تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : النفعية



عزام
01-04-2009, 09:28 AM
فقد الغرب المرجعية العقدية بقطيعته الكاملة مع الدين ـ أي دين ـ وحاول الغربيون تغطية الواقع العملي لهم عن طريق فيض من المذاهب الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والتي تمنحها شيئاً من المشروعية والتنظيم المعرفي ، وهذه المذاهب على مالها من أثر في ثراء المعرفة إلا أن كثرتها وتقاطعها تؤدي في النهاية إلى البلبلة وإلى نوع من ((اللاأدرية)) وخير حل آنذاك هو اللجوء إلى امتحان الأفكار عن طريق فائدتها ونفعها ما دام لا وجود لسبيل آخر للحكم عليها . ولم يكن هذا وحده هو السبب في سيادة مذهب النفعية واجتياحه لكل المذاهب الغربية الأخرى ، فهناك الشعور بالرفاهية والتفوق العلمي والاقتصادي ؛ فهو يدفع بطريقة خفية إلى تبني الأفكار التي تزيد في سلطانه ، ولا شيء كتحكيم الثمار والنتائج أعود بالنفع على النتصرين من الاحتكام إليها .

وقد كان الوعي الإنجليزي سباقاً إلى العمل على أساس المنفعة ؛ وإذا كان (بنتهام) ت 1832 م هو مؤسس المذهب النفعي فإنه في الحقيقة لم يَعْدُ أن أعطى للأيدلوجية مذهباً ونهجاً في إنكلترا المهتمة بالفعالية والرفاه أكثر من اهتمامها بالتأملات الفلسفية . إن أسطورة النحلات (1723) هي الوثيقة الرمزية لهذه المنفعية . الأسطورة تقول : هناك خلية صارت فيها النحلات فاضلات زاهدات متقشفات محسنات ، إنها الكارثة!
وبما أن أمريكا بنت أوربا ـ ولا سيما بريطانيا ـ فإن مذهباً لا يختلف كثيراً عن المذهب النفعي نشأ فيها يدعى4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn1) ((البرجماتية)) ومؤسّسه هو : (تشارلس بيرس) ت 1914 م ، وفيه أن الأفكار الصحيحة هي ما تثبته الفحوص الدقيقة والبحث الرصين . ويقول (وليم جيمس) : إن كل الخلافات الميتافيزيقية يمكن أن تحل أو تقل أهميتها عن طريق النتائج العملية المترتبة عليها . والأفكار مجرد (شيكات) لا بد أن تكون لها قيمة مصرفية!
على الصعيد العملي أنتجت (النفعية) عدداً من السياسات التي يمارسها قادة الغرب في حركتهم اليومية ـ ولا سيما ـ خارج بلادهم ومن أهم تلك السياسات :
أ ـ سياسة الفتح السلمي :
إذا كان بإمكانك أن تصل إلى كل أهدافك دون أن تراق قطرة دم من دماء جندي من جنودك ، فذاك دليل براعتك ونجاحك . وإذا كان بإمكان أن تصيد بشبك من حرير فلا تستخدم غيرها . وقد أكدت هذه السياسة نتائج الحربين العالميتين المدمرة إلى جانب ما لمسه المستعمر الغربي من أن الدول التي نالت استقلالها صارت شعوبها أكثر تعلقاً به وحاجة إليه من أيام الاستعمار ، فالسياحة لأبنائها في بلاده والآلات تستورد من عنده ، والطلاب يبتعثون إلى جامعاته! إذا كان بإمكان الآخرين أن يأتوا إليك ليحققوا لك كل ما تصبو إليه فلماذا تذهب إليهم؟!
ولا ريب أن التفوق الحضاري الغربي هو الذي أملى هذه السياسة تجاه العالم الثالث المستضعف فاستقرار الأحوال فيه وشعوره بشيء من الحرية يتيح له شيئاً من النمو والتقدم الذي يوفر إمكانية جيدة للنهب!
إذا كان بإمكانك أن تذبح بقرة سمينة ، فلماذا تذبحها عجفاء؟!
ب ـ سياسة الأمر الواقع :
