تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التضامن في زمن الأنانية والتغابن



أبو يونس العباسي
01-19-2009, 04:06 PM
التضامن في زمن الأنانية والتغابن
أبو يونس العباسي
الحمد لله معز الإسلام بنصره , ومذل الشرك بقهره , ومصرف الأمور بأمره , ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولا بعدله , وجعل العاقبة للمتقين بفضله , والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه , وعلى من سار على دربه واقتفى أثره , واهتدى بهديه واستن بسنته , إلى يوم الدين .
سبب المقال
بينما تعيش غزة حصارا خانقا قلت فيه جل المواد الرئيسية على الناس , رأيت بعض التجار يضاعفون أثمان السلع , والبعض الآخر يحتكرون , ورأيت كثيرا من الناس يود لو جمع السوق كله في بيته غير مكترث بحاجات إخوانه , فهو يقول لنا بلسان حاله قبل مقاله :"أنا ومن بعدي الطوفان" , أضف إلى ذلك ما نعانيه من تكالب حكومات طواغيت العرب علينا ونصرهم لليهود وتعاونهم معهم على أهل الإسلام في غزة ... كان ذلك كله مسوغا إلى كتابة هذا المقال.
التضامن ما هو ؟
التضامن تعاون في ما هو خير ... التضامن تكاتف وتناصر على الحق وللحق ... التضامن تواص بالحق وتواص بالصبر , قال الله تعالى :" وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) "
التضامن ... عندما يكون واجبا وعندما يكون محرما
التضامن الواجب هو ذلكم التضامن الذي يراد منه أن تكون كلمة الله هي العليا , وكلمة الذين كفروا هي السفلى ... هو ذلكم التضامن الذي نريد منه إخراج الناس من جور الأنظمة المتجبرة إلى عدل الإسلام ... هو التضامن الذي يراد منه نشر الخير والقضاء على الشر في هذا الكون الفسيح , قال الله تعالى :" وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) "(المائدة) , لكن أن يحدث تضامن لأهداف تضاد هذه الأهداف وتخالفها , فهو التعاون على الإثم والعدوان المذكور في الآية سالفة الذكر , وهذا التضامن المحرم هو ذاته"البراء" كما إن التضامن الواجب هو "الولاء" , ومعلوم ما لعقيدة الولاء والبراء من أهمية , وانه لا يصح لأحد إيمان إلا بهذه العقيدة ولقد جعل الله من والى أعداءه ضالا عن السبيل فقال : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" وحكم مولانا كذالك على من يوالي الكافرين بأنه منافق من أهل النار والعياذ بالله فقال " بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *** الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا "(النساء: 138,139) , وجعل الله تعالى من يوالي اليهود والنصارى منهم وتجري عليه أحكامهم , فقال ذو الجبروت والملكوت " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"(المائدة:51) , وإذا سألت عن سبب البلاءات والمآسي والمصائب والكربات التي أصابت الأمة ؟ قلت لك : هي بسبب ولائنا لليهود والنصارى والروافض ومن والاهم , قال سبحانه وتعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا "(النساء:144) , ولا بد أن نعلم : أنه لا يتصور من رجل يؤمن بالله واليوم الآخر , أن يوالي الكافرين بتاتا , قال الله تعالى :" وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" ولقد نزلت الآية الأخيرة في عبد الله بن أبي بن سلول لما قدم ولائه لليهود على ولائه لله ورسوله والمؤمنين , والتزم هذا المنافق رسول الله , ووضع يده في درعه , وأصر على عدم تركه حتى يعفو الرسول عن أولياءه من اليهود , معللا ذلك بأنهم من يحميه ويناصره ويحصنه عندما تدور عليه الدوائر , في الوقت نفسه الذي تبرأ عبادة بن الصامت منهم أي من يهود بني قينقاع وكانوا أولياءه في الجاهلية , تبرأ منهم لما نقضوا عهدهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقدم الولاء لله على الولاء فيمن سواه فنعم الرجل عبادة وأمثاله , وبئس الرجل ابن أبي وأمثاله من طواغيت العرب والعجم وأذنابهم .
