تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أعراض وفاة الامة ومضاعفاتها



عزام
02-23-2009, 04:55 PM
د. ماجد الكيلاني
الشح والهوى وحب الدنيا والتكبر
"إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودعك من أمر العامة"3 .
فالشح المطاع ، والهوى المتبع ، والدنيا المؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، كلها أعراض رئيسية للأمة الميتة يتفرع عن كل منها عشرات المضاعفات والتفاصيل . وهذه الأعراض تبدو جلية واضحة في الفترة الواقعة بين حدوث الوفاة وبين إعلانها وإجراءات الدفن التي مر الحديث عنها .
أما تفاصيل هذه الأعراض فهي كما يلي :
1 ـ شيوع ((الشح المطاع)).
والشح في اللغة معناه أشد البخل . وقيل : البخل يكون في المال ، أما الشح فيكون بالمال والمعروف4 . وقيل : إنه الإفراط في الحرص على الشيء5 . ولقد عرفه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأنه : أن ترى ما أنفقته تلفاً6 ، أي خسارة .
ولقد ورد ذكر الشح في القرآن الكريم في خمسة مواضع تتكامل جميعها لتدل على أمور ثلاثة :

الأول : أن من يبتلى بالشح يتصف بعدم الإنفاق في سبيل الله ، والجبن أمام الأعداء ، وسلاطة اللسان على الأصدقاء ، والغياب عن التضحية والبذل ، والحضور عند الطمع والغنيمة . "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً . يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً" سورة الأحزاب 18 ـ 20 .
والأمر الثاني : أن من برىء من الشح يتصف بالسخاء والبذل ، وإيثار المصلحة العامة ، ومساعدة الناس على الاستقرار ، ومحبة القادمين الغرباء كمحبة المقيمين الأقرباء ، وتيسير أمورهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الحشر ـ 9 . (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة التغابن ـ 16 .


والأمر الثالث : أن الشح ورد في آية أخرى ليشير إلى المرأة العجوز أو الدميمة التي تضن بجزء من حقها لضرتها الشابة الجميلة . وهذا إشارة إلى أن الشح يشمل التشبث بمنافع لم تعد الحاجة شديدة إليها وعدم التفضل بها لمن هو أكثر حاجة : "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" سورة النساء ـ 128 .
فالشح في حقيقته نقيض لعنصر الولاية في الأمة . أي إن محوره اختفاء الشعور بالصالح العام وإبطال لفاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية التي توفرها عناصر الأمة ، أي عناصر : الإيمان ، والهجرة ، والرسالة والجهاد ، والإيواء ، والنصرة التي مرت تفاصيلها في فصول سابقة . وبذلك تكون الأمة التي تصاب بالشح كالجسد الميت الذي تتوقف فيه الدورة الدموية فلا تعود أجهزته تتزود بالغذاء اللازم لاستمرار عافيتها وأداء وظائفها مما يمهد لتفسخها وانبعاث نتنها . ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت ـ الشح ـ يتضح أن الشح يتمثل فيما يلي :
أ ـ الشح بيسر الحياة وشحنها بالضنك والعسر ، كتضييق الحكومات على الحريات وإثقال كاهل الرعية بالضرائب والغرامات ن واستغلال رجال الاقتصاد للأزمات واوقات الشدة وظروف القحط والحرب وندرة السلع لممارسة الاحتكار ورفع الأسعار والإيجار بغية الحصول على الأرباح الوفيرة دون اكتراث بما يسببه ذلك من عنت وإرهاق للآخرين .
ب ـ الشح بإنجاز الواجبات وبذل الجهد وشيوع العجز ، والشح بالمعاملة الحسنة وشيوع الفظاظة والغلظة في ميادين الحياة ومؤسساتها المختلفة .
ج ـ الشح بالتكافل وانقطاع التواصل والتراحم وعدم البذل والتبرع ، وانتشار الفردية والأنانية مع الإسراف في الإنفاق على ملذات النفس وشهواتها .
