تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ضوابط التكفير



عزام
01-05-2009, 09:52 AM
ضوابط التكفير

د/ مصطفى كرامة مخدوم
تعريف التكفير
التكفير: هو وصف الشخص بالكفر، والكفر في لغة العرب هو الستر والتغطية.
قال ابن فارس:" الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد وهو الستر والتغطية".
ومنه سمي الزارع كافراً لأنه يغطي الحب بتراب الأرض كما في قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] أي الزّراع، ومنه الكافر وهو ضد المؤمن، وسمي كافراً لأنه يغطي الحق ويستر النعمة من ربه، وبه قال ابن فارس والأزهري.
وقيل: لأنه يغطي قلبه بكفره، و به قال الليث.
ومنه الكفارات لأنها تكفر الذنوب أي تسترها.
ويطلق التكفير على وضع الرجل يديه على صدره مع التطامن والخضوع، ومنه قول جرير:
وإذا سمعت بحربِ قيسٍ بعدها *** فضعوا السلاح وكفروا تكفيرا
ويطلق على الخضوع والانقياد ومنه الحديث: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفّر اللسان، وتقول: "اتق الله فينا" أي تذل وتقرّ بالطاعة له وتخضع لأمره»، ويرجع الأول لهذا المعنى.
ويطلق التكفير على تغطية المحارب بالسلاح.
وعلى تتويج الملك بالتاج، وهذا كله راجع إلى الستر والتغطية.
والمراد بالتكفير في موضوعنا هذا هو: "الحكم على الشخص بالخروج من الإسلام".
خطورة التكفير:
إن الحكم بالكفر على الشخص هو حكم خطير له آثار كبيرة فلا يجوز للمسلم الإقدام عليه إلا ببرهان واضح ودليل قاطع، كما يجب عليه الاحتياط في ذلك، وكمال التثبت فيه، وضرورة التريث فيه إلى أبعد مدى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] قال الإمام الغزالي في فيصل التفرقة: "ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلمٍ واحد".
قال الناظم:
ومدخلٌ ألفاً من الملاحدة *** أقرب من مخرج نفس واحدة
وقد بين ابن الوزير اليماني وجه الاحتياط في التكفير بقوله: "الخطأ في الوقف على تقديره تقصير في حق من حقوق الغني الحميد العفو الواسع أسمح الغرماء وأرحم الرحماء وأحكم الحكماء سبحانه وتعالى، والخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عنهم".
كما ذكر بعض المصالح في ترك التكفير فقال: "وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله وتقوية أمره فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الإسلام وبحقن الدماء ويسكن الدهماء".
وقال بعض الفقهاء: "الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر".
وفي الخلاصة من كتب الحنفية: "إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم".
وقال في البحر من كتب الحنفية: "والذي تحرر أنه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة".
وقال الإيجي في المواقف: "لا يجوز الإقدام على التكفير إذ فيه خطر عظيم".
ويدل على هذه الخطورة النصوص والآثار المترتبة على التكفير.
أما النصوص فمنها:
1. قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما» متفق عليه. أي باء بالإثم أحدهما، فإن كان صواباً فالكافر آثم بكفره، وإن كان خطأ فالمكفّر آثم بتكفيره من ليس كافراً. ومثله حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا رجلاً بكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه».
قال ابن دقيق العيد: "وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية، وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم تكن خصومهم كذلك.
2. قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله».
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تكفير المسلم كقتله في الإثم والشناعة، والتشبيه بالمحرم يفيد التحريم.
3. قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
قال أبو منصور الأزهري: " في قوله "كفارا ً" قولان":
أحدهما: لابسين السلاح متهيئين للقتال.
القول الثاني: أنه يكفر الناس فيكفر كما تفعل الخوارج إذا استعرضوا الناس فيكفروهم، وهو كقوله عليه السلام: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما".
وعلى هذا المنهج من الاحتياط والحذر من التكفير سار الرعيل الأول من الصحابة كما روى ابن عساكر عن أبي سفيان قال: "أتينا جابر بن عبد الله وكان مجاورا بمكة وكان نازلا في بني فهر فسأله رجل فقال: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله، وفزع لذلك".
