تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المنهج التجديدي في مواجهة الانعزالية والتحريض



ali yehya
11-26-2008, 03:42 PM
في العصور الوسطى كان هناك حرص تام من قبل الإقطاع على إخضاع الأديان – خاصة السماوية منها – لسيطرته عبر إنشاء مؤسساتها الكهنوتية بنفسه وتوظيف العقائد والأفكار الصادرة عنها بما يخدم مصالحه الاقتصادية والسياسية.

الانعزالية والتحريض:
وبالتالي فقد كانت المهام الأساسية لرجال الدين التابعين لهذه المؤسسات هي التحريض سواء على السلبية السياسية، أو على الكراهية الطائفية، وإن وجدت مساحة لدى بعض رجال الدين لممارسة قدر من حرية الحركة بل وممارسة الضغوط على السلطة السياسية في بعض الأحيان كنوع من محاولة ترسيخ وتكريس قدسية هذه المؤسسات لدى المؤمنين.
وفي الوقت الذي تجاوز فيه الغرب الإقطاع تماماً عبر الثورات البرجوازية التحررية والتي رسخت تدريجياً النمط الرأسمالي في الإنتاج بما أدى لتحييد الدين بالأساس واستغلال مفردات أخرى علمانية في التحريض كالعنصرية، فمن الواضح أن الكثير من رجال الدين في الشرق مازالوا حتى الآن متمسكين بميراثهم الإقطاعي.
في حرب تموز الأخيرة.. بدا أن الأمور لم تتغير كثيراً بالرغم من التطور العلمي والاجتماعي والسياسي في بعض الدول؛ فقد انقسم رجال الدين في العالمين العربي والإسلامي في مواقفهم وردود أفعالهم إلى ثلاث أقسام، الأول وهو يمثل شريحة كبيرة للغاية لم يهتم بما يحدث أساساً وحاول بقدر الإمكان ترسيخ هذه الحالة الانعزالية بين المسلمين، والقسم الثاني تناول الحرب من منظور طائفي وكل ما كان يعنيه أن الذي يخوض المواجهة مع الكيان الصهيوني هو حركة مقاومة شيعية بما يضع إشكالاً واضحاً في التعاطف معه لدى أهل السنة، وبقى القسم الأخير وهو الأقل الذي تناولها بشكل إسلامي وإنساني عام.
إن القسمين الأولين يمثلان الجزء السلبي المسيطر على واقع رجال الدين في الشرق عموماً؛ وبالرغم من أنهم لم يكونوا بهذه القدر المتناهي من السلبية والتحريضية في تلك العصور السابقة إلا أن تمسكهم بالانتماء إلى هذه المرحلة التاريخية جعلهم يدركون بوضوح أن الوضع الحالي للعالم غير مناسب لهم ويتناقض من الناحية الحضارية مع ما تلقوه من علوم ظهرت في عصر مختلف تماماً عن العصر الذي يجب أن يتم تطبيقها عليه، الأمر الذي يجعل من العزلة المبالغ فيها، والتحريضية غير الواعية حلاً أمثل لتجنب إشكالية العلاقة بين تصورهم للعلوم الدينية وقواعد الواقع المعاصر.
ولا شك أن معظم المسلمين لديهم مثل هذا التمسك بالانتماء إلى العصور الماضية التي يعتبرونها أفضل من العصر الحالي – بلا سبب حقيقي أو منطقي - وبالتالي فليس من الغريب أن يفخر الكثير من المسلمين – سنة وشيعة – بأن شيوخهم أو مراجعهم يهجرون الدنيا وصراعاتها وتقتصر اهتماماتهم على الدعوة إلى الله والتفرغ لعبادته.