د ـ الشح بالمظهر الاجتماعي للعبادة وشيوع الشكلية في التدين والاقتصار على تدين ((الأشكال)) دون ((الأعمال)) ، والتركيز على حركات العبادات دون إقامة معانيها في الحياة ، والتوقف عن الزكاة والجهاد ، ومنع كل ((ماعون)) يعين المسلم على إقامة روح الدين وفضائله . وهو ما يشير إليه قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) سورة الماعون 4 ـ 7 .
أي يراءون بالصلاة بينما هم يمنعون كل ((ماعون)) يعين الناس على يسر الحياة وعدم الاشتغال بها اشتغالاً يلهيهم عن دينهم أو يدفعهم دفعاً إلى مخالفته ومخالفة تعاليمه .
هـ ـ الشح بالعدل وشيوع ((التطفيف)) في المعاملات . والتطفيف مشتقٌ من قوله تعالى : (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) سورة المطففين 1 ـ 3 . والتطفيف في العمل أو الوظيفة أن يرهق أصحاب العمل العمال والموظفين بالواجبات ويثقلون عليهم في المسؤوليات في الوقت الذي يدفعون لهم أجوراً أو رواتب أقل من غيرهم ، ويغتنمون كل فرصة ((ليخسروهم)) أي يخصمون من أجورهم أو رواتبهم . أما التطفيف في التجارة فهو المبالغة في الاستيفاء عند الشراء وإنقاص الوزن أو المكيال عند البيع ، وهكذا في جميع أنواع المعاملات وعلاقات العمل والخدمة والوظيفة .
و ـ الشح بالنفس والأبناء والقدرات والجبن أمام الأخطار الخارجية أو الأعداء الخارجيين وإيثار السلامة بالمال والنفس ، مع القسوة على الأخوة أو الرعايا في الداخل ، وهذا ما أشار إليه الحسن بن علي بن أبي طالب حين عرّف ـ الجبن ـ بأنه : الجرأة على الصديق والنكول عن العدو1 .
ولقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم مظاهر الشح التي تقدمت عند قوله :
"إياكم والشح فإنما هلك من قبلكم بالشح : أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا 2 .
2 ـ اتباع الهوى :
المحور الذي يدور حول ـ الهوى ـ هو مجانبة العدل في السلوك والتفكير والشعور ، ثم الانطلاق في ذلك كله من الحمية العصبية والشهوات النفسية . ويذكر الرازي في تفسيره أن الله وضع الهوى في مقابل العدل عند قوله تعالى : (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) سورة النساء ـ آية 135 . ثم يعلق على ذلك فيقول :
(المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصبروا موصوفين بالعدل ، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر . فتقدير الآية : فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا))1 .
ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت ـ الهوى الصفة الثانية للأمة الميتة ـ يتضح أنه يتمثل فيما يلي :
أ ـ الظلم : فالذين يمارسون الظلم إنما يقترفونه بسبب الهوى ، تلبية لحمية عصبية أو شهوة نفسية ، كما أن المظلومين الذين يخنعون أمام الظالم ويرضونه بظلمه إنما يفعلون ذلك بسبب الهوى . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تُودع منها))2 .
فالأمة الميتة تسكت أمام سياسات الظلم وتطبيقاته في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة والفنون والتربية ، وتتسابق لتملق الظالم طلباً لما عنده من شهوات أو لما تربطهم به من عصبيات ، فالتاجر في الأمة الميتة يخشى على تجارته ، والموظف يخشى على وظيفته ، والعامل يخشى على عمله ، وصاحب الشهوة يخشى فقدان شهوته وهكذا .

ولا يعني هذا أن الأمة الميتة تخلو من العناصر الصالحة وإنما معناه أنها تفتقر إلى العناصر (الصالحة ـ المصلحة) التي تقف أمام الظلم وتحول دون انتشاره واستشراء مضاعفاته . والتمييز بين الفريقين واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والحديث الشريف . فالقرآن يؤكد على أن العناصر (الصالحة ـ المصلحة) هي الضمان الواقي للأمة من الهلاك ومن العقوبات الإلهية . من ذلك قوله تعالى : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) سورة هود ـ 117 .