قال ابن عساكر بعد أن ساق النصوص في خطورة التكفير: "فهذه الأخبار تمنع من تكفير المسلمين، فمن أقدم على التكفير فقد عصى سيد المرسلين".
الآثار المترتبة على التكفير :
أ- الآثار الدنيوية:
1. تنفيذ حكم الردة عليه وهو القتل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه»، وفي هذا استباحة لدم المسلم الذي الأصل فيه التحريم والعصمة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».
ولا يجوز للمسلم أن يترك هذا الأصل المتيقن لأمور محتملة كما جاء في حديث أسامة بن زيد أنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: "لا إله إلا الله"، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: "أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟" قلت: يارسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه؟» فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ". فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة ترك الأمر المتيقن وهو نطْقه بالشهادة، والأخذ بالتأويل المشكوك فيه وهو قصد الدفع عن نفسه.
2. تحريم زوجته عليه، ووجوب التفريق بينه وبين امرأته، لأنها مسلمة وهو كافر، ولا يجوز له نكاح المسلمة بالإجماع كما قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
3. سقوط ولايته على أولاده لأنه كافر لا يؤمن عليه العمل على إفسادهم كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
4. سقوط حق الولاية والنصرة عن المسلمين وتحريم محبته ومودته، ووجوب المقاطعة والهجر له حتى يتوب ويعود إلى الإسلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
5. عدم جريان أحكام المسلمين عليه عند موته فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يستغفر له، ولا يرث المسلمين ولا يرثونه لأنه كافر وفي الحديث: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»، وقال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} [التوبة:84].
ب- الآثار الأخروية:
ويترتب على تكفيره وموته على الكفر الحكم عليه بالعذاب واللعنة والخلود في النار وحبوط عمله وحرمانه من رحمة الله تعالى ومغفرته لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48] وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
والحكم عليه بهذه الأحكام الأخروية مع عدم كفره هو بغي وظلم وعدوان على المسلم وتألٍ على الله تعالى.
روى الإمام أبو داود في السنن تحت عنوان :" باب النهي عن البغي" حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: اقصر، فوجده يوماً على ذنب فقال له: اقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟، وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار».
مواقف الناس في قضية التكفير:
عند التأمل في التاريخ والواقع المعاصر نجد الناس في قضية التكفير على ثلاثة مواقف:
1- الغلو في التكفير، بعدم الالتزام بالضوابط الشرعية والقواعد العلمية الحاكمة على قضية التكفير، والتوسع فيه بتكفير من لا يستحق التكفير شرعاً، وهذا موقف الخوارج والمعتزلة قديماً.
2- الغلو في إنكار التكفير، وذلك بدعوى أن التكفير حق من حقوق الله تعالى، وأنه سلطة إلهية ليس لأحد من الناس صلاحية الحكم به لأنه لا يكون إلا بإنكار القلب ولا سبيل إلى الاطلاع عليه، وهذا موقف كثير من المثقفين، وهو ما يتناسب مع مذهب المرجئة قديماً.
3- الاعتدال في قضية التكفير، وذلك بالالتزام بالضوابط الشرعية، والاقتصار على الحالات التي تتوفر فيها شروط التكفير وأسبابه، وهذا هو موقف السواد الأعظم من المسلمين.
قال ابن أبي العز: "واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم فالناس فيه على طرفين ووسط. فطائفة تقول: "لا نكفر من أهل القبلة أحدا" فتنفي التكفير نفيا عاما مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين. ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب بل يقال: "لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج"، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب هو نفي العموم) شرح الطحاوية 355- الملل والنحل 1/203.
