تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : السعودية: إرادة كسيحة تحجر على مقومات دولة عظمى



أحمد الظرافي
03-22-2009, 02:01 AM
السعودية: إرادة كسيحة تحجر على مقومات دولة عظمى

بقلم: أحمد الظـرافي

قبل إحياء دعوة التوحيد الإصلاحية السلفية في القرن الثاني عشر الهجري، على يد الشيخ المصلح المجدد، بقية السلف الصالح، محمد بن عبد الوهاب النجدي التميمي – رحمه الله رحمة واسعة سابغة - لم يكن أحد يعرف شيئا عن آل سعود أو الدولة السعودية، خارج نطاق منطقة نجد .. بل لم يكن هناك دولة سعودية أصلا، إنما كان هناك مشيخة أو إمارة صغيرة يتركز نفوذها في بلدة الدرعية ومحيطها، إلى الشمال من مدينة الرياض، ويجلس على رأسها محمد بن سعود - جد الأسرة السعودية - وكانت هذه المشيخة أو الإمارة واحدة من عدة مشيخات وإمارات تتقاسم النفوذ في منطقة نجد حيث تنعدم السلطة المركزية، وكانت نجد آنذاك مثالا على الجهل والأمية والإيمان بالخرافات التي وصل إليها العالم الإسلامي في ذلك الوقت، ولذلك وغيره فقد كان العداء هو المهيمن على علاقات هذه المشيخات والإمارات فيما بينها.
في غضون ذلك ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجهر بالدعوة إلى صفاء العقيدة وتنقيتها من مظاهر الشرك والخرافات التي التصقت بها – في ظل معارضة قوية من أصحاب الأهواء والبدع وسدنة القبور وعلماء السوء – فكان لا بد لهذه الدعوة من قوة تتبناها وتتولى حمايتها وتمنع عنها كل من تسول له نفسه التعرض لها بشر . فشاء توفيق الله سبحانه وتعالى لابن سعود أن يكون هو السند للدعوة السلفية – وقد عبر ابن سعود عن استعداده في وضع كل إمكاناته وتوظيفها في سبيل حماية الدعوة السلفية وخدمتها، وقد فعل ابن سعود ذلك – والحق يقال - عن رضا وقناعة وإيمان بمبادئ الدعوة. وعلى ذلك قام عهد الله وميثاقه بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وهكذا وببركة دعوة التوحيد السلفية الإصلاحية ومع شيوعها وانتشارها، سار أمر إمارة ابن سعـود نحو الظهور بشكل تدريجي حتى اكتسحت سائر الإمارات في نجد ثم استمرت في التمدد حتى أوشكت أن تشمل جميع أرجاء شبه جزيرة العرب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي .
ومن هنا كانت ولادة ما صارت تسمى " الدولة السعودية الأولى" . وهي الدولة التي قضى عليها محمد علي باشا والي مصر للدولة العثمانية، بعد حرب ضروس شنها على الدعوة السلفية، لأسباب سياسية بحتة بعيدة كل البعد عن مبادئ الدين الحنيف، واستمرت تلك الحرب لمدة خمس سنوات ( 1812- 1817)، أكلت الأخضر واليابس، وذهب ضحيتها الآلاف من الشباب من أنصار الدعوة الذين حملوا أمانة نشرها بعد وفاة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
ويجب أن نشير إلى أنه طوال فترة الدولة السعودية الأولى، كانت السياسة في خدمة الدعوة، أو على الأقل كان هناك توازن بينهما، مع تطويع السياسة بما يخدم أهداف الدعوة عند اللزوم، وليس العكس. فقد ظل محمد بن سعود - رغم ظهور دولته - على عهده ووعده، فلم يغير ولم يبدل، ولم يكن يقطع أمرا دون الرجوع للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد استمر كذلك حتى تغمده الله برحمته، ثم جاء ابنه عبد العزيز بن محمد بن سعود من بعده – وكان أحد تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب– فسار على نهج أبيه بل وربما تفوق عليه، وظل الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو المرجع في الأمور المهمة ولم يكن يصدر أمرا منها إلا بمشورته. وفي عهد عبد العزيز انتشرت الدعوة السلفية وكادت تعم شبه جزيرة العرب.
