تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية للدكتور الصلابي



شيركوه
11-11-2008, 06:39 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية
( 1 )
أولاً : جذور الشيعة الإسماعيلية والدولة الفاطمية :
بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين ممن نسبوا أنفسهم إلى جعفر الصادق ، فرقة ساقت الإمامية إلى ابنه موسى الكاظم، وهؤلاء هم الشيعة الاثنى عشرية ، وفرقة نفت عنه الإمامة وقالت : إن الإمام بعد جعفر هو ابنه إسماعيل ، وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعيلية(1).
قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعيلية : وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر ، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل (2) وقال الشهرستاني : الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر ، وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر ، قالوا : ولم يتزوج الصادق رحمه الله على أمه - أم إسماعيل - بواحدة من النساء ، ولا تسرى بجارية ، كسنة رسول الله في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها (3).
فالإسماعيلية إحدى فرق الشيعة ، وهي تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب الإسماعيلية ، منها الباطنية، وإنما أطلق عليهم هذا اللقب لقولهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلا، ومنهم القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق، ويطلق عليهم في خراسان التعليمية الملحدة ، وهم لايحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون : نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم (4).
وقد قامت الدولة الفاطمية الرافضية عام 296ﻫ/909م في الشمال الأفريقي على يدي أبو عبد الله الشيعي بعد سقوط القيروان أمام قواته ، وهروب زيادة التغلبي إلى مصر في جماد الآخرة عام 296ﻫ (5) وكانت بيعة عبيد الله المهدي في القيروان عام 297ﻫ/910م وانتهت ولاية أبي عبد الله الشيعي بعد أن دامت عشر سنوات على قول بعض المؤرخين (6).
1- عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي الأول :
هو عبيد الله أبو محمد أول من قام من الخلفاء العُبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنو مذهب الإسماعيلية ، وبثوا الدُّعاة يستغوون الجبليَّة والجهلة (7) ، وذكر الذهبي ما قيل عنه في نسبه ثم قال : والمحققون على أنه دعيُّ بحيث إنَّ المعزَّ منهم لما سأله السيد ابن طَبَاطَبا عن نسبه، قال غدا أخرجه لك، ثم أصبح وقد ألقى عُرَمة من الذهب، ثم جَذبَ نِصْف سيفه من غمِدِه فقال : هذا نسبي، وأمرهم بنهب الذهب، وقال : هذا حسبي (8).

وأما مفتي الديار الليبية رحمه الله الشيخ طاهر الزاوي فقد قال في ترجمة عبيد الله المهدي : هو مؤسسة الدولة العبيدية ، وأول حاكم فيها ، وهو عراقي الأصل، ولد في الكوفة سنة 260ﻫ واختبأ في بلدة سلمَّية ، بؤرة الإسماعيلية الباطنية في شمال الشام ، ومن يوم أن ولد إلى أن استقر في سلميَّة كان يعرف باسم سعيد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح، وفي منطقة سَلَمَّية مقر الإسماعيلية مات علي بن حسن بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأقام له الإسماعيلية مزارات سرية، وقرروا نقل الإمامة من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق إلى ابنهم بالنكاح الروحي (9) ، ثم قال : هذا أصل عبيد الله المهدي، وهذا أصل العبيديين المنسوبين إليه (10) .

ويذكر أن عبيد الله الشيعي عندما دخل إفريقيا " يعني تونس " : أظهر التشيع القبيح ، وسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، حاشا علي بن أبي طالب والمقداد وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبا ذر الغفاري، وزعم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدود بعده غير هؤلاء الذين ذكروا (11).

وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر كأنهم ذمة (12) تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم ونصبوا حسيناً الأعمى السباب - في الأسواق للسب بأسجاع لُقَّنها يتوصل منها إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم في ألفاظ حفظها (13) مثل؛ العنوا الغار وما وعى ، والكساء وما حوى ، وغير ذلك ، والغار المقصود منه غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه عن أعين المشركين التي كانت تطاردهم في قصة الهجرة، وهذا اللفظ فيه سب للبني صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على حد سواء ، وكذلك فيه سب لآل البيت الذين حواهم الكساء (14).

وعلقت رؤوس الأكباش والحمر على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة مكتوب عليها أسماء الصحابة، واشتد الأمر على أهل السنة، فمن تكلم أو تحرك قتل ومثَّل به (15).

2- من جرائم العبيديين في الشمال الأفريقي :

ارتكب الشيعة الرافضة الإسماعيلية جرائم نكرة منها :

أ‌-غلو بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي : حتى إنه أنزله منزلة الإله ، وأنه يعلم الغيب، وأنه نبي مرسل، يقول بدر الدين بن قاضي شهبة : وكان له (أي المهدي) دعاة بالمغرب يدعون الناس إليه، وإلى طاعته،

ويأخذون عليهم العهود ، ويلقون إلى الناس من أمره بحسب عقولهم، فمنهم من يلقون إليه أن المهدي ابن رسول الله وحجة الله على خلقه، ومنهم من يلقون إليه أنه الله الخالق الرازق (16) .

وأما زعمهم بأنه إله فيظهر من أفعال دعاته وأقوالهم وأشعارهم، فقد كان هناك رجل يدعى أحمد البلوي النحاس : يصلي إلى رقادة أيام كان عبيد الله بها، وهي منه إلى المغرب، فلما انتقل إلى المهدية وهي منه إلى الشرق صلى إليها (17) باعتبار أنها مكة المكرمة - شرفها الله - وهذا الاعتقاد كان سائداً عند كثير من الناس يومها، فهذا أحد شعراء بني عبيد يقول في المهدية بعد انتقال المهدي إليها:

ليهنك أيها الملك الهمام ٭٭ قدوم فيه للدهر ابتسام


بأرض الغرب دار ٭٭ بها الصلوات تقبل والصيام


مهدية الحرم الموقى٭٭ كما بتهامة البلد الحرام


كأن مقام إبراهيم فيه ٭٭ ترى قدميك إن عدم المقام


وإن لثم الحجيج الركن أضحى ٭٭ لنا بعراص قصركم التثام


لك الدنيا وسلك حيث كنتم ٭٭ فكلكم لها أبداً إمام (18)

ومن الشعر أيضاً في تأليهه ما مدحه به محمد البديل حيث يقول :

برقادة المسيح ٭٭ حل بها آدم ونوح

حل بها أحمد المصطفى ٭٭ حل بها الكبش والذبيح
وأما زعمهم أنه كان يعلم الغيب، فيظهر من إيمان بعضهم حيث كان إذا أقسم يقول : وحق عالم الغيب والشهادة مولانا الذي برقادة (19). ومعرفة الغيب من خصوصيات الألوهية ولا يعلم الغيب إلا الله قال تعالى : " قل لا يعلم من السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " (النمل : 65) وقال تعالى : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " (الأنعام، آية : 59). كما أن الحلف لا يكون بمخلوق وإنما يكون بالخالق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وجاءت الأحاديث في النهي عن الحلف بالآباء (20).
ب- التسلط والجور : وإعدام كل من يخالف مذهبهم، هذا بالإضافة إلى كل ما ذكرناه آنفاً على لسان القاضي عياض في طعنهم في الصحابة ، وتعليق رؤوس الأكباش - الدالة في زعمهم على أسماء الصحابة ، وغير ذلك من الأفعال القبيحة والشنيعة التي كانوا يقومون (21) بها ، وكان أجبار الناس على الدخول في مذهبهم بوسيلة التخويف بالقتل ، وقد نفذوا حكم الإعدام في أربعة آلاف رجل مرّة واحدة ، قال القابسي : إن الذين ماتوا في دار البحر - سجن العبيديين - بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب ، ما بين عالم وعابد ورجل صالح (22).

هذا عدا من كانوا يقتلون دون سجن ، ويمثل بهم في شوارع القيروان، فأثر ذلك على سير الحياة العلمية ، ومع ذلك فإن هذه المحنة لم تزد أهالي المغرب الإسلامي إلا عزيمة وصبراً واحتساباً وتمسكاً بالكتاب والسنة.

ت - تحريم الإفتاء على مذهب الإمام مالك : حرّموا على الفقهاء الفتوى بمذهب الإمام مالك، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل أحياناً، ويعقب ذلك نوع من الإرهاب النفسي، حيث يدار بالمقتول في أسواق القيروان وينادى عليه : هذا جزء من يذهب مذهب مالك، ولم يبُيحوا الفتوى إلا لمن كان على مذهبهم، كما فعلوا بالفقيه المعروف بالهزئي : أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد المتوفي في عام تسع وعشرين وثلاثمائة (23) .

ث- إبطال بعض السنن المتواترة والمشهورة : والزيادة في بعضها كما فعلوا في زيادة : حي على خير العمل : في الأذان وإسقاط صلاة التراويح (24) ، بعد أن تُرك الناس يصلونها عاماً واحداً، ولهذا ترك أكثر الناس الصَلاة في المساجد ، ويا ويح من يسقط عبارة : حي على خير العمل من الأذان، من ذلك ماروي أن عروسى المؤذن ت 317ﻫ وكان مؤذناً في أحد المساجد، شهد عليه بعض الشيعة أنه لم يقل في أذانه حي على خير العمل فكان جزاؤه أن قطع لسانه ، ووضع بين عينيه وطيف به في القيروان ثم قتل (25) .

إلا أن بعض العلماء فطن لكيد العبيديين وأغراضهم الخبيثة من وراء ذلك وهو إخلاء المساجد من المصلين، ودفعاً لهذه المفسدة أذنوا للمؤذنين أن يزيدوا حي على خير العمل : لأن تركها يؤدي إلى مفاسد أعظم ، ومن هؤلاء العلماء أبو الحسن علي بن محمد بن مسرور العبدي الدباغ ت 359ﻫ (26)، الذي كان من أهل الورع والعبادة والخشوع فقد فطن لغرض العبيديين، فكانوا أن قال للمؤذنين : أذنوا على السنة في أنفسكم فإذا فرغتم فقولوا : حي على خير العمل، فإنما أراد بنو عبيد إخلاء المساجد لَفِعلُكم هذا - وأنتم معذورون - خير من إخلاء المساجد(27).

ج- منع التجمعات : حرصت الدولة الفاطمية الرافضية على منع التجمعات خوفاً من الثورة والخروج عليهم ، ولذلك جعلوا بوقاً يضربونه في أول الليل ، فمن وجُد بعد ذلك ضرب عنقه، كما أنهم كانوا يفرقون الناس الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء (28)، وهذا الفعل لا يزال مستمراً في الأنظمة القمعية البوليسية التي لا ترى إلا ما يراه حاكمها وطاغوتها وفرعونها " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " (غافر، آية : 29).

ح- إتلاف مصنفات أهل السنة : أتلفوا مصنفات أهل السنة، ومنعوا الناس من تداولها ، كما فعلوا بكتب أبي محمد ابن أبي هاشم التُّجبي ت 346ﻫ توفي وترك سبعة قناطير كتب، كلها بخط يده، فرفعت إلى سلطان بني عبيد فأخذها : ومنع الناس منها كيداً للإسلام وبغضاً فيه(29).

خ- منع علماء أهل السنة من التدريس : منعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد، ونشر العلم، والاجتماع بالطلاب، فكانت كتب السنة لا تقرأ إلا في البيوت خوفاً من بني عبيد ، فكان أبو محمد بن أبي زيد، وأبو محمد بن التبان وغيرهما، يأتيان إلى أبي بكر بن اللباد شيخ السنة بالقيروان في خفية، ويجعلان الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوفاً من بنى عبيد (30) .

وهذا المسلك لا زالت الدول القمعية في العالم الإسلامي تمارسه على شعوبها فبعضها تمنع هذا الأمر كليَّا، وبعضها تسمح ببعض أمور الدين التي لا تصطدم مع مصالح الدول الكبرى.

س- عطلوا الشرائع، وأسقطوا الفرائض عمّن تبع دعوتهم حيث يقع إدخالهم إلى داموس ، ويدخل عليهم عبيد الله لابساً فرواً مقلوباً داباً على يديه ورجليه فيقول لهم : (بَح) ثم يخرجهم ويفسر لهم هذا العمل بقوله : فأما دخولي على يدي ورجلي فإنما أردت بذلك أن أعلمكم أنكم مثل البهائم لا شيء، ولا ضوء ولا صلاة، ولازكاة، ولا أي فرض من الفروض، وسقط جميع ذلك عنكم، وأما لباس الفرو مقلوبا فإنما أردت أن أعلمكم أنكم قلبتم الدين، وأما قولي لكم بَح، فإنما أردت أن أعلمكم أن الأشياء كلها مباحة لكم من الزنى وشرب الخمر (31)

ش- إجبار الناس على الفطر قبل رؤية الهلال : وكانوا كثيراً ما يجبرون الناس على الفطر قبل رؤية هلال شوال (32) ، بل قتلوا من أفتى بأن لا فطر إلا مع رؤية الهلال ، كما فعلوا بالفقيه ابن الحُبلى قاضي مدينة برقة قال الذهبي في ترجمته : الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة، محمد بن الحُبُلى أتاه أمير برقة، فقال : غداً العيد، قال : نرى الهلال، ولا أفطر الناس، وأتقلَّد إثمهم، فقال : بهذا جاء كتاب المنصور - وكان هذا من رأي العبيدية يفطَّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية - فلم يُر هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد فقال القاضي : لا أخرج ولا أصلى، فأمر الأمير رجلاً خطب ، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه، فأحضر، فقال له : تَنصَّلْ، وأعفو عنك، فامتنع، فأمر، فُعلقَِّ في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش، فلم يُسقَ، ثم صلبوه على خشبة ، فلعنة الله على الظالمين . (33)

ع- إزالة آثار خلفاء السنة : عمل حكّام الدولة الفاطمية في المغرب الإسلامي على إزالة آثار بعض من تقدمهم من الخلفاء السنيين ، فقد أصدر عبيد الله أمراً بإزالة أسماء الحكام الذين بنو الحصون والمساجد ، وجعل اسمه بديلاً منهم ، واستول هذا الشيعي الرافضي الباطني على أموال الأحباس وسلاح الحصون، وطرد العَّباد والمرابطين بقصر زياد الأغلبي وجعله مخزناً للسلاح(34).

ل- دخول خيولهم المساجد : من جرائم عبيد الله الكثيرة أن خيله دخلت المسجد، فقيل لأصحابها : كيف تدخلون المسجد ؟ فقالوا : إن أوراثها وأبوالها طاهرة؛ لأنها خيل المهدي، فأنكر عليهم قيم المسجد، فذهبوا به إلى المهدي فقتله، يقول ابن عذارى : وامتحن عبيد الله في آخر حياته بعلة قبيحة : دود في آخر مخرجه يأكل أحشاءه فلم يزل به حتى هلك (35).

إن المسلمين المعاصرين يقرءون تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية لا يعلمون إلا ما كتب لهم عن التاريخ السياسي لهذه الدولة، ذهب فلان وخلفه فلان، وأنها دولة تحب العلم وتنشره، والمقصود نشر كتب الفلاسفة ، ولكن القليل من يذكر بطش هؤلاء الباطنية بالعلماء من أهل السنة، بل إن الطلبة الذين يدرسون التاريخ الإسلامي يذكرون المعز لدين الله الفاطمي وكأنه بطل من أبطال التاريخ، وهذا كله نتيجة لغياب التفسير العقدي الإسلامي لتاريخنا، بل إن بعض المؤرخين الذين كتبوا لنا التاريخ تأثروا بمدارس الاستشراق، أو بالفكر الشيعي الرافضي، وبذلت لهم الأموال لطمس الحقائق وتزوير التاريخ، ولا زال الصراع الباطني والإسلامي ممتداً إلى يومنا هذا، فالأفكار لا تموت وإنما تتغير الأشكال والوجوه والمسوح ، وأن أعداء الإسلام لا يزالون يعملون سراً وإعلاناً ، ليلاً ونهاراً للقضاء على العقيدة الصحيحة التي تلقتها الأمة من الحبيب المصطفى وأصحابه الغر الميامين وأهل بيته الطاهرين الطيبين رضي الله عنهم أجمعين.

