تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الفارس الملثم .. منقول



شيركوه
03-17-2009, 12:18 PM
الفارس الملثم !



من في هذه القرية لم يسمع عن الحصان الشبح وفارسه الملثم؟
يقال إنه يطوف بالمكان، حين يغيب القمر، ويُسمع في المدى صهيل أصيل، ورشقات تنطلق من فوهة بندقية قديمة تغير على طريق المستوطنات اللعين.. وأنه لا أحد أبرع منه في اصطياد سكانها، والاختفاء من المكان دون أن يراه أحد.
ابتسم شيخ المسجد الوقور حين سألوه ذات مرة في أمر ذاك الفارس وقال: إن أفعاله دليل وجوده، لكن من هو ومن يكون؟ الله أعلم. أستطيع أن أقول فقط إنه بطل، بطل من هذا الزمان..
يومها كان حسام حاضراً، وخرج مستخفاً بكل ما يقال، صحيح أنه يرى سيارات الاسعاف الصهيونية تهرع من حين لآخر إلى الطريق الذي يجاور أرضهم، وأن دورياتهم مشطت المكان كله في غير مناسبة، هذه أحداث لا ينفيها بتاتاً ولا ينفي أن أحداً ما يقف وراءها، لكن من الهراء تحويل الأمر إلى خرافة من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا منطق. فكيف يصدق أن يكون لحصان جناحان يفردهما ويعلو في السماء ليختفي خلف الجبل؟ أو أن فارسه شبح باهت يرى ما وراءه من خلاله؟ وروايات أخرى أكثر غرابة، وكل الرواة يقسمون أنهم رأوه بأم أعينهم!
طفق عائدا إلى البيت، على صهوة جواده أدهم، و أدهم هذا حصان عربي التقاسيم، فتلت عضلاته وتربعت بين عينيه غرة جعلته مميزا عن سواه، وله شعر طويل مشذب الأطراف يهزه زاهيا كلما امتطاه فارس متقن لصنعة الركوب، ولد قبيل وفاة والده في مرضه الأخير، فكان أن عهد إليه بتربيته وترويضه وصار أنيسه يصحبه في جولة كل مساء حين تنحني الشمس خجلى وتصبغ الفضاء بأحمر ساحر..
لم يكن ميراث أبيه هذا الحصان فقط، بل أورثه أرضا تربعت على سفح الجبل مسندة إليه ظهرها حمى.. كأجمل ما يكون ! و بيارة ازدانت الأرض بها، خضراء نضرة ارتصت أشجار الحمضيات والكروم فيها على الناحية الشرقية كأنها دبابيس منتقاة، في حين اصطفت أشجار الزيتون وبضع دوالي جهة الغرب، وتربتها الحمراء كالبساط المخملي مفروشة بين المزروعات.. ولم يكن يعكر صفو المكان سوى تلك الطريق التي ابتلعت جزءًا ليس باليسير من أرضه، لتنتهي آخر المطاف إلى وحدة استيطانية باتت أشبه بسرطان يكبر يوما إثر يوم مبتلعا في طريقه الأخضر واليابس..
وأورثه أختين وأخا، كبراهم عادت إليه بعد زواجها بسنوات ثلاث تجر خلفها صبيا بالكاد يمشي على قدمين و قد تكور بطنها مفشيا عن آخر قادم بعد شهور، وأخرى تدرس في الجامعة فلا يراها إلا حين الإجازات ومحمد، ابن الثماني عشرة سنة، ورغم أنه كان قوي البنية جميل الطالع، مرصوص الثنايا أبيضها، إلا أنه ولد أصم، وظل يملأ المكان بحيويته وفرحه الصامت..
حتى أتى ذلك اليوم ..