ولكن وبعد الضربة القوية التي تعرضت لها الدعوة السلفية على يد العلماني الباطني محمد علي باشا، ووفاة القيادات الروحية القوية فيها أو استشهادهم في ساحات المعارك التي فرضت على الدعوة، اختل التوازن القائم بين الدعوة والسياسة، لصالح هذه الأخيرة بطبيعة الحال، وقد ظهر ذلك بوضوح مع قيام الدولة السعودية الحالية في أوائل القرن الماضي على يد عبد العزيز بن سعود .. فقد كان لهذا الأخير الكلمة العليا في توجيه دفة الأمور، وطبعا دون إغفال مشورة العلماء والمشايخ والتنسيق معهم، ولكن دون إشراكهم في الأمر - . وظلت الأمور بالنسبة للدعوة السلفية تتطور بشكل سلبي مع توطد نفوذ وسطوة عبد العزيز بن سعود في أجزاء واسعة من شبه جزيرة العرب، ومع تطور تحالفاته مع بريطانيا في البداية ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك.
وبطبيعة الحال فإن عبد العزيز بن سعود كان يتحرك كرجل صاحب سياسة أكثر منه كرجل صاحب دعوة، فقد كان أكثر ما يهمه هو البحث عن الملك واستعادة مجد آبائه الضائع. ولا يعني ذلك أن عبد العزيز بن سعود قد تخلى عن التزامه السلفي، إنما لم يكن هدفه هو استئناف الدعوة الإصلاحية السلفية، واستعادة زمام المبادرة الذي فقدته كنتيجة للحرب العدوانية الظالمة التي شنها ضدها العلماني الباطني وربيب الماسونية العالمية محمد علي باشا، بقدر ما كان هدفه هو استعادة ملك آبائه.
وفي الواقع أنه لم يكن إعادة تأسيس الدولة ممكنا في ذلك الوقت، دون الاستفادة من إمكانات الدعوة السلفية التي ظلت متأصلة في النفوس ومنتشرة في نجد وما جاورها من المناطق، وهي القوة التي اعتمد عليها عبد العزيز بن سعود في محاربة أعدائه ، وهي التي مهدت له وفرشت الطريق أمامه لإعادة توحيد أقاليم شبه الجزيرة العربية من جديد. ولكن ومع قوة المد السلفي في جزيرة العرب، فقد سعى عبد العزيز بن سعود للتحالف مع بريطانيا العظمى، لكي يستفيد من قوتها في حماية ظهره من التداخلات الخارجية نظرا للمتغيرات العالمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وكان عبد العزيز بن سعود بشخصيته القوية المرهوبة يعرف كيف يتعامل مع العلماء والمشايخ ويجيد تطويعهم، ويعرف كيف يوفق بين عداء هؤلاء العلماء والمشايخ للقوى الاستعمارية الامبريالية، وبين صداقته معها، وكان في نفس الوقت يعرف كيف يتعامل مع حلفائه الأجانب ويوظف تحالفه معهم لصالحه دون أن يفرط في ثوابته. حتى استطاع عبد العزيز بن سعود في مرحلة لا حقة من أن يتخلص من نفوذ المطاوعة والمشايخ، وأن يؤسس ملكا طويلا عريضا، له ولا بنائه من بعده، وينفرد هو بقيادة دفة السفينة بصورة مستقلة ولا ينازعه فيها منازع، ولا تعيق تحركاته أية قيود – اللهم إلا ما يفرضه عليه التحالف والصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية – .
ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدعوة السلفية، في خدمة السياسة السعودية، بشكل عام، وتوفي الملك عبد العزيز بن سعود والأمر على هذا النحو.
وكان يمكن بعد ذلك التخلص من ذلك التحالف والصداقة مع الأمريكان بشكل تدريجي. لأن ارتباط عبد العزيز بن سعود بالأمريكان لم يكن زواجا كاثوليكيا، ولم يكن بمثابة اعتناق لدين جديد – والعياذ بالله - وإنما كان تحالفا له أمد وأملته ظروف محددة، مثله مثل أي تحالف آخر.
ومن المعروف أن عبد العزيز بن سعود قد أبرم هذا التحالف مع الأمريكان للتخلص من التزامات حلفه القديم مع العجوز الشمطاء. وقد كان ذلك. وهذا نموذج يدل على أن التحالفات يمكن أن تتبدل، بل يمكن التخلص منها.
وأنا هاهنا لا أبرر ذلك التحالف ولا أشكك فيه، وإنما أنا أتحدث عن سياق تاريخي.
