أحمد الظرافي
12-02-2008, 07:04 PM
العلاقات التاريخية بين الصوفية والسلفية
بقلم: أحمد الظرافي
رواد التصوف الأوائل وموقف الإمام أحمد منهم
يعتبر القرن الثالث الهجري هو القرن الذهبي لازدهار التصوف ونشأته، ففيه ظهر الجيل الأول من كبار مشائخ الصوفية المرجوع إليهم، من أمثال الحارث بن أسد المحاسبي، وذي النون المصري، وأبي سليمان الداراني، وأبي جعفر الطوسي، وأبي يزيد البسطامي، وإسحاق بن هاني النيسابوري، وإسماعيل بن إسحاق السراج، وبدر بن المنذر، وبشر بن الحارث الحافي، وحاتم الأصم، وحمدان، وسهل التستري، ومحمد بن الحسين البرجلاني الواسطي، ومعروف الكرخي، ويحيى بن معاذ ويوسف بن الحسين الرازيين، وغيرهم من كبار رواد التصوف الأوائل الذين سلكوا النهج الفلسفي في تصوفهم، وظهرت لهم أحوال ومقامات، وخرجوا عن سنن الدين الواضح.
"وقد انتشر هؤلاء ومريدوهم في الأرجاء، وملأوا بصرخاتهم الوديان وشواطئ الأنهار وبطون الصحاري وسفوح الجبال"
وفي هذا القرن – الذي يعتبر عصر الثقافات، ونشوء الفرق المتعددة الطارئة على الإسلام والمتأثرة بالثقافة الفارسية الوافدة- أمتاز الصوفية كل الامتياز عن الزهاد وطريقتهم، التي هي مراقبة سلوك المرء مع الله تعالى، والخوف منه، وترويض النفس ومجاهدتها على التحقق بالقيم الإنسانية العليا وترك سفاسفها مع عفةٍ صادقة، ورغبة خالصة في العبادة والزهد.
وكان الإمام أحمد بن حنبل ( 164ـ 241هـ/780ـ 855م(، والمنسوب إليه المذهب الحنبلي، هو أول شخصية في الإسلام، تنبهت لشطط الصوفية ومحدثاتهم وانحرافاتهم عن القواعد الشرعية، وهو أول من تصدى للرد عليهم والتحذير من بدعهم وأفكارهم الفلسفية الطارئة على الدين الإسلامي الحنيف. وكان ذلك من واقع تجربة احتكاكه بهم وجلوسه إليهم ومرافقته لهم، لفترة طويلة من الوقت.
فالإمام أحمد بن حنبل، مع صحبته الطويلة لكبار مشائخ الصوفية في عصره فإنه لم يرَ الزهد في السكوت الطويل، والاحتباس في الخلوات، والانقطاع عن منابع العلم والفقه، ولا في البكاء والنشيج، وكثرة الزعيق، وإنما رأه في القول الحكيم، والعفة الصادقة، والكتب والمحابر والعلم، دون الخروج عن الوعي والعقل، وسنة الرسول والسلف.
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل، يتهم بعض المنتمين إلى المذهب الصوفي، ويصمهم بالخروج عن الدين نهائيا، ولما عرف الإمام أحمد طريقة الحارث المحاسبي – أحد الصوفية في عصره – في الخلوة، وسمعه يتحدث في شيء من علم الكلام والصفات، كرهه وهجره وعده من أصول البلية وآفاتها، وكان أحمد ابن حنبل يقول: " احذروا من الحارث – يعني المحاسبي – أشد التحذير" وكان يقول لأصحابه بعد أن سمع بعض كلامه: لا أرى لكم أن تجالسوه.
"وقد تأثرت حياة الحارث المحاسبي بغضبة أحمد فكرهه الناس وهجروه واستخفى من العامة فلما مات – بعد أحمد بعامين – لم يصلّ عليه غير أربعة نفر."
" ولم يألُ الإمام ( أحمد ) جهدا في أن يوصي المتوكل ويشير عليه بإقصاء صنّاع البدعة والجهمية وأهل الأهواء" - رغم امتعاضه منه وابتعاده عنه- " فقد رآهم جميعا مخالفين للكتاب مختلفين فيه ومتفقين على مخالفته"
ثم تتالى بعد ذلك الإنكار على الصوفية، من قبل العلماء المتمسكين بالشريعة وبعقيدة السلف. وكان أشد ما ينكره أهل السنة المتمسكين بعقيدة السلف على الصوفية عند استكمال تعاليمهم الفلسفية في القرن الثالث هو تقديس الأولياء. " وصار ما قاله الإمام أحمد وفعله من كره طريقة الخلوة في العبادة أصلا في مذهبه ينكر الاعتراف بأي قيمة شرعية لصور العبادة التي استحدثها المتصوفة الغلاة "
وكان الصوفية بدورهم يزدرون هؤلاء العلماء ويشنعون عليهم بأنهم مشبهة وحشوية.
العوامل التي ساعدت على انتشار التصوف
ومع ذلك فلم يتراجع التصوف، بل إنه ازداد تطورا وغلوا في القرون التالية، وشكل المتصوفة فرقًا انتشرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، شرقيها وغربيها.
وفي أثناء هذه الفترة ظهر رعيل آخر من رموز الصوفية الذين كان لهم تأثير كبير في انتشار التصوف. من أمثال ابن العربي ، وجلال الدين الرومي وعبد القادر الجيلاني ، وغيرهم كثير ..
ومن العوامل التي ساعدت على إنتشار التصوف ما يلي:
1- أن بعض العلماء كانوا – ولا زالوا - يُعلون من قيمة هذه الظاهرة الدينية-
2- أن الطرق الصوفية كانت تلقى تشجيعا ودعما من قبل حكام الدويلات المستقلة، لانخداع حكام هذه الدويلات بما عليه الصوفية، وانتسابهم الظاهري، إلى السنة، وما كانت تلعبه بعض الطرق الصوفية من دور في نشر للإسلام، وهي في طور التشكل. فعلى سبيل المثال " وجد المتصوفة الرعاية من السلاجقة وقادة الجند الأتراك في الحقبة الأخيرة من الخلافة العباسية، فأسست لشيوخهم الزوايا والخانقات وأوقفت عليها الأوقاف".