المصدر : موقع التاريخ

الهوامش:

1- الدولة الفاطمية العبيدية للصَّلاَّبي ص 35.

2- الفرق بين الفرق ص 62.

3- الملل والنحل (1/191).

4- المصدر نفسه (1/192).

5- موسوعة المغرب العربي (2/60).

6- المرجع السابق (2/70).

7- سير أعلام النبلاء (15/141).

8- المصدر نفسه (15/142).

9- تاريخ الفتح العربي في ليبيا ص 253.

10- الدولة الفاطمية العبيدية للصَّلاَّبي ص 47.

11- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 291.

12- ترتيب المدارك (2/318).

13- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 291.

14- المصدر نفسه ص 291.

15- الكواكب الدرية في السيرة النورية ص 204 - 205.

16- البيان المغرب (1/258 - 259).

17- البيان المغرب (1/221).

18- المصدر نفسه (1/221).

19- كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ص 90.

20- جهود علماء المغرب ص 312.

21- مدرسة الحديث بالقيروان (1/76).

22- رياض النفوس (2/56).

23- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 309.

24- البيان المغرب (1/182 - 183).

25- ترتيب المدارك (2/525 - 528).

26- ترتيب المدارك (2/526).

27- رياض النفوس (2/29).

28- المصدر نفسه (2/423).

29- مدرسة الحديث بالقيروان (1/76).

30- رياض النفوس (2/504).

31- مدرسة القيروان (1/73).

32- سير أعلام النبلاء (15/374).

33- رياض النفوس (2/29).

34- أيعيد التاريخ نفسه محمد العبده ص 39.
35- مقدمة حسين مؤنس على رياض النفوس ص 17.

شيركوه
11-11-2008, 06:42 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية ( 2 )
أساليب المغاربة في مواجهة الدولة الفاطمية العبيدية
لقد سلك علماء السنة المغاربة في مقاومة التشيع أساليب عديدة، منها المقاومة السلبية ، والمقاومة الجدلية والمقاومة المسلحة، وكانت هناك أنواع أخرى من المقاومة ، مثل التأليف ونظم الشعر .. إلخ.
أ‌-المقاومة السلبية : أولى الوسائل التي استعملها علماء المغرب السنة هي مقاطعة كل ماله صلة بالتشيع، أو بالحكم القائم ، وتمثلت تلك المقاطعة في مقاطعة قضاة الدولة وعمالها، ورفض من استطاع منهم دفع الضرائب لها (1) ومن مظاهر هذه المقاومة مقاطعة حضور صلاة الجمعة التي كانت مناسبة للعن أصحاب رسول الله على المنابر ، فتعطلت بذلك الجمعة دهراً بالقيروان (2) ، ومنهم من اكتفى بالدعاء عليهم ، كما فعل الواعظ عبد الصمد (3) ، وكما كان يفعل أبو إسحاق السبائي الزاهد ، إذا رقى رقية يقول بعد قراءة الفاتحة وسورة الإخلاص والمعوذتين : وببغضي في عبيد الله وذريته، وحبي في نبيك وأصحابه وأهل بيته أشف كل من رقيته (4).
ومن مظاهر المقاومة السلبية أيضاً : مقاطعة كل من يسير في ركب السلطان واعتزاله ، وكل من كانت له صلة بهذا السلطان ، أو سعى إلى تبرير وجوده ؛ عملاً بقوله تعالى : " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " (المجادلة، آية : 22).
فهذا خلف بن أبي القاسم البراذعي (ت نحو 400ﻫ) (5) قام عليه فقهاء القيروان بصلته بملوك بني عبيد وقبوله هداياهم ، وتأليفه كتابا في تصحيح نسبهم، وزادت النقمة عليه عندما وجدوا بخطه الثناء على بني عبيد متمثلاً ببيت (6) الحطيئة :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ٭٭ وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
لذلك كله أفتى فقهاء القيروان بطرح كتبه ، وعدم قراءتها ، وإزاء ذلك اضطر هو إلى الهجرة إلى الصقلية ، حيث حصلت له حظوة كبيرة عند أميرها (7).
ب‌-المقاومة الجدلية : كانت المقاومة الجدلية هي أقوى وأوسع أنواع المقاومة التي قام بها علماء السنة المغاربة ضد الشيعة الرافضة المنحرفين، وقد سطع في سماء هذه المساجلات العلمية والمناظرات العقدية عدد كبير من العلماء، وكانوا لسان أهل السنة الناطق والذاب عن بيضة هذا الدين، وممن لمع نجمه في ميدان المناظرة لبني عبيد حتى ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار المختلفة ؛ لعلمه بالذب عن مذهب أهل السنة ، وكان هذا الإمام - فضلاً عن براعته في الجدل والمناورة شجاعاً مقداماً لإيهاب الموت، من ذلك ما ذكره المالكي والدباغ من أن عبد الله المعروف بالمحتال (8) ، صاحب القيروان قد شدد في طلب العلماء، فاجتمعوا بدار ابن أبي زيد القيرواني ، فقال لهم ابن تبان : أنا أمضي إليه، أبيع روحي لله دونكم ؛ لأنه إن أتى عليكم وقع على الإسلام وهن عظيم (9) .
وفعلاً ذهب إليه وأقام عليه الحجة هو وجماعته الذين جاء بهم ليناظروه ، وبعد أن هزمهم في مجلس المناظرة لم يخجلوا أن يعرضوا عليه أن يدخل في نحلتهم ، ولكنه أبى وقال : شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه ، ويرد على اثنتين وسبعين فرقة ، يقال له هذا ؟ لو نشرتموني في اثنتين ما فارقت مذهبي (10) .
ولما خرج من عندهم بعد يأسهم منه تبعه أعوان الدولة الفاطمية العبيدية وسيوفهم مصلتة عليه ؛ ليخاف من يراه من الناس على تلك الحال ، فإذا به وهو تحت الضغط يهدي الناس ويقدم لهم النصيحة، ويقول لهم دون خوف ولا وجل : تشبثوا، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام، فإن فارقتموه هلكتم(11).
وكان يخشى على العامّة من فتنة بني عبيد ويقول : والله ما أخشى عليهم الذنوب ؛ لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى عليهم أن يشكوا في كفر بني عبيد فيدخلوا النار (12) .
وممن اشتهروا بالذب عن الإسلام ، وأشهروا حجج الحق وبراهين العدل ، وإقامة الحجة على دعاة الدولة الفاطمية أبو عثمان سعيد بن الحداد (302ت) لسان أهل السنة وابن حنبل المغرب ، قال عنه السلمي : كان فقيها صالحاً فصيحاً متعبداً ، أوحد زمانه في المناظرة والرد على الفرق (13) .
وقال عنه الخشني : كان يرد على أهل البدع المخالفين للسنة ، وله في ذلك مقامات مشهودة ، وآثار محمودة ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب ، حتى مثله أهل القيروان بأحمد بن حنبل (14).
وقال عنه المالكي : وكانت له مقامات في الدين مع الكفرة المارقين ، أبي عبدالله الشيعي ، وأبي العباس أخيه ، وعبيد الله ، أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم(15)، حاولت الدولة الفاطمية بالمغرب إجبار الناس على مذهبهم بطريقة المناظرة وإقامة الحجة مرة ، والتهديد بالقتل مرة أخرى ، فارتاع الناس من ذلك ، ولجؤوا إلى أبي سعيد ، وسألوه التقية فأبى وقال : قد أربيت على التسعين، ومالي في العيش حاجة، ولابد لي من المناظرة عن الدين أو أن أبلغ في ذلك غدراً ، ففعل وصدق، وكان هو المعتمد عليه بعد الله في مناظرة الشيعة (16) ، ومن أشهر هذه المناظرات.
- التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما : وأول هذه المناظرات كما يذكر صاحب المعالم حول التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما ، فبعد الاجتماع بين ابن الحداد وأبي عبيد الله الشيعي؛ سأل أبو عبد الله الشيعي ابن الحداد : أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيَرهم - ؟ يعني بأصحاب الكساء : محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ويعني يغيرهم : أبا بكر رضي الله عنه - فقال أبو عثمان : أيما أفضل ؟ خمسة سادسهم جبريل عليه السلام ؟ أو اثنان الله ثالثهما (17)؟ فبهت الشيعي.
- موالاة علي رضي الله عنه : في هذه المناظرة أراد عبيد الله الشيعي أن يثبت أن الموالاة في قوله عليه الصلاة والسلام : من كنت مولاه فعلى مولاه (18) بمعنى العبودية ، فقال له : فما بال الناس لا يكونون عبيداً لنا ؟ فقال ابن الحداد : لم يرد ولاية رق وإنما أراد ولاية الدين، ونزع بقوله تعالى : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون " (آل عمران : آية 79 - 80) فما لم يجعله الله لنبي لم يجعله لغير نبي ، وعلي رضي الله عنه لم يكن نبياً وإنما كان وزيراً للنبي صلى الله عليه وسلم (19) .
هذه إشارات عابرة ، وهي جزء صغير من مجموع المناظرات التي دارت بين الفريقين.
ج- المقاومة المسلحة : لم يكتف علماء المغرب بالمقاومة السلبية والمقاومة الجدلية، بل منهم من حمل السلاح وخرج ليقاتلهم ، فهذا جبلة بن حمود الصدفي ترك سكن الرباط ونزل القيروان، فلما كلم في ذلك قال : كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر، والآن حل هذا العدو بساحتنا، وهو أشد علينا من ذلك ، وقال : جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك (20) .
واستدل بقوله تعالى : " يا أيهّا الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " (التوبة : 123) ومنهم الإمام : أبو القاسم الحسن بن مفرج ت 309ﻫ الذي كان من أوائل من خرج على الشيعة ومات شهيداً، قتله عبيد الله المهدي ، وصلب هو ورجل يدعى أبا عبد الله السدري الذي كان من الصالحين ، وكان قد بايع على جهاد عبيد الله ، وجعل يحث الناس على جهاده فبلغ خبره عبيد الله فأمر بقتله (21) .
ثم إن العلماء خطوا خطوة أكبر بإصدار فتوى بوجوب قتال الدولة الفاطمية العبيدية ، وكان ذلك بعد اجتماع وتشاور بين علماء السنة ، وتحالفوا مع أهل القبلة ضد الفاطميين الذين حكموا عليهم بالكفر لمعتقداتهم الفاسدة ، قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولاني : خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي ـ رحمه الله - مع شيوخ إفريقية إلى حرب بني عبيد مع أبي يزيد، فكان أبو إسحاق يقول ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد : هؤلاء من أهل القبلة ، وهؤلاء ليسوا من أهل القبلة - يريد عسكر ابن عبيد - فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من "هو" على غير القبلة ، فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد لأنه خارجي، والله عز وجل يسلط عليه إماماً عادلاً فيخرجه من بين أظهرنا ، ويقطع أمره عنا.
والذين خرجوا معه من الفقهاء والعباد أبو العرب ابن تميم، وأبو عبد الملك مروان نصروات ، وأبو إسحاق السجائي ، وأبو الفضل ، وأبو سلمان ربيع بن القطان (22) وغيرهم كثير (23).
وفي الموعد المحدد خرج العلماء ومن ورائهم وجوه القوم وعامتهم في أعداد غفيرة لا يحصيهم عد، ولم يتخلف من العلماء والصلحاء أحد إلا العجزة ، ومن ليس عليهم خرج، وكان ربيع القطان في طليعة الصفوف راكباً فرسه، وعليه آلة الحرب متقلداً مصحفه وهو يقول : الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيك(24).
وقد أبلى العلماء في تلك المواجهة بلاء حسناً، وقدموا صورا حقيقية للجهاد في سبيل الله لأعداء الإسلام، واستشهد منهم مالا يقل على الثمانين عالماً ، منهم ربيع القطان والمميس وغيرهما، وأظهروا شجاعة نادرة وتفانياً لا مثيل له في قتال عدوهم، وحققوا انتصاراً باهراً ، وكادوا يستولون على المهدية ، لولا أن ساعة الغدر حلت ورجعت الكرة عليهم، حين خدعهم أبو يزيد ، وأسفر عن وجهه القبيح المناوئ لأهل السنة ، وأمر جنده أن ينكشفوا عنهم بقوله : أعداؤكم من قتلهم لا نحن فنستريح منهم (25) .
وكان غرضه من تلك الفعلة الشنيعة والخدعة المنكرة : الراحة منهم لأنه فيما ظن إذا قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين تمكن من أتباعهم فيدعوهم إلى ما شاء الله فيتبعونه (26) فهزم شر هزيمة حيث انضم عدد غير قليل من جنده إلى صفوف عدوه ، ولم يبق له من الجند إلا القليل، وقتل شر قتلة، وكانت نهايته يوم 30محرم سنة 336ﻫ (27).
وقد أثرت هذه المواجهة بين السنة والشيعة على الساحة المغربية فيما بعد ، حيث استمرت المقاومة فيمن جاء بعدهم حتى بعد خروج بني عبيد من المغرب، فكانوا يبحثون عن مراكز وجود الشيعة ، فإذا عثروا عليهم قتلوهم وأخذوا أموالهم ، فقد ذكر ابن عذارى في البيان المغرب أنه : كان بمدينة القيروان قوم يتسترون بمذهب الشيعة من شرار الأمة ، انصرفت العامة إليهم من فورهم ، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً رجالاً ونساءً ، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة ، وانتهبت دورهم وأموالهم(28).
ويصف القاضي عياض هذه الحادثة بقوله : وكان ابتداء ذلك اليوم الجمعة منتصف المحرم، قتلت العامة الرافضة أبرح قتل بالقيروان ، وحرقوهم وانتهبوا أموالهم، وهدموا دورهم ، وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم، وخرج الأمر من القيروان إلى سائر بلادهم ، فقتلوا وأحرقوا بالنار، فلم يترك أحد منهم في إفريقية إلا من اختص(29).
وهكذا كان هذا النوع من المقاومة هو أشد الأنواع وأنكاها، طهر الله به أرض المغرب من بدعة التشييع الباطني الرافضي.
ح- المقاومة عبر التأليف : وكانت المقاومة عبر التأليف من الوسائل المجدية والنافعة في مقاومة الشيعة ، والتي كان لها أثر طيب في إقلاقهم وقض مضاجعهم ، وإعلانهم الحرب على من يفعل ذلك ، كما كان لها أثر في تبصير العامة بالحق وإرساء دعائم السنة ، وكانت هذا المؤلفات تنقسم إلى نوعين :
- المؤلفات التي تتناول مسائل العقيدة جملة وفق منهج أهل السنة والجماعة ، ومن بين المسائل التي تناولتها مسألة الإمامة عند أهل السنة ، وأفضلية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وشرعية خلافة الثلاثة خلافاً للشيعة الرافضة ، والترضي عن أصحاب رسول جمعياً من غير تفريق بينهم ، واعتبارهم جميعاً عدولاً خلافاً للشيعة الذين يكفرونهم ويفسقونهم ، عدا نفر قليل منهم ، فهذا النوع من التأليف كان له أثر عميق في تبصير الناس بدينهم ، ونشر المذهب الحق فيهم ، حتى أصبحوا يعتبرون كل من خالف هذه العقيدة مخالفاً للإسلام ، وخارجاً عن جماعة المسلمين ، يجب فيه كل ما يجب في الكافر من المعاداة والقتال والمقاطعة ، وغير ذلك من المعاملة ، لعله يرتدع ويرجع ويتوب(30).
والنوع الثاني : المؤلفات التي ألفت للرد على الشيعة خاصة ، وعلى عقائدهم الباطلة : وهذا النوع من التأليف - كما سبق الحديث عنه - جاء نتيجة ظروف خاصة أوجبت على أهل السنة الرد عليهم ، وتفنيد شبههم ، ودحض باطلهم ، من هذا الصنف من المؤلفات نذكر كتابي "الإمامة" اللذين ألفهما الإمام محمد بن سحنون ، وهما أعظم ما ألف في هذا الفن ، يقول عيسى بن مسكين : وما ألف في هذا الفن مثلهما(31)، وكتاب الإمامة للإمام إبراهيم بن عبد الله الزبيدي، وكتاب الرد على الرافضة له أيضاً، واللذان كانا السبب في محنته وسجنه وضربه من قبل الدولة الفاطمية العبيدية ، فهذا النوع كان له أثره في المقاومة(32).
خ- مقاومة شعراء أهل السنة : إلى جانب وسيلة التأليف كانت هناك وسيلة نظم الشعر لهجو بني عبيد وذمهم، وقد برز في هذا الميدان كثير من الشعراء منهم : أبو القاسم الفزاري .
وإلى اللقاء مع الحلقة الثالثة
المصدر : موقع التاريخ

الهوامش :

1- البيان المغرب (1/277).