* * *

تأخر عن موعده يومها، تأخر كثيرا حتى كادت الشمس تأوي إلى خدرها خلف الجبل، وحين عاد يطلب أدهم وجد مربطه خاليا، وسأل عن محمد، فلم يجده هو الآخر لا في الدار ولا في الجوار، فإن اختفى أدهم ومحمد، فقد اختفى شاب أصم يمتطي جوادا عصيا ويجوب به أرضا على حافة طريق يمر منها اليهود !
داهمته هذه الفكرة فاستولى عليه الهلع، وانطلق راكضا، وناقوس خطر يدق في قلبه فيبعثه على الإسراع أكثر وأكثر، تلاحقت أنفاسه وتدفق عرقه غزيرا.. وبدا له أنه لن يصل أبدا، فعادة ما تطول الطريق حين نريدها أن تطوى، تطول لتسمح لنا بمراجعة كل شيء.. ورؤية كل شيء مرة أخرى..
ذكر كم بكى يوم علم بأن أخاه الجديد أصم، ذكر كيف كان محمد يتقي عنه كل مكروه، وذكر كيف كان يدهشه حنان أخيه وقلبه الذي وسعهم جميعا، وقوته التي جعلت منه رجلا قبل أوانه، أحبه جدا فكان بالنسبة إليه عزاء الدنيا في رحيل أبيهما، ثم عيناه اللتان كلما نظر إليهما اجتذبتاه عميقا، حتى ظن أنه لا قعر لنظراته، وأن الله خلقه أصم لأنهم لن يقدروا على استيعاب ماتأتي به دواخله اللامنتهية..
فكان أن جعله كقطعة من فؤاده، يصاحبه دوما، فنقل إليه ولعه بالخيول، وعلمه قنص الثعالب التي قد تغير على خم الدجاج ليلا، وكان الوحيد الذي يشاركه ركوب أدهم.

كل هذا رآه مرة أخرى، فازداد اضطرابه وقلب المحب لا يخطئ.. تمنى أن يخيب إحساسه، اشرأب بعنقه ليتطلع إلى ما وراء السياج الذي يرابط على حدود الأرض، وهنا، هنا بالذات بدأت المأساة، حين سمع بوق شاحنة ينفخ بغضب ويتوعد من بعيد..
بلغ الشارع أخيرا، كان يرى بوضوح، محمدا، يمشي الهوينى على صهوة الجواد، في جانب الطريق، والشاحنة المجنونة تتقدم يعلو هدير محركها و زعقات البوق المتكررة ...
ومهما علا صوتها، فماكان لمحمد الغارق في ملكوته ليسمعها أبدا !
ركض مرة أخرى، بكل جزء من جسمه،كمن يتمسك بآخر ذرة أمل..كان يلوح بيديه لأخيه متضرعا إلى السماء عساه يراه ويبتعد عن الطريق مرة، ومرة أخرى يشير إلى سائق الشاحنة..
وتوقف كل شيء فجأة، وهوى..
يقولون إن الكوارث تتوالى أحيانا بشكل يبعث على الدهشة، لكننا أمام تعقد الترتيبات والتوازن الذي ينبني عليه تدبير الكون نقف عاجزين تماما.. بعقولنا الصغيرة التي تتطاول أحيانا لتحاول إدراك ما يغيب عنها.
كانت الأرض تدور، أشباح تتراقص حواليه، شاحنة وحصان وفتى، تدور في غير نسق، يرتفع صهيل ووقع حوافر، يغالبه هدير المحرك وصوت فرامل، كانت الشاحنة مصرة على ملاحقة الحصان الشبح وكان راكبه شفافا يرى ما وراءه من خلاله، وتشتد بعد ذلك العتمة.. ويظلم كل شيء !
حين استفاق وجد نفسه وسط بركة من الدم القاني، وعن جانبيه جسدان، أحدهما لحصان جريح لازالت أنفاسه البطيئة تسمع خافتة، والآخر هامد لفتى جميل.. مهشم الرأس. وشاحنة تمضي في الأفق غير عابئة كأن شيئا لم يكن.
وظل حسام مستلقيا بجانب جثة أخيه، كان يبكي حينا، ويضرب رأسه بالأرض حينا آخر، يعفر وجهه بالتراب الذي سقته دماء أخيه النقية الطاهرة، أنقى من الدنيا كلها كان يراها، أطهر من كل النفوس الحقودة، وأجل من كل الضمائر الميتة، لو لم يكن محمد معاقا لكان بطلا كبيرا، لو أنه.. وتغرق عينيه أمواج من الدموع الحارقة..
وهكذا مرت الأيام ثقيلة بوجعها عليه، وصورة محمد الغارق في دمائه لم تفارقه يوما، ولم يكن يهزه غير الكلام الذي سمعه في القرية حين زارها آخر مرة..
يقولون إن الفارس لم يعد يظهر..
قال لهم شيخ المسجد، لاشك أن فارسا جديدا يستعد ليحمل بندقيته القديمة.. يمتطي الحصان الشبح الأدهم..
فكيف تعيش هذه القرية بدون الحصان الشبح وفارسه الملثم؟

خولــــــة عياش