3- لجوء الصوفية إلى التخفي والابتعاد عن العلماء، خشية من الاحتكاك معهم في قضايا كلامية، تفصح عن حقيقتهم.
4 - الرحلات والسياحات التي كان يقوم بها الصوفية للترويج لأفكارهم وطرقهم، وجلوسهم لتدريسها أينما حلوا.
ومن أبرز هؤلاء محي الدين ابن عربي، أو الشيخ الأكبر كما يسمونه – وهو مدرسة صوفية قائمة بذاتها - فقد شملت رحلاته وسياحاته شتى بقاع المعمورة، وكان لها الأثر البارز في نقل مجمل الآراء والأفكار والآداب الصوفية، إلى مختلف أنحاء هذا العالم. وظهر لابن العربي أتباع ومريدون في جميع البلدان التي زارها، وعمل هؤلاء على نشر مؤلفاته وشرحها وتدريسها والترويج لها.
5- تراجع مدرسة الرد على الصوفية، التي كان الحنابلة من أبرز روادها، وذلك لعدم وجود دولة أو سلطة حاكمة، تنتصر للمذهب الحنبلي، وتتولى رعاية العلماء والفقهاء المنتمين إليه، وتعمل على تعميم هذا المذهب، ونشر أفكاره وتطبيقها على أرض الواقع، أسوة بالمذاهب الأخرى.
وكما هو معروف تاريخيا فإن أغلب الدويلات التي قامت في المشرق على امتداد التاريخ الإسلامي، كانت عادة ما تنتصر للمذهب الشافعي، وأما أغلب الدويلات التي قامت في المغرب فكانت عادة ما تنتصر للمذهب المالكي.
وهذا بجانب المذهب التي كانت تقوم عليه الخلافة العباسية، وهو المذهب الحنفي. وهذه الدول أثرت في توجيه الاتجاهات العامة لدى الناس وتركت بصماتها الفكرية وثقافتها واختياراتها المذهبية.
ولولا أن المذهب الحنبلي مذهبا أصيلا، يرتكز على الكتاب والسنة، وأيضا لولا وجود أتباع مخلصين عملوا على المحافظة على هذا المذهب، لطواه التاريخ، كما طوى غيره من المذاهب عندما لم تجد من يأخذ بيدها بعد موت أصحابها، مثل مذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام سفيان الثوري ومذهب الامام زيد بن علي.
وقد جاءت مرحلة الحروب الصليبية وسلسلة الغزوات المغولية الهمجية لديار الإسلام، وما نجم عنها من خراب ودمار ومن حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي والتي بدأت بسقوط بغداد ، جاءت لتوفر الظروف المواتية لاتساع نفوذ التصوف في صفوف الفئات الاجتماعية الحضرية، ولتحوله من تيار ثقافي محدود في المجتمع والثقافة الإسلامية، إلي قوة اجتماعية - ثقافية مهيمنة.
هبّة شيخ الإسلام ابن تيمية
لقد استمر التراجع في مدرسة الرد على الصوفية، حتى القرن السابع الهجري، وهو القرن الذي جاء فيه شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (661ـ 728 هـ، 1263 ـ 1328 م).
كان ابن تيمية فقيه الشام في عصره، وامتاز بدرجة عالية، من التقوى والورع في الدين، وقد هاله ما بلغه أمر الصوفية والجهمية والرافضة في زمنه، وما كانت عليه العامة من هوس بزيارة القبور والتوسل بالأولياء، فكان أن رفع الراية، واستأنف النضال في سبيل إحياء السنة، وإعادة الصفاء لعقيدة السلف، والمنافحة عنهما، وفي تفنيد بدع المبتدعين، بكل ما أوتي من قوة وجرأة وملكات خطابية وجدالية وإنشائية. فرد بعنف على الحلاج، وابن عربي وجلال الدين الرومي، وأصحاب نظرية "وحدة الوجود"، وأنصار القول بالتوسل، وهاجم الفلسفة وأصحابها، وألحق إخوان الصفا بالنصيرية.
ولم يكن ابن تيمية مجرد ناقد وداحض لفكر المبتدعة وأصحاب الفرق الضالة، وحسب، ولكنه كان إلى جانب ذلك صاحب مشروع إصلاحي عقدي فكري. " مثلما هو بالدرجة نفسها صاحب مدرسة مازال انتشارها واسعًا حتى اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي."
"واتصف الإمام بن تيمية بالصراحة والصرامة وعنف النضال" ولم يخش في المبتدعة لومة لائم، ولم يثنه عن كشف أباطيلهم، ما تعرض له من ضغوط ومن محنٍ وحبسٍ وتنكيلٍ واضطهاد " وقد سجن - ابن تيمية - في القاهرة من أجل أفكاره من عام 706هـ =1307م إلى عام 711هـ =1311م، ورجع إلى دمشق حيث دخل السجن مرة أخرى عام 720هـ =1320م لبضعة شهور، وقد تم آخر سجن له في القلعة في شهر شعبان/ يوليو عام 726هـ =1326م بسبب الفتوى التي يشجب فيها زيارة مقابر الأولياء واستمر رهن سجن القلعة يقضي أيامه ولياليه في التأليف والعبادة حتى توفي فيه سنة728هـ.
"وقد خلف ابن تيمية من الكتب والرسائل ما لم يبلغه أحد من مصنفي المسلمين، تنقية وجدالا ومحاججة وتقريرا " وهو يعتبر مدرسة قائمة بذاتها في نقد الصوفية والرافضة وقد تركزت نظرية شيخ الإسلام ابن تيمية، في نقد الصوفية على دراسة مؤلفات ابن عربي، وتفنيد محتوياتها المخالفة، وهو الذي أثار عليه قضايا رئيسية، رددها كل من أتى من بعده من المنكرين على الصوفية، فكان العلامة ابن تيمية أول السابقين بكشفها.