2- معالم الإيمان (3/237).


3- معالم الإيمان (3/71).


4- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 324.


5- المصدر نفسه ص 324.


6- المصدر نفسه ص 324.


7- ترتيب المدارك (2/517 - 524) شجرة النور الزنكية (1/95 - 96).


8- أحد عمال دولة بني عبيد.


9- معالم الإيمان (3/113).


10- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 327.


11- المصدر نفسه ص 327.


12- معالم نفسه (3/91).


13- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 328.


14- طبقات الخشني ص 199 معالم الإيمان (2/209).


15- رياض النفوس (2/75).


16- معالم الإيمان (2/298) جهود علماء المغرب ص 329.


17- سنن الترمذي ، وتحفة الأحوذي رقم 3797 حسن غريب.


18- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 331.


19- معالم الإيمان (2/185) جهود علماء المغرب ص 337.


20- رياض النفوس (2/169 - 172).


21 - الدولة الفاطمية العبيدية للصَّلاَّبي ص 78.


22- المصدر نفسه ص 78.


23- معالم الإيمان (3/37 - 42).


24- البيان المغرب (1/218).


25- البيان المغرب (1/218).


26- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 344.


27- البيان المغرب (1/268).


28- ترتيب المدارك (2/625).


29- المصدر نفسه


30- جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ص 349.


31- المصدر نفسه ص 349.


32- المصدر نفسه ص 349.

شيركوه
11-11-2008, 06:49 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية
( 3 )
- المعز لدين الله الفاطمي ودخوله مصر :
كان يتابع أحوال حكام وأمراء مصر عن كثب ، وأصبحت نفسه تسول له الاستيلاء على مصر ، وبموت كافور الإخشيدي في سنة 355ﻫ اضطربت الديار المصرية ، فاقتنص المعز الفرصة ، ولم يجعلها تمر مر السحاب ، فعزم ودبر ، وأقدم على حفر الآبار والقصور فيما بين القيروان إلى حدود مصر.
وحشد الجيوش العظيمة التي كانت تزيد عن مائة ألف ، وأمر المعز كل أمرائه وولاته أن يسمعوا ويطيعوا ، ويترجلوا في ركاب جوهر الصقلي ، وتحركت الجيوش العبيدية لنقل المذهب الباطني إلى مصر ؛ ليتخلص من الأزمات والثورات والصراعات العنيفة التي قادها علماء أهل السنة في خمسة عقود متتالية في الشمال الإفريقي ، رافضين المذهب الباطني معلنين عقائد أهل السنة والجماعة ، فاستفاد المعز من ضعف الحكم الإخشيدي التابع للدولة العباسية ، فرمى بسهمامه المسمومة ، ودفع إليها جيوشه المحمومة ؛ طلبا من أعوانه ؛ وسعياً للقضاء على الدولة العباسية .
وفي جمادى الآخرة سنة 358ﻫ استطاعت جيوش المعز دخول مصر بقيادة جوهر الصقلي الذي لم يجد أي عناء في ضمها لأملاك العبيديين ، وجوهر الصقلي هذا هو الذي بنى الأزهر الذي تم بناؤه سنة 361ﻫ ليكون محصناً لإعداد دعاة المذهب الإسماعيلي الباطني ، وبعد أن مهدت مصر للمعز الفاطمي العبيدي جهز جيوشه وحاشيته وأهله وأمواله، وسار مفارقاً شمال إفريقيا إلى مصر ؛ ليتولى أمرها فأسند زعامة الشمال الإفريقي إلى الأمير الصنهاجي بلكين بن زيري ..
وضم المعز إلى مصر كلا من طرابلس وسرت وبرقة ، وكان معه شاعره الذي غالى في مدح المعز محمد بن هانئ الأندلسي الذي قال :
فكأنما أنت النبي محمد * وكأنما أنصارك الأنصار
ما شئت لا ما شاءت الأقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار
هذا الذي تجدي شفاعته غداً * حقَّا وتُخمد أن تراه النار
ومن شعره في المعز :
النور أنت وكل نور ظلمة * والفوق أنت وكل فوق دون
فارزق عبادك فضل شفاعة * وأقرب بهم زُلفى فأنت مكين
ومنه :
تدعوه منتقماً عزيزاً قادراً * غفاراً موبقة الذنوب صفوحاً
أقسمت لولا أن دُعيت خليفة * لدُعيت من بعد المسيح مسيحاً
شهدت بمفخرك السموات العلا * وتنزل القرآن فيك مديحاً
ومنه :
وعلمت من مكنون سر الله ما * لم يؤت في الملكوت ميكائيلا
لو كان آتى الخلق ما أوتيته * لم يخلق التشبيه والتأويلا
وكانت بدية رحيل المعز نحو مصر في362ﻫ وقتل ابن هانئ في برقة في رجب سنة 362ﻫ وهو في الثانية والأربعين من عمره ، ووجدوا جثته مرمية رمي الكلاب على ساحل بحر برقة ، وتأسف المعز على قتله وقال : هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك (1)
واستمر المعز في سيره حتى قارب الحدود المصرية ، ووصل الإسكندرية يوم 23 من شعبان سنة 362ﻫ واستقبلته وفود عظيمة من أعيان القادة والزعماء والحكام في مصر ..
وامتد ملك المعز من سبتة بالمغرب إلى مكة بالمشرق ، يأتمر بأوامره سكان سواحل المحيط الأطلنطي ، وبقي المعز في مصر سنتين ونصف ، وتوفي بالقاهرة في السابع من ربيع الأول سنة 365ﻫ ودامت ولايته بإفريية ومصر ثلاثاً وعشرين سنة (2)
قال الذهبي : ظهر في هذا الوقت الرفض ، وأبدى صفحته ، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العُبيدية ، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بُويّه ، وكان الخليفة المطيع ضعيف الرتبة مع بنى بويه ، وضعف بدنه ، ثم أصابه فالج ، وخَرَسٌ فعزلوه ، وأقاموا ابنه الطائع لله ، وله السكة والخطبة، وقليل من الأمور ، فكانت مملكة المعز أعظم وأمكن (3)
- زوال الدولة الفاطمية من شمال إفريقيا :
استطاع بعض فقهاء المالكية أن يصلوا إلى ديوان الحكم في دولة صنهاجة التابعة للدولة الفاطيمة بمصر ، وأثروا في بعض الوزراء والأمراء ، الذين كان لهم الفضل بعد الله في تخفيف ضغط الدولة على علماء أهل السنة ، واستطاع العلامة أبو الحسن الزجال أن يؤثر في الأمير المعز بن باديس الصنهاجي في تربيته على منهج أهل السنة.
وأعطت هذه التربية ثمارها بعدما تولى المعز إفريقيية في ذي الحجة سنة 406ﻫ وكان عمل العلامة أبي الحسن في السر بدون أن يعلم به أحد من الشيعة الرافضة ، وكان هذا العالم فاضلاً ذا خلق ودين وعقيدة سليمة ، ومبغض للمذهب الشيعي الباطني ، واستطاع أن يغرس التعاليم الصحيحة في نفسية وعقلية وفكر المعز بن باديس ، الذي تّم على يديه القضاء على مذهب الشيعة الإسماعيلية في الشمال الإفريقي ..
وقد وصف الذهبي المعز بن باديس فقال : وكان ملكاً مهيباً ، وسرَّيا شجاعاً عالي الهمة ، محباً للعلم ، كثير البذل ، مدحه الشعراء ، وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثر بإفريقية ، فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسماً لمدة الخلاف ، وكان يرجع إلى الإسلام ، فخلع طاعة العبيدية ، وخطب للقائم بأمر الله العباسي ، فبعث إليه المستنصر يتهدده فلم يخفه (4)
ورد المعز بن باديس على خطاب المستنصر الفاطمي بمصر الذي هدده فيه وقال له : هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء في كلام طويل ، فأجابه المعز : إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يتملكه أسلافك ، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم ، ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم (5)
وبينت لنا كتب التاريخ أن المعز بن باديس تدرج في عدائه للشيعة الرافضة الباطنية ولحكام مصر ، وظهر ذلك في عام 435ﻫ عندما وسع قاعدة أهل السنة في جيشه وديوانه ودولته ، فبدأ في حملات التطهير للمعتقدات الباطنية ، ولمن يتلذذ بسبب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأوعز للعامة وللجنود بقتل من يظهر الشتم والسب لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ..
فسارعت العامة في كل الشمال الإفريقي للتخلص من بقايا العبيديين ؛ ليصفى الشمال الإفريقي من المعتقدات الفاسدة الدخيلة عليه ، وأشاد العلماء والفقهاء بهذا العمل الذي أشرف على تنفيذه المعز بن باديس رحمه الله ، وذكر الشعراء أشعاراً في مدح المعز، فقد قال القاسم بن مروان في تلك الحوادث :
وسوف يقتلون بكل أرض ٭٭ كما قتلوا بأرض القيروان
وقال آخر :
يا معز الدين عش في رفعة ٭٭ وسرور واغتباط وجذل
أنت أرضيت النبي المصطفى ٭٭ وعتيقاً في الملاعين السفل
وجعلت القتل فيهم سنة ٭٭ بأقاصي الأرض في كل الدول (6)
واستمر المعز بن باديس في التقرب إلى العامة وعلمائهم وفقهائهم من أهل السنة ، وواصل السير في تخطيطه للانفصال الكلي عن العبيديين في مصر، فجعل المذهب المالكي هو المذهب الرسمي لدولته ، وأعلن انضمامه للخلافة العباسية ، وغيَّر الأعلام إلى العباسيين وشعاراتهم ، وحرم أعلام الدولة الفاطمية وشعاراتهم ، وأمر بسبك الدراهم والدنانير التي كانت عليها أسماء العبيديين ، والتي استمر الناس يتعاملون بها 145سنة ..
وأمر بضرب سكة أخرى كتب على أحد وجهيها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وكتب على الآخر " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " (آل عمران ، آية : 85) .
وقضى المعز بن باديس على كل المذاهب المخالفة لأهل السنة من الصفرية والنكارية والمعتزلة والإباضية ..
وفي سنة 443ﻫ انضمت برقة كلها إلى المعز بن باديس بعد أن أعلن أميرها جبارة بن مختار الطاعة له ، وكان أول من قاد حملة التطهير على الشيعة الإسماعيلية في طرابلس ، وحارب تقاليدهم الباطلة ، ودعوتهم المضللة ، هو العلامة علي بن محمد المنتصر ، وكنيته أبو الحسن المتوفى عام 432ﻫ (7) .
- جهود السلاجقة في حماية العراق من التشيع الرافضي الباطني :
كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق ؛ ولذلك قامت بإرسال الدعاة إليها ، فقد واصل الخلفاء الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم ، مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق ، فأرسل الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله الدعاة إلى بغداد سنة 425ﻫ، فاستجاب لهم كثير من الناس (8)
وازداد نشاط الدعاة في بلاد المشرق الإسلامي على عهد المستنصر بالله الفاطمي ، فعهد إلى دعاته بالرحيل إلى فارس وخراسان وما وراء النهر، ومن أشهر دعاة وفلاسفة المذهب الشيعي الإسماعيلي الفاطمي المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي وعرف أحياناً بالمؤيد فقط ..
وقد نجح هذا الداعية في التأثير على البساسيري أحد القادة العسكريين في الدولة العباسية ، وقد استطاع البساسيري أن يستولي على بغداد ، ويزيح الخليفة القائم بأمر الله وإقامة الخطبة فيها للفاطميين ، وانقطعت دولة بني العباس من بغداد ، وأخرج الخليفة ، وحُمل إلى الأنبار ، وحبس بالحديثة عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي ، فتولى خدمة الخليفة بنفسه ، وكان أحد وجوه بني عقيل، وخطب لبني عبيد - الفاطميين في بغداد أربعين جمعة في ولاية المستنصر (9)
وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر، إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة ، وعهد إلى ابن عمه الأمير محيي الدين بن مهارش العقيلي - صاحب حديثة بالتحفظ على الخليفة ، وتأمين حياته ، وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر بالرحيل إلى حديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام (10)
ولم يكتف البساسيري بذلك بل استولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه (11) ، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وكان البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ، ودفع إليهم السلاح من دار الخلافة العيّارين ، وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرح - الشيعة - دور أهل السنة بباب البصرة ، ونهبت دار قاضي القضاة الدّمغاني، وهلك أكثر السَّجلاَّت والكتب الحكيمة وأبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة ، وأعادت الروافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأُذَّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمعُات والجماعات، وخطب ببغداد وضربت له السَّكةُ على الذهب والفضة ..
وحُوصرت دار الخلافة ، واعتقل رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسُلمة ، ووبخه البساسيري ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحاً ، واعتقله مهانا عنده ، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب ، وغير ذلك مما لا يُحَدُّ ولا يوُصف ، وفي يوم عيد الأضحى في سنة 450ﻫ ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنَّين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك ، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية ..