ولا شك أن الموقف الأول يتناقض مع نصوص الشرع وأدلته الدالة على تحديد الضوابط ، ويكفي ذلك ليكون من الغلو المنهي عنه شرعاً ، وليناقض مبدأ خطورة التكفير التي سبق تقريرها. وأما الموقف الثاني فهو إنكار لمبدأ شرعي صريح ، وهو تكفير من يستحق ذلك ممن توفرت فيه أسبابه وشروطه . وهذا الموقف الثاني ينبني على أن الكفر عمل القلب فقط، وهذا خطأ فإن الكفر يحصل بكل ما دلّ عليه من قول أو عمل أو اعتقاد، فهناك مكفرات اعتقادية كإنكار وجود الخالق أو اعتقاد تعدده أو اعتقاد نقصه أو عجزه أو إنكار الرسل والكتب السماوية ونحو ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، وهناك مكفرات قولية كسبّ الخالق أو سبّ الرسل أو سبّ الإسلام، وهناك مكفرات فعلية كتمزيق المصحف مع قرينة الإهانة أو إلقائه في القاذورات والسجود للصليب ونحو ذلك.
ويلزم على هذا القول ألا نحكم بالإسلام على أحد من المسلمين لأن الإيمان نقيض الكفر، وكما أننا نحكم بالإيمان بناء على الظاهر فكذلك الحكم بالكفر يرتبط بأعمال الكفر الظاهرة، فكما أن النطق بالشهادتين دليل على الإسلام فكذلك العمل الكفري كسبّ الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء بالقرآن دليل على الكفر.
فالكفر ظاهر وباطن كما أن الإسلام ظاهر وباطن، وقد جعل الله تعالى الظاهر علامة على الباطن فكما يستدل بظاهر أعمال الإسلام على ثبوت الإسلام كذلك نستدل بظاهر أعمال الكفر على ثبوت الكفر.
قال الإمام الشاطبي: "ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منحرفاً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام والعادات والتجريبيات".
وقد عقد الفقهاء في كتب الفقه باباً عن الردة وأحكامها، وذكروا فيه جملة كبيرة من الأقوال والأفعال المكفرة، فلا يصح حصر المكفرات في الاعتقاد فقط.
ظاهرة التكفير وأسبابها:
إن الغلو في التكفير ظاهرة واقعية، ولكن المؤسف أن كثيراً من المثقفين والصحفيين تناولوا الموضوع بشيء من المبالغة والتهويل، وركزوا الأضواء عليه ليجعلوها تهمةً عامة لحملة الشريعة وللتيار الإسلامي كله من أجل تنفير الناس عنهم. فالغلو في التكفير موجود في طائفة شاذة قليلة في الماضي والحاضر، ولا تمثل السواد الأعظم لحملة الشريعة وأهل الدين.

أسباب الظاهرة:
1- انتشار مظاهر الخروج على الدين وتعاليمه في كثير من المجتمعات، واستطالة أصحابها على الإسلام، والعمل على نشر الفساد في المجتمعات، والهجوم على أهل الدين دون أن يزجرهم أحد عن هذه التصرفات.
2- إعراض بعض الحكومات عن تحكيم الشريعة، واستبدال ذلك بالقوانين الوضعية المستوردة من الشرق والغرب.
3- الاضطهاد والمعاملة الوحشية التي واجهها بعض المسلمين بسبب المطالبة بتطبيق الشريعة، وإلغاء القوانين الوضعية، إن التفنن في إهانة هؤلاء والاستخفاف بإنسانيتهم ومحاولة تحطيم أفكارهم دون مراعاة لأحكام الشرع وحقوق الإنسان ولدّ عند هؤلاء فكر التكفير، ويؤكد هذا أن الغلو في التكفير عرفت به طوائف خرجت من المعتقلات في مصر. إن الاضطهاد لا يولد إلا اتجاهات منحرفة تعمل تحت الأرض بعيداً عن مجالس العلم والحوار المفتوح.
4- قلة الفقه في الدين، وضعف العلم بالشريعة، فكثير من هؤلاء الغلاة في التكفير وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب الأخذ ببعض النصوص دون البعض، والاعتماد على المجملات والمتشابهات دون المحكمات مع غياب واضح للمنهج السليم في فهم النصوص والاستدلال بها.