وتبع ابن تيمية " في قوته وطريقته تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية، فوسع من بعده، وأكمل وحرر وخلف كتبا في اللغة والحديث والسنة والفقه والتفسير والسيرة، فصارا ينبوعين لكل وارد وصادر وضوءين لكل قادر وسائر" وقد نهل من بحرهما العلماء ودعاة الإصلاح الذين جاءوا بعدهما.
وقد كانت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية – ولا زالت - منهلا رئيسيا لكل من تصدى للرد على الصوفية من العلماء في شتى أرجاء بلاد الإسلام. بل إن أحد كبار صوفية اليمن في زبيد، واسمه محمد بن محمد المزجاجي، يزعم أن مبدأ الإنكار على الصوفية يرجع إلى ابن تيمية.
ومن هنا يأتي حقد الصوفية والرافضة على ابن تيمية رحمه الله، وتأليبهم عليه وتحذيرهم أتباعهم من كتبه، وتشهيرهم به في كل مناسبة، ووصمهم له بالتجسيم والنصب والنفاق، ودمغوه بكل نقيصةٍ وبكل صفةٍ شنيعة، وجعله الشيعة عدوا للسنة، كذبا ونفاقا وأصبحت هذه من إحدى وسائلهم الخبيثة للعب بعقول الصوفية وللضحك على ذقون السذج من أهل السنة، وهذا واضح في شبكة الشيعة العالمية الفصل السابع " الصراع بين السنة وابن تيمية" وحشدوا تحت هذا العنوان معظم ما قاله فيه بعض العلماء المحسوبين على أهل السنة من أمثال تقي الدين السبكي والحافظ العراقي، وابن حجر الهيتمي، من قدح وذم، وحذروا من كتبه وكتب تلميذه ابن القيم، ثم أضافوا إليهما شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التاريخ المعاصر.
ثم تبع ابن تيمية رعيل آخر من المنكرين، منهم من أدركه وأخذ عليه، كالعلامة محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة748، وإسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفى سنة774هـ، فضلا عن تلميذه النجيب السالف ذكره، أعني محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية المتوفي سنة 751هـ.
ويلاحظ أن أكثر المنتقدين للصوفية من المذهب الحنبلي، وقد عُرف الحنابلة بشكلٍ عامٍ بكفاحهم الشديد حول العقيدة الإسلامية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تأثرهم " بسيرة الإمام أحمد في العلم والعمل والاهتمام بالحديث الشريف وعلومه، والعناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع التقيد بما تقتضيه هذه الفريضة" وعلى رأس هؤلاء المتأثرين – بطبيعة الحال – شيخ الإسلام ابن تيمية.
ردود الأفعال على فكر ابن تيمية
"وليس هناك من شك في أن دعوة ابن تيمية وآراءه، التي أعادت الحيوية إلي التيار السلفي السني، قد وجدت صدي خارج مصر وبلاد الشام."
إلا أن الهبّة الإصلاحية، والصحوة الدينية السلفية السنية، التي أذكاها الإمام ابن تيمية، لم تجد من يتبناها من القائمين على الأمر.
وكان القائمون بالأمر يومئذٍ هم المماليك، وكانت دولتهم قد قامت عام 1250، وهؤلاء كانوا عسكرا، نشأوا في الثكنات، وكانوا لا يجيدون سوى الفروسية والقتال، ولم يكونوا يتوفرون على حصيلة علمية أو فقهية تؤهلهم للتمييز بين الصالح والطالح والنافع والضار، والمصلح والمبطل.
وعندما، كان يثور الجدل ويحتدم الخلاف حول مسألة من المسائل، كان سلاطين المماليك يحيلون ذلك عادة إلى من حولهم من الفقهاء من المذاهب الأخرى. ونحن طبعا لا نقصد بهذا التقليل من دور المماليك، ودفاعهم عن الإسلام والأمة ضد المغول والصليبيين.
وكان سلاطين المماليك وولاتهم بشكل عام يتبعون مع تقي الدين ابن تيمية سياسة (الساخن والبارد) - كما يقولون - مجاملةً للمعارضين من جهة، واحترامًا من جهة ثانية لأفكار العالم ابن تيمية .
والأخطر من ذلك أن تلك الدعوات الإصلاحية، كانت تصطدم مع العلماء المقلدين وفقهاء السلاطين وغيرهم، من المذاهب الأخرى، وكثير من هؤلاء، كانوا يجنحون نحو التصوف ويميلون إليه، ومن ثم كانوا بطبيعتهم يناوئون دعاة المنهج السلفي التصحيحي، وينتصرون للصوفية والتصوف، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، ولم تكن تروقهم أفكار أصحاب المناهج السلفية، لا سيما وأنهم كانوا ينظرون إليها من زاوية مذهبية ضيقة، وكانوا ينتصبون لمناوأتهم، وتقريعهم، وإثارة الشبهات حولهم، وتأليف الكتب للرد على أفكارهم، ودمغهم بالخطأ والتشدد والغلو.
وبناء على ذلك فإن أعنف هجمة تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية، قد جاءت من ابن حجر الهيتمي المكي، رأس الشافعية في عصره ، والإمام المقدم الحجة في المذهب عندهم- وقد كشفت الدراسات القليلة التي أجريت حتي الآن علي أعمال ابن حجر الهيتمي – كما قال أحد المحققين - أنه لم يكن في حقيقته سوى " صوفي يدعو إلى عقيدة وحدة الوجود صراحةً".
والمهم أنه كان لهذه الهجمة الهيتمية، أسوأ الأثر على ابن تيمية، وفكره وعلى تشويه دعوته في أرجاء واسعة من بلاد الإسلام، ولازالت أقوال ابن حجر الهيتمي، في ابن تيمية من المسلمات التي لا تقبل الجدال أو الشك، لدى الصوفية، ولدى من يعتبرون أنفسهم ممثلين لمذهب الإمام الشافعي، في اليمن وكان المذهب الشافعي هو المذهب المقدم لدى المماليك – مع إعترافهم بالمذاهب الثلاثة الأخرى -.