وخطب للمستنصر صاحب مصر، والشيعة الرّافضة في غاية السرور ، والأذان في سائر العراق بحيّ على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقاً ممَّن كان يعاديه ، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا ، ولما كان يوم الانثين ليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة ، الملقّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّة صوف وطرطور من لبد أحمر ، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ ، فأركب جملاً (12)
وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلقْان المداسات ، وبصقوا في وجهه ، ولعنوه وسبُّوه ، وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان، وأوقف بإزاء دار الخلافة ، وهو في ذلك يتلو " قل اللهم مالك الملك تُوتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيك الخير إنك على كل شيء قدير " (آل عمران ، آية : 16)..
فأُلبس جلد ثور بقرنيه ، وعُلقّ بكلوّب في شدقيه ، ورفع إلى الخشبة حيَّاً ، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله وكان آخر كلامه : الحمد لله الذي أحياني سعيداً ، وأماتني شهيداً (13)
من الخصائص النفسية الشيعية الرافضة الباطنية الثابتة عبر التاريخ اتباع أسلوب التذلل والتمسكن والتودد عند الضعف ، ولكن متى استشعروا القوة فإنها تمارس أشد أنواع الطغيان والنهب والبطش والانتقام ..
وكان طغرل بك السلطان السلجوقي الذي أزاح البويهيين كان خارج العراق بجيوشه يحارب المنشقين عنه ، ويمكن لدولته ، ولما قضى على الفتن كّر بجيوشه على بغداد ، وأعاد الخليفة العباسي إلى الخلافة بعد فكاكه من أسره ، واستطاع ملاحقة البساسيري وقتله ، وعادت العراق إلى الخلافة العباسية السنية من جديد ..
وقد أدرك السلاجقة الخطر الذي يتهددهم من وراء الدعو الفاطمية في بلدان الخلافة العباسية ، لذلك اتبعوا سياسة حكيمة بعد أن قبضوا على زمام الأمور في بغداد ، تتمثل في مناهضة الدعوة الفاطمية (14) ودعاتها بالحزم والشدة ، فتعقبوا دعاة الفاطمية الذين قاموا بنشر الدعوة الفاطمية في بلاد فارس - كما قاموا بإقصاء المتشيعين للمذهب الإسماعيلي على دواوين الحكومة والوظائف الدينية ، وعينوا من أهل السنة بدلاً منهم (15)
7- المدارس النظامية ودورها في الإحياء السني والتصدي للفكر الشيعي الرافضي :
بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الرافضي عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455ﻫ فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك ، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية ، ذلك أن الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة ، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان (16) .
فقد كانت الدولة الفاطمية تقوم بإعداد الدعاة من خلال جامع الأزهر الذي جعلوا منه مؤسسة تعليمية تعني بنشر مذهبهم في عام 378ﻫ (17).
هذا بالإضافة إلي البرامج التعلمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الدولة الفاطمية ؛ لإعداد الدعاة وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم الي البلاد الإسلامية ؛ لنشر المذهب الإسماعيلي ، وكان لذلك أثر في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الدعوة (18) لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعى بنفس الأسلوب الذى ينتشر به ..
ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً (19) ، وتربية الأمة علي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحى الإلهى ، ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التى نسبت إليه، لأنه الذى جد في إنشاءها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقات الواسعة ، واختار لها الأكفاء من الأساتذة ، فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة (20) .
وقد وفق الله نظام الملك توفيقاً قل نظيره فى التاريخ السياسى والعلمى والديني ، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً ، وعلى الخصوص نظامية بغداد التى طاولت الزمن زهاء أربعة قرون ، إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز أبادي المتوفى سنة 817ﻫ ، حيث زالت فى نهاية القرن التاسع الهجرى (21).
وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السنى الشافعى ، وزودت الجهاز الحكومى بالموظفين ردحاً من الزمن ، وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء ، وهى أهم وظائف الدولة فى ذلك العصر ، وانتشر هؤلاء فى العالم الاسلامى حتى اخترقوا حدود الباطنية فى مصر ، وبلغوا الشمال الإفريقى ، ودعموا الوجود السنى بها ..
لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التى رسمها نظام الملك ، فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا منها يرحلون الى أقاليم أخرى ؛ ليقوموا بتدريس الفقه الشافعى والحديث الشريف ، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التى انتقلوا إليها ، أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا ، أويتولوا بعض الوظائف الإدارية الهامة فى دواوين الدولة ، وينقل السبكي عن إسحاق الشيرازي - أول مدرس بنظامية بغداد قوله : خرجت إلى خراسان ، فما بلغت بلدة ولا قرية إلا كان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي (22) .
وقد ساهمت هذه المدارس فى إعادة دور منهج السنة فى حياة الأمة بقوة ، وكان أبرز آثارها أيضا تقلص نفوز الفكر الشيعى ، وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدراس..
وكان الإمام الغزالى على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة الرافضة (23).
وقد مهدت المدراس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ، ويسرته أمام نور الدين زنكى والأيوبين حتى يكملوا المسيرة التى من أجلها أنشئت النظاميات ، وتتمثل فى العمل على سيادة الإسلام الصحيح ، وخاصة فى المناطق التى كانت موطنا لنفوذ الشيعة فى تلك المرحلة ، كالشام ومصر وغيرها ..
إن الأخطاء العظيمة التى تواجه الأمة اليوم المشروع الباطنى الجديد النشط فى أنحاء المعمورة ، وقد استهدف عقيدة الأمة ، وكتاب ربها ، وسنة نبيها ، وتاريخها وعظماءها ، فهل نستلهم الدروس ، ونستخرج الصحيح الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون من حكامنا مثل ألب أرسلان فى شجاعته ، ومن وزرائنا كنظام الملك فى همته وغيرته ، ومن علمائنا كالجويني والغزالي والبغوي والجيلاني فى دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة ، وقضايا الفكر الإسلامى الصحيح ، وتوظف الوسائل الحديثة فى بث عقائد الإسلام الصحيحة ، وتاريخة الموثق ، وفكره البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ، ووسائل الدعوة بأنواعها ..
نريد بذلك وجه الله والدار الآخرة ورفقة النبيين والصدقين والشهداء والصالحين ، كجهود الإمام فى دحر الشيعة الباطنية ، إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية أنها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني ، وكان من أبرز آثارها أيضاً تقويض نفوذ الفكر الشعيى ، وخاصة بعد أن خرجت الؤلفات المناهضة له من هذه المدارس .
وكان الإمام الغزالي - العالم السنى ـ على قمة المفكرين الذين شنوا حربا شعواء على الشيعة الرافضة الباطنية إذ يذكر هو أنه ألف فى ذلك كتباً عدة أشهرها فضائح الباطنية ، الذى كلف بتأليفه فى 487ﻫ من قبل الخليفة المستظهر (24) ..
على أن الشيء المثير للإعجاب هو شجاعة الغزالى فى حملته على الإسماعيلية الباطنية التي جاءت فى وقت انتشر فيه دعاتهم فى فارس ، وتزايد خطرهم حتى أقاموا الحصون والقلاع ، وهددوا أمن الناس وسلامتهم ، وأقاموا بالاغتيالات على نطاق واسع ، فشملت كثيراً من الساسة المفكرين ، وعلى رأسهم نظام الملك نفسه ..
والغزالي قام لهذه الحملة بتوجيه من السلطة مع رغبة الغزالي العالم السني فى القيام بواجبه فى الدفاع عن الإسلام الحقيقى ، وهذا شيء جميل لما تلتقى جهود السلطة السياسية مع علمائها فى تحقيق أهداف الإسلام من خلال مؤسسات نافعة للمجتمع والدولة ، كالذي قامت به المدارس النظامية في مقاومة الفكر والنفوذ الشيعي الباطني ..
فقد كانت الدولة الفاطمية قد تدرعت بالفلسفة والعقيدة الباطنية ، وظهرت في مظهر ديني سياسي ، فكانت ـ كما يقول الأستاذ الندوي - أشد خطراً على الإسلام من الفلسفة ..
فقد كانت الفلسفة تعيش في برجها العاجي بعيداً عن الشعب والجمهور (25)، وأما الباطنية فكانت تتسَّرب إلى المجتمع وتنفث سمومها فيه، وكان لها الإغراءات المادية القوية ، ولم يكن في العالم الإسلامي في آخر القرن الخامس أحد أجدر بالرد عليها ، والكشف عن أسرارها ، ونقض ما تبنى عليه دعوتها من الغزالي ..
وكان لكتابات الغزالي أثر قوي في مجال الرد على الباطنية ، فقد استطاع بفكره القوي ، وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية ، وأن يناصر المذهب السني، فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية والعلوم العقلية من الفلسفة والمنطق والكلام في نسف جذور المذهب الباطني ، وقال فيهم كلمته التي طار بها الركبان ، وسارت مسير الأمثال : ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهم يتسترون بالتشيع ، وما هم من الشيعة من شيء ، وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام (26)
ومما يذكر للغزالي : استمراره على نقد هذه الطائفة ، وكشف اللثام عن تناقض أفكارها ، وفضائح أعمالها وسوء نواياها ، برغم ما كان معلوماً في ذلك الوقت أن هذا النقد يكلفه حياته، وقد رأى بنفسه مصرع رجل الدولة الكبير الوزير نظام الملك ، وكانت الشيعة الباطنية تهدد كل من يرونه خطراً عليهم من رجال الملك أو رجال العلم بالانتقام في صورة طعنة في خنجر، أو سم يدس في طعام ، أو غير ذلك من الأساليب التي أتقنوها ، ونفذوها بكل دقة ..
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على شجاعة الغزالي في صدعه بالحق، ومواجهة الباطل، مهما تكن النتيجة ، ولن يصيبه إلا ما كتب الله له (27)
وهذا درس وتذكير للعلماء المعاصرين أن يصدقوا الله في مقاومة الباطنين الجدد، وقد رأيت بعض المحسوبين على العلماء يخشونهم، ويخافون من القتل والاغتيال أو تهمة الطائفية، وبعضهم وقع تحت تأثير أبر التخدير الباطنية ، ومجاملات لا وزن لها في ميزان الشريعة أو حسابات دنيوية زائلة ، ولذلك تركوهم يعبثون بعقائد الأمة ومقدساتها ..
وساعدهم بعض علماء الأمة في تخدير الجمهور العريض من أبناء المسلمين ، مع علم هؤلاء العلماء بخطر هؤلاء القوم على عقائد الأمة وأخلاقها، أما يخشى هؤلاء الناس من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ، ويسأل الله فيه الصادقين عن صدقهم.
المصدر : موقع التاريخ
الهوامش :
(1) الفتح العربي في ليبيا ص 362.
(2) المصدر نفسه ص 362.
(3) سير أعلام النلاء (15/113 ، 114).
(4) المصدر نفسه (18/140).
(5) تاريخ الفتح العربي في ليبيا ، لطاهر الزاوي ص 289.
(6) تاريخ الفتح العربي في ليبيا ، لطاهر الزاوي ص 289.
(7) تاريخ الفتح العربي ص 290 ، 291.
(8) دولة السلاجقة للصَّلاَّبي ص 54.
(9) أخبار الدول المنقطعة (3/43.0).
(10) الخطط للمقريزي (1/439).
(11) الشباك : هو الشرفة التي يجلس فيها الخليفة ويتوكأ بيديه على حافته.
(12) البداية والنهاية (15/459).
(13) دولة السلاجقة للصَّلاَّبي ص 82.
(14) المصدر نفسه ص 68.
(15) المصدر نفسه ص 68.
(16) المصدر نفسه ص 291.
(17) المصدر نفسه ص 291.
(18) التاريخ السياسي والفكري ص 179.
(19) المصدر نفسه ص 179.
(20) المصدر نفسه ص 179.
(21) نظام الملك ص 401.
(22) دولة السلاجقة للصَّلاَّبي ص 390.
(23) رجال الفكر والدعوة (1/204) الغزالي للقرضاوي ص 57.
(24) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة والدولة ص 147.
(25) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ص 60.
(26) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ص 60.
(27) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ص 62.