أما العناصر الصالحة غير المصلحة فهذه لا تحول دون وفاة الأمم ولا تنجو من الدمار الذي ينزل بالأمم المعذبة : (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) سورة الأعراف ـ 168 .
وينبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن مساعدة الظالم على ظلمه تخرج من الإسلام : ((ألا إنه سيكون بعدي أمراء يظلمون ويكذبون فمن صدقهم بكذبهم ، ومالأهم على ظلمهم فليس مني ، ولا أنا منهم ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ومن لم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه))3 .
والسكوت على الظلم ينتهي بالأمة إلى الكوارث والعقوبات الإلهية : ـ ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب))4 .
ـ ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ، ولتقرصنه على الحق قصراً ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم))5 .
ب ـ انطفاء العلم وشيوع الجهل :
ولا يعني ذلك شيوع الأمية وإغلاق معاهد العلم ، وإنما المقصود تعطل فاعلية العلم الناتج عن التربية والتعليم اللذين يوجههما الهوى بحيث يصبح وجود العلم شبيهاً بالجهل ، لأن أصحاب الأهواء يستثمرون العلم والمعرفة استثماراً يجعل فقدهما أنفع من ضررهما ، وهم يتخذون من العلم حلية اجتماعية يتطاولون بها على الناس ويظلمونهم بدل مساعدتهم وإنصافهم ، وإلى هذا يشير قوله تعالى : "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ" سورة البقرة ـ 145 .
ج ـ انطفاء فاعلية الحقيقة :
وشيوع الهوى معناه الاحتكام إلى النزعات والحمية والشهوات مما يبطل فاعلية الحقيقة رغم وقوف الناس عليها . وإلى ذلك يشير قوله تعالى :

(وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) سورة المائدة ـ 48 .
د ـ انطفاء الخير والصلاح وشيوع الشر والفساد :
في الأمة الميتة التي يشيع فيها الهوى يتحول الناس إلى أكوام بشرية تتصارع من أجل الشهوات والعصبيات والحصول على المنافع والمكاسب ، فتذهب الأخلاق ، وينعدم النظام ، ويفشو الفساد في السلوك والمعاملات ، وتنعدم روح المسؤولية ، وتدب الفوضى ، ويشيع الغش والخيانة والرشوة ، وألوان الخداع والكذب ، وما إلى ذلك . وإلى كل هذه المضاعفات يشير قوله تعالى :
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) المؤمنون ـ 71 .
ه‌- شيوع الصنمية واختفاء التوحيد:
ويكون من نتائج ذلك شيوع الرق النفسي والفكري ، واختفاء حريات التفكير والتعبير والعمل والاختيار . وتلغى شخصية الإنسان فيصبح متقلباً حسب المواقف التي تقررها في الرغبة أو الرهبة أو الخوف أو الطمع أو الحرص . وإلى هذا يشير قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً . أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) سورة الفرقان 43 ـ 44 .
و ـ شيوع الفرقة وتحطم الوحدة :
وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم :
(ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة . وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة وهي الجماعة . وسيخرج من أُمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))1 .
ز ـ شيوع الدناءة والصغار
في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى تشيع الدناءة والصغار وينعدم الطموح والترفع ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) سورة الأعراف ـ 176 .
ح ـ شيوع الفشل في كل شيء
في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشيع الخطأ في الأحكام والقرارات والسياسات والمواقف . وإلى هذا يشير قوله تعالى :
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ) سورة القصص ـ 50 .
ط ـ يشيع الحمق والسفاهة
في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشيع الحمق والقصور العقلي وقلة الحكمة وعدم الاستفادة من الخبرات الاجتماعية والكونية التي يقرأها الناس أو يمرون بها ، أو تراها أعينهم أو تسمعها آذانهم . وإلى ذلك يشير قوله تعالى : (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) سورة محمد ـ 16 .