أركان الإسلام والتضامن
وإن أركان الإسلام كلها داعية وبشدة إلى التضامن والتلاحم , فها هي كلمة التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله" تجمع تحت طياتها أجناسا من البشر , يختلفون في اللون والعرق والزمان والمكان , ويرتبطون جميعا بهذه الكلمة ويتوحدون عليها , قال الله تعالى :" وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) "(المؤمنون) , وقال أيضا :" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) "(آل عمران) , بل إن هذه الكلمة تساوي بين الناس جميعا , وتجعل التقوى والتقوى فقط هي مقياس التفاضل بين الناس , قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) "(الحجرات) , ثم إذا انتقلنا إلى الصلاة وجدنا أنها داعية إلى التضامن , وذلك في تجمع أهل "لا إله إلا الله" خمس مرات في اليوم والليلة , ناهيك عن التجمع في الأعياد وفي صلاة الخسوف والكسوف والاستسقاء وغيرها , قال الله تعالى :" وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) (البقرة) , وإذا انتقلت إلى الزكاة وما فيها من تكافل اجتماعي بين الغني والفقير , لظهر لك ما في هذا من تضامن يعجز اللسان عن مدحه , أخرج البخاري في صحيحه عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ . "وإذا انتقلت إلى الصوم وما فيه من شعور بمشاعر الفقير ... من جوع وعطش وعوز وغيرها , مما يحرك مشاعر الأغنياء تجاه الفقراء الذين يعانون مما يعاني منه الصائم العام كله , أخرج البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال :"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ." ثم تأمل في زكاة الفطر وما فيها من طعمة للمساكين وسد لحاجاتهم , لتعلم ماهية التضامن في ركن الإسلام الرابع وهو الصوم , وإذا ذهبت للحج ووجدت المسلمين يجتمعون من كل فج عميق , تعرفت على حقيقة التضامن في هذا الركن العظيم , قال الله تعالى :" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)" (الحج) , وإذا نظرت بعين المتأمل إلى الأضحية وقول الله فيها :" وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) "(الحج) , فإنه يظهر لك ما فيها من تضامن وتكاتف , ثم لتصل إلى قناعة , أن أركان الإسلام كلها دعت وبالأسلوبين النظري والتطبيقي لمفهوم التضامن , وهذا إن دل فإنما يدل على أهمية التضامن في الإسلام وحاجة المسلمين له.
الأسس المحمدية في المدينة المنورة والتضامن
وإذا سألت عن الأسس التي أرساها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة فهي أولا : المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار , بل وبين الأنصار بعضهم مع بعض , أوسيهم مع خزرجيهم , والأخوة على أساس الإيمان هي أروع ظاهر التضامن على الإطلاق , قال الله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (10) "(الحجرات) , وبناء على هذه الأخوة رأينا كيف تضامن وتكافل الأنصار مع المهاجرين , وكيف كان الأنصاري يخرج اللقمة من فمه مع شدة حاجته إليها , ويضعها في فم أخيه المهاجر , حتى إن الله أنزل فيهم قوله :" وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) "(الحشر) , ويحسن بنا هنا أن نذكر قصة عبد الرحمن بن عوف المهاجر مع سعد بن الربيع الأنصاري والتي رواها الشيخان في صحيحهما أن عبد الرحمن بن عوف قال:" لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعٍ قَالَ فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ قَالَ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَنْ قَالَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ." , وظل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشجع على التكافل إلى أن توفاه الله فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :" إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ."
ثانيا : بناء المسجد , ومعلوم ما للمسجد كمؤسسة , من دور في دعم التضامن والتكاتف , فالمسجد هو مكان الاجتماع للمسلمين خمس مرات في اليوم , والمسجد هو مكان التربية والتعليم , والمسجد هو ملجأ كل محتاج , وهو بيت الشورى , وهو بيت القضاء والإصلاح بين الناس , وحل النزاعات , ومنه تنطلق البعوث والسرايا ....إلخ , ويمكننا أن نقول : حقا إن المسجد هو بيت التضامن .
ثالثا : المعاهدات مع جيران المدينة , وبيان منظومة الحقوق والواجبات لكل طرف على الآخر , على أن يكون الحكم الفاصل عند الاختلاف لله ورسوله , ومعلوم ما في ذلك من تضامن حتى مع الكافر , وإن كان الهدف الأساس منه حفظ دولة الإسلام ومن فيها .
التضامن كيف يكون ؟
والتضامن مع المسلمين يكون باليد والكلمة واللسان , وهو واجب المسلم على أخيه المسلم , يبادر به مبادرة ولا ينتظر حتى يُطلب منه , وإن الوقوف مع إخواننا المسلمين ومساندتهم في حاجاتهم الضرورية هو معروف لا بد من القيام به , وتركه منكر لا بد من النهي عنه , أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " , فالمسلم لا بد عليه أن يشارك إخوانه أفراحهم وأتراحهم , أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال :" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " , وفي الصحيح من حديث أبي موسى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال :" إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ " , وفي الصحيح كذلك من حديث أنس أن الرسول قال :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" , ومن أهم صور التضامن أن تنصر أخاك إذا ما هضمت حقوقه من هذا أو ذاك , قال الله تعالى :" وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ (72) "(الأنفال) , وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال :" انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ " , ومن التضامن كذلك : أن تعطي إخوانك من المسلمين ما لهم من حقوق , وتعظم ما يختص بهم من حرمات , أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول قال :"حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس " , وعند البخاري كذلك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه."