مزايدة العثمانيين في دعم الصوفيين
فهؤلاء العثمانيين، مع سلامة نيتهم وإخلاصهم في خدمة الإسلام وقوة اندفاعتهم في الدفاع عنه وعن الأمة، ونجاحهم في رد غارات النصارى الصليبيين على بلاد المسلمين، وكسر شوكتهم، إلا أنهم، لشدة هوسهم بالمثل العليا عن العدالة والتسامح ومحبة الشعب، قد زادوا الطين بلة، فيما يتعلق بالتصوف.
وإذا كان المماليك، قبلهم يظهرون التسامح حيال الفرق الصوفية، وينتصرون لهم، وسمحوا تحت ضغط الفئات الشعبية لمجموعات الدراويش بممارسة شعائرهم وطقوسهم، وكانوا يقدمون الاحترام لزعماء الطرق الصوفية، إلا أن المماليك لم يتخلو عن تصلبهم في بعض الأمور، فقد منعوا حتى النهاية تداول مؤلفات الصوفي الأندلسي المعروف محيى الدين بن العربي ( 1164- 1240م ).
أما العثمانيون فإنهم لم يكتفوا بحماية الدراويش الصوفيين، والانتصار لهم، وإنما حولوا طرق الدراويش إلى نظام عام في الحياة الدينية، وإلى جزء لا يتجزأ من الإسلام ومن حياة المسلمين، واحتفوا أيما حفاوة بتخليد ذكر مشائخ الصوفية وبذلوا همة كبيرة في نسخ مؤلفاتهم ونشرها والعناية بقبورهم وأضرحتهم، وعلى رأس أولئك ابن العربي، الذي كان له تأثير كبير على نشوء الفكر الاجتماعي العثماني وتطوره. وإذا كانت مؤلفاته قد أحرقت في القاهرة وأغرقت في مياه النيل في عهد المماليك، فقد حفظت في اسطنبول وقونية بإجلال وأُعيد نسخها.
وفي أثناء فتوحاته لبلاد الشام ومصر أظهر السلطان سليم الأول إهتماما كبيرا بالأولياء وأمكنة العبادة التي يقدسها الشعب، وانتشرت أسطورة تقول أن الفاتح الرهيب وقف في مسجد بني أمية بدمشق، ذليلا أمام درويش رث الثياب ولم يجرؤ على مبادرته بالكلام .. بيد أن أكبر دوي كان ذاك الذي أحدثته زيارته لقبر ابن العربي في ضاحية دمشق، حيث أمر ببناء ضريح رائع له.
وقد حافظ السلطان سليم الأول على استقلال الحجاز الذاتي، كاملا واعترف بوضعها الخاص وبالحقوق الموروثة للهاشميين وتركوا لهم كافة صلاحياتهم في مكة، واكتفى العثمانيون بتولي حراسة الشواطئ البحرية وحماية الحجاج وقوافل المؤن والمواد الغذائية للمدن المقدسة، ومنذ عام 1517 ، بدأ مبعوثو السلطان سليم الأول الخاصون، يزورون مكة كل عام حيث يقومون بتوزيع الأموال والهدايا، وأصبحت هذه عادة لدى من جاء بعده من السلاطين، فكانوا يجمعون الفقراء خارج المدينة ويوزعون عليهم أموالا بالنقد الذهبي.
وهذا ما أدى إلى ازدهار حركة التصوف في شتى بقاع الإسلام، وفرض نفسه بقوة على الحياة العامة، واختلط فيه ما هو سني بما هو شيعي، نظرا لكون الكثير من الطرق باتت مخترقة من قبل مريدين شيعة، واتسع نطاق التماهي بين مؤسسة العلماء والتصوف حتي بات من الصعب، منذ القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، أن يوجد عالم مسلم بدون انتماء صوفي طرقي. وانتشرت "حمى" مجاورة البيت الحرام، في مكة في هذه المرحلة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
وبدا للصوفية في هذا العصر، أنهم قد كسبوا الجولة – جولة الصراع مع أصحاب النهج السلفي – وبأن الجو قد صفا لهم غاية الصفاء، وتمكنت طرقهم وانفردوا بالساحة الإسلامية طولا وعرضا، وأصبح لهم فيها دولا وصولجانات داخل الدول، وتخلصوا إلى الأبد من انتقادات الإمام أحمد بن حنبل، واستراحوا من أفكار تقي الدين بن تيمية وتلامذته وكتبهم التي كانت تقض مضاجعهم، وتشوش عليهم، فهاهي كتبهم وأفكارهم قد أهملت وتركها الناس وراء ظهورهم، أو وضعوها في سلة الإهمال والنسيان، ولم يعد لها أثر في الواقع، إلا في القليل النادر، وهاهم قد أصبحوا يمارسون شتى شعائرهم وطقوسهم، في أمنٍ وأمان، وبحرية تامة، بما باتت تتضمنه تلك الطقوس والشعائر من بدع وشطحات، ومن تجاوزات تمسّ العقيدة، وتجاوزات تخص الشريعة، ومن استغراق في الغيبيات وإيمان بالخزعبلات، وحلقات رقص وتمايل، بعد أن خرست ألسن العلماء عن توجيه النقد لهم، وسكتوا عن التنديد بشطحاتهم، إلا من عصم الله منهم.
تلك كانت أمانيهم. وما دروا أن ما كانوا يتمتعون به من هدوء، لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصمة، وبأن الأمة حبلى بمن سيأتي ليجدد ما أندرس من مبادىء الدين، ويقوض حصون البدع التي شُيدت على غير أساس متين، ويميط أقنعة الزيف عن وجوه الصوفية لتظهر على حقيقتها، ويعيد الاعتبار لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هو هذا القادم يا ترى؟
إنه الشيخ العالم العامل، الإمام المقدم، الداعية الإصلاحي البارز، محمد بن عبد الوهاب النجدي التميمي.