3 ـ إيثار الدنيا .
وهذه هي الصفة الرئيسية الثالثة للأمة الميتة . ومحورها الوقوف عند العناية بنعيم الدنيا وشهواتها دون اهتمام بأمور النشأة والمصير . فهي إذاً توقف عن مسيرة الإنسان نحو الخلود والرقي . ويتكرر الحديث عن ـ إيثار الدنيا ـ في مئات المواضع في القرآن والحديث . ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت ـ إيثار الدنيا ـ يتضح أنه يتمثل فيما يلي :
أ ـ شيوع صنمية المال :
وهذه الصنمية هي محور إيثار الدنيا ؛ إذ لما كان المال هو الوسيلة الموصلة إلى نعيم الدنيا وشهواتها فإن الأمة الميتة تنصب من المال صنماً تتقرب لمالكيه بالعبادة : أي بالطاعة الكاملة بسبب الرغبة الكاملة به والرهبة الكاملة من فقدانه . وإلى هذه الصنمية يشير قوله صلى الله عليه وسلم :
(إن لكل أُمة فتنة ، وفتنة أُمتي المال))2 .
وقوله أيضاً :
(تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة ، تعس عبد الخميصة ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، إن أُعطي منهما رضي ، وإن منع سخط))3 .
فهو عبد الدينار والدرهم لأن ((ولاءه)) بدور في فلكهما إن أعطي منهما رضي ، وإن مُنع عنه العطاء سخط . والقطيفة هي التي يُجلس عليها ، أو هي رمز للأثاث ، فهو عبد الأثاث لأنه دائم التفكير به ، مشغول بالبحث عنه سواء أكان تاجراً أو مستهلكاً ، والخميصة هي اللباس الذي يرتديه الإنسان ، فهو عبد اللباس لأنه دائم التفكير به والتفتيش عن أزيائه وأشكاله والنظر في منشورات الدعايو له ، والربط بين الدينار والدرهم من ناحية والأثاث واللباس من ناحية أخرى لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض لا يتوصل عابدها إلى شيء منها إلا بالحصول على الأخرى . وليحصل عابدها عليها لا بد أن يطيع مالكها ومعطيها والمتسبب بالحصول عليها طاعة كاملة ، ويرهبهم رهبة كاملة ، ويرغب بهم رغبة كاملة ؛ فهي أصنام متعددة وأرباب متنوعة لكنها مترابطة يوصل بعضها إلى بعض .
ولذلك قال بعض السلف : إلبس من الثياب ما يخدمك ، ولا تلبس منها ما أنت تخدمه ، واقتنِ البساط الذي تجلس عليه لا الذي يجلس عليك4 .
والتربية المعاصرة ، والثقافة المعاصرة ـ تربية وثقافة الإنتاج والاستهلاك ـ تفرز إنساناً تجلس ((الأشياء)) فوق عقله وقلبه وجسده ، وتنام وتصحو معه ، دون أن تدع لـ((الأفكار)) وشبكة العلاقات الاجتماعية متسعاً ، ويظل ينوء تحت الأشياء كلها آناء الليل والنهار حتى تصبح دينه ودنياه .
ب ـ فساد القيادة وانتهاك القيم والحرمات :
ذلك أن الأمة الميتة التي تؤثر الدنيا على الآخرة تدفع إلى مراكز القيادة فيها العناصر المترفة ـ أي أهل النعمة والبطر والاستكبار5 ـ لأنها تتوهم فيهم القدرة والخبرة للحصول على الدنيا التي تؤثرها . ولكن المترفين ـ بحكم إصابتهم بالداء نفسه ـ يتحولون إلى قيادات ظالمة مستغلة تتركز سياساتها حول الاستئثار بمزيدٍ من الدنيا وأسباب البطر والاستكبار ؛ فيختفي العدل ويفشو الظلم وتنتهك الحرمات ويتحلل من المسؤوليات ويختفي الأمن والاستقرار . وإلى هذه الحالة يشير قوله تعالى :
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) سورة الإسراء ـ 16 .
