Ghiath VI
11-18-2008, 12:13 AM
لا أثر للدولة في «الضاحية» الأكثر اكتظاظا وبؤساًً في شمال لبنان إلا عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية ... شبان من باب التبانة يحاولون بـ«الجهاد» الانتقام من مجتمع لم ينصفهم
ارتفع صوت المؤذن يدعو إلى أداء صلاة العصر من جامع حربة في منطقة باب التبانة في طرابلس، فألقى أبو بكر جانباً صندوق الخضار الذي كان يحمله ونفض عن يديه ما علق بهما من تراب ثم مسحهما بطرف قميصه مستأذناً معلّمه، ومضى الى الصلاة. الجامع الذي يرتاده أبو بكر ويقول إنه اختاره للخطب الحماسية والمقنعة التي تلقى فيه، قريب جداً من السوق حيث يعمل عتالاً كغيره من أبناء حزام البؤس المترامي عند الطرف الشمالي لمدينة طرابلس. في ذلك اليوم لم يعمل أبو بكر وردية كاملة في نقل صناديق من شاحنات المزارعين الى محل معلمه، وبالتالي لن يستحق أجره اليومي الذي لا يتجاوز عشرين ألف ليرة لبنانية، لكنه قال إنه قام بمهمة سامية تستحق التضحية لأجلها بنهار عمل. ففي ذلك اليوم عمل أبو بكر وبعض أصدقائه من «الشباب المؤمن» بنصيحة إمام الجامع الذي كان تحدث في خطبته عن وجوب استبدال «راية الرسول» برايات الكفار. وانهمك الشباب بتوزيع أعلام سوداء خط عليها شعار «لا إله إلا الله» على المنازل التي رفع شبابها على شرفاتهم أعلام فريقهم المفضل في نهائيات كأس العالم لكرة القدم.
أبو بكر قال إن الرايات السوداء التي وزعوها إلى أن انتشرت بكثافة في أزقة باب التبانة الضيقة والموحلة، تتماشى مع الواقعة الحزينة التي حلت بالمسلمين منذ بضعة أيام، وهي مقتل «الشيخ أبو مصعب». فضلاً عن أنها «في مطلق الأحوال تبقى أفضل من أعلام الكفار»، إذ لا داعي لأن يدعم الشباب دولاً تقتل المسلمين في العراق وفلسطين. وليس ما يقنع الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره بأن البرازيل مثلاً أو الأرجنتين أو غيرهما من الدول المشاركة في المونديال، لم تشارك في الحرب على العراق. ولعل المرة الوحيدة التي سمح فيها أبو بكر لنفسه ببعض المشاركة في هذا السياق كان شعوره بالسعادة لخسارة المنتخب الإيراني المباراة أمام منافسه المكسيكي. فتلك بالنسبة اليه فرصة للشماتة «ممن أطلقوا العيارات النارية فرحاً بمقتل الشيخ الزرقاوي في بعض المناطق».
وأبو بكر حديث العهد بالالتزام الديني، فهو قبل عام قرر أن يصلي ويصوم ويلتحق بالسلفية مبدأ له تكفيراً عن ذنوبه السابقة. فباعتقاده أنه كلما تشدد في التدين، عوض ما فاته. ذلك أن السنوات السابقة من عمره شهدت فترات من إدمان المسكرات وحبوب الأعصاب... وطبعاً «التشطيب»، وهي الكلمة الشائعة لما يسمى بإيذاء الذات. فإلى جانب الأوشام المتعددة وأبرزها الصليب النازي المعقوف، لا تزال ذراعا أبي بكر وساقاه ومناطق أخرى من جسمه لم يكشفها، تعاني آثار جروح الشفرات وإطفاء أعقاب السجائر وحروق بأسياخ الحديد الحامية. ويخبر أبو بكر تلك التجارب التي مر بها كسمة طبيعية ترافق الانتقال من الطفولة الى الرجولة في منطقته، إذ يندر أن يلمح الزائر شاباً في السوق تخلو ذراعاه ويداه وأحياناً وجهه من الندوب المفتعلة والأوشام الصادمة. هي علاقة معقدة ومضطربة بالجسد لا تترجم سوى بالعنف الموجه ضد الذات أو ضد الآخر. وعندما يستعرض أبو بكر قصة كل جرح أو حرق، يترافق كلامه بتفاصيل عن حبيبة لم يسمح له أهلها بالتودد إليها، فكان يحادثها من فوهة الأنابيب التي تمتد بين الطبقة السادسة حيث يسكن هو والرابعة حيث تسكن هي، أو بصديق سجن لضلوعه في مشكل فأطلق النار من مسدس غير مرخص، أو بأسابيع كاملة مرت على الأرصفة من دون عمل ولا قوت. كان الشاب والحال على ما هي عليه يلتقي شلته ويبدأون بجرح أنفسهم وهم غالباً تحت تأثير المخدر وأغان عاطفية لكاظم الساهر وهاني شاكر. ويبدأ الطقس بأن يقوم أحد الشباب بشطب نفسه «على نية فلان أو فلانة» فيلحقه الباقون وهكذا دواليك إلى أن تفرّغ شحنات الألم الداخلي وتملأ الدماء المكان. فأبو صدام مثلاً يقول إنه عندما يغضب لا شيء يهدئه حتى الآن سوى رؤية دمه يسيل. ويروي أبو بكر أنه ذات ليلة فيما كان الضجر يتآكله وبقية أفراد العائلة نيام، قام الى المطبخ يحمي سيخاً ويحرق به رجله لـ «اتسلى بنفسي» كما يقول، فاستفاقت الوالدة على رائحة احتراق وغابت عن الوعي لشدة غضبها، وعندما عادت إلى رشدها طردت ابنها من المنزل.
