ان الاعلام والتربية لعبوا دورهم في نبذ افكار الاصلاح مما جعل المصلح في موقع ضعف حتى مع من يتبنون فكره وعقيدته في سائر الامور.. فنرى المسلمين من الشعوب يقفون مع النظام المخالف لعقائدهم ضد هذا الشخص الذي يشبهم في كل شيء الا برغبته في التغيير وذلك كله تحت "فزاعة" تهديد النظام والامن.. وطبعا تحضر مأساة العراق الممزق وقبله الجزائر ولبنان كأمثلة جاهزة لكل من يفكر بالتغيير فالخيار هو بين القمع والظلم مع الامن وبين الفوضى مع الحرية.. وكأنه لا وسيلة لجمع الحرية والامن سوية...
2- كثير من فلسطينيي الداخل (او عرب 1948) ينتقدون اسرائيل ولا يعترفون بها ويصفونها بالنظام الظالم المحتل ومع ذلك عند التطبيق الفعلي تجدهم سعيدين بحالتهم الراهنة قياسا على وضع الفلسطيينين في الدول العربية او في الضفة وغزة.. فالوضع الاقتصادي افضل في اسرائيل وكذلك حرية التعبير عن الرأي.. (انا لست في صدد محاكمة هذا الفكر انما بصدد تحليله فقط)
3- الوضع في لبنان مماثل.. نحن نشتم النواب كل يوم ونعود لانتخابهم انفسهم.. او قد نقوم بصياغة مقالات طنانة رنانة في انتقاد الفكر العلماني والشيوعي ثم يوم الانتخابات تجد الاسلاميين يتكالبون على التحالف معهم والالتحاق بركبهم.. نعم من جهة هذا مظهر من مظاهر النفاق.. لكن من جهة اخرى هو نتيجة طبيعية لهذه الثقافة التي تربينا عليها والتي يسميها ماركوز "انسان البعد اواحد" البعد الاستهلاكي النفعي..
النقد يصبح تنظيرا
لذلك وبعد التوضيح واستعراض الامثلة نقول بعون الله ان اهم اسباب طغيان التنظير في ادبياتنا المعاصرة هو فكر البعد الواحد الذي سيطر على مجتمعاتنا والذي اذابها في بوتقة افكار وهمية لبست – لكثرة تكرارها على اسماعنا- لبوس قدسية لا تستحقها.. وهذا ما يقوله المقال: لم تعد إذن فكرة نقد المجتمع وتغييره عقلانية، لأن مضمون النقد هنا سيظهر على أنه هادف إلى تخريب المجتمع ذاته. لقد استجدت عناصر، ثم تضافرت، بحيث أشاعت رؤية تريد أن تبرهن على أن فكرة التغيير لاعقلانية، وأي نظرية نقدية تريد إحياء فكرة التوتر، والتي من أهدافها التطور والتجاوز، ستكون لاعقلانية، لأن المجتمع اختزل إلى مفهوم ينبغي ترويضه في إطار من الوحدة والتماسك.
في الازمان السابقة كان ينظر للثائر والمصلح على انه بطل اما اليوم فهو ارهابي.. ارهابي حتى لو كان يحارب الافكار الفاسدة بالكلام فقط في حين ان الانظمة يسمح لها ان تحارب بلا هوادة اي فكر يهددها او تشعر انه قد يهددها يوما ما.. (انظروا محنة الدعاة السلميين في كل مكان) وما سماحها بحرية التعبير عن الرأي الا لتنفيس الكبت عن الناس واراحة نظامها من عبء مواجهة مستمرة وحرب استنزاف.. لكن حين يفكر اي شخص ان يتحرك او يغير فهنالك تكون الضربة القاصمة.. وصدقني ان لا فرق بين اميركا وروسيا وفرنسا وانظمة الدول العربية وجمهوريات الموز حين يتعلق الامر بتهديد فعلي للنظام فكلهم يضرب بيد من حديد وكلهم لديه سجون ومعتقلات وكلهم ظالم ولكن تختلف فقط طريقة القتل فمنهم من يقتل بيده العارية ومنهم من يقتل وهو يرتدي قفازا من حرير ومنهم من يقتل بمسدس كاتم للصوت اشفاقا من ان يوقظ العقول النائمة...