والفسق المشار إليه في الآية نوعان : فسق القيادات أي انحرافها عن المنهاج القويم في الحكم والإدارة ، واستعبادها للناس وكبت الحريات . وفسق الشعوب ؛ وهو سكوتها على انحراف القيادة المترفة وتملقها وتبرير ممارساتها . ولذلك أدان الله فرعون وقومه سواء لأنهم سمحوا له أن يستخف بهم فأطاعوه ونفذوا سياساته وشكلوا جنده وحراسه : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) سورة الزخرف ـ 54 .
ج ـ الانغماس في الشهوات وانتشار روح المنافسة والصراع :
في الأمة الميتة التي تتصف بإيثار الدنيا ينحسر عنصر الجهاد والنصرة في الصراع من أجل حطام الدنيا والانغماس في شهواتها . وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم :
(... فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم))1 .
وفي حديث آخر يقول :
(سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ، ويركبون فره الخيل وألوانها ، ويلبسون أجمل الثياب وألوانها ، لهم بطون من القليل لا تشبع ، وأنفس بالكثير لا تقنع ، عاكفين على الدنيا ، يغدون ويروحون إليها ، اتخذوها إلهة من دون إلههم ، ورباً دون ربهم ، إلى أمرها ينتهون ، ولها يتبعون . فعزيمة من محمد بن عبد الله ، لمن أدرك ذلك الزمان من عقب عقبكم ، وخلف خلفكم أن لا يُسلّم عليهم ، ولا يعود مرضاهم ، ولا يتبع جنائزهم ، ولا يوقر كبيرهم ، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام))2 .
ومن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرم الطيبات التي أحل الله لعباده ، ولكنه يشير إلى ظاهرة من مظاهر الأمة الميتة حين تنحسر فيها عناصر الإيمان والهجرة والجهاد والرسالة والإيوا والنصرة والولاية لتدور في فلك ((أشياء)) الدنيا وطيباتها .
د ـ سطحية التدين :
وتتخذ هذه السطحية مظهرين :

سطحية العامة حيث يتحول الدين إلى طقوس وأعياد ومناسبات ، كأن يصبح رمضان شهر المطاعم والملاهي والتسويق والشراء ، ويصبح الحج موسماً للتجارة والنزهة والإيجار والاستئجار . وإلى ذلك يشير قوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الأعراف ـ 51 .
وسطحية العلماء والمتدينين حيث يجري التركيز على ((الطقوس والأشكال)) بدل ((الروح والأعمال)) . وهذه السطحية قديمة صاحبت الإسلام منذ نشأته وأصابت الرسول نفسه بأذاها فحذر من مستقبلها ونبه إلى روادها . من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري حين قال : بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، قال : فقسمها بين أربعة نفر : بين عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل . فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء . قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً؟ قال فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناشر الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ، فقال : يا رسول الله! اتقِ الله! فقال : ويلك أولسن أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال ثم ولى الرجل . فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال : لا لعله أن يكون يصلي . فقال خالد : وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم . قال ثم نظر إليه وهو مقف فقال : إنه يخرج من ظئظئى هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . قال أظنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود3 .