والاحتقان الممزوج بالمرارة والغضب شعور يتشاطره غالبية أبناء المنطقة التي تعيش على إيقاع سوق الخضار ووتيرة ورش الميكانيك. فالحي المحروم إلا من الكثافة السكانية، لا يمنح قاطنيه أي سبب فعلي لعدم التشنج، أو اعتدال المشاعر. ذاك أن للسوق أعرافاً يسنها الفتوات والقبضايات ويفرضونها بقوة الساعد والسلاح على التجار والعتالين، وهم بدورهم يقدمون لهم الولاء والطاعة مقابل حفظ أمنهم وحماية أرزاقهم. دينامية داخلية راسخة، لا تتوقف عند مدونة سلوك خاصة يلتزم بها الطرفان وإنما تتخطاها إلى دفع خاوات مادية وتقديم هدايا عينية من بطاقات شحن الخليوي، إلى قطع غيار للسيارة، وغيرها من الخدمات التي ترضي الفتوة وتبعد عنهم شر غضبه. والفتوة في منطق السوق، لا يتصرف على هذا النحو بدافع الشر أو الإساءة وإنما لمروءة وشهامة في نفسه. فجسده القوي وعضلاته المفتولة ليست ملكاً له وحده وإنما هي أيضاً للحي الذي يجب أن يستفيد من حمايتها. وهذه مسؤولية كبيرة في منطقة مكتظة معزولة، يفصلها عن المدينة نهر أبو علي ويحاصرها جبل العلويين الذين تربطهم بأبناء التبانة عداوات وثارات دم.
ارتفع صوت المؤذن يدعو إلى أداء صلاة العصر من جامع حربة في منطقة باب التبانة في طرابلس، فألقى أبو بكر جانباً صندوق الخضار الذي كان يحمله ونفض عن يديه ما علق بهما من تراب ثم مسحهما بطرف قميصه مستأذناً معلّمه، ومضى الى الصلاة. الجامع الذي يرتاده أبو بكر ويقول إنه اختاره للخطب الحماسية والمقنعة التي تلقى فيه، قريب جداً من السوق حيث يعمل عتالاً كغيره من أبناء حزام البؤس المترامي عند الطرف الشمالي لمدينة طرابلس. في ذلك اليوم لم يعمل أبو بكر وردية كاملة في نقل صناديق من شاحنات المزارعين الى محل معلمه، وبالتالي لن يستحق أجره اليومي الذي لا يتجاوز عشرين ألف ليرة لبنانية، لكنه قال إنه قام بمهمة سامية تستحق التضحية لأجلها بنهار عمل. ففي ذلك اليوم عمل أبو بكر وبعض أصدقائه من «الشباب المؤمن» بنصيحة إمام الجامع الذي كان تحدث في خطبته عن وجوب استبدال «راية الرسول» برايات الكفار. وانهمك الشباب بتوزيع أعلام سوداء خط عليها شعار «لا إله إلا الله» على المنازل التي رفع شبابها على شرفاتهم أعلام فريقهم المفضل في نهائيات كأس العالم لكرة القدم.
أبو بكر قال إن الرايات السوداء التي وزعوها إلى أن انتشرت بكثافة في أزقة باب التبانة الضيقة والموحلة، تتماشى مع الواقعة الحزينة التي حلت بالمسلمين منذ بضعة أيام، وهي مقتل «الشيخ أبو مصعب». فضلاً عن أنها «في مطلق الأحوال تبقى أفضل من أعلام الكفار»، إذ لا داعي لأن يدعم الشباب دولاً تقتل المسلمين في العراق وفلسطين. وليس ما يقنع الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره بأن البرازيل مثلاً أو الأرجنتين أو غيرهما من الدول المشاركة في المونديال، لم تشارك في الحرب على العراق. ولعل المرة الوحيدة التي سمح فيها أبو بكر لنفسه ببعض المشاركة في هذا السياق كان شعوره بالسعادة لخسارة المنتخب الإيراني المباراة أمام منافسه المكسيكي. فتلك بالنسبة اليه فرصة للشماتة «ممن أطلقوا العيارات النارية فرحاً بمقتل الشيخ الزرقاوي في بعض المناطق».