عزام
01-05-2009, 09:53 AM
ضوابط التكفير
1- الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
يجب علينا في قضايا التكفير وبيان الأعمال التي يكفر بها الشخص أن نرجع إلى نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فالتكفير لا يثبت بالعقل ولا بالذوق ولا العادة لأنه حكم شرعي، والحكم الشرعي لا بدّ له من دليل.
قال بعض العلماء: "التكفير حق لله تعالى فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله".
وبناء على ذلك لا يصح التكفير بدون حجة واضحة، ويطالب المكفر بالدليل كما فعل ابن أبي زيد القيرواني مع الشخص الذي رمى الأشعري بالكفر.
وكذلك لا يصح التكفير تقليدا للآخرين دون دليل كما ذكره الحافظ ابن عساكر في رده على الأهوازي الذي كفر الأشعري تقليدا للمعتزلة.
لقد حاول الخوارج أن يكفروا سيدنا عثمان رضي الله عنه بأشياء لا يكفر بها شرعا.
فالواجب على المسلم التأكد من كون الفعل المعين كفرا في الأدلة الشرعية، فكثير من العوام قد يكفرون بأشياء غير مكفرة كالقول بجواز الصغائر والخطأ الاجتهادي على الأنبياء.
فلا يصح التكفير في المسائل الاجتهادية ولا المسائل المختلف فيها اختلافا معتبرا وإن خالف السنة.
قال ابن تيمية وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه: "ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفا للسنة فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع".
واعتبر التكفير في مسائل الاجتهاد من الغلو المنهي عنه شرعا.
وكذلك لا يصح التكفير باللوازم فإن لازم المذهب ليس بمذهب لأن الإنسان قد يقول القول ويغفل عن لوازمه بسبب محدودية علمه وعقله، ولو عرف لوازم القول لرجع عنه.
قال ابن دقيق العيد: "وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا، والذي يقع النظر في هذا أن مآل المذهب هل هو مذهب أو لا؟ والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذاً للتكفير وإنما مأخذه مخالفة السمعية القطعية طريقا ودلالة".
وأسباب التكفير نوعان:
الأول: أسباب مكفرة باتفاق العلماء كسب الله والرسول والاستهزاء بالدين.
الثاني: أسباب مختلف في التكفير بها كترك الصلاة تهاونا وكسلا مع التصديق بوجوبها.
فالأصل في المسلم عند الاختلاف في كفره بقاؤه على الإسلام حتى تقوم الحجة القاطعة على كفره.
يقول العلماء: "لابد للتكفير من موجب" وهذا الموجب لا يجوز أن يكون محتملا إذ لا تكفير بالظنون والمحتملات مع وجود الأصل المتيقن وهو إسلامه، ومن دخل في الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين، كما يؤكده قول الفقهاء: "لا يكفر جاحد الظني".
2- الاعتماد على الظاهر في الحكم على الناس:
إن الأحكام الدنيوية مبنية على ظواهر المقالات والسلوكيات، لأن البواطن لا يمكن الاطلاع عليها، فالحكم على الناس بالإسلام أو الكفر مبني على هذا الأصل، فإذا أظهر لنا الإسلام حكمنا بإسلامه وإن كان في باطنه كافراً، وإذا أظهر لنا الكفر حكمنا بكفره وإن كان باطنه مؤمناً.
ويدل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] فنهى الله تعالى عن وصف الشخص بعدم الإيمان مع إظهاره إياه بإلقاء السلام الذي هو من شعار المسلمين. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قتله الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" وقال له: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟".
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من الناس إسلامهم بمجرد إظهاره بقول أو عمل حتى ولو كانوا في الباطن على خلاف ذلك، كما في تعامله مع المنافقين فإنه أجرى عليهم أحكام الإسلام وهو عالم بحقيقتهم وأعيانهم.
وكان يقول معبراً هذا المنهج : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» متفق عليه.
فعلّق أحكام الإسلام على قول هذه الكلمة "لا إله إلا الله" وجاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس: " لقد كنتم تؤاخذون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا شيئاً أخذناه به".