ولمتابعة قصة هذا العالم الفذ نحيل إلى مقالنا السابق الدعوة السلفية وعبقرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب االمنشور في مأرب برس في الشهر الماضي. ( نوفمبر 2008)
بقلم: أحمد الظرافي
رواد التصوف الأوائل وموقف الإمام أحمد منهم
يعتبر القرن الثالث الهجري هو القرن الذهبي لازدهار التصوف ونشأته، ففيه ظهر الجيل الأول من كبار مشائخ الصوفية المرجوع إليهم، من أمثال الحارث بن أسد المحاسبي، وذي النون المصري، وأبي سليمان الداراني، وأبي جعفر الطوسي، وأبي يزيد البسطامي، وإسحاق بن هاني النيسابوري، وإسماعيل بن إسحاق السراج، وبدر بن المنذر، وبشر بن الحارث الحافي، وحاتم الأصم، وحمدان، وسهل التستري، ومحمد بن الحسين البرجلاني الواسطي، ومعروف الكرخي، ويحيى بن معاذ ويوسف بن الحسين الرازيين، وغيرهم من كبار رواد التصوف الأوائل الذين سلكوا النهج الفلسفي في تصوفهم، وظهرت لهم أحوال ومقامات، وخرجوا عن سنن الدين الواضح.
"وقد انتشر هؤلاء ومريدوهم في الأرجاء، وملأوا بصرخاتهم الوديان وشواطئ الأنهار وبطون الصحاري وسفوح الجبال"
وفي هذا القرن – الذي يعتبر عصر الثقافات، ونشوء الفرق المتعددة الطارئة على الإسلام والمتأثرة بالثقافة الفارسية الوافدة- أمتاز الصوفية كل الامتياز عن الزهاد وطريقتهم، التي هي مراقبة سلوك المرء مع الله تعالى، والخوف منه، وترويض النفس ومجاهدتها على التحقق بالقيم الإنسانية العليا وترك سفاسفها مع عفةٍ صادقة، ورغبة خالصة في العبادة والزهد.
وكان الإمام أحمد بن حنبل ( 164ـ 241هـ/780ـ 855م(، والمنسوب إليه المذهب الحنبلي، هو أول شخصية في الإسلام، تنبهت لشطط الصوفية ومحدثاتهم وانحرافاتهم عن القواعد الشرعية، وهو أول من تصدى للرد عليهم والتحذير من بدعهم وأفكارهم الفلسفية الطارئة على الدين الإسلامي الحنيف. وكان ذلك من واقع تجربة احتكاكه بهم وجلوسه إليهم ومرافقته لهم، لفترة طويلة من الوقت.
فالإمام أحمد بن حنبل، مع صحبته الطويلة لكبار مشائخ الصوفية في عصره فإنه لم يرَ الزهد في السكوت الطويل، والاحتباس في الخلوات، والانقطاع عن منابع العلم والفقه، ولا في البكاء والنشيج، وكثرة الزعيق، وإنما رأه في القول الحكيم، والعفة الصادقة، والكتب والمحابر والعلم، دون الخروج عن الوعي والعقل، وسنة الرسول والسلف.
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل، يتهم بعض المنتمين إلى المذهب الصوفي، ويصمهم بالخروج عن الدين نهائيا، ولما عرف الإمام أحمد طريقة الحارث المحاسبي – أحد الصوفية في عصره – في الخلوة، وسمعه يتحدث في شيء من علم الكلام والصفات، كرهه وهجره وعده من أصول البلية وآفاتها، وكان أحمد ابن حنبل يقول: " احذروا من الحارث – يعني المحاسبي – أشد التحذير" وكان يقول لأصحابه بعد أن سمع بعض كلامه: لا أرى لكم أن تجالسوه.
"وقد تأثرت حياة الحارث المحاسبي بغضبة أحمد فكرهه الناس وهجروه واستخفى من العامة فلما مات – بعد أحمد بعامين – لم يصلّ عليه غير أربعة نفر."
" ولم يألُ الإمام ( أحمد ) جهدا في أن يوصي المتوكل ويشير عليه بإقصاء صنّاع البدعة والجهمية وأهل الأهواء" - رغم امتعاضه منه وابتعاده عنه- " فقد رآهم جميعا مخالفين للكتاب مختلفين فيه ومتفقين على مخالفته"
ثم تتالى بعد ذلك الإنكار على الصوفية، من قبل العلماء المتمسكين بالشريعة وبعقيدة السلف. وكان أشد ما ينكره أهل السنة المتمسكين بعقيدة السلف على الصوفية عند استكمال تعاليمهم الفلسفية في القرن الثالث هو تقديس الأولياء. " وصار ما قاله الإمام أحمد وفعله من كره طريقة الخلوة في العبادة أصلا في مذهبه ينكر الاعتراف بأي قيمة شرعية لصور العبادة التي استحدثها المتصوفة الغلاة "
وكان الصوفية بدورهم يزدرون هؤلاء العلماء ويشنعون عليهم بأنهم مشبهة وحشوية.
العوامل التي ساعدت على انتشار التصوف
ومع ذلك فلم يتراجع التصوف، بل إنه ازداد تطورا وغلوا في القرون التالية، وشكل المتصوفة فرقًا انتشرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، شرقيها وغربيها.
وفي أثناء هذه الفترة ظهر رعيل آخر من رموز الصوفية الذين كان لهم تأثير كبير في انتشار التصوف. من أمثال ابن العربي ، وجلال الدين الرومي وعبد القادر الجيلاني ، وغيرهم كثير ..
ومن العوامل التي ساعدت على إنتشار التصوف ما يلي:
1- أن بعض العلماء كانوا – ولا زالوا - يُعلون من قيمة هذه الظاهرة الدينية-
2- أن الطرق الصوفية كانت تلقى تشجيعا ودعما من قبل حكام الدويلات المستقلة، لانخداع حكام هذه الدويلات بما عليه الصوفية، وانتسابهم الظاهري، إلى السنة، وما كانت تلعبه بعض الطرق الصوفية من دور في نشر للإسلام، وهي في طور التشكل. فعلى سبيل المثال " وجد المتصوفة الرعاية من السلاجقة وقادة الجند الأتراك في الحقبة الأخيرة من الخلافة العباسية، فأسست لشيوخهم الزوايا والخانقات وأوقفت عليها الأوقاف".