الثائر بالامس كان يتكل على شعور الظلم عند الناس ليحررهم.. اما اليوم وكما يقول المقال " طور النظام الاجتماعي الموجّه مصلحة قوية توحّد خصوم الأمس بهدف الحفاظ على المؤسسة وتدعيمها. وبإزاء حجة واقعية مثل هذه، فإن فكرة إيجاد تغيير في بنية المجتمع تتلاشى، لأن الرأي يذهب إلى أن التغيير سيقوم على هدم تلك المؤسسات، وسيقود هذا التصور إلى نتيجة خطيرة، وهي: إنه في ظل سكون اجتماعي يظهر وكأنه لا يريد أن يغيّر نفسه، ينكفئ النقد نفسه في قوقعة التجريد."
بمعنى ان الموظف الذي يشتم رئيسه ومؤسسته ليل نهار يحبه في اللاوعي كونه مصدر رزقه والضيق منه هو ضيق وهمي كالضيق الذي تعانيه المراهقة من اوامر امها.. ذلك ان المؤسسات لم تعد تستغل الموظف وتعامله كعبد مثل الايام الغابرة.. صحيح انه تحول الى شبه آلة ولكن هذا التحول تم بطريقة تدريجية وشاملة للكل بحيث تقبل هذا الرجل هذا التحول بل تأقلم معه وصار يدافع عنه كالنمر المدجن الذي يتصرف كقطة ويفضل القفص على الغابة لخوفه من المجهول.. ولذلك لا غرابة في لبنان ان تتحول الحركات النقابية الى اذناب للاحزاب السياسية تتبع فريقي السلطة في حين ان مهمتها الاصلية هي الدفاع عن حقوق العمل والمطالبة بتحسين وضعهم في مواجهة الدولة وليس الاصطفاف معها...
النقد يصبح ادبا وفنا
يقول المقال: باختصار تُعاد قراءة الثقافة الرفيعة بوعي نفعي يكون إطاراً منظماً لتحريف القيم الأصيلة فيها، فلا تظل ثقافة فاعلة ومؤثرة. ففيما كانت الثقافة الرفيعة في الماضي تشكل ضابطاً أخلاقياً أو تنويرياً، خضعت اليوم لموجّه اجتماعي دفعها نحو غايات أخرى. الرفض الذي كانت تعبر عنه الفنون والآداب لم يعد مقبولاً، وامتص مجتمع البعد الواحد كل الجموح والثراء والإيحاء والمعارضة التي كانت الآداب والفنون تمور به. وبسبب هذا الاندماج القسري، باتتْ الآثار الإبداعية تتداول باعتبارها أجزاء من العدة التي تزخرف عالم الأعمال المسيطر وتحلله نفسياً، وبالتالي باتت أشبه بسلعة تجارية، فهي تباع أو تُريح أو تهيّج، والمدافعون عن الثقافة الجماهيرية يرون أنه من السخف الاحتجاج على استخدام باخ كموسيقى ناعمة في المطبخ، وعلى بيع مؤلفات أفلاطون وهيغل وشللي وبودلير وماركس وفرويد في المخازن العامة. وهم يلحّون على فكرة أن الكلاسيكيين قد هاجروا أضرحتهم، وعادوا إلى الحياة، وعلى فكرة أن الجمهور بات مثقفاً، وهذا صحيح، ولكن إذا كانوا قد عادوا إلى الحياة ككلاسيكيين، فإنهم بعثوا على غير ما كانوا عليه إذ حُرموا من قوتهم النقضيّة ومن تغرّبهم الذي كان بُعد حقيقتهم بالذات. إذن فقد طرأ تغيير جوهري على تلك الآثار الكلاسيكية ووظيفتها. فلئن كانت تلك الآثار متناقضة في الأصل . فلئن كانت تلك الآثار متناقضة في الأصل مع النظام القائم، فان تناقضها هذا زال اليوم.
ومن وحي واقعنا العربي حينما تتحول تتحول قصيدة " بعدنا.. من يقصد الكروم.. من يملأ السلال.. من يقطف الدوالي.. " - التي كتبت في الاصل للتعبير عن عمق الشعور بالحنين لفلسطين- الى دعاية للعرق واصالته.. وحينما يصبح العري معيارا للتحرر وحين تصبح السفاهة والابتذال وعرض الخصوصيات معيارا لحرية الرأي والجرأة تدرك حقا مدى عمق سياسة التسطيح وتجذرها في ثقافتنا الجديدة المعاصرة.. باختصار فقدت الثورة والنقد ادوارها التاريخية الاصلاحية التنويرية المؤثرة لتصبح نوعا من الادب والفن او حتى التسلية احيانا وتأقلمت مع الواقع وتدجنت به فنحن نطرب ونتأثر لسماع قصائد احمد امطر النارية ضد الانظمة العربية لكنها اعجز من ان تحرك فينا اي فعل او ردة فعل تجاه هذه الانظمة بل على العكس تشكل هذه الاشعار نوعا من تنفيس الكبت تجاه نظام نحتقره من جهة ونحرص على استقراره من جهة اخرى حرص البخيل على دنانيره.