وإذا كان من الصعب أن يتم التخلص من ذلك التحالف خلال فترة التأسيس وخلال فترة المد الاستعماري الرأسمالي الغربي وأطماعه في المنطقة، فإن ذلك لم يكن أمرا مستحيلا أو صعب المنال، بل حتى تهذيبه وتحجيمه في إطار معين، بعد أن وقفت المملكة العربية السعودية على أرجلها، واستقر نظامها وسادها الأمن والازدهار، وأغدق الله عليها بالثروة والمال، وامتلكت وسائل القوة، إذا ما توافرت لدى القيادة السعودية، الإرادة اللازمة والوعي الكافي والإخلاص للإسلام وللدعوة الإصلاحية السلفية، وإذا كان هناك نية للوفاء والالتزام بالعهد القديم الذي قطعه جدهم الإمام محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري.
وسبب تركيزنا هاهنا على القيادة المسلمة الواعية المخلصة ذات الإرادة القوية، هو أن أزمة المسلمين اليوم وأنظمتهم بشكل عام – وأزمة النظام السعودي بشكل خاص - هي أزمة قيادة بالدرجة الأولى، وكون القيادة ضرورية، لاستثمار الطاقات المتاحة وتوظيفها في خدمة الأمة ومصالح الإسلام العليا " فالقائد يحدد الهدف والوسيلة وينشط الهمم والعزائم، ويقدم القدوة والمثل، ويقيم جسور التفاهم والاتصال" وهذا ما باتت تفتقر إليه شعوبنا وأمتنا ككل. مما جعلها هدفا لكل طامع، وفريسة سهلة لكل معتد ظالم، وملعبا مفتوحا لكل ذي بدعة هدامة.
وهذا الأمر ينطبق على كثير من الدول العربية والإسلامية، ذات الإمكانات الكبيرة للنهوض والتفوق، والتي هي اليوم في أسفل سافلين وفي قمة الخضوع والتبعية مع كل ذلك، مثل مصر والمغرب والجزائر وباكستان وتركيا.. لكنه ينطبق على المملكة العربية السعودية أكثر من غيرها، كونها مهبط الوحي والرسالة، وقلب العرب والأمة الإسلامية، وكونها تتوفر على جميع المقومات اللازمة للنهوض والتقدم، ليس فقط المقومات التي تؤهلها للخروج من مأزق علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، ولأن تكون منطقة خارج نطاق سيطرتها وهيمنتها ، وإنما لديها من المقومات ما يؤهلها للتحول من موقع التبعية لها إلى موقع الندية، والأمريكيون رجال والسعوديون رجال.

وتلك المقومات باختصار، هي:
- المكانة الروحية والدينية التي تمثلها المملكة بالنسبة للمسلمين
- توفرها على العقيدة الأصيلة الصافية الخالية من شوائب البدع والشرك، المتمثلة في الدعوة السلفية أو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
- الثروة الهائلة التي أفاء الله بها عليها، أقصد هنا الذهب الأسود ( النفط ) الذي يعتبر سلاحا من أقوى الأسلحة في يدها.
- الموقع الاستراتيجي الممتاز والحيوي في قلب العالم.
بيد أن عدم توفر القيادة الواعية المخلصة ذات الإرادة القوية الحرة، وعدم السعي الجدي لتطوير نظام الحكم، وعدم التمسك بمبادئ الدعوة الإصلاحية السلفية، اللهم إلا مظهرا فقط، وتهميش دور العلماء والمشائخ، ونزع استقلاليتهم وتحويلهم إلى موظفين، بما في ذلك علماء الحرمين الشريفين، وللثراء الفاحش والميل إلى حياة الدعة والترف والبذخ والسكون.
كل تلك العوامل وغيرها، قد نجم عنها ما هو عكس المأمول والمفروض تماما، وهو ضعف النظام السعودي وهشاشته من الناحيتين العسكرية والأمنية، وأيضا تدهور قواه من الناحيتين الروحية والمعنوية، وذلك بدلا من زيادة قوته، وبدلا من انتعاش آماله وطموحاته، وارتفاع معنوياته، ومن ثم تهافت هذا النظام – والحال هذا - إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية للمحافظة على أمنه.