3- لجوء الصوفية إلى التخفي والابتعاد عن العلماء، خشية من الاحتكاك معهم في قضايا كلامية، تفصح عن حقيقتهم.
4 - الرحلات والسياحات التي كان يقوم بها الصوفية للترويج لأفكارهم وطرقهم، وجلوسهم لتدريسها أينما حلوا.
ومن أبرز هؤلاء محي الدين ابن عربي، أو الشيخ الأكبر كما يسمونه – وهو مدرسة صوفية قائمة بذاتها - فقد شملت رحلاته وسياحاته شتى بقاع المعمورة، وكان لها الأثر البارز في نقل مجمل الآراء والأفكار والآداب الصوفية، إلى مختلف أنحاء هذا العالم. وظهر لابن العربي أتباع ومريدون في جميع البلدان التي زارها، وعمل هؤلاء على نشر مؤلفاته وشرحها وتدريسها والترويج لها.
5- تراجع مدرسة الرد على الصوفية، التي كان الحنابلة من أبرز روادها، وذلك لعدم وجود دولة أو سلطة حاكمة، تنتصر للمذهب الحنبلي، وتتولى رعاية العلماء والفقهاء المنتمين إليه، وتعمل على تعميم هذا المذهب، ونشر أفكاره وتطبيقها على أرض الواقع، أسوة بالمذاهب الأخرى.
وكما هو معروف تاريخيا فإن أغلب الدويلات التي قامت في المشرق على امتداد التاريخ الإسلامي، كانت عادة ما تنتصر للمذهب الشافعي، وأما أغلب الدويلات التي قامت في المغرب فكانت عادة ما تنتصر للمذهب المالكي.
وهذا بجانب المذهب التي كانت تقوم عليه الخلافة العباسية، وهو المذهب الحنفي. وهذه الدول أثرت في توجيه الاتجاهات العامة لدى الناس وتركت بصماتها الفكرية وثقافتها واختياراتها المذهبية.
ولولا أن المذهب الحنبلي مذهبا أصيلا، يرتكز على الكتاب والسنة، وأيضا لولا وجود أتباع مخلصين عملوا على المحافظة على هذا المذهب، لطواه التاريخ، كما طوى غيره من المذاهب عندما لم تجد من يأخذ بيدها بعد موت أصحابها، مثل مذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام سفيان الثوري ومذهب الامام زيد بن علي.
وقد جاءت مرحلة الحروب الصليبية وسلسلة الغزوات المغولية الهمجية لديار الإسلام، وما نجم عنها من خراب ودمار ومن حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي والتي بدأت بسقوط بغداد ، جاءت لتوفر الظروف المواتية لاتساع نفوذ التصوف في صفوف الفئات الاجتماعية الحضرية، ولتحوله من تيار ثقافي محدود في المجتمع والثقافة الإسلامية، إلي قوة اجتماعية - ثقافية مهيمنة.
هبّة شيخ الإسلام ابن تيمية
لقد استمر التراجع في مدرسة الرد على الصوفية، حتى القرن السابع الهجري، وهو القرن الذي جاء فيه شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (661ـ 728 هـ، 1263 ـ 1328 م).
كان ابن تيمية فقيه الشام في عصره، وامتاز بدرجة عالية، من التقوى والورع في الدين، وقد هاله ما بلغه أمر الصوفية والجهمية والرافضة في زمنه، وما كانت عليه العامة من هوس بزيارة القبور والتوسل بالأولياء، فكان أن رفع الراية، واستأنف النضال في سبيل إحياء السنة، وإعادة الصفاء لعقيدة السلف، والمنافحة عنهما، وفي تفنيد بدع المبتدعين، بكل ما أوتي من قوة وجرأة وملكات خطابية وجدالية وإنشائية. فرد بعنف على الحلاج، وابن عربي وجلال الدين الرومي، وأصحاب نظرية "وحدة الوجود"، وأنصار القول بالتوسل، وهاجم الفلسفة وأصحابها، وألحق إخوان الصفا بالنصيرية.
ولم يكن ابن تيمية مجرد ناقد وداحض لفكر المبتدعة وأصحاب الفرق الضالة، وحسب، ولكنه كان إلى جانب ذلك صاحب مشروع إصلاحي عقدي فكري. " مثلما هو بالدرجة نفسها صاحب مدرسة مازال انتشارها واسعًا حتى اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي."
"واتصف الإمام بن تيمية بالصراحة والصرامة وعنف النضال" ولم يخش في المبتدعة لومة لائم، ولم يثنه عن كشف أباطيلهم، ما تعرض له من ضغوط ومن محنٍ وحبسٍ وتنكيلٍ واضطهاد " وقد سجن - ابن تيمية - في القاهرة من أجل أفكاره من عام 706هـ =1307م إلى عام 711هـ =1311م، ورجع إلى دمشق حيث دخل السجن مرة أخرى عام 720هـ =1320م لبضعة شهور، وقد تم آخر سجن له في القلعة في شهر شعبان/ يوليو عام 726هـ =1326م بسبب الفتوى التي يشجب فيها زيارة مقابر الأولياء واستمر رهن سجن القلعة يقضي أيامه ولياليه في التأليف والعبادة حتى توفي فيه سنة728هـ.
"وقد خلف ابن تيمية من الكتب والرسائل ما لم يبلغه أحد من مصنفي المسلمين، تنقية وجدالا ومحاججة وتقريرا " وهو يعتبر مدرسة قائمة بذاتها في نقد الصوفية والرافضة وقد تركزت نظرية شيخ الإسلام ابن تيمية، في نقد الصوفية على دراسة مؤلفات ابن عربي، وتفنيد محتوياتها المخالفة، وهو الذي أثار عليه قضايا رئيسية، رددها كل من أتى من بعده من المنكرين على الصوفية، فكان العلامة ابن تيمية أول السابقين بكشفها.