إن النفعية و((البرجماتية)) تدفعان دفعاً إلى الالتصاق بالواقع إدراكاً وإصلاحاً واستثماراً ومحالاً للفعل .. وكان مما أفرزته النفعية إلى جانب التفوق الكبير الذي أحرزه الغرب سياسة (الأمر الواقع) . وهذه السياسة تقوم على العمل الدائب المتدرج المتخفي على إيجاد واقع معين ومحاولة تثبيته بكل وسيلة ممكنة ، ومعطيات (مرور الزمن) تخدم هذه السياسة حيث يصبح المتضررون من واقع سيىء مشلولي الحركة بعد ترسخه وحاجته إلى جهود كبرى كي يتغير ، وهم لا يستطيعون بذل تلك الجهود لأن الواقع السيىء نفسه يحول دون التمكن من الأعمال الكبيرة! وهكذا يدور الضعفاء المغدور بهم في حلقة مفرغة لا يعرفون للخروج منها فكاكاً .
هذه السياسة يمارسها الغرب ضد شعوب العالم النامي جهاراً نهاراً ؛ فهو ما يزال يحاول الإبقاء على عين الظروف السيئة التي خلفها وراءه عند مغادرته لها من خلال زرع القلاقل والفتن ونهب الخيرات وفتح الأسواق لمنتجاته عن طريق الابتزاز .... ولعل (اليهود) خير من يمارس هذه السياسة بنجاح ؛ فقد أصموا آذانهم عن كل القرارات الدولية إلى أن أوجدوا واقعاً لا يمكن معه تنفيذ تلك القرارات ؛ فأين يذهب مئات الألوف من المهاجرين اليهود ، وماذا يمكن عمله لترسانة نووية هائلة ، وكيف يستطيع مئات الألوف من أهل فلسطين الاستغناء عن العمل لديهم ، ولا يوجد أي بديل يلوح في الأفق ...؟
إن الجملة التي يقولها أصحاب هذه السياسة للمغدور بهم هي : ((صح النوم))!! .
جـ ـ سياسة التذرع :
لا بد للنفعيين أن يضفوا (العقلانية) والمشروعية والانسجام على أعمالهم ، ومن ثم فإنه لا يجوز خدش القيم الأساسية التي ينالون على أساسها أصوات الناخبين ، ويستمدون شرعية سلطتهم منها . وهذا يعني أن تحقيق المصالح لا بد أن يستند إلى تلك القيم ولو بطريقة ملفوفة ، ومن ثم فإن الحل في هذه الحالة هو إيجاد المسوغات والذرائع التي تستند إلى القيم المستهلكة في الداخل ، وتساعد في الوقت نفسه على تحقيق المصالح والغايات المستهدفة . وقد عبر (هتلر) يوماً عن هذا حين قال : إذا أردت أن تضرب أصحاب عقيدة مناوئة فعليك أن تضربهم باستمرار ، لكن حتى تضربهم باستمرار فلا بد لك من مبرر . فالمطلوب إذاً هو (صناعة المبرر) وتتخذ تلك الصناعة أشكالاً عديدة من خلاف على حدود أو إحداث حرب أهلية أو تلفيق تهمة إرهابية أو تخريبية أو حماية مصالح مهمة أو مجال حيوي أساسي ... وهكذا يتدخل النفعيون في شئون البلد الضحية من خلال مسوغات مشروعة ومفهومة لدى شعوبهم ولدى المجتمع الدولي .
إن النفعية والواقعية تمثلان تحدياً كبيراً لنا ليس على مستوى السلوك المتسلط الذي يعاملنا به الغرب فحسب ، ولكن على مستوى العمل الدعوي أيضاً ؛ حيث إن من شعارات الواقعية والنفعية ((دعونا نلمس)) ، ومن ثم فإن واقع المسلمين الحالي يمثل صداً كبيراً عن سبيل الله ، ويقف عقبة كؤوداً أمام نشر دعوتهم ورسالتهم ؛ فالدعاوي المذهبية في العالم بالصلاح والإصلاح كثيرة ، ومن ثم فإن ما يُحرم منها من الواقع العملي المشرق لا يجد سبيله إلى أذهان الشعوب الغربية .
ثم إن علينا أن نحل مشكلاتنا الداخلية ، ونقوي من نسيجنا الاجتماعي ؛ حتى لا نعطي الذريعة للتدخل في شؤوننا الخاصة .
ولا بد من القول بعد هذا وذاك : إن منطق (أرسطو) العقيم الذي يقوم على الصدق الشكلي ، وعلى بحث القضايا في الذهن لا في الواقع ـ ما زال ـ يسيطر على أذهان كثير من طلاب العلم الشرعي من خلال دراستهم لكتب التراث المشوبة بذلك المنطق ؛ مما يجعلهم بحاجة إلى شيء من الاهتمام بفهم الواقع وتقديره ؛ فقد كان من أسباب انتكاساتنا الحضارية الانفصال بين العلوم والواقع المعاش مما حرمها من النضوج والرشاد ، وحرمه من الإصلاح والتقويم! .




4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref1) ـ السابق : 438 وما بعدها .