تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نعم ... إنها حرب إلهية



FreeMuslim
11-30-2008, 06:18 AM
نعم... إنها حربٌ إلهية

سهاد عكيلة
([email protected])
عندما يُعلِن الله الحرب على فرد أو جماعة أو أمة... هل يملك هؤلاء مجتمعون مواجهة تلك الحرب أو إدارتها أو التفاوض لإيقافها؟
إنها أمرٌ مختلف في الشكل والمضمون غير الذي عَهِدناه في الحروب البشرية المعاصرة، إنها حربٌ:
- لتصويب مسار البشرية، لا لإغراقها في المزيد من الانحرافات.
- لتعديل الصورة "الإنسانية"، لا لتشويهها.
- لإنقاذ الإنسان من حفنة "مَصَّاصي دماء" سرقوا ونهبوا وأحالوا ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية إلى متسوّلين على أبوابهم يستجدون فُتات موائدهم... لا لسحقه وتدميره وقرع الكؤوس على أنغام أنّات المعذّبين في مشارق الأرض ومغاربها.
- لإقامة العدل الإلهي، لا لتكريس الظلم البشري من خلال حروبٍ ما أُقيمت إلا لزيادة أرصدة المُتْخمين والإمعان في إفقار المنكوبين.
لجميع ذلك وزيادة عليه - مما تجهله عقولنا البشرية القاصرة - أعلنها ربّ العزّة مدَوِّية: (فأْذنوا بحربٍ من الله ورسوله) (البقرة:279)، ضدّ من ظنّوا يومًا أنهم سادة الأرض المتحكِّمون بنظامها وبمصائر شعوبها، الذين فرضوا على البشرية نظامًا اقتصاديًا يتناسب مع أطماعهم ويعبِّر عن نفسيات مريضة لا تجد سعادتها إلا في شقاء الآخرين، ولا ترى لثرواتها نماءً إلا باستغلال عِوَز المحرومين...
إنها زمرة المرابين التي حكمت العالم وانقادت لها رقاب الشعوب والحكومات، التي رأت أن غاية وجود الإنسان: جمع المال من أي وجه وبأية وسيلة، والاستمتاع به كيفما اتفق، وفرض السيطرة من خلاله على الكرة الأرضية... ونتيجة لأطماعهم دفعت البشرية - قرونًا من الزمان - الأثمان الباهظة من دماء الشعوب وأمنهم وأقواتهم... واليوم جاء دورهم في دفع قيمة "الفاتورة" المتراكمة: حربًا إلهية لم يخطِّطوا لها، ولم "يتخيّلوا" حدوثها؛ صفعتهم وأصابتهم بالصدمة والذهول، وصدق الله في وصفه الدقيق لهم: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...) (البقرة:275): حقيقة ماثلة لكل معتبر؛ فالانهيارات المالية المروِّعة التي شهدتها الأسواق العالمية مؤخرًا أصابت الدول والحكومات وأصحاب البورصات والمصارف بالاضطراب والإرباك والتخبّط كالذي أُصيب بمسٍّ من الشيطان. تقول (روث سندرلاند) في مقالٍ كتبته في صحيفة "ذي أوبزيرفر": "إننا نحدق في نفق مظلم لم نشهد له مثيلاً في حياتنا، ولسنا نبالغ إن قلنا إن النظام المالي العالمي على حافة الانهيار نحو الهاوية". ويقول الفيلسوف البريطاني (جون غراي) تعليقًا على الأزمة الاقتصادية: "ما نراه اليوم هو تحوُّل تاريخي لا رجعة عنه في موازين القوى العالمية، نتيجته النهائية أنّ عصر القيادة الأمريكية للعالم قد وّلى إلى غير رجعة". أجل، وهذه هي البداية بإذن الله، والبقية تأتي تِباعًا..
وعليه، فقد سقطت ورقة التوت عن شعوب العالم "الأول" المتحضِّر الذين أوهموا قاصري العقول من الناس بأنهم يتمتعون بالسعادة الحقيقية المطلقة في ظلِّ نظامٍ من صنع أيديهم، فإذا بهذه السعادة تتبخّر بضربة واحدة، لأنها سعادة مادية زائفة مرتبطة بأرقام في البنوك، فإذا ما نقصت أو انهارت كشفت عن الوجه الحقيقي لهذه الحضارة التي أسّست القناعات لدى شعوب الأرض المسحوقة المسروقة بأنّ النظام الرِّبوي هو النظام المالي الأمثل وهو ضرورة حتمية للنموّ الاقتصادي والحضاري!