وتبع ابن تيمية " في قوته وطريقته تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية، فوسع من بعده، وأكمل وحرر وخلف كتبا في اللغة والحديث والسنة والفقه والتفسير والسيرة، فصارا ينبوعين لكل وارد وصادر وضوءين لكل قادر وسائر" وقد نهل من بحرهما العلماء ودعاة الإصلاح الذين جاءوا بعدهما.
وقد كانت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية – ولا زالت - منهلا رئيسيا لكل من تصدى للرد على الصوفية من العلماء في شتى أرجاء بلاد الإسلام. بل إن أحد كبار صوفية اليمن في زبيد، واسمه محمد بن محمد المزجاجي، يزعم أن مبدأ الإنكار على الصوفية يرجع إلى ابن تيمية.
ومن هنا يأتي حقد الصوفية والرافضة على ابن تيمية رحمه الله، وتأليبهم عليه وتحذيرهم أتباعهم من كتبه، وتشهيرهم به في كل مناسبة، ووصمهم له بالتجسيم والنصب والنفاق، ودمغوه بكل نقيصةٍ وبكل صفةٍ شنيعة، وجعله الشيعة عدوا للسنة، كذبا ونفاقا وأصبحت هذه من إحدى وسائلهم الخبيثة للعب بعقول الصوفية وللضحك على ذقون السذج من أهل السنة، وهذا واضح في شبكة الشيعة العالمية الفصل السابع " الصراع بين السنة وابن تيمية" وحشدوا تحت هذا العنوان معظم ما قاله فيه بعض العلماء المحسوبين على أهل السنة من أمثال تقي الدين السبكي والحافظ العراقي، وابن حجر الهيتمي، من قدح وذم، وحذروا من كتبه وكتب تلميذه ابن القيم، ثم أضافوا إليهما شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التاريخ المعاصر.
ثم تبع ابن تيمية رعيل آخر من المنكرين، منهم من أدركه وأخذ عليه، كالعلامة محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة748، وإسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفى سنة774هـ، فضلا عن تلميذه النجيب السالف ذكره، أعني محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية المتوفي سنة 751هـ.
ويلاحظ أن أكثر المنتقدين للصوفية من المذهب الحنبلي، وقد عُرف الحنابلة بشكلٍ عامٍ بكفاحهم الشديد حول العقيدة الإسلامية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تأثرهم " بسيرة الإمام أحمد في العلم والعمل والاهتمام بالحديث الشريف وعلومه، والعناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع التقيد بما تقتضيه هذه الفريضة" وعلى رأس هؤلاء المتأثرين – بطبيعة الحال – شيخ الإسلام ابن تيمية.
ردود الأفعال على فكر ابن تيمية
"وليس هناك من شك في أن دعوة ابن تيمية وآراءه، التي أعادت الحيوية إلي التيار السلفي السني، قد وجدت صدي خارج مصر وبلاد الشام."
إلا أن الهبّة الإصلاحية، والصحوة الدينية السلفية السنية، التي أذكاها الإمام ابن تيمية، لم تجد من يتبناها من القائمين على الأمر.
وكان القائمون بالأمر يومئذٍ هم المماليك، وكانت دولتهم قد قامت عام 1250، وهؤلاء كانوا عسكرا، نشأوا في الثكنات، وكانوا لا يجيدون سوى الفروسية والقتال، ولم يكونوا يتوفرون على حصيلة علمية أو فقهية تؤهلهم للتمييز بين الصالح والطالح والنافع والضار، والمصلح والمبطل.
وعندما، كان يثور الجدل ويحتدم الخلاف حول مسألة من المسائل، كان سلاطين المماليك يحيلون ذلك عادة إلى من حولهم من الفقهاء من المذاهب الأخرى. ونحن طبعا لا نقصد بهذا التقليل من دور المماليك، ودفاعهم عن الإسلام والأمة ضد المغول والصليبيين.
وكان سلاطين المماليك وولاتهم بشكل عام يتبعون مع تقي الدين ابن تيمية سياسة (الساخن والبارد) - كما يقولون - مجاملةً للمعارضين من جهة، واحترامًا من جهة ثانية لأفكار العالم ابن تيمية .
والأخطر من ذلك أن تلك الدعوات الإصلاحية، كانت تصطدم مع العلماء المقلدين وفقهاء السلاطين وغيرهم، من المذاهب الأخرى، وكثير من هؤلاء، كانوا يجنحون نحو التصوف ويميلون إليه، ومن ثم كانوا بطبيعتهم يناوئون دعاة المنهج السلفي التصحيحي، وينتصرون للصوفية والتصوف، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، ولم تكن تروقهم أفكار أصحاب المناهج السلفية، لا سيما وأنهم كانوا ينظرون إليها من زاوية مذهبية ضيقة، وكانوا ينتصبون لمناوأتهم، وتقريعهم، وإثارة الشبهات حولهم، وتأليف الكتب للرد على أفكارهم، ودمغهم بالخطأ والتشدد والغلو.
وبناء على ذلك فإن أعنف هجمة تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية، قد جاءت من ابن حجر الهيتمي المكي، رأس الشافعية في عصره ، والإمام المقدم الحجة في المذهب عندهم- وقد كشفت الدراسات القليلة التي أجريت حتي الآن علي أعمال ابن حجر الهيتمي – كما قال أحد المحققين - أنه لم يكن في حقيقته سوى " صوفي يدعو إلى عقيدة وحدة الوجود صراحةً".
والمهم أنه كان لهذه الهجمة الهيتمية، أسوأ الأثر على ابن تيمية، وفكره وعلى تشويه دعوته في أرجاء واسعة من بلاد الإسلام، ولازالت أقوال ابن حجر الهيتمي، في ابن تيمية من المسلمات التي لا تقبل الجدال أو الشك، لدى الصوفية، ولدى من يعتبرون أنفسهم ممثلين لمذهب الإمام الشافعي، في اليمن وكان المذهب الشافعي هو المذهب المقدم لدى المماليك – مع إعترافهم بالمذاهب الثلاثة الأخرى -.