هذا هو رائد التدين السطحي وسنة ((الأشكال)) : رجل ((كث اللحية)) ، ((محلوق الرأس)) ، ((مشمر الإزار)) ، وهو ظئظئى ـ أي أصل ـ فئات يتبعون سنته ، ويتلون كتاب الله رطباً ـ أي سهلاً لكثرة حفظهم ، ولكنهم إذا لاحت لهم شهوة من شهوات الدنيا تجردوا من الذوق والأخلاق وقفزوا عليها ومرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية . ثم انحدر التاريخ الإسلامي وشاهد نماذج من هؤلاء أولوهم بأنهم ـ الخوارج ـ . والحقيقة أن الظاهرة لا تقتصر على فرقة معينة في زمن معين ، وإنما هي ظاهرة متكررة كلما مرضت الأمة وانتهت إلى الوفاة . واليوم نشاهد من يشعل المعارك حول ـ اللحية الكثة ، والرأس المحلوق ، والثوب المشمر ـ ، ومن يفتعل الورع حول الخروج والدخول من اليمين ، ومن إذا صلى إلى جانبك أشغلك عن صلاتك وهو يلصق ساقه بساقك ويضغط بقدمه على قدمك ليسد فرجة الشيطان ، وإن منهم من يتلون القرآن رطباً ويقيمون لحفظه المسابقات ، ثم هم بعد ذلك يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية في شؤون المال والعفاف والمعاملات الجارية . فمنهم من يسترق المسلمات الخادمات ويحيلهن إلى إماء ومتع أسرية ، (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) فيستعبدون العمال والموظفين والسائقين القادمين من ((خارج)) فإذا (كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ويدفعون لهم نصف الأجْر والراتب الذي يتقاضاه من في ((الداخل)) أو أقل واستغلوا كل ذريعة للخصم من هذا القليل . وإنهم ((ليفتون)) بتصنيف المسلمين كأجانب وأعداء ، وغير المسلمين كأصدقاء وأولياء . وإنهم ليقترفون .. ويقترفون .. ويقترفون .. ويرون المنكر ويسكتون ، ثم هم بعد ذلك يرتادون المساجد ، ويستوقفون الناس في الطريق ، ويعلون المنابر ليهاجموا من ليس له ((لحية كثة)) و((رأس محلوق)) و((ثوب مشمر)) .
هـ ـ سطحية العلم والتربية :
في الأمة الميتة تنحسر ميادين المعرفة من ميادين النشأة والمصير وسنن الحياة والكون لتقتصر على البحث في ميدان ((الأشياء)) الدنيوية ، وإعداد الناس للحصول عليها وإنتاجها ثم استهلاكها ، ودوران جميع النشاطات والمناهج التربوية والعلمية في فلك هذه الدائرة . وإلى هذه الظاهرة يشير قوله تعالى :
(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) سورة الروم ـ 7 .
والثمرة العامة للنشاطات التربوية والعلمية هي بروز (ثقافة الاستهلاك)) التي تلوّن أنماط الفهم والتفكير ، وتحيل كل فقه ـ حتى فقه القرآن نفسه ـ إلى أداة لإنتاج ((الأشياء)) وتسويقها ، والإعلان عنها والتبشير بها وتبرير ـ بل تمجيد ـ القائمين على إنتاجها وتسويقها .
أما ((الأفكار)) فيكون النوع السائد منها هو أفكار ((اللغو)) أي أدنى مستويات المعرفة التي يسميها القرآن الكريم ـ لهو الحديث ـ مثل الأشعار الغزلية ، والأدب الوجداني ، والقصص الجنسي ، وبرامج التسلية والترفيه وما إلى ذلك .
وتتصاعد مضاعفات ـ إيثار الدنيا ـ وتفرز نتائج سلبية في الفكر والسلوك والثقافة حتى تبلغ قمتها في بروز ظاهرة الكفر والاستخفاف بالإيمان ، والكفر في جوهره فراغ نفسي وفكري سببه انحسار الاهتمامات بالدنيا وحدها . وغالباً ما يتخذ هذا الكفر مظهرين اثنين : المظهر الأول ؛ كفر ضحايا قيم الحرمان ، أي الذين أحبوا الدنيا وسيطرت على اهتماماتهم دون سواها ، ولكنهم فشلوا في دوامة الصراع الجاري حول جمع المال والتنعم بالأشياء ، فيدفعهم الفقر والفشل والحرمان إلى الكفر خاصة إذا لم ينهض علماء الدين إلى تبني قضاياهم والتصدي للظلم الذي ينزل بهم والدعوة إلى إنصافهم والعناية بهم .