بل إن العقوبات مرتبطة بالظهور أيضاً كما في الحديث "أنهلك وفينا الصالحون" قال: «نعم إذا ظهر الخبث» رواه الترمذي، وقال عبد الله بن مسعود : "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" [مقاييس اللغة 5/191].
3- المعاصي ما عدا الكفر تنقص الإيمان ولا تهدمه:
من قواعد أهل السنة والجماعة وأصولهم أن المعاصي والذنوب تنقص الإيمان لكنها لا تنقضه من أساسه، وقد شبه الإمام ابن تيمية ذلك بالشجرة حيث لا يلزم من زوال بعض فروعها زوال اسمها، وبالإنسان إذا قطعت بعض أطرافه لا يزول عنه اسم الإنسان.
والأدلة على هذا المعنى:
أ‌- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]
وجه الدلالة: أن الله تعالى نصّ على أخوة القاتل لأولياء المقتول، ولو كان كافراً بمعصيته لم يكن أخاً لهم.

ب‌- قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]
وجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود القتال بينهم، قال الإمام البخاري مستدلاً بالآية: "فسماهم المؤمنين" [ تهذيب اللغة 4/3161- مقاييس اللغة 5/191].
ج- قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48]
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفرّ صاحبها بارتكابه إلا الشرك" [تهذيب اللغة 4/ 3163 – لسان العرب 5/146 ، 148 ، 180].
د- ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر الذي جلده الصحابة فلما انصرف قال بعضهم: "أخزاك الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان» وفي رواية: «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» وفي رواية عند أبي داود: «ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه».
وفي قصة مشابهة لرجل كان يُضحك رسولَ صلى الله عليه وسلم وجُلد يوماً في شرب الخمر، فقال رجل: "اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله».
هـ- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».
وجه الدلالة: أنه سماهما مسلمين مع التوعد بالنار [رواه البخاري: كتاب الأدب ، ومسلم: كتاب الإيمان].
4- انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:
يرد لفظ الكفر كما يدل عليه الاستقراء في النصوص بمعنى الكفر الأكبر وهو الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويقابله الإيمان كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة:253] وقد يرد بمعنى الكفر الأصغر وهو الذي لا يخرج صاحبه من الملة ولكن يدمغه بالفسوق، ويقابله الشكر كما في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
ومن الأول قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة:73] وهو الأكثر وروداً في القرآن والسنة.
ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من حلف بغير الله فقد كفر»، وقوله صلى الله عليه وسلم عن النساء: «يكفرن العشير وتكفرن الإحسان». قال ابن القيم: "والقصد أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا" [رواه البخاري: كتاب الأدب ، مسلم: كتاب الإيمان].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] "كفر دون كفر".
وبوّب البخاري في الصحيح فقال: "باب ظلم دون ظلم" ثم روى قول عبدالله بن مسعود: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، قال أصحاب رسول الله عليه وسلم: أيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] [ رواه البخاري: كتاب الأدب].
5- جواز اجتماع بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق في الشخص الواحد:
من القواعد المقررة لدى أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد قد تجتمع فيه بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق والكفر، فهو مؤمن بإيمانه وفاسق بمعصيته، فيه مظاهر الإيمان، وفيه مظاهر الكفر.
ومن ذلك صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث اجتمع فيه الإيمان الذي جعله من أهل بدر، والنفاق العملي الذي جعله يوالي الكفار ظاهراً.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» رواه البخاري، مع كونه معروفاً بصدقه في إيمانه وسلوكه [رواه البخاري: كتاب الحج، ومسلم: في كتاب الإيمان].
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».
وقال عند حديثه عن شعب النفاق: «ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها».
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن الشخص قد يكون فيه إيمان ونفاق".
وقال أيضاً: "وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة يقولون: "إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد"، وقالوا: "لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه، مذموماً من وجه". إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصيته وطاعته باتفاق. وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار" [تهذيب اللغة 4/3162].