مزايدة العثمانيين في دعم الصوفيين
فهؤلاء العثمانيين، مع سلامة نيتهم وإخلاصهم في خدمة الإسلام وقوة اندفاعتهم في الدفاع عنه وعن الأمة، ونجاحهم في رد غارات النصارى الصليبيين على بلاد المسلمين، وكسر شوكتهم، إلا أنهم، لشدة هوسهم بالمثل العليا عن العدالة والتسامح ومحبة الشعب، قد زادوا الطين بلة، فيما يتعلق بالتصوف.
وإذا كان المماليك، قبلهم يظهرون التسامح حيال الفرق الصوفية، وينتصرون لهم، وسمحوا تحت ضغط الفئات الشعبية لمجموعات الدراويش بممارسة شعائرهم وطقوسهم، وكانوا يقدمون الاحترام لزعماء الطرق الصوفية، إلا أن المماليك لم يتخلو عن تصلبهم في بعض الأمور، فقد منعوا حتى النهاية تداول مؤلفات الصوفي الأندلسي المعروف محيى الدين بن العربي ( 1164- 1240م ).
أما العثمانيون فإنهم لم يكتفوا بحماية الدراويش الصوفيين، والانتصار لهم، وإنما حولوا طرق الدراويش إلى نظام عام في الحياة الدينية، وإلى جزء لا يتجزأ من الإسلام ومن حياة المسلمين، واحتفوا أيما حفاوة بتخليد ذكر مشائخ الصوفية وبذلوا همة كبيرة في نسخ مؤلفاتهم ونشرها والعناية بقبورهم وأضرحتهم، وعلى رأس أولئك ابن العربي، الذي كان له تأثير كبير على نشوء الفكر الاجتماعي العثماني وتطوره. وإذا كانت مؤلفاته قد أحرقت في القاهرة وأغرقت في مياه النيل في عهد المماليك، فقد حفظت في اسطنبول وقونية بإجلال وأُعيد نسخها.
وفي أثناء فتوحاته لبلاد الشام ومصر أظهر السلطان سليم الأول إهتماما كبيرا بالأولياء وأمكنة العبادة التي يقدسها الشعب، وانتشرت أسطورة تقول أن الفاتح الرهيب وقف في مسجد بني أمية بدمشق، ذليلا أمام درويش رث الثياب ولم يجرؤ على مبادرته بالكلام .. بيد أن أكبر دوي كان ذاك الذي أحدثته زيارته لقبر ابن العربي في ضاحية دمشق، حيث أمر ببناء ضريح رائع له.
وقد حافظ السلطان سليم الأول على استقلال الحجاز الذاتي، كاملا واعترف بوضعها الخاص وبالحقوق الموروثة للهاشميين وتركوا لهم كافة صلاحياتهم في مكة، واكتفى العثمانيون بتولي حراسة الشواطئ البحرية وحماية الحجاج وقوافل المؤن والمواد الغذائية للمدن المقدسة، ومنذ عام 1517 ، بدأ مبعوثو السلطان سليم الأول الخاصون، يزورون مكة كل عام حيث يقومون بتوزيع الأموال والهدايا، وأصبحت هذه عادة لدى من جاء بعده من السلاطين، فكانوا يجمعون الفقراء خارج المدينة ويوزعون عليهم أموالا بالنقد الذهبي.
وهذا ما أدى إلى ازدهار حركة التصوف في شتى بقاع الإسلام، وفرض نفسه بقوة على الحياة العامة، واختلط فيه ما هو سني بما هو شيعي، نظرا لكون الكثير من الطرق باتت مخترقة من قبل مريدين شيعة، واتسع نطاق التماهي بين مؤسسة العلماء والتصوف حتي بات من الصعب، منذ القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، أن يوجد عالم مسلم بدون انتماء صوفي طرقي. وانتشرت "حمى" مجاورة البيت الحرام، في مكة في هذه المرحلة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
وبدا للصوفية في هذا العصر، أنهم قد كسبوا الجولة – جولة الصراع مع أصحاب النهج السلفي – وبأن الجو قد صفا لهم غاية الصفاء، وتمكنت طرقهم وانفردوا بالساحة الإسلامية طولا وعرضا، وأصبح لهم فيها دولا وصولجانات داخل الدول، وتخلصوا إلى الأبد من انتقادات الإمام أحمد بن حنبل، واستراحوا من أفكار تقي الدين بن تيمية وتلامذته وكتبهم التي كانت تقض مضاجعهم، وتشوش عليهم، فهاهي كتبهم وأفكارهم قد أهملت وتركها الناس وراء ظهورهم، أو وضعوها في سلة الإهمال والنسيان، ولم يعد لها أثر في الواقع، إلا في القليل النادر، وهاهم قد أصبحوا يمارسون شتى شعائرهم وطقوسهم، في أمنٍ وأمان، وبحرية تامة، بما باتت تتضمنه تلك الطقوس والشعائر من بدع وشطحات، ومن تجاوزات تمسّ العقيدة، وتجاوزات تخص الشريعة، ومن استغراق في الغيبيات وإيمان بالخزعبلات، وحلقات رقص وتمايل، بعد أن خرست ألسن العلماء عن توجيه النقد لهم، وسكتوا عن التنديد بشطحاتهم، إلا من عصم الله منهم.
تلك كانت أمانيهم. وما دروا أن ما كانوا يتمتعون به من هدوء، لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصمة، وبأن الأمة حبلى بمن سيأتي ليجدد ما أندرس من مبادىء الدين، ويقوض حصون البدع التي شُيدت على غير أساس متين، ويميط أقنعة الزيف عن وجوه الصوفية لتظهر على حقيقتها، ويعيد الاعتبار لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هو هذا القادم يا ترى؟
إنه الشيخ العالم العامل، الإمام المقدم، الداعية الإصلاحي البارز، محمد بن عبد الوهاب النجدي التميمي.
ولمتابعة قصة هذا العالم الفذ نحيل إلى مقالنا السابق الدعوة السلفية وعبقرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب االمنشور في مأرب برس في الشهر الماضي. ( نوفمبر 2008)