وهذه معان المفردات الغريبة في الحديث ( ولا يخذله ) قال العلماء الخذل ترك الإعانة والنصر ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي ( ولا يحقره ) أي لا يحتقره فلا ينكر عليه ولا يستصغره ويستقله ( التقوى ههنا ) معناه أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته.
التضامن الدعوي
ولا بد على المسلمين أن يتضامنوا في نشر المنهج الذي جاء به محمد من عند ربه تبارك وتعالى , فالدعوة إلى الله مسؤولية جماعية وليست مسؤولية فردية , ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً " , وفي سنن أبي داوود عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ", والتضامن الدعوي يكون بالقتال والجهاد من أجل القضاء على الشرك ومظاهره والمعصية وأشكالها , قال الله تعالى :" وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) "(البقرة) , ويكون أيضا بمحاربة البدع وهي: تغيير في الدين بزيادة أو نقصان أو إبدال , والبدع مردودة على صاحبها فلا نقبلها ولا نعمل بها , ففي الصحيح من حديث عائشة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال :"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" , ويكون أيضا : بالوقوف في وجه المناهج الهدامة وهي كل منهج ليس هو منهج الله كالعلمانية والشيوعية والقوميية والديمقراطية وغيرها , قال الله تعالى :" وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) "(آل عمران) , وهنا ننبه أنه لا بد من استخدام وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية في نشر ما ينفع في الدين والدنيا والابتعاد عما يضر من كتابات وبرامج رديئة قبيحة هدامة , ويجدر بوسائل الإعلام التابعة للمسلمين أن تعنى بمشاكل المسلمين وقضاياهم المصيرية كقضية فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها .
التضامن الاجتماعي
ويكون التضامن الاجتماعي عندما يعطي الغني شيئا من ماله للمحتاجين على اختلاف أصنافهم وأنواعهم , قال الله تعالى :" وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) "(الذاريات) , وقال أيضا :" آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) "(الحديد) , وقال أيضا:" وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) "(آل عمران) , ومن ألوان التضامن الاجتماعي: الإصلاح بين الناس وحل مشاكلهم ونزاعاتهم , ولو ذهبت تتأمل الآيات التي تأمر بالإصلاح لوجدت أنها تخاطب الجمع لا المفرد , مما يفيد أن الإصلاح بين المتخاصمين وظيفة جماعية لا فردية , قال الله تعالى :" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ".
وسائل نافعة لتعميق التضامن
وهنا أشير إلى عدد من الوسائل التي تسهم في تعميق مفهوم التضامن :
أولا: بشاشة الوجه ودليله ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن الرسول– صلى الله عليه وسلم- قال :" لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ."
ثانيا: المصافحة ودليلها ما أخرجه أحمد في مسنده من حديث البراء أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- قال :" مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا. "
ثالثا: الدعاء للمسلمين ودليله ما أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- قال :" مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ. "
رابعا: النصيحة ودليلها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- قال :"الدين النصيحة"
خامسا: حسن الظن بالمسلمين ودليلها ما أخرجه مسلم في صحيحه أن
الرسول – صلى الله عليه وسلم- قال :"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" , وأختم بحديث عند مسلم في صحيحه عن أبي هريرة
: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال :" حق المسلم على المسلم ست قيل ما هن ؟ يا رسول الله قال إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فسمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه".فأنت ترى أنه ما شيء يرسي دعائم المحبة إلا وأمرت به الشريعة وما من شيء يرسي دعائم البغضاء إلا ونهت عنه , وكل ذلك من أجل أن يكون المجتمع المسلم مجتمعا متضامنا .
إخواني الموحدين : هذه كلمات آمنت بها , واعتقدت أن الحق في قولها ونشرها, ولا أدعي العصمة , فهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وللمنهج الذي جاء به من عند ربه حال حياته ومن بعده , ما كان في هذا المقال من صواب فمن الله وحده , وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان , وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء,إلا ما رحم ربي , وأستغفر الله إنه كان غفارا, وأما الخطأ فأرجع عنه ولا أتعصب له , إذا دل الدليل الساطع عليه , وأسأله تعالى أن يلهمني رشدي والمسلمين , وأن يثبتني على الحق إلى ان ألقاه , إنه ولي ذلك والقادر عليه , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوكم : أبو يونس العباسي
مدينة العزة غزة