شيركوه
11-11-2008, 06:54 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطية ( 4 )
الحملات النورية العسكرية على مصر :
قام الوزير الفاطمي ابن السلار السني المذهب بمحاولة الاتصال بنور الدين من أجل شن عمليات حربية مشتركة على أساس أن يتقدم نور الدين بقواته من الشمال ، ويقوم الأسطول الفاطمي بمهاجمة المدن الساحلية الشامية الصليبية ، وتوسط أسامة بن منقذ بين الجانبين ، وعرض عليه ابن السلار أن يأخذ الأموال والهدايا لسلطان حلب عارضاً عليه القيام بمنازلة طبرية، وفي نفس الحين يقوم الأسطول الفاطمي بمهاجمة غزة .
وفي حالة موافقة نور الدين على ذلك يقدم له ابن منقذ الأموال لمساعدته ، فإن رفض فعلى الأخير أن يجند بالأموال عدداً من الفرسان لقتال الصليبيين عند عسقلان ، غير أنه عندما بلغ بصرى وقابل نور الدين أوضح له مدى انشغاله بأمر دمشق ، وأنها تقف سداً منيعاً دون التعاون المشترك مع الفواطم ، إذ إنها لم تكن حينذاك قد سقطت بعد في قبضته (1)..
ويلاحظ أن ابن السلار استمر في صراعه مع الصليبيين فجهز في عام (546ﻫ/1151م) أسطولاً أنفق عليه مالاً وفيراً ، وهاجم به المدن الساحلية الصليبية ، وقد تحدث الذهبي عن ابن السلار فقال : وكان بطلا شجاعاً، مقداماً مهيباً شافعياً سنيّاً، ليس على دين العُبيدية ، احتفل بالسَّلفَي، وبنى له المدرسة ، لكنه فيه ظلم وعسف (2) وجبروت ، وتجددت المحاولات السابقة في عهد وزار طلائع ابن زريك الذي اتصل بنور الدين محمود عن طريق أسامة بن منقذ ، غير أن نور الدين لم يتعجل ، وكان يرأى أن الفرصة المناسبة لم تأت بعد ..
ولم يدخل نور الدين في تحالف عسكري مع طلائع بن رُزيك إلا أنه اهتم بالاتصالات الدبلوماسية ، وقد وصلت في 552ﻫ/1157م سفارة من جانب نور الدين ، وتكرر ذات الأمر في العام التالي أي 553ﻫ/1158م وردت الدولة الفاطمية على تلك السفارة بأن تم إعادة السفير النوري إلى بلاده ، ومعه هدايا وأسلحة تقدر بثلاثين ألفاً من الدنانير، وعينيات تقدر بسبعين ألفاً من أجل دعم صراع نور الدين مع الصليبيين (3) ..
ونجد سفارة أخرى من نور الدين في عام 554ﻫ/1159م ومن جهة أخرى أظهرت الدولة الفاطمية ودها له، فأرسل العاضد في عام 555ﻫ/ 1160م بالخلع إليه ، والواقع أن التعليل المنطقي لذلك أن الفاطميين بعد أن فقدوا عسقلان عام 548ﻫ/1153م أدركوا أكثر من ذي قبل خطورة الصليبيين عليهم ، وضرورة الاستفادة من
قوة الدولة النورية وثقلها السياسي والعسكري (4) .
1ـ دوافع فتح مصر عند نور الدين : كان فتح مصر من أعظم منجزات نور رحمه الله ، فقد تمكن من إسقاط الدولة الفاطمية العبيدية ، التي استمرت أكثر من قرنين تنشر الفساد السياسي والخلل العقدي في أنحاء العالم الإسلامي ، فهي التي أعانت الصليبيين في احتلال بلاد الشام بتحالفها وتآمرها معهم ، وهي التي تبنت المذهب الباطني ، ونشرته في ديار المسلمين..
وعندما سادت الفوضى إدارة الحكم فيها، وتحكم الوزراء بالأمر دون الخلفاء طمع الصليبيون بغزو مصر فهاجموها المرة تلو المرة ، وعندها جرد نور الدين محمود حملاته العسكرية لتخليص مصر من مطامعهم ، ولإعادة أرض الكنانة إلى منهج أهل السنة والجماعة ، وجمع كلمة المسلمين (5) ، ويمكن تلخيص أبرز الدوافع التي أدت إلى غزو مصر ما يأتي :
الدافع الأول : حالة الفوضى التي سادت مصر آخر أيامها ، فقد أصبحت الدولة تعاني كثيراً من مظاهر الانحلال والفساد ، حتى صار من الأمور الشائعة أن يصبح الخليفة أو الوزير مقتولاً، خلال الصراع الدائر بين الوزراء أنفسهم ، أو بين الوزراء والخلفاء ، فقد قتل الظافر على يد وزيره ، وتحكم الوزراء فيمن جاء بعده ، وفي اختيار من يشاءون، وقتل الوزراء بعضهم بعضاً ، فقد تولى الوزارة في عام واحد ثلاثة وزراء : العادل بن رزيك ، وشاور ، وضرغام ، فضعفت الدولة ، وسادت الفوضى في البلاد ، ومن أواخر هذا الصراع خروج شاور من مصر بعد أن طرده "ضرغام" ومن ثم استنجاده بنور الدين محمود ، الذي وجد الفرصة مواتية لتوحيد الوحدة الإسلامية في بلاد الشام ومصر.
الدافع الثاني : إن مطامع الصليبيين شجعت القائد المجاهد نور الدين على التفكير جدياً بضم مصر إلى الجبهة الإسلامية ، كما أن تلقيه العهد من الخليفة العباسي بإطلاق يده في بلاد الشام ومصر عام 549ﻫ شد من عزيمته لإنجاز هذا الأمر(6).
الدافع الثالث : من أقوى الأسباب التي أدت إلى القضاء على الخلافة الفاطمية العبيدية العامل العقدي ، فقد كانت دولة باطنية المعتقد ، إسماعيلية المذهب ، فرقت وحدة المسلمين ، وتآمرت مراراً مع أعدائهم (7) فكان لابد من إقامة وحدة قوية في عقيدتها، شرعية في توجهها ، تضم إلى الخلافة العباسية أرض الكنانة مع بلاد الشام(8).
وفي هذه الظروف التي كان نور الدين الشهيد يتطلع فيها إلى غزو مصر وصل إلى دمشق عام 559ﻫ الوزير الفاطمي شاور بن مجير السعدي ، طالباً النجدة منه ، ضد من سلب منه منصبه قهراً ، كما وعد شاور مقابل مساعدة نور الدين له بثلث دخل البلاد المصرية سنوياً ، بعد دفع رواتب الجند ، وأن يكون نائباً عن نور الدين بمصر ، إذا ساعده في التغلب على ضرغام عدوه ، ويكون أسد الدين شيركوه مقيماً بعسكره بمصر ، ويتصرف مع شاور في شئون البلاد بأمر نور الدين(9).
لكن نور الدين كان متردداً متريثاً ، يقدم إلى هذا الغرض رجلاً ويؤخر أخرى حتى استخار الله في الأمر ، على ما هنالك من أخطار جسيمة ممثلة في الصليبيين بالساحل وبيت المقدس ، إضافة إلى شكه في إخلاص شاور السعدي (10).
ثم جهز نور الدين الحملات المتوالية، ووجهها نحو مصر منُذ عام 559ﻫ حتى 564ﻫ بقيادة أسد الدين شيركوه(11).
2- الحملة النورية الأولى : 559ﻫ :
قّرر نور الدين محمود إرسال حملة عسكرية إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه لتحقيق هدفين : مبدئيين :
- الوقوف عن كثب على أوضاع مصر الداخلية تمهيداً لضمَّها، وبخاصة أن شاور وعده إن هو عاد إلى منصبه سيتحمَّل نفقات الحملة ، ويؤمن إقامة أسد الدين شيركوه وجنده في مصر.
- إعادة شاور الوزير الفاطمي المخلوع إلى منصبه.
وعلم ضرغام بالاستعدادات التي تجري في دمشق لتجهيز حملة لمساعدة شاور ، فاحتاط للأمر، واستنجد بعموري الأول في محاولة منه للدخول في لعبة توازن القوى، وعقد معه اتفاقاً لمساعدته ضد نور الدين محمود ، وتعهد له بالمقابل أن يدفع جزية سنوية يقررها الملك ، كما وافق على أن تدخل مصر في تبعية الصليبيين ، وأجبر الخليفة الفاطمي العاضد على توقيع هذا الاتفاق (12) ..
وكان طبيعياً أن يقبل عموري الأول هذا العرض الذي سيتيح له فرصة لا تُعوَّض لدخول مصر ، وهو الأمل الذي سعى إليه الصليبيون منُذ أكثر من نصف قرن ، فأعدَّ على الفور حملة عسكرية من أجل الزحف على مصر ، وخرج أسد الدين شيركوه على رأس حملته الأولى إلى مصر في شهر جمادي الآخرة 559ﻫ / شهر نيسان 1164م بصحبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب الذي كان يناهز السابعة والعشرين من عمره ، وسار على الطريق المحَّدد للحملة ، والذي يمر عبر أراضي يسيطر عليها الصليبيون (13) ..
وحتى يصرف أنظارهم عن التعرض للحملة ، وتأميناً على حياة أفرادها تصرف نور الدين محمود على محورين :
الأول : أنه رافق الحملة بجيشه إلى ما يلي دمشق ؛ للحيلوه دون التعرض لأفرادها.
الثاني : راح بهاجم الأطراف الشمالية لمملكة بيت المقدس المجاورة لدمشق ؛ لتحويل أنظار الصليبيين عن مصر (14) وسار أسد الدين شيركوه على رأس جيشه الكثيف عبر الصحراء ، بصحبة شاور ، فعبر الكرك ، ومر بالشوبك ، ثم أيلة، فالسويس ومنها إلى القاهرة ، وقد بلغ من السرعة في سيره أنه اجتاز برزخ السويس قبل أن يستعد الصليبيون للتدخل، فأرسل ضرغام قوة عسكرية بقيادة أخ له يدعى ناصر الدين ، للتصدي لزحفه ..
أسفر لقاء الطرفين في بلبيس عن انتصار واضح لأسد الدين شيركوه ، وتراجع ناصر الدين مهزوماً إلى القاهرة ، فطارده أسد الدين شيركوه ، ووصل في أواخر جمادي الآخر إلى العاصمة المصرية ، فخرج إليه ضرغام بكل ما يملك من قوة ؛ لإدراكه بأن هذه المعركة هي معركته الأخيرة ، وجرى اللقاء تحت أسوار القاهرة .
واتسمت المعركة بالعنف ، وانتهت بانتصار أسد الدين شيركوه بعد أن تخلىَّ الجيش والناس والخليفة عن ضرغام ، وقتل أثناء محاولته الفرار قرب مشهد السيدة نفيسة - المزعوم - في شهر رجب 559ﻫ/ شهر حزيران 1164م كما قتل أخوه ناصر الدين ، ودخل أسد الدين شيركوه القاهرة منتصراً ، وأعاد شاور إلى منصبه في الوزارة ، ثم أقام معسكره خارجها (15) .
وبعد أن ضمن شاور عودته إلى منصب الوزارة عاد إلى طبيعته التي اتصف بها - من المكر والخداع - ليدخل في صراع جديد مع أسد الدين شيركوه ، فأساء معاملة الناس ، وتناسى وعوده لنور الدين محمود ، بل سرعان ما ظهرت عليه إمارات الغدر فنقض اتفاقيته معه ، وطلب من شيركوه الخروج من مصر ، وأن يعود فوراً مع قواته إلى بلاد الشام ، لكن هذا الأخير رفض الاستجابة لطلبه، وردَّ على موقفه المتقلب، فسارع إلى الاستيلاء على بلبيس وحكم البلاد الشرقية (16).
ولم يَسَعْ شاور إلا أن يستنجد بالملك عموري الأول الذي كان يتأهب للزحف على مصر، وأخذ يخوَّفه من نور الدين محمود ، وعرض عليه أن :
- يؤدي له مبلغ ألف دينار عن كل مرحلة من مراحل الرحلة من بيت المقدس إلى نهر النيل ، البالغ عددها سبعاً وعشرين مرحلة.
- يمنح هدية لكل من يصحبه من فرسان الاسبتارية الذين كانوا يشكلون عماد جيش مملكة بيت المقدس ، في محاولة منه لإغراء فرسانها بالاشتراك بالحملة.
- يتكفَّل بنفقات علف أفراسهم ، مقابل مساعدته لإخراج أسد الدين شيركوه من مصر (17) ..
وهكذا انغمس شاور في اللعبة السياسية بين الأعداء الكبار محاولاً بذلك إثارتهم لمصلحته الخاصة ، ولا شك بأن عموري الأول كان آنذاك يراقب تطورات الموقف السياسي والعسكري في مصر، فلما علم بزحف أسد الدين شيركوه ازدادت مخاوفه ، ولما وصلت إليه دعوة شاور رحَّب بها ، وبذلك لم يُضيع الفرصة عليه لدخول مصر ، وإن اختلف الحليف، الأمر الذي لا يهمه في شيء ، فكل ما يعنيه هو دخول مصر (18).
3- حملة عموري الثانية على مصر : فشلت حملت عموري الأول على مصر ، واضطر إلى الانسحاب والعودة إلى بيت المقدس ، وكانت في عام 558ﻫ/1163م وعندما اتيحت الفرصة مّرة أخرى لدخول مصر بادر عموري الأول فور تلقيه دعوة شاور إلى عقد مجلس في بيت المقدس حضره بارونات المملكة، وتقرَّر فيه تلبية دعوة شاور بعد أن أوضح للمجلس أنّ في قدرته تجهيز حملة لغزو مصر دون أن يضعف من دفاعات المملكة، وبخاصة أنه وصل وقتئذ من أوروبا عدد من الحجاج لزيارة بيت المقدس ، يمكن الاستفادة منهم في المجهود الحربي ، وأمل في أن يتمكَّن من احتلال مصر لحساب الصليبيين .
وقرَّر بأن يتولى بوهميوند الثالث ( أمير أنطاكية) إدارة شئون المملكة خلال غيابه (19) ، وأسرع ملك بيت المقدس بالزحف إلى مصر على رأس قواته للمرة الثانية في شهر رمضان عام 559ﻫ / شهر آب عام 1164م ، واتصل فور وصوله إلى فاقوس (20) بشاور ، واتفقا على حصار أسد الدين شيركوه في بلبيس ، وصمد هذا الحصن للحصار مدة ثلاثة أشهر ، دافع أسد الدين شيركوه خلالها عن مواقعه (20) .
وفجأة قرَّر عمورى الأول الدخول في مفاوضات معه للجلاء المزدوج عن مصر ، فما الذي حدث في الأفق السياسي حتى أقدم على هذه الخطوة ؟ - وهنا تبرز عبقرية نور الدين العسكرية وقيادته الفذة فقد - تلقَّى عموري الأول أنباء مزعجة من بلاد الشام بتعرض ممتلكاته لضغط من نور الدين محمود ففضَّل العودة للدفاع عنها، وأدرك في الوقت نفسه أن حملته مقضي عليها بالفشل في ظل امتناع أسد الدين شيركوه في بلبيس ، وكان موقف أسد الدين شيركوه صعباً أيضاً ، فالمؤن بدأت بالنفاذ ، فضلاً عن تفوق القوات الصليبية الفاطمية المشتركة في العدد ، وأن الوضع العسكري ليس في صالحه ؛ لذلك قبل الدخول في مفاوضات من أجل الجلاء عن مصر(21).
وفعلاً تّم الاتفاق بين الرجلين على الخروج من مصر في شهر ذي الحجة ( شهر تشرين الأول ) وسار الجيشان الإسلامي والصليبي في طريقين متوازيين عبر شبه جزيرة سيناء ، بعد أن تركا شاور يسيطر على مقاليد الحكم ، وكان شيركوه آخر من غادر البلاد للحاق بجيشه (22).
وكان شاور الفائز الحقيقي في هذا الصراع الذي انتهى لمصلحته، فتخلصَّ من الجيوش الإسلامية الشامية والصليبية على السواء ، كما تخلصَّ من ضرغام ، وأضحى طوال العامين التاليين صاحب الأمر والنهي والمتحكَّم في مقاليد البلاد (23).
ووضع أسد الدين شيركوه نفسه بعد عودته من مصر تحت تصرف نور الدين محمود ، وأصبحت مصر محور تفكير أسد الدين شيركوه وحديثه في مجالسه ومحور أفكاره ، ولم ينقطع عن تبادل الآراء مع أصدقائه فيها الذين كانوا يزودونه بأخبارها ، وأرسله نور الدين محمود في تلك الأثناء بمهمة إلى بغداد، فاستغل وجوده في عاصمة الخلافة ليثير حماس الخليفة المستنجد بالله ، حيث راح يقص عليه أخبار مصر وأحوالها ، وما شاهده وخبره بنفسه، فتأثر الخليفة بما سمعه ، وشجَّعه على العودة إليها (24)
وعلى الرغم من أن حملة أسد الدين شيركوه لم تحقق أهدافها في مصر إلا أن النتيجة النهائية هي أن أملاك نور الدين محمود قد تدعَّمت في بلاد الشام ، وارتفع شأنه في العالم الإسلامي، بينما تراجعت أملاك الصليبيين إلى الساحل ، واستبد اليأس بهم (25)، ومهما يكن من أمر فقد غادر كل من شيركوه وعموري الأول أرض مصر ، وقد وقف كل منهما على أوضاعها السياسية المتردية وسوء أحوالها الاقتصادية ، بالإضافة إلى ما تمتع به من ثروة وفيرة ، وموارد بشرية هائلة ترجَّح كفة من يضع يده عليها.
وانتهز شاور فرصة خروجهما فعاد إلى سيرته الأولى، يظلم ويقتل ويصادر أموال الناس ، بحيث لم يبق للخليفة الفاطمي العاضد معه أمر ولا نهي ، ولما ثقلت وطأته عليه كتب إلى نور الدين محمود يستنجد به ليخلصَّه منه (26).
4- الحملة النورية الثانية : أعّد نور الدين محمود القوات اللازمة وأرسلها إلى مصر في شهر ربيع الأول عام 562ﻫ (شهر كانون الثاني عام 1167م ) بقيادة أسد الدين شيركوه وصحبة ابن أخيه صلاح الدين ، وسيَّر معه جماعة من الأمراء (27) ، وبلغ تعداد هذه القوات ألفي فارس (28) ، ورافقه نور الدين حتى أطراف البلاد خوفاً من تعُّرض الصليبيين له (29)..
وسار أفراد الحملة في طريق محفوفة بالأخطار، فالصليبيون الذين كانوا على طريقهم رابضين في الكرك والشوبك قد ينقضُّون عليهم وينكَّلون بهم ، وهم بعيدون عن مناطقهم ، والبدو يلاحقونهم وينقلون أخبارهم إلى الصليبيين ، وكان عليهم أن يغيَّروا طريق سيرهم أحياناً للتّخفي ، كما عرقلت الطبيعة زحفهم ، إذ إن عاصفة رملية عنيفة هبَّت عليهم ، وقضت على عدد من الرجال وبعض الزاد ، وعلى الرغم من ذلك واصلوا رحلتهم إلى مصر ..
وتوافر لشاور من الوقت ما جعله يستنجد مجدَّداً بعموري الأول، إذ أيقن من استقراء الأحداث أن أسد الدين شيركوه إذا قدم إلى مصر هذه المرة فإنه سوف يبقى فيها ولا يغادرها ، لذلك فإنه لم يتوان عن الاتصال بملك بيت المقدس والتفاوض معه ، موضحاً له الخطر الذي يمثله نور الدين محمود على مملكة بيت المقدس لو نجح في امتلاك مصر..
رحَّب عموري الأول بدعوة شاور طمعاً في امتلاك مصر ، وإبعاد نور الدين محمود وجيوشه عنها ؛ حتى لا يتمكنَّ من تطويق مملكته التي ستصبح في وسط ممتلكات نور الدين محمود (30) وقبل أن تستكمل الاستعدادات وردت الأنباء بأن أسد الدين شيركوه يجتاز صحراء سيناء ، فلم يسع عموري الأول إلا أن يرسل ما تيسر الحصول عليه من الجند لعرقلة تقدمه ، غير أن هذا التدبير جاء (31) متأخراً..
وعلى الرغم من أن جيش أسد الدين شيركوه تعرَّض لعاصفة رملية عرقلت تقدمه، وكادت تقضي على أفراده فإنه وصل سالماً إلى برزخ السويس في شهر ربيع الآخر(أوائل شهر شباط) وعلم أسد الدين شيركوه بأن جيشاً صليبياً شرع في الزحف باتجاه مصر، عندئذ أجتاز الصحراء باتجاه الجنوب الغربي ليتفادى مواجة مبكرة مع الصليبيين حتى بلغ نهر النيل عند إطفيح على مسافة أربعين ميلاً جنوبي القاهرة (32).
ثم عبر على الضفة الغربية والتزمها في سيره حتى وصل إلى الجيزة ، وعسكر بمواجهة الفسطاط ، وتصَّرف في البلاد الغربية ، وحكمها نيفاً وخمسين يوماً(33)..
وإلى اللقاء مع الحلقة الخامسة
المصدر : موقع التاريخ
الهوامش :
1- كتاب الروضتين (1/370).
2- فن الصراع الإسلامي الصليبي ص 84.
3- المصدر نفسه ص 196.
4- المصدر نفسه ص 197.
5- المصدر نفسه ص 197.
6- الجهاد والتجديد ص 195.
7- المصدر نفسه ص 196.
8- مصر والشام في عهد الأيوبيين والمماليك ص 13.
9- الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 198.
10- الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 198.
11- الجهاد والتجديد ص 198.
12- تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 328.
13- النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ص 76.
14- تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 329.
15- المصدر نفسه ص 329.
16- الباهر ص 121 - 122 تاريخ الزنكيين في الموصل ص 330.
17- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 330.
18- المصدر نفسه ص 330.
19- الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 331.
20- فاقوس : مدينة في جوف مصر الشرقي وهي آذار ديار مصر من جهة الشام في الجوف الأقصى الحمودي (4/232).
21- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 331.
22- المصدر نفسه ص 331.
23- المصدر نفسه ص 331.
24- المصدر نفسه ص 331.
25- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 332.
26- المصدر نفسه ص 332.
27- النجوم الزاهرة (5/348).
28- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 342.
29- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/13).
30- الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 342.
31- مفروج الكروب (1/149) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 343.
32- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 343.
33- الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 343.
34- الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 344.