والمظهر الثاني ؛ كفر ضحايا قيم الترف ، أي الذين أبطرهم الانتصار في حلبة الصراع على الدنيا ، وأفرحهم احتكار النعيم والثروة والقوة ، فيدفعهم ذلك إلى أن هذا النصر مرده علمهم ومهاراتهم في الكسب والإنتاج ، ويسخرون من الدين ويتجرأون على الفساد والتحلل من المسؤولية الأخروية . وإلى هذا يشير قوله تعالى :
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) سورة البقرة ـ 212 .
4 ـ إعجاب كل ذي رأي برأيه .
ومحور هذه الصفة الأخيرة من صفات الأمة الميتة هو تعطل روح الجماعة والعمل الجماعي ، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة . وينتج عن ذلك بروز ظواهر التعصب للرأي والعجب والكبر والتعالم ، وإملاء الرأي وفرضه على الآخرين في جميع دوائر الحياة الاجتماعية ابتداء من القواعد الدنيا في الأسرة ، والمتجر ، والمصنع ، ودائرة الوظيفة حتى أعلى دوائر المجتمع في رئاسة الحكومة وقيادة الدولة حيث زعامات الحكم المطلق والقيادات الدكتاتورية المتنافرة المتناحرة . ويكون من نتائج ذلك بروز مجتمعات الكراهية وفقدان الثقة وشيوع الحسد وانعدام التعاون والوحدة ، وتفرق الكلمة ، والتستر على الأخطاء والنواقص والعيوب ، ورفض النقد الذاتي ، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات ، وفشل اللجان والمؤتمرات ، وعقم التخطيط واللقاءات والاجتماعات ، وانعدام التعاون بين الهيئات والجماعات وغير ذلك .
والمحصلة النهائية لذلك كله هي تحطم روح الجماعة والعمل الجماعي ، وإغلاق قنوات الاتصال والتفاهم فلا تحل المشكلات إلا بالخصومة والفتن والتآمر والقتل . وإلى هذا المصير يشير قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض) سورة الأنعام ـ 65
ولقد فسر ابن عباس قوله تعالى : (من فَوْقِكُمْ) من أمرائكم ، و(مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) من سفلتكم ، و(يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) الأهواء والاختلاف ، و(يُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض) يقتل بعضكم بعضاً1 .
والواقع أن معاني الآيات المشار إليها لا تقتصر على ما استقاه ابن عباس من خبرات زمانه ، بل هي تتدفق طبقاً لما يحدثه الخلق الجيد (التطور) في الأزمنة والأمكنة والتكنولوجيا . فقد يكون من مظاهر (من فَوْقِكُمْ) الطائرات والقذائف الصاروخية المدمرة ، وقد يكون من مظاهر (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الألغام والمتفجرات الناسفة ، وقد يكون من مظاهر (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) الأحزاب والمنظمات المتحاربة من أجل غايات مختلطة يحوطها اللبس والغموض والدسائس الخفية . فمظاهر العذاب تتطور بتطور أدواته ، أما القوانين والسنن فهي خالدة مترابطة ، وأقدار ـ أي قوانين ـ متتالية يفضي بعضها إلى بعض ، حين تفسق الأمم عن الصراط المستقيم ، دون أن توقفها أهواء أو تحد من هولها وعواصفها عصبيات ونزعات .
ثم إن هذه الأعراض الأربعة الرئيسية للأمة الميتة : أعراض الشح المطاع ، والهوى المتبع ، والدنيا المؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، تتبادل التأثير السلبي وتتضافر في إفراز مضاعفاتها الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية في واقع الأمة الميتة . ولقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر هذه المضاعفات في أحاديث كثيرة منها :
(يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن ؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدداً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم1 .
وفي حديثٍ آخر :
(إذا فعلت أُمتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء ، فقيل : وما هن يا رسول الله؟ قال : إذا كان المغنم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وتعلم لغير الدين ، وأطاع الرجل زوجته ، وعق أمه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشُربت الخمور ، ولُبس الحرير ، واتخذت القينات والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو خسفاً أو مسخاً))2 .