وكثير ممن وقع في الغلو ظنوا أن الشخص إما أن يكون مؤمناً خالصاً أو كافراً خالصاً ولا واسطة بينهما فحكموا بالكفر على بعض الأشخاص والمجتمعات التي سادت فيها خصال الجاهلية مع وجود الإسلام [ظاهرة الغلو في الت].
6- وجوب التفريق بين تكفير النوع وتكفير الشخص المعيّن:
من قواعد أهل السنة والجماعة ضرورة التفريق بين التكفير المطلق المعلّق بالأعمال، وبين تكفير الشخص أو الطائفة المعينة، فيقولون: العمل الفلاني كفر، ومن قال كذا فهو كافر، ولكن عندما يتعلق الحكم بشخص معيّن ينظرون إلى توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، وبالتالي فقد يكون عمله كفراً ولكن لا يحكم على الشخص بالكفر بناءً على عذر شرعي مثل كونه حديث عهد بإسلام أو نشأ بأرض بعيدة عن العلم وأهله أو عرضت له شبهة تأويل.
قال ابن تيمية: "إن القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغة، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها. ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعيّن".
ويشهد لما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله: "إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف" ففعلوا به فجمعه الله ثم قال: "ما حملك على الذي صنعت؟" قال: "ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له".
وفي رواية أنه قال: "لو قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين".
قال ابن تيميه: "فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرّي بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك".
ويشهد لهذا الأصل أيضاً قصة قدامة بن مظعون وهو من أهل بدر الذي اجتهد واستحل شرب الخمر متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} [المائدة:93].
فردّ عليه عمر وقال: "أخطأت التأويل فإنك إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك" ثم أمر بإقامة الحد عليه.
فهذا الصحابي استحلّ محرماً بسبب الشبهة والتأويل ولم يكفره عمر والصحابة رضي الله عنهم لذلك.
وهكذا جرى عمل الإمام أحمد وغير من علماء الأمة حيث إنه كفر الجهمية، ولكنه لم يكفر أعيانهم ولا من وافقهم من الخلفاء وغيرهم، بل اعتقد إمامة الخليفة وصلى خلفه.
قال ابن قدامة: "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" ثم قال: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". والله أعلم.





تحذير المؤمنين من تكفير المسلمين -
(ومن قذف مؤمنا بكفر كقاتله)[1], (ومن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)[2], ما أعظمك يا رسول الله, وأنت تعالج أدواء أمتك حتى وإن لم تظهر تلك الأدواء بعد, ما أعظمك يا قرة أعين المؤمنين, وكلماتك هي ناقوس تدق في ضمير الأمة ليوقظ عقول أبنائها محذرا إياهم من هذا الداء الوبيل, داء تكفير المؤمنين.
وهل هناك تحذير أشد من ذلك؟, فمجرد قول كلمة يا كافر لمسلم يجعل قائلها بمثابة القاتل له, ولما لا؟ أليس رمي المؤمن بالكفر واتهامه وهو برئ يعد قتلا أدبيا له؟ وعارا يلاحقه بين أبنائه وأهله وعشيرته, وإذا كان الأمر بهذه الفظاعة, فلابد من حسم مادته والتحذير من خطورته وبيان مصير من قال لأخيه يا كافر وهو ليس كذلك.
إن مجرد القول يجعل قائله على خطر عظيم, فهو إن كان كاذبا في دعواه تلك فقد يلحق به الكفر.
أما إن لم يكفر بقوله ذلك فعند العلماء يستحق التعزير لإساءته لأخيه المسلم وإيذائه, ويزداد الأمر خطورة إن اتبع هذا القائل القول بالعمل, فلا يكتفي بتكفير أخيه المسلم دون تحقق, بل يسارع بتطبيق أحكام الردة عليه, ويعامله معاملة الكافرين, وربما أهدر دمه واستحل ماله, فيصير قاتلا وسارقا, ومن قبل منتهكا لأحكام الشريعة والدين ومضيعا لحقوق الأخوة, ومثيرا للفتنة بين المؤمنين, فهل هناك فسادا أكثر من ذلك؟؟.