إذًا، لله الحكمة البالغة في إعلان الحرب على جريمة الربا والمرابين، لما لها من أضرار نفسية واقتصادية واجتماعية على الفرد والجماعة. فعلى الصعيد النفسي: يغذّي الربا آفة الشُّح في النفس وينمّ عن غَلَبة نزعات الطمع والجشع والفردية والأَثَرة على الإنسان، في مقابل الصدقة التي تعبِّر عن سماحة النفس والجُود والكَرَم والاستعداد للتضحية والإيثار. وعلى الصعيد الاجتماعي: فإن العلاقات الاجتماعية في مجتمع المرابين تتسم بالعداوة والبغضاء وانعدام الروابط الإنسانية واهتمام كل فرد بتحقيق مصالحه ليس إلا، ولو على حساب الآخرين، في مقابل الصدقة التي ترخي بظلالها الوارفة على المجتمع الإسلامي فيبرز التكافل الاجتماعي في أنصع صورة ويقوّي أواصر المحبة بين أفراده، ويربّي فيهم حبّ العطاء طمعًا فيما عند الله. أما على الصعيد الاقتصادي: فلنتأمل معًا الكلام الرائع الذي قاله المفكِّر العملاق – الشهيد إن شاء الله - سيّد قطب في معرض حديثه عن هذا النظام المالي الفاسد: "يُحدث الخلل في دورة المال ونموّ الاقتصاد البشري نموًّا سويًّا، وينتهي إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحطّ خلق الله وأشدّهم شرًّا، يداينون الناس أفرادًا وحكوماتٍ وشعوبًا وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها. يملكون المال والنفوذ وينشئون الأفكار التي تخدم أهدافهم المتمثلة في زيادة ثرواتهم؛ وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون كل ما يملكون، وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة"!ا.هـ، في مقابل النظام الاقتصادي الإسلامي المنبثق من قواعد الشريعة الإسلامية، الذي يحرص على معالجة مشكلات المجتمع الاقتصادية، ويحرّم كل المعاملات المالية الفاسدة التي منها الاتجار بالمحرّمات، ويضع ضوابط للمسلم في معاملاته المالية كسبًا وإنفاقًا... مما ينظّم الحياة الاقتصادية ويحقِّق العدالة الاجتماعية، ويبارك لهذا المجتمع في أمواله وفي رزقه. ومن جميل ما قرأت في هذا المعنى ما ذكره الإمام أحمد في مسنده قائلاً: "وُجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر، وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبتُ في زمن العدل"، وقد صدق الله تعالى حيث قال: (يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة:276).
وبعد الهزّة المالية العنيفة التي تلقّتها المجتمعات الرأسمالية الرِّبوية، اعترف بعض قادتها ومنظِّريها بصلاحية النظام المالي الإسلامي، وارتفعت أصواتهم منادية بتطبيق هذا النظام خروجًا من الأزمة الاقتصادية وإنقاذًا لأرصدتهم وبورصاتهم من الانهيار المروِّع... صرّح رئيس تحرير مجلة "تشالينجز" الفرنسية (بوفيس فانسون) في مقالةٍ له قائلاً: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفَهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبّقوها، ما حلّ بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري"! وقد صدق الله القائل: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون) (الصف:8).
فهل وصلت الرسالة الإلهية لمطبِّقي هذا النظام الفاسد والمنظِّرين له في بلادنا؟ وهل أيقنوا – بعد أن جرّبوا مختلف الأنظمة: الاشتراكية والرأسمالية وغيرها - أنّ قيادة العالم لا تستقيم إلا بالنظام الإلهي الكفيل بإنقاذ المجتمعات الإنسانية مما ألمّ بها من هلاك؟ قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟) (المائدة: 50).
لقد آن للأمة الإسلامية أن تُجري مراجعات شاملة من الفرد إلى الأسرة إلى مؤسسات المجتمع المدني وصولاً إلى إدارة الدولة؛ تسعى من خلالها لإعادة إحياء روح التشريع الإسلامي في جميع مرافق الحياة الإنسانية، مستفيدة من هذا الظرف التاريخي الذي هيّأه الله لها ليس لأنها "مسلمة" بالهوية أو بالميراث، وإنما لأنها مستَخْلَفة بالشروط الربّانية لقيادة البشرية، ولن تستعيد أهليتها لهذه المكانة العالمية إلا إذا تحقّقت فيها هذه الشروط.