ما هو الحل؟
ما هو الحل اذن لداء التنظير؟؟ دعوني اميز بين التنظير الواعي المنافق الذي يقوم به قوم يعتاشون منه وهدفهم فقط دغدغة مشاعر الناس واستغلال حبهم الفطري للاخلاق والدين والقيم للتأثير عليهم والانتفاع من بركات الشهرة وبين التنظير اللاشعوري المؤسس على نقد قضايا يعرف منتقدها في داخله انه اصبح مرهونا لها ومحتاجا لها كما يجسدها بدقة المثل الشعبي "عيني فيه وتفو عليه".. فهذا النوع من التنظير هو الذي اتصدى لتحليله في هذا المقال.. فهو يشكل بحق مشكلتنا الرئيسية التي لا حل فيها الا الحل الذي طرحه الاسلام. المفاصة التامة عن هذا العالم او "الهجرة" كما يسميها الدكتور ماجد عرسان الكيلاني.. اعتقد –شخصيا- بأن كل مقولات التغيير من الداخل قد فشلت وكل محاولات التعايش مع انظمة مهترئة والامل في تطويرها قد فشلت وفشلت معها أي محاولة سلمية او عسكرية للاستيلاء على الحكم (الجزائر.. السودان..) وهذا امر لا يهمني حاليا وليس محور موضوعي اذ لا اجد من الضروري الآن أن افكر بطرق اسقاط الانظمة اذ ان استعجال الشيء قبل اوانه يأتي بنتائج عكسية .. ما اراه ان انهيار الانظمة (وهي عمالقة من ورق) سيكون داخليا حينما تعجز عن ايجاد مبررات استمرارها وحينما يقاطعها كل الناس وحينما تصبح الهجرة التي ندعو اليها عامة ..
استحضار نموذج اهل الكهف في الهجرة
اعتقد انه من النفاق ان اقول مثلا وانا استاذ في الجامعة الوطنية او ان يقول شيخ في دار الفتوى التابع للجمهورية انه قادر على مفاصلة نظام دولته حتى العظم.. فهذا يعتبر نوعا من التناقض بل هو نوع من الخيانة.. يجب ان نصل قبل ذلك الى مرحلة نحقق فيها نوعا من الاكتفاء الذاتي ومن الاستقلال المادي والمعنوي عن النظام الذي نريد انتقاده.. ان موسى عليه السلام لم يفاصل فرعون وهو يعيش في عهدته بل هجره اولا .. واذ لم يكن من المنطقي والمقبول ان يتحداه وهو يعيش في خيره..
وطبيعي الا يستطيع فرد وحده ان يقوم بهذه الهجرة بل يتطلب هذا الامر صحبة صالحة تقوم بنوع من التكامل.. فنحن بحاجة اذن الى استحضار نموذج اصحاب الكهف واعادة الاستفادة من تجاربه واعادة بلورة مفاهيمه على نطاق واسع.. لكن طبعا الاهم من الهجرة المادية هي الهجرة الشعورية او ما سماه الاخ المهند بالانسحاب السرمدي.. فها هو قيس يهجر ديار ليلى وتبقى ليلى في قلبه..وقد يهاجر الناس الدنيا وتبقى في قلوبهم.. فما هذه الهجرة نقصد.. ولا نقصد كذلك هجرة تكفير المجتمعات والركون الى كهوف الجبال ولا عزلة الادباء والفلاسفة في بروج عاجية. الهجرة التي نتحدث عنها هي اعتزال مؤقت للبيئة الفاسدة التي نعتاش منها ريثما نتخلص من تأثيرها علينا على الاقل.. مع محاولة التخلص من أي عادة لا تمت الى مبادئنا واسلامنا بصلة.. هي دعوة للاتكال على الله وحده في الرزق وليس النظام الفلاني والدولة الفلانية.. هي دعوة الى تغليب حس اليقين بالدعوة ونصرها مهما كانت العقبات في طريقها.. هي هجرة النصر الداخلي والجنة في الصدر.. هي دعوة للاستغناء عن انظمة فقه الضرورة وفقه التمميع وفقه الاقليات وفقه الاولويات وفقه الاختيار بين السيء والاسوا.. للعيش في ربوع الفقه الحقيقي والإسلام الحقيقي.. لعلها بارقة امل اكثر من كونها مشروعا قابلا للتنفيذ في المدى المنظور.. لكن مصير كل حلم ان يتحقق مع الوقت ان صفت النوايا... والله الموفق