التيار التجديدي:
ومن المثير للغرابة أن هجر الدنيا يقتصر فقط على تجاهل مواجهة الظلم السياسي والاجتماعي، لكنه لا يمتد كذلك إلى هجر الصراعات الطائفية والمذهبية، فهؤلاء العلماء يرون أن التحريض باتجاه طائفة ما له الأولوية على مواجهة ظلم اجتماعي أو سياسي يتعرض له المؤمنين حتى لو كانوا ممن يعتقدون بأعلميتهم الدينية، أو حتى مواجهة احتلال أجنبي لأرض تقطنها غالبية مسلمة.
إن تداعيات الإيمان بهذا الميراث أصبحت أكثر صراحة بعد التطور والانتشار الإعلامي، عبر الإصرار على تبني القراءات والأحكام الفقهية السابقة بالرغم من وجود آيات قرآنية ومرويات عن النبي (ص) وأهل البيت (ع) تتناقض معها بوضوح، وهذا الكم من الفتاوى الغريبة التي أثارت الكثير من الجدل السلبي داخل المجتمعات الإسلامية نتيجة انعزالها الفاضح عن الواقع.
على سبيل المثال ... مازال الكثير من علماء الدين يحرص على تدريس وتدوين أحكام الرق بالرغم واقع انتهاء الرق كنظام اجتماعي في الشرق منذ القرن التاسع عشر تقريباً، ومازالت النظرة إلى الحاكم كولي للأمر واجب الطاعة دون أي اعتبار لتغير معايير اختيار الحاكم الخاضعة للانتخاب الجماهيري والمؤسسات.
في المقابل مثل بروز علماء ومراجع دين يمتلكون التجربة والخبرة العلمية بالإضافة إلى الوعي الثقافي والسياسي استفزازاً كبيراً لأنصار هذا النموذج كونه قادراً على ملامسة الواقع والتعامل مع مشكلاته برقي أكبر، كما أن مجرد وجوده يساهم في الكشف عن ما يحمله النموذج السابق من تناقضات واضحة نتيجة إصراره على الانتماء لمرحلة منتهية وغير قابلة للتكرار إذا ما اتبعنا مقولة التطور التاريخي المتصاعد.
إن تجربة علماء كالشيخ محمد عبده (ره) في المحيط السني ، وسماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله) في المحيط الشيعي وما تعرضوا له من هجوم غير مبرر على الإطلاق تشير إلى حجم استشعار الخطورة لدى النموذج القروسطي من علماء الدين تجاه بروز علماء آخرين يسعون لتجديد المؤسسات الدينية وإلغاء تبعيتها لأوضاع اجتماعية متناهية الرجعية، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً لمكانته ونفوذه الديني وتأثيره الفكري في مجتمعه، بحيث تصبح مواجهة هذا التيار التجديدي من علماء الدين ذا أولوية على مواجهة المخالفين من أتباع الأديان الأخرى.

تغيرات مستقبلية:
إن الاضطراب الديني والاجتماعي الذي يشهده العالمين العربي والإسلامي نتيجة هذا الواقع الرجعي غير المتناسق مع ما لدى الإسلام من حيوية يعد إشارة للتغيرات التي سيشهدها الواقع الإسلامي مستقبلاً، خاصة مع حالة الاستهداف الذي تقوم به جهات معينة للإسلام عموماً، وبالرغم من سلبيات هذا الهجوم وضرورات مواجهته بكل تأكيد إلا أن ارتكازه في هذا الهجوم على أفكار رجعية تكتسب قدسيتها من رسوخها الاجتماعي لا أكثر، يساهم بدرجة كبيرة في إعادة تحريك المياه التي حرص الجميع على إبقاءها راكدة بقدر الإمكان، والبحث في القيمة الدينية الحقيقية لهذه الأفكار أكثر من الاعتياد المجتمعي لها.
إن القاعدة التاريخية تشير إلى أن الاضطراب الاجتماعي أو الديني ينتج دائماً حالة تجديدية تؤدي في الأغلب لتشكيل واقع أكثر قوة وتماسكاً، ومن الواضح أن حالة الاضطراب المتكاملة التي تشهدها المنطقة في الفترة الأخيرة سوف تؤدي إلى تجاوز هذا الميراث السلبي وإعادة تشكيل تصورات المسلمين حول الكثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، كما ستؤدي كذلك لتغيير رؤيتهم لما يجب أن يكون عليه دور الدين ودور علمائه.

باباك خورمدين
نشر في جريدة بينات العدد 291
http://vb.al-adwaa.net/showthread.php?p=128275#post128275