ولنا أن نتصور صورة المجتمع الذي يتنابذ أفراده بالكفر ويلاحق بعضهم بعضا بسيف التكفير كيف يكون ذلك؟ أيكون مجتمعا قويا متماسكا منيعا؟ كلا إنه مجتمع التباغض والتقاتل والهوى والانشغال بالذات والانكفاء عليها وصائر التفكك والانهيار فالاندثار.
إن التكفير لمسلم دون دليل بين مجافاة للشريعة وأحكامها ومحآدة لله ولرسوله, وإهدار للعدل كقيمة قامت عليها السموات والأرض, نعم التكفير لمسلم دون دليل محآدة لله سبحانه القائل: (فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[3], وكذلك التكفير بدون تحقيق وتبين محآدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقاتله)[4], وأيضا التكفير بدون تحقق مجافاة لأحكام الشريعة, التي حددت ضوابط دقيقة وقواعد عديدة تحكم قضية تكفير المسلم.
وأخيرا وليس أخراً ففي هذا الصنيع البئيس إهدار لقيمة العدل الذي يستوجب في أدنى صورة أن يكون من يحكم بالتكفير للمسلمين مؤهلا لذلك وأن يتاح لمن ينسب إلى الكفر حق الدفاع عن النفس ورد الظلم.
إن من يمارس هواية التكفير للمسلمين دون التزام بأحكام الشريعة إما أن يكون بأحكامها جاهلا أو يكون صاحب ورع كاذب أو يكون صاحب شهوة وهوى, وتزكية للنفس وازدراء للخلق وأي من هذا إنما يعبر عن ظلمة في القلب وفساد في السريرة.
والإسلام لم يترك الأمر دون علاج فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفي برصد آفة التكفير التي ستعاني الأمة منها من بعده ولكنه اتبع ذلك بتقديم العلاج ووصف الدواء.
علماء الأمة على منهج النبي صلى الله عليه وسلم:
وعلى منهجه صلى الله عليه وسلم سار علماء الأمة الأكابر محذرين من تكفير المسلمين دون دليل مبين:
فها هو الإمام أبو حامد الغزالي يقول: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا, فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله, خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم.. والوصية أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ماداموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها, والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر أو بغير عذر, فإن التكفير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه)[5].
يقول العلامة ابن عابدين في الفتاوى الصغيرة: (الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر, وفي الخلاصة وغيرها إذا كان من المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن, زاد في البزازية: إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل, وفي التتار خافية: لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ومع الاحتمال لا نهاية.. والذي تحرر أنه لا يفتي بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة وعلى هذا فإن أكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير فيها ولقد ألزمت نفسي ألا أفتي بشيء منها)[6].أ.هـ .
ويقول الإمام الطحاوي: (لا يخرج الرجل من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها, وما يشك أنه ردة لا حكم بها, إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع إن الإسلام يعلو, وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع إنه يقضي بصحة إسلام المكره. أقول قدمت هذا ليصير ميزانا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة)أ.هـ.

· ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة)[7].. ويقول أيضا: (إن أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم, لأن الكفر حكم شرعي, فليس للإنسان أن يعاقب بمثله, كمن كذب عليك وزنى بأهلك, ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله, لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى, وكذلك التكفير حق الله تعالى, لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله يتوقف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من يخالفها, وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر)[8] أ.هـ .
-------------------------------------------------------------
[1] رواه الترمذي وصححه.
[2] رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
[3] سورة النساء: 94.
[4] أخرجه الترمذي وصححه.
[5] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي طبعة القاهرة 1907 ص 14 ، 15
[6] حاشية رد المحتار لمحمد أمين الشهير بابن عابدين - طبعة دار الفكر 1979- 1399 جزء 4 ص 224
[7] مجموعة الفتاوى 13 (500)
[8] مجموعة الفتاوى 23 (245)

صرخة حق
01-09-2009, 04:00 AM
ليت الموضوع يثبت

لأنه سيكون لنا مرجعا نحتاجه وبقوة في صوت