شيركوه
11-11-2008, 07:01 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطية ( 5 )

أ- حملة عموري الثالثة على مصر والمفاوضات الصليبية الفاطمية :

خرج عموري الأول من بيت المقدس في شهر ربيع الأول عام 562ﻫ شهر كانون الثاني عام 1167م متوجهاً إلى مصر في حملته الثالثة على هذا البلد، واجتاز الطريق المألوف من غزة إلى العريش، ثم اخترق الصحراء إلى بلبيس ، وارتاع شاور من ظهوره المفاجئ ، وساوره القلق لعدمَ التنسيق معه ، ويبدو أنه لم يكن على علم بوصول شيركوه إلى إطفيح ، ولم يطمئن إلا عندما أرسل كشافته إلى الصحراء للوقوف على حقيقة الوضع .


عندئذ خرج لاستقبال الملك الصليبي والتقى به ، وأنزله عموري الأول في معسكره على الضفة الشرقية لنهر النيل على مسافة ميل واحد من أسوار القاهرة (1) ، وأجرى مع شاور مباحثات تعهد شاور خلالها بأن يدفع أربعمائة ألف دينار مقابل طرد أسد الدين شيركوه من مصر، على أن يجري دفع نصف هذا المبلغ على الفور، ثم يبذل النصف الآخر فيما بعد، واشترط أن يقُسم عموري الأول على هذا (2) ..

ولدعم هذه الاتفاقية، وإعطائها صيغة رسمية، أرسل عموري الأول كلاً من هيو" سيد قيسارية" وجفري " مقدم فرسان الداوية" إلى الخليفة الفاطمي للحصول منه على الموافقة الرسمية عليها، فاستُقبل الرسولان استقبالاً حافلاً في القصر الفاطمي ، وتمَّ التصديق على المعاهدة (3) .

وكان من الطبيعي أن يرحَّب الصليبيون بهذه الاتفاقية التي تجعل منهم حماة لمصر والخلافة الفاطمية ، وتُبعد أسد الدين شيركوه بوصفه المنافس الوحيد لهم في السيطرة على هذا البلد (4).

ب- معركة البابين :

كان أسد الدين والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصَّعيد فبلغوا مكاناً يُعرف بالبابَيْن، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءهم فأدركوهم به في الخامس والعشرين من جمُادي الأولى ، وكان قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا وأخبروه بكثرة عَدَدهم وعُددهم، وجدَّهم في طلبه ، فعزم على لقائهم وقتالهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من السَّلامة ؛ لقلة عددهم وبُعْدهم عن بلادهم ..

فاستشارهم فكلُّهم أشار عليه بعبور النيل إلى الجانب الشَّرقي والعوْد إلى الشَّام ، وقالوا له : إن نحن انهزمنا - وهو الذي لا شك فيه - فإلي أين نلتجئ ؟ وبمن نحتمي ؟ وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا، ويوَدُّون لو شربوا دماءنا ؟ ..

وحُقَّ لعسكر عدتهم ألفا فارس قد بَعُدُوا عن ديارهم ، ونأى ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات ألوف، مع إن كل أهل البلاد عدوُّ لهم ، فلما قالوا ذلك قام إنسان من المماليك النُّورية ، يقال له شرف الدين بُزغُش - وكان من الشجاعة بالمكان المشهور - وقال : من يخاف القتل والجراح والأسر فلا يخدم الملوك ، بل يكون فلاحاً ، أو مع النِساء في بيته ، والله لئن عُدْتُم إلى الملك العادل ( نور الدين ) من غير غَلبة وبلاء تُعذرون فيه ليأخذنَّ إقطاعاتكم ، وليعودَنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا، ويقول لكم : أتأخذون أموال المسلمين وتفُّرون عن عدوهم، وتسلمَّون مثل هذه الديار المصرية يتصَّرف فيها الكُفَّار ؟..

فقال أسد الدين هذا رأيي وبه أعمل ، ووافقهما صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ثم كثر الموافقون لهم على القتال، فاجتمعت الكلمة على اللقاء، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة - وهنا برزت عقلية أسد الدين شيركوه وخبرته العسكرية ، فقد جعل الأثقال في القلب يستكثَّر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد ، ثم إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب ، وقال له ولمن معه : إن الفرنج والمصريين يحسبون أنني في القلب ، فهم يجعلون جَمْرتهم بإزائه وحملتهم عليه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ، ولا تهلكوا نفوسكم ، واندفعوا بين أيديهم ، فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم ..

واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم ، ويعرف صبرهم وشجاعتهم ، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقابل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين ، وحملوا على القلب ظناً منهم أنه فيه ، فقاتلهم مَنْ به قتالاً يسيراً ، ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم ، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلفَّ من الفرنج الذين حملوا على القلب - من المسلمين والفرنج - فهزمهم ، ووضع السيف فيهم فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون ..

فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بَلقْعاً ، ليس بها منهم ديَّار، فانهزموا أيضاً ، وكان هذا من أعجب ما يؤرَّخ : أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج السَّاحل (5) .

ج- حصار الإسكندرية :

ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في طريقها من القرى والسوَّاد من الأموال ، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمَّها من غير قتال ؛ سلمَّها أهلها إليه فاستناب بها صلاح الدَّين ابن أخيه، وعاد إلى الصَّعيد ، وتملكَّه وجبى أمواله ، وأقام به حتى صام رمضان ..

وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا إلى القاهرة ، وجمعوا أصحابهم ، وأقاموا عوض من قُتل منهم ، واستكثروا وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية - وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم ، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج ، فاشتد الحصار ، وقَلَّ الطعام بالبلد ، فصبر أهله على ذلك ، ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم ، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والفرنج يطلبون الصُّلح (6) .

س - المفاوضات النورية - الصليبية بشأن الجلاء عن مصر : وبعد مفاوضات بين الطرفين تّم عقد صلح على الأسس التالثة :

ـ رفع الحصار عن الإسكندرية.

ـ تبادل الأسرى.

ـ إطلاق سراح الجند النوري داخل الإسكندرية.

ـ يخرج شيركوه مع عسكره من مصر.

ـ عدم التعرض لهم في الطريق من قِبل القوات الصليبية.

إن قراءة متأنية لسير الوقائع ، كما جرت على الأرض ، والعروض المتبادلة بشأن عقد الصلح ، وما حدث بعد إبرام الاتفاقية يمكن رصد الملاحظات التالية :

وافق الجانبان النوري والصليبي الفاطمي على خروج القوات النورية والصليبية من مصر ، تبادل الأسرى ، يتعهد شاور بألاّ يُعاقب رعاياه في الإسكندرية ، وفي غيرها من الجهات الذين ساندوا أسد الدين شيركوه (7).

ولكن عموري الأول دخل مدينة الإسكندرية في شهر (شوال/ آب) في حين غادرها صلاح الدين في موكب عسكري حافل على الرغم مما أصاب السكان من ضيق لرحيله ، والتقى الرجلان ، وأعجب كل منهما بالآخر، حتى لقد قام ملك بيت المقدس بإمداد صلاح الدين ببعض المراكب لنقل الجرحى المسلمين إلى بلاد الشام (8) .

على أن متاعب السكان لم تنته ، فلم يكد أتباع شاور يدخلون المدينة حتى ألقوا القبض على كل من جرى الاشتباه في أنه تعاون مع صلاح الدين ، وقد احتج هذا الأخير لدى عموري الأول الذي نصح شاور بأن يطلق سراح الأسرى (9) ..

وكانت هذه هي المّرة الثانية التي يغدر فيها شاور ، وقد علمَّت صلاح الدين درساً قاسياً ، حتى إنه لم يتركها تتكرر، واقتصَّ بنفسه من شاور عندما عادت القوات الشامية إلى مصر عام 564ﻫ/1168م (10) .

ك- الحماية الصليبية على مصر :

غادر كل من أسد الدين شيركوه وصلاح الدين مصر في شهر ذي القعدة / شهر أيلول في حين تأخر عموري الأول لبضعة أسابيع ، لأنه مَّر بالقاهرة ليثبَّت الحماية الصليبية على الدولة الفاطمية وشاور، وكانت أهم مظاهرها :

ـ دفع جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار للصليبيين.

ـ بقاء قوة من فرسانهم تحمي أبواب القاهرة ، لتدفع نور الدين محمود إن كرَّر محاولة الهجوم.

ـ إقامة مندوب عن الملك الصليبي في القاهرة يشارك في شئون الحكم (11).

والراجح أن فكرة تملُّك مصر كانت ناشطة في تفكير عموري الأول السياسي، ولم يعد بوسعه أن يتخلى عنها، وهو ينوي العودة بعد إقرار الأمور في بلاد الشام، وذلك طمعاً في ثروتها وحماية لكيانه في بلاد الشام (12) .

وبهذه الإجراءات تأكدت الحماية على مصر، وترتَّب على هذا استمرار التنافس بين نور الدين محمود وعموري (13) .

5- الحملة النورية الثالثة على مصر : عام 564ﻫ :

سبب هذه الحملة أن الفرنجة كانوا قد جعلوا لهم شحنة في القاهرة ، وتسلموا أبوابها ، وحكموا المسلمين حكماً جائراً ، فلما رأوا أنه ليس في البلاد من يردهم ، أرسلوا إلى ملكهم - عموري - في القدس، يستدعونه ليملك مصر، وهونوا عليه أمرها، فتردد خوفاً من سوء العاقبة ، ثم سار مع فرسانهم على كره منه حتى وصلوا بلبيس مستهل صفر ونهبوها، وقتلوا وأسروا من فيها ، ثم ساروا إلى "الفسطاط" فأمر شاور بإحراقها ..

وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد خوفاً من أن يملكها الإفرنج ، فنهبت المدينة ، وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً ، ثم حاصر الفرنجة القاهرة ، وضيقوا على أهلها ، وكان شاور هو المتولي للعساكر والقتال ، فضاق به الأمر ، وضعف عن ردهم، فأخلد إلى الحيلة ، وراسل ملكهم عموري ، ووعده بمال عظيم ألف ألف دينار مصرية ، يعجل بعضها الآن ، ودفع لهم منها " مائة ألف دينار" وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل يجمع لهم المال ، فلم يستطع أن يجمع إلا خمسة آلاف دينار ، حيث إن المصريين كانوا قد احترقت دورهم ، ونهبت أموالهم (14).

أ- العاضد يستنجد بنور الدين محمود :

كان حاكم مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ، ويعَّرفه ضعف المسلمين عن الفرنج ، وأرسل في الكتب شعور النساء ، وقال له : هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لِتُنقِذهُنَّ من الفرنج (15) وعرض على نور الدين مقابل إنقاذ البلاد من الصليبيين :

- منحه ثلث بلاد مصر.

- منح قادته الإقطاعات.

- يسمح لشيركوه بأن يقيم في مصر (16).

ب- أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر ويدخل القاهرة :

شرع نور الدين في تجهيز الجيوش ، وإعدادها إعداداً قوياً ، وأعطى قائد الحملة (شيركوه) مائتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة ، وحكمه في العسكر والخزائن ، يأخذ حاجته فاختار من العسكر ألفي فارس، وجمع من فرسان التركمان ستة آلاف ، وسار نور الدين وشيركوه إلى باب دمشق ، ورحلوا إلى رأس الماء (17) ..

وأعطى نور الدين كل فارس منهم عشرين ديناراً ، معونة غير محسوبة ، وأضاف إلى شيركوه جماعة أخرى من الأمراء ، منهم صلاح الدين الأيوبي (18) ، وسار أسد الدين مجداً ، فلما قارب مصر رحل الفرنجة إلى بلادهم بخفي حنين ، خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودتهم فسره ذلك ، وأمر بضرب البشائر في بلاده ، ولما وصل أسد الدين القاهرة ، دخلها واجتمع بالعاضد، الذي خلع عليه ، وفرح به أهل مصر، وأجريت على عساكره الجرايات الكثيرة (19).

ج- مقتل شاور :

وأما شاور فلم يفصح عما في نفسه ، وشرع يماطل أسد الدين ، فيما وعد به من المال ، ورواتب الجند ، وعزم على الغدر أيضاً ، فقرر أن يقيم وليمة لأسد الدين وأمرائه ، ثم يغدر بهم ويقتلهم ، فنهاه ابنه الكامل عن ذلك ، وقال له : ولله لئن عزمت على هذا الأمر لأُعرَّفَنَّ أسد الدين ، فقال له أبوه : والله لئن لم أفعل لنقتلن جميعاً ، فقال : صدقت ، ولئن نُقتل ونحن مسلمون والبلاد بين المسلمين خير من أن نقتل ، وقد ملكها الفرنج ، فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شِركوه ، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً ، ويملكون البلاد ، فترك ما كان عزم عليه (20) ..

وأخيراً اتفق صلاح الدين وبعض الأمراء على التخلص من هذا الخائن المراوغ شاور فأسروه ، وسمع العاضد بذلك فأرسل إلى شيركوه يطلب رأسه ، وأذن أسد الدين بقتله فقتل ، وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخرة، عام 643ﻫ (21) .

ر- تولي أسد الدين الوزارة للعاضد :

ودخل أسد الدين القاهرة، وقصد قصر العاضد فخلع عليه الوزارة ، ولقبه الملك المنصور، وأمير الجيوش، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه ، وأقطع البلاد لعساكره .

س- وفاة أسد الدين :

ولم تطل وزارة شيركوه، حيث توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 564ﻫ فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام رحمه الله رحمة واسعة ، وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين (22) وكان أسد الدين من أكبر قادة نورالدين، وقد ادخره للخطوة الكبرى التي كان يمهد لها، وهي ضم مصر إلى بلاد الشام ، وكان رحمه الله كريماً على جنده، صارماً يعرف كيف يقر النظام في عسكره ، فهابه جنده وأحبوه، وركبوا معه المخاطر في حملات عظيمة (23نفع الله بها الإسلام والمسلمين ، وساهمت في تقوية المشروع المقاوم للغزو الصليبي الذي كان يقوده نور الدين ثم من بعده صلاح الدين....

وإلى لقاء مع الحلقة السادسة

الهوامش :

1 ـ وليم الصوري (2/896).

2 ـ المصدر نفسه (2/899) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 344.

3 ـ تاريخ الزنكيين في الموصل ص 344.

4 ـ المصدر نفسه ص 344.

5 ـ الباهر ص 132 - 133 ، كتاب الروضتين (2/13).

6 ـ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/14).

7 ـ تاريخ الزنكيين في الموصل ص 350.

8 ـ المصدر نفسه ص 351.

9 ـ تاريخ الفاطميين ص 494.

10 ـ المصدر نفسه ص 495.

11ـ المصدر نفسه ص 495.

12ـ النجوم الزاهرة (5/349).

13 ـ تاريخ الفاطميين ص 495.