ثم تطور الأمر إلى مزيد من الاعتماد عليها، وخاصة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي أي بعد الحادثة المشبوهة لاغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، صاحب الموقف المشرف في حرب أكتوبر عام 1973، حينما قرر الانحياز لأمته، وتجرأ على استخدام سلاح النفط في المعركة القائمة لأول مرة، من خلال حظر تصديره إلى الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الغربية الداعمة للكيان الصهيوني. وقد سبب هذا الحظر رعباً شديداً لهذه البلدان، نظراً لاعتمادها الشديد على بترول العرب باعتباره مصدراً رئيسياً للطاقة ومادة جوهرية تعتمد عليها الصناعات البتروكيماوية التي تستخدم كمدخلات وسيطة في آلاف الصناعات التحويلية. إلا أن هذا السلاح للأسف الشديد سرعان ما اضطرت البلاد العربية النفطية – وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية - إلى رفعه والتخلي عنه بعد أقل من شهر واحد من انتهاء حرب أكتوبر، نظراً لاعتبارات المخاطر الأمنية للأنظمة الخليجية. ونتيجة لدعم الرئيس السادات لهذا الرفع عقب توقيع اتفاقية فك الاشتباك الأولى في سيناء بين مصر وإسرائيل في كانون الثاني / يناير 1974 .
ومنذ ذلك التاريخ – ونظرا لعدم الثقة بالنفس، وللخلافات التي نشبت بين الأسرة الحاكمة ولوجود طابور خامس داخل هذه الأسرة يعلي من شأن التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية ويزايد عليه- عاد القائمون على الحكم وأهل والعقد في المملكة إلى سياسة التبعية والإذعان والخضوع من جديد، وأصبحوا ينظرون إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، على أنه قدرا مقسوما وأمرا مفروضا له الأولوية على ما عداه، وتهون من أجله كل التنازلات والتضحيات، ففي ذلك التحالف يكمن أكسير الحياة وسر البقاء للملك وللأسرة الحاكمة. الأمر الذي أدى إلى زيادة التبعية أكثر فأكثر للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث غدا النظام السعودي لا يتحرك بصورة مستقلة بمعزل أو بعيدا عن رغبات الولايات المتحدة الأمريكية، بل يدور معها حيث دارت، حتى ولو كان ذلك على حساب الثوابت، وعلى حساب قضايا الأمة الإسلامية، رغم دعمها المستمر للكيان الصهيوني، بل وحتى بعد أن ثبت أنها الشيطان الأكبر، والعدو الأول للإسلام والمسلمين.
ناهيك عن أن اغلب الفوائض المالية السعودية الهائلة موظفة أو مستثمرة في مصارف الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي زاد من تفاقم التبعية لها بصورة فادحة. " فالمال حين لا تدعمه قوة أو يتحول إلى قوة يصبح عاملا في تأكيد التبعية". ونجحت السياسات الأمريكية والغربية في النهاية في تحويل سوق النفط من سوق كان يسيطر عليها البائعون إلى سوق يسيطر عليها المشترون، وأصبحت الدول العربية النفطية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية لا تفكر حتى مجرد تفكير في استخدام سلاح النفط. وقد اضطرت المملكة العربية السعودية إلى التخلي عن مصالحها ونفوذها في بلدان كثيرة، وتخلت عن التزاماتها الدينية والشرعية تجاه بلدان إسلامية عديدة. فالمملكة العربية السعودية ضحت بالعراق وهو عمقها وشقيقها وجارها القريب، وضحت بنفوذها القوي في أفغانستان الذي توطد على مدى سنوات طويلة، كما ضحت بنفوذها في باكستان وعلاقاتها الإستراتيجية معها وهكذا مرورا بلبنان وفلسطين والسودان والصومال. كل ذلك وغيره ضحت به القيادة السعودية بالمجان وبدون أي ثمن، اللهم إلا إرضاء لرغبات الولايات المتحدة الأمريكية، وحرصا على بقاء التحالف والصداقة معها، تاركة أبواب هذه الساحات الإسلامية مفتوحة على مصارعها ليس أمام النفوذ الأمريكي فقط، وإنما أيضا أمام إيران الطامحة في التوسع والتمدد الثقافي والسياسي خارج حدودها على حساب ثقافة المنطقة وأمنها، بحيث أن إيران في ظل عدم وجود المنافس باتت تقدم نفسها كبديل لتمثيل الإسلام، وكشريك للامبريالية الأمريكية والغربية في تقرير مصير المنطقة، والتظاهر في وسائلها الإعلامية أمام الشعوب الإسلامية بأنها ضد التسلط الأجنبي وهيمنته على مقدرات المسلمين، وهو الأمر الذي انخدع به كثير من المسلمين وساعد إيران في تصدير أفكار ثورتها الخمينية الفارسية الشيعية إلى كثير من البلدان الإسلامية ( السنية ) وبصورة لم يكن الآيات يحلمون بها.