وأبو بكر حديث العهد بالالتزام الديني، فهو قبل عام قرر أن يصلي ويصوم ويلتحق بالسلفية مبدأ له تكفيراً عن ذنوبه السابقة. فباعتقاده أنه كلما تشدد في التدين، عوض ما فاته. ذلك أن السنوات السابقة من عمره شهدت فترات من إدمان المسكرات وحبوب الأعصاب... وطبعاً «التشطيب»، وهي الكلمة الشائعة لما يسمى بإيذاء الذات. فإلى جانب الأوشام المتعددة وأبرزها الصليب النازي المعقوف، لا تزال ذراعا أبي بكر وساقاه ومناطق أخرى من جسمه لم يكشفها، تعاني آثار جروح الشفرات وإطفاء أعقاب السجائر وحروق بأسياخ الحديد الحامية. ويخبر أبو بكر تلك التجارب التي مر بها كسمة طبيعية ترافق الانتقال من الطفولة الى الرجولة في منطقته، إذ يندر أن يلمح الزائر شاباً في السوق تخلو ذراعاه ويداه وأحياناً وجهه من الندوب المفتعلة والأوشام الصادمة. هي علاقة معقدة ومضطربة بالجسد لا تترجم سوى بالعنف الموجه ضد الذات أو ضد الآخر. وعندما يستعرض أبو بكر قصة كل جرح أو حرق، يترافق كلامه بتفاصيل عن حبيبة لم يسمح له أهلها بالتودد إليها، فكان يحادثها من فوهة الأنابيب التي تمتد بين الطبقة السادسة حيث يسكن هو والرابعة حيث تسكن هي، أو بصديق سجن لضلوعه في مشكل فأطلق النار من مسدس غير مرخص، أو بأسابيع كاملة مرت على الأرصفة من دون عمل ولا قوت. كان الشاب والحال على ما هي عليه يلتقي شلته ويبدأون بجرح أنفسهم وهم غالباً تحت تأثير المخدر وأغان عاطفية لكاظم الساهر وهاني شاكر. ويبدأ الطقس بأن يقوم أحد الشباب بشطب نفسه «على نية فلان أو فلانة» فيلحقه الباقون وهكذا دواليك إلى أن تفرّغ شحنات الألم الداخلي وتملأ الدماء المكان. فأبو صدام مثلاً يقول إنه عندما يغضب لا شيء يهدئه حتى الآن سوى رؤية دمه يسيل. ويروي أبو بكر أنه ذات ليلة فيما كان الضجر يتآكله وبقية أفراد العائلة نيام، قام الى المطبخ يحمي سيخاً ويحرق به رجله لـ «اتسلى بنفسي» كما يقول، فاستفاقت الوالدة على رائحة احتراق وغابت عن الوعي لشدة غضبها، وعندما عادت إلى رشدها طردت ابنها من المنزل.
والاحتقان الممزوج بالمرارة والغضب شعور يتشاطره غالبية أبناء المنطقة التي تعيش على إيقاع سوق الخضار ووتيرة ورش الميكانيك. فالحي المحروم إلا من الكثافة السكانية، لا يمنح قاطنيه أي سبب فعلي لعدم التشنج، أو اعتدال المشاعر. ذاك أن للسوق أعرافاً يسنها الفتوات والقبضايات ويفرضونها بقوة الساعد والسلاح على التجار والعتالين، وهم بدورهم يقدمون لهم الولاء والطاعة مقابل حفظ أمنهم وحماية أرزاقهم. دينامية داخلية راسخة، لا تتوقف عند مدونة سلوك خاصة يلتزم بها الطرفان وإنما تتخطاها إلى دفع خاوات مادية وتقديم هدايا عينية من بطاقات شحن الخليوي، إلى قطع غيار للسيارة، وغيرها من الخدمات التي ترضي الفتوة وتبعد عنهم شر غضبه. والفتوة في منطق السوق، لا يتصرف على هذا النحو بدافع الشر أو الإساءة وإنما لمروءة وشهامة في نفسه. فجسده القوي وعضلاته المفتولة ليست ملكاً له وحده وإنما هي أيضاً للحي الذي يجب أن يستفيد من حمايتها. وهذه مسؤولية كبيرة في منطقة مكتظة معزولة، يفصلها عن المدينة نهر أبو علي ويحاصرها جبل العلويين الذين تربطهم بأبناء التبانة عداوات وثارات دم.