14 ـ كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 202.

15 ـ الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 202.

16 ـ تاريخ الفاطميين محمد سهيل طقوس ص 504.

17 ـ الجهاد والتجديد ص 202 رأس الماء في منطقة حوران.

18 ـ الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 202.

19 ـ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/55).

20 ـ المصدر نفسه (2/56).

21ـ الجهاد والتجديد ص 203.

22ـ الجهاد والتجديد ص 204.

23 ـ المصدر نفسه ص 204.

المصدر : موقع التاريخ

شيركوه
11-11-2008, 07:04 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية (6)
ثالثاً : وزارة صلاح الدين في مصر والمهام التي أنجزها
كان صلاح الدين قد أظهر كفاءة خلال صحبته لعمه أسد الدين شيركوه أثناء حملاته على مصر ، فتولى الوزارة بعد وفاة عمه ، وهو في الحادية والثلاثين من عمره ، اختاره العاضد لأنه كان أصغر الأمراء سناً ، ولعله يكون أكثر طواعيةً له ، إلا أن الملك الناصر ـ كما لقبه العاضد - خيب ظن الفاطميين، فشرع يستميل قلوب الناس إليه ، كما بذل لهم من الأموال التي قد جمعها عمه، فمال الناس إليه وأحبوه وسيطر على الجند سيطرة تامة (1).
وكانت المهام التي أنجزها صلاح الدين في عهد نور الدين عظيمة وضخمة ، واستطاع القضاء على مراكز القوة :
1- مؤامرة مؤتمن الخلافة :
جرى من الأحداث في مصر بعد تولية صلاح الدين منصب الوزارة أن البلاد كانت تجتاز مرحلة خطيرة في تاريخها ، فالدولة الفاطمية لا زالت موجودة يساندها الجيش الفاطمي وكبار الدولة ، والخطر الصليبي لا يزال جاثماً على مقربة من أبواب مصر الشرقية ، فكان عليه أن يثبت أقدامه في الحكم ليتفرغ لمجابهة ما قد ينشأ من تطورات سياسية ، ولم يلبث أن أظهر مقدرة كبيرة في إدارة شؤون الدولة ، وهو عازم على الاستئثار بكافة الاختصاصات حتى التي تخص منصب الخلافة ، ونفَّذ عدة تدابير كفلت له الهيمنة التامة منها :
- استمال قلوب سكان مصر بما بذل لهم من الأموال فأحبوه.http://www.altareekh.com/new/doc/images/articles/Saladin%5B1%5D.jpg
- أخضع مماليك أسد الدين شيركوه ، وسيطر بشكل تام على الجند بعد أن أحسن إليهم.
- قوّى مركزه بما كان يمده به نور الدين محمود من المساعدات العسكرية ، وقد وصل أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيوب مع إحدى هذه المساعدات العسكرية (2)
وقد أدَّت التدابير التي نفَّذها صلاح الدين إلى تقوية قبضته على مقدرات الدولة ، وزادت من تراجع نفوذ العاضد ، وبالتالي مركز الإمامة ، وأثارت استياء كبير الطواشية مؤتمن الخلافة وهو نوبي وقائد الجند السودان ، وقد أدرك أن نهج صلاح الدين في الحكم سوف يقضى في حال استمراره على الدولة الفاطمية إن عاجلاً أو آجلاً ، ويبدو أنه كان من بين الطامعين في خلافة شاور، ولما لم يفلح راح يحيك الدسائس للإطاحة بصلاح الدين ، وحاول الاتصال بعموري الأول ملك بيت المقدس ؛ لتحريضه على مهاجمة مصر، آملاً في حالة الاستجابة أن يخرج صلاح الدين إلى لقائه ، فيقبض هو على من يبقى من أصحابه في القاهرة ، ويثب على منصب الوزارة ، ويتقاسم البلاد مع الصليبيين ..
غير أن صلاح الدين علم بخيوط المؤامرة حين ارتاب أحد أتباعه في شكل الخفين اللذين اتّخذهما رسول مؤتمن الخلافة إلى عموري الأول ، فأخذهما ونزع خياطتها ، فاكتشف الرسالة بداخلها ، فقبض على مؤتمن الخلافة ، وانتهز الفرصة للتخلص منه ، غير أن أنباء اهتزاز مركزه في مصر شجعت النصارى على القيام بمحاولة أخرى لمهاجمة مصر (3) وقد قام صلاح الدين بإبعاد جميع الخدم من السودان عن قصر الخلافة ، واستعمل على الجميع في القصر بهاء الدين قراقوش ، فكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بحكمه وأمره (4)
2- وقعة السُّودان :
وذلك أنه لما قتل الطَّواشي (5) مؤتمن الخلافة الخادم الحبشُّي، وعزل بقية الخدَّام غضبوا لذلك ، واجتمعوا قريباً مِن خمسين ألفا ً، فاقتتلوا هم وجيش الملك صلاح الدين بين القَصْرَين ، فقتل خلق كثير من الفريقين ، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة ، وقد قُذِفَ الجيشُ الشامُّي من القصر بحجارة ، وجاءهم منه سهامٌ ، فقيل : كان ذلك بأمر العاضد ، وقيل : لم يكن بأمره ، ثم إن أخا الناصر - صلاح الدين - شمس الدولة تورانشاه وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين إلى أخيه ليُشدَّ أزره - أمر بإحراق منظرة العاضد، ففتح الباب ونُودِى : إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السُّودان من بين أظهركم، ومن بلادِكم فقوى الشاميون وضعف جأش السودان جدَّاً ، وأرسل الملك الناصر إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة التي فيها دورُهم وأهلوُهم بباب زويلة فأحرقها ، فولَّوا عند ذلك مُدبرين، وركبهم السيف فقتل خلقاً كثيراً، ثم طلبُوا الأمان من الملك صلاح الدين فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة ..
ثم خرج إليهم شمسُ الدول تورانشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم ، ولم يبق منهم إلا القليل " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " (النمل ، آية : 52) (6)
ويبدو أن حاكم مصر الفاطمي كان في ذلك الوقت على علم بمؤامرة مؤتمن الخلافة ؛ لأنه ليس من المتصور أن يجري ذلك في قصره وبدون علمه ، ويؤكد ذلك أن قوات صلاح الدين يوسف بن أيوب تعرضت وهي تصفي أطراف المؤامرة لهجمات بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم ، بل إن العاضد كان يراقب المعركة من القصر (7)
كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء ، وبالذات القاضي الفاضل الذي كان العقل المفكر للقضاء على النفوذ الفاطمي في مصر وتثبيت المذهب السني.
كان القاضي الفاضل يراقب كتّاب ديوان الإنشاء والمسّرحين منهم بصورة خاصة ، وكانت العيون مبثوثة في كل ناحية ومنطقة وزاوية ، في القصور وبين العساكر، وعلى الحدود ، وعلى كل محطة من محَطات البريد أو محَّطات الاتصال بين مصر والفرنج ، وقد كانت هذه العيون على اتصّال مباشر بالقاضي الفاضل تزوده بتقريرها بواسطة الرسل وعلى أجنة حمام الزاجل (8)
3- القضاء على الأرمن : ولم يتوقف نصر صلاح الدين بالقضاء عل شوكة السودان بل أتبعه بفلّ شوكة الأرمن ، وهم الفرقة التالية للسودان قوة وعدداً، فأحرق داراً للأرمن بين القصرين وفيها عدد كبير من الجنود الأرمن ، معظمهم من الرماة ولهم رواتب من الحكومة ، وكان هؤلاء قد حاولوا أن يعرقلوا حركة قوات صلاح الدين في أثناء المعركة مع السودان برميهم بالنشّاب فلقوا جزاءهم ، وأما من تبقّى منهم فنفاهم صلاح الدين إلى الصعيد (9)
أضعف صلاح الدين بقضائه على شوكة السودان والأرمن الدولة الفاطمية إلى حد بعيد ، بحيث أصبح من الواضح أن القضاء على الدولة الفاطمية نفسها لم يعد بعيداً (10)
4- اهتمام صلاح الدين بتقوية جيوشه :
أخذ صلاح الدين يعمل حال توليّة الوزارة على إعداد جيش أيوبي ليكون نواة لجيش مصري جديد يدافع به عن حكمهم ، وعن مصر من الغزو الإفرنجي ، ولم يخفَ عليه تدهور وضع الجيش الفاطمي لأنه خبره في أثناء رحلاته الثلاث إلى مصر بين سنة 559ﻫ وسنة 564ﻫ (1163م - 1168م ) وعرفه معرفة جيدة من حيث مصادره البشرية والمالية والحربية ، ومن حيث تنظيمه وفِرقه المبنية على أساس عرقي ، مثل السودان والأرمن والمصريين والديلم والأتراك والعربان ، وكان يعرف بالتفصيل وضع كل فرقة من هذه الفرق (11)
وكان القاضي الفاضل قد عمل في إدارة هذه القوات في عهد رزيك بن الصالح ، وساهم معها في بعض وقائعها الحربية خلال الحملة الفرنجية الشامية الثانية على مصر كما أشرنا سابقاً ، وشاهد قادة الفرق المختلفة من هذه القوات ، وهم يتنافسون في شأن السلطة ، الأمر الذي أنهك القوات ، وأضعف مصر إلى حد أصبحت تعجز معه عن الدفاع عن استقلالها ، أو حتى عن بقائها ..
وعرف القاضي الفاضل الكثير عن القوات المصرية عن طريق عمله معها في ديوان الجيش ، وفي ديوان الإنشاء الذي كان يتعامل مع ديوان الجيش ، ويشرف على العيون والرسل ، فألّم بهذه القوات وعرف دخائلها ، واطلّع على كل فرقة منها ، وعلى نيات كل قائد من قوّادها ، ولم يضنَّ بمعلوماته عنها على صلاح الدين ، بل وجهه في تنظيم جيشه الأيوبي وإدارته، وظل طول عمله مع صلاح الدين يشرف على عساكره ، ويراقب إعدادها وتنظيمها ومواردها المالية ، ويصحبها من مصر إلى الشام لتحارب مع صلاح الدين ، ومن الشام إلى مصر لتستعد وتتجهز لحملات مقبلة ضد الفرنج ، وقد أنشا صلاح الدين في بداية عهده في الوزارة جيشاً كبيراً ، ازداد عدداً وعّدة بمرور الوقت واتساع عملياته الحربية ضد الفرنج ..
وكان قوام هذا الجيش في مصر الحرس الخاص والجيش النظامي ، ثم الجيوش الشعبية التي تكوّنت من أمراء الإقطاع وجنودهم، ولاسيما في الشام والجزيرة بعد سنة 570ﻫ/1174م والبدو (12)
رابعاً : التصدي للحملة الصليبية البيزنطية المشتركة وحصار دمياط 565ﻫ
أدرك الإفرنج خطورة موقفهم بعد فتح مصر، وتولى صلاح الدين وزارتها ، فاتفق ملك القدس "عموري" مع إمبراطور بيزنطة على غزو مصر بأساطيلهم وحاصروا دمياط تنفيذاً لذلك التحالف (13) وأرسل صلاح الدين قواته بقيادة خاله شهاب الدين محمود وابن أخيه تقي الدين عمر، وأرسل إلى نورالدين يشكو ما هم فيه من المخافة ويقول : إن تأخرت عن دمياط ملكها الإفرنج ، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها بالشر ، وخرجوا من طاعتي ، وساروا في أثري، والفرنج أمامي؛ فلا يبقى لنا باقية (14)
وقد قام نور الدين بالدور المتوقع منه ، واتخذ القرار السليم فسير العساكر إلى صلاح الدين ، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية ، وقام بشن الغارات على حصون الفرنجة وقلاعهم ، ووصلت سراياه إلى المدى الذي لم تصله من قبل في بلادهم ليخفف الضغط عن مصر ، وفي ذلك تعزيز ودعم لصلاح الدين حتى يتمكن من إحكام السيطرة على مصر، ليتفرغ بعد ذلك للمساعدة في تحقيق الهدف الإستراتيجي الكبير المتمثل في تحرير سواحل بلاد الشام من الاحتلال (15) الفرنجي ..
وقامت حامية دمياط بدور بطولي في الدفاع عن المدينة ، وألقت سلسلة ضخمة عبر النهر منعت وصول السفن اليونانية إليها ، وأنزل المسلمون المدافعون الخسائر بالأسطول البيزنطي اليوناني، وهطلت أمطار غزيرة حولت المعسكر الصليبي إلى مستنقع ، فتهيأوا للعودة وغادروا دمياط بعد حصار دام خمسين يوماً، وعندما أبحر الأسطول البيزنطي هبت عاصفة عنيفة لم يستطيع البحارة الذين كادوا أن يهلكوا جوعاً من السيطرة على سفنهم فغرق معظمها، ونصر الله المسلمين، نصراً مؤزراً . (16)
1- أسباب فشل الحملة على دمياط :
يعود فشل الحملة الصليبية البيزنطية على دمياط إلى عوامل تتعلق بالمسلمين والصليبيين والبيزنطيين ، وبالجانبين الصليبي والبيزنطي معاً.
أ- فيما يتعلق بالجانب الإسلامي يمكن رصد العوامل التالية :
ـ صمود سكان دمياط في وجه المعتدين.
ـ سرعة إمداد صلاح الدين المدينة بالمؤن والسلاح، مما رفع معنويات سكانها المحاصرين.
ـ التعاون الصادق بين القوات الإسلامية في كل من بلاد الشام ومصر بهدف التصدي للمعتدين.
ـ القدرة القتالية للقوات الإسلامية ، وحسن تخطيطها وتنظيمها الدقيق (17)
ـ موقف نور الدين محمود الداعم ، فقد أرسل بعوثا كثيرة يتبع بعضها بعضها، ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلادهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة ، فجاس خلال ديارهم ، وغنم من أموالهم، وقَتل من رجالهم، وسبى من نسائهم وأطفالهم شيئاً كثيراً، وعندما بلغ الفرنج بدمياط ما فعله نور الدين اضطروا لترك دمياط .(18)
ـ استغلال المسلمين الجيد للفرص التي أتيحت لهم ، فقد استغلوا فرصة معاناة البيزنطيين من الجوع ، فشنوا هجوماً عليهم جاء فعّالاً، كما استغلوا هبوب الرياح الجنوبية لإشعال النار في الأسطول البيزنطي بواسطة حّراقة (19) والأهم من هذا كله توفيق الله وحفظه ومعيته ، وإنزال نصره على عباده المجاهدين.
ب - فيما يتعلق بالجانب الصليبي :
ـ لقد أخَّر الملك عموري الأول الهجوم على المدينة مدة ثلاثة أيام حتى يصل الأسطول البيزنطي، مما أعطى فرصة طيبة للمسلمين لتحصين المدينة وإمدادها بالرجال والعتاد (20).
ـ إحجام القوات الصليبية عن إمداد القوات البيزنطية بالمؤن عندما تعرَّضت لهجوم المسلمين، حيث وقفت موقف المتفرج (21)
ج- فيما يتعلق بالجانب البيزنطي فيمكن تدوين العوامل التالية :
ـ عدم استخدام القائد كونتوستيفانوس الأسطول البيزنطي استخداماً عسكرياً ، وبدا كأنه قائد بري وليس قائداً بحرياً.
ـ اقتصر دور الأسطول البيزنطي على نقل القوات حتى ساحل دمياط.
ـ افتقر القائد البيزنطي إلى النظرة العسكرية السليمة عندما ترك السفن البيزنطية متلاصقة في النيل ؛ مما سهَّل مهمة القوات الإسلامية في إشعال النار في عدد منها.
ـ تراخي القيادة البيزنطية في تطبيق القواعد العسكرية التي تكفل أمن سفنها حين تركت البحارة يبيتون خارج سفنهم أيام العميات العسكرية.
ـ انتشار المجاعة بين القوات البيزنطية.
د- هناك أسباب مشتركة تتعلق بالجانبين الصليبي والبيزنطي، منها :
ـ سوء اختيار توقيت خروج الحملة، وتنفيذ الحصار الذي جرى في فصل الشتاء ، حيث تعّرضت القوات المتحالفة للسيول التي أغرقت معسكراتها ، وللعواصف التي كانت تبعد قطع الأسطول عن الشاطئ.
ـ سوء اختيار المكان الذي عسكرت فيه القوات المتحالفة ، وهي المنطقة التي تمتد بطول الساحل، والبالغة حوالي الميل الواحد ، فلم تستوعب أفراد الحملة البالغ عددهم حمسين ألفاً ، حيث حشروا في هذا المكان الضيق ، ففقدوا حرية الحركة والانتشار الضروريين للدخول في معركة ناجحة.
ـ أدّى سوء اختيار المكان إلى أن أصبحت القوات المتحالفة هدفاً سهلاً لمرمى المسلمين وهجماتهم.
ـ عدم وجود قيادة موحدة ، وافتقرت القيادتان الصليبية والبيزنطية إلى التنسيق فيما بنيهما ، مما تسَّبب في فشل عمليات الهجوم على المدينة ، وتفشى الشائعات داخل معسكراتها ، واتهام كل جانب الجانب الآخر بأنه السبب في فشل الحملة .(22)
2- نتائج الحملة على دمياط:
ـ بعد فشل الحملة الصليبية - البيزنطية المشتركة على دمياط أصبحت هذه الحادثة نقطة تحول هامة في تاريخ الشرق الأدنى ، لأنه لو نجح التحالف النصراني في تحقيق غايته لكان من الممكن أن يمنع اتحاد بلاد الشام ومصر، الذي يشكل خطراً مباشراً على أوضاع الصليبيين في بلاد الشام ، ويعرقل جهود المسلمين في التصدي للصليبيين، وإخراجهم من المنطقة.
ـ يُعدُّ فشل الحملة النصرانية نقطة تحول هامة أيضاً - في مستقبل صلاح الدين، الذي ظهر بمظهر المتمكَّن في حماية مصر، وأقنع الدولة الفاطمية المتداعية بأنه يستطيع حماية البلد من غارات المعتدين ، بالإضافة إلى حماية مركزه من دسائس المتآمرين ، وبذلك حاز على إعجاب الكثير.
ـ بات المسلمون يهَّددون بشكل مباشر الإمارات الصليبية بحيث شعر الصليبيون يوماً بعد يوم بازدياد تضييق المسلمين عليهم ، وبعد أن كانوا يحصرون نشاطهم ضد خطر نور الدين محمود من ناحية الشمال ، أضحوا يوزعون قواتهم بين الشمال والجنوب لمواجهة نور الدين محمود وصلاح الدين(23)
ـ إذا كانت تولية صلاح الدين منصب الوزارة بداية النهاية للدولة الفاطمية فإن هزيمة النصارى أمام دمياط شكّلت خطوة أخرى نحو القضاء على هذه الدولة ، حيث تطلع الخليفة العاضد إلى التحرر من نفوذ صلاح الدين ، ولكن المصير الفاشل الذي آلت إليه خيَّب أمله، وأتاح لصلاح الدين فرصة الانفراد بالسلطة في مصر، وتوجيه اهتمامه نحو إضعاف المذهب الشيعي الإسماعيلي ، وفقدت الدولة الفاطمية الأمل الأخير في التخلص من قبضته القوية ، وأضحى سيد مصر دون منازع (24)
3- وصول نجم الدين أيوب مصر : طلب صلاح الدين من نور الدين إرسال والده إليه فوافق نور الدين على ذلك ، وطلب من نجم الدين أيوب أن يستعد للسفر إلى مصر ، وحمّله رسالة إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية ، وإعلان الخطبة للخليفة العباسي (25)
وخرج مع القافلة التي سافر فيها نجم الدين أيوب عدد كبير من التجار وأصحاب المصالح في مصر، فخشي نور الدين على القافلة من الفرنجة وسار بجيشه إلى الكرك ، وحاصرها حتى اطمأن إلى اجتياز القافلة لمنطقة الخطر ، فتركها وعاد إلى دمشق (26) ووصل والد صلاح الدين نجم الدين أيوب إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة ، وخرج العاضد - صاحب القصر لاستقباله وبالغ في احترامه والإقبال عليه ، واتفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف - عليهما السلام - حين قدم على ولده ووجده متملكاً للديار المصرية وقال : " ادخلو مصر إن شاء الله آمنين " (يوسف ، آية : 99).
وذكر أنه لما خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين والخليفة العاضد إلى لقائه واجتمعا به قرأ بعض المقرئين : " ورفع أبويه على العرش وخّروا له له سُجَّداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " (يوسف: آية : 100).
ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه سلك معه من الأدب ما جرت به عادته ، وفوَّض إليه الأمر كله، فأبى ذلك عليه أبوه وقال : يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، فلا ينبغي أن تغير مواقع السعادة (27) ، فحكمَّه في الخزائن بأسرها وأنزاله اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة (28)
وُحكي أنه لما اجتمع صلاح الدين بوالده في دار الوزارة ، وقعدا على طراحة واحدة ، ذكر نجم الدين أن صلاح الدين ولد ليلة إخراجه من قلعة تكريت قال : فتشاءمت له وتطيرت لما جرى علي ، وكان معي كاتب نصراني فقال : يا مولاي من يدريك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيماً عظيم الصيت جليل المقدار ، قال : فعطفني كلامه عليه ، فتعجبت الجماعة من هذا الاتفاق رحمة الله عليهم أجمعين (29)
وقد توفي نجم الدين أيوب في 568ﻫ فقد ركب نجم الدين أيوب، فشبب به فرسه بالقاهرة عند باب النصَّر وسط المحجّة يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة ، وحمل إلى منزله، وعاش ثمانية أيام ، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة ، وكان كريماً رحيماً عطوفاً حليماً ، وبابه مزدحم بالوفود، وهو متلف الموجود ببذل الجود (30)
وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السَّياسة ، وكان لا يمرُّ أحدٌ من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة ، وكان لا يسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه (31) ، وكان صلاح الدين غائباً في بلاد الكَرَك والشوبك على الغزاة، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت في الدَّار السلطانية ، ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبوية على سكانها أفضل الصَّلاَّة والسلام ، وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل (32).
المصدر : موقع التاريخ
الهوامش :
1- المصدر نفسه ص 205.
2- تاريخ الفاطميين ص 509 البداية والنهاية (16/433).
3- الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الفاطميين ص 510.
4- البداية والنهاية (16/434).
5- الطواش : جمع طواشية وهم الخصيان الذين استخدموا في الطياق المملوكة وفي الحريم السلطاني وكانت لهم حرمة وافرة.
6- البداية والنهاية (16/435).
7- الطريق إلى القدس ص 91.
8- القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني ص 130، 131.
9- القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني ص 133.
10- المصدر نفسه ص 133.
11- المصدر نفسه ص 126.
12- القاضي الفاضل ص 127.
13- الجهاد والتجديد ص 207.
14- المصدر نفسه ص 207.
15- دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ص 160.
16- الجهاد والتجديد ص 208.
17- تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 379.
18- البداية والنهاية (16/440).
19- تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 380.
20- تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 380.
21- المصدر نفسه ص 381.
22- المصدر نفسه ص 381.
23- تاريخ الزنكيين في الموصل ص 381.
24- المصدر نفسه ص 382.
25- دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ص 115.
26- دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ص 116.
27- مفرج الكروب (1/186).
28- المصدر نفسه ص (1/186).
29- المصدر نفسه (1/304).
30- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/248).
31- المصدر نفسه (2/252).
32- المصدر نفسه (2/249).

شيركوه
11-11-2008, 07:07 AM
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية (7)
خامساً : إلغاء الخلافة الفاطمية العبيدية :
وتعتبر هذه الخطوة من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين ، فقد كان نور الدين حريصاً كل الحرص على إنهائها - فكتب إلى نائبه صلاح الدين يأمره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء - فاعتذر صلاح الدين بالخوف من قيام أهل مصر ضده لميلهم إلى الفاطميين ، وبأنه لم يتهيأ لذلك بعد، إلا أن نور الدين أرسل إلى نائبه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه.
وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فأحضر الملك العادل نجم الدين أيوب، وحمّله رسالة فيها : وهذا أمر تجب المبادرة إليه ؛ لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت ، لاسيما وإمام الوقت - المستنجد - متطلع إلى ذلك بكليته ، وهو عنده من أهم أمنيته (1) ..
وكان صلاح الدين متهيباً متردداً في إسقاط تلك الخلافة ، حيث إن ميراث العبيديين في مصر كان عمره أكثر من مائتي سنة ، وكان نور الدين يعتبر أن فتح مصر نعمة من نعم الله عليه وعلى المسلمين من أجل توحيد البلاد على منهج أهل السنة وإزالة البدع والرفض (2)، وكان نور الدين متفهماً لظروف صلاح الدين ، وكان يخاطبه بالأمير (أسفهلار) ولو أراد لأرسل خطاباً بعزله عن مصر وتوليته قطراً آخر، وهذا ما صرح به نجم الدين لولده صلاح الدين في مصر إن أراد عزلك.. يأمر بكتاب مع نّجاب حتى تقصد خدمته ، ويولي بلاده من يريد (3) .
ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر ويقول فيه : تصل أنت وولدك حتى أسيركم إلى مصر، وذلك بموافقة صاحبي واتفاق منه، صلاح الدين وفقه الله ، فأنا شاكر له كثيرا كثيرا كثيرا، جزاه الله خيراً وأبقاه ، ففي بقاء الصالحين والأخيار صلاح عظيم (4) .
فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل وتقدير عظيم ، وسيأتي الحديث عن العلاقة بينهما بإذن الله والرد على الكتّاب الذين تلقوا روايات ابن أبي طيء الشيعي الذي حرص على تشويه وتلطيخ العلاقة بين الرجلين والطعن في سيرتهما كلما أمكنه ذلك.
- التدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي :
استفاد صلاح الدين من الرجل الكبير القاضي الفاضل، فقد ساعده على إحكام خطة مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي ، وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدقة متناهية ، وبعد أن هّيأ صلاح الدين المصريين للانقلاب ، وقلَّم أظفار المؤسسة الفاطمية، فعزل قضاة الشيعة ، وألغى مجالس الدعوة ، وأزال أصول المذهب الشيعي ..
ففي سنة 565ﻫ/1169م أبطل الأذان بحي على خير العمل ، محمد وعلي خير البشر ، ويعلق المقريزي بأن هذه أول وصمة دخلت على الدولة (5) .
ثم أمر بعد ذلك في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565ﻫ/1169م - 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي ، وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة ، فكان الخطيب يقول : اللهم أصلح العاضد لدينك (6) .
وولىّ القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني ، فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد ، وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية ، وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد، فيلغي مخصصاته ، ويحرمه من المال والخيل والرقيق ، ويمنع رسوم الخلافة ، وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد وغيرها، ويحتجز الخليفة في قصره ، فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة ، منها خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة ، وعمد إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش ، فأخذ يحّد من نفوذهم شيئاً فشيئاً ، ثم قبض عليهم في ليلة واحدة ، وأنزل أصحابه في دورهم ، وفّرق إقطاعاتهم عليهم (7) .
وكان العاضد يتابع ذلك كله بقلب حزين ونفس كئيبة ، وقد خابت الآمال التي عقدها على صلاح الدين ، وانزوى في مخدعه فريسة للهّم والمرض (8) وأدرك صلاح الدين أن الفرصة باتت مؤتيه للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة ، فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه وقواده وفقهاء السُّنة ومتصوفوها ، وسألهم الرأي والنصيحة ، وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد (9) .
وفي بداية سنة 567ﻫ/1171-1172م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ، وكان قطعها بالتدريج أيضاً، ففي الجمعة الأولى من محرم 567ﻫ/1171-1172م حذف اسم العاضد من الخطبة، وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله ، وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ، ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية (10)..
والملاحظ أن الخطبة للعباسيين قد تمت بالإسكندرية قبل القاهرة ومصر بنحو أسبوعين ، وذلك لأنها ظلت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي (11) .. وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567ﻫ/1171- 1172م (11) ويقال : إن صلاح الدين حين علم بوفاة العاضد الفاطمي بعد أيام ندم على أنه تعجل في قطع خطبته وقال : لو عرفنا أنه ( أي الخليفة العاضد ) يموت في هذا اليوم ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة، فضحك القاضي الفاضل ورد عليه : قائلاً : يا مولاي لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت (12) ، فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين وكاتبه أو مستشاره التي انطوت فيها آخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية (13).
- فرح المسلمون بزوال الدولة الفاطمية :
ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام أرسل إلى الخليفة العباسي يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون فزينت بغداد، وغلقت الأبواب ، وعُملت القباب ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً ، وكانت الخطبة قد قطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسَّي ، حين تغلب الفاطميُّون عليها أيام المعزَّ الفاطمي باني القاهرة إلى هذه الأوانِ، وذلك مائتا سنة وثماني سنين (14) وقد تفاعل الشعراء مع هذا الحدث المدوّي في أرجاء الدنيا ، فقد قال العماد الأصفهاني :

توفي العاضد الدعي فما ** يفتح ذو بدعة بمصر فما

وعصر فرعونها انقضى وغدا ** يوسفها في الأمور محتكما

قد طفئت جمرة الغواة وقد ** داخ من الشرك كل ما اضطرما

وصار شملُ الصلاح ملتئماً ** بها وعقد السداد منتظماً

لما غدا مشعراً شعار بني ** العباس حقَّا والباطل اكتتما

وبات داعي التوحيد منتظراً ** ومن دعاة الإشراك منتقماً(15)
إن نور الدين محمود كان يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام، ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح ، فوضع الخطط اللازمة ، وأعد الجيوش المطلوبة ، وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة ، فتم الله له ما أراد على يدي جنديه المخلص وقائده الأمين صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة، وحق للأمة الإسلامية وزعمائها أن تفرح بهذه البشرى الكبيرة من إزالة دولة الشيعة الرافضة.
- اعتبار واتعاظ من زوال الفاطميين من مصر :
كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا كأمس الذاهب وكأن لم يَغْنَوا فيها، وكان أوّل من ملك منهم المهدي ، وكان من أهل سَلَمْيَة حدَّاداً اسمه سعيد، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمَّى بعبيد الله، وأدَّعى أنَّه شريف علوِىّ فاطميّ ، وقال : إنه المهديُّ ، وقد ذكر هذا غير واحد من سادات العلماء الكبُراء كالقاضي أبي بكر الباقلاَّني ، والشيخ أبي حامد الإسفريينيَّ ، وغير واحد من سادات الأئمة .... والمقصود أنَّ هذا الدّعِىَّ المُدَّعِىَ الكَّذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ، ووازَرهَ جماعة من جهلة العُبّاد، وصارت له دولة وصولة، فتمكَّن إلى أن بنى مدينة سّماها المهدية نسبة إليه، وصار مَلِكاً مطاعاً يظهر الرفض ، وينطوى على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم ثم المنصور ثم المعز - وهو أوّل من دخل مصر منهم وبنيت له القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم، ثم الظاهر، ثم المستنصر ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملِكاً، ومدتهم مائتان ونيَّف وتسعين سنة ... وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات ، وكثر أهل الفساد ، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعبّاد ، وكثر بأرض الشام النُّصيريُّة والدرزية والحشيشية ، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس الشريف ونابلس وعجلون والغَوْرَ وبلاد غَزَّة وعسقلان وكرَكَ الشَّوبك وطبريه وبانياس وصور وعشليث وصيدا وبيروت وعكا وصَفَدَ وطرابلس وأنطاكية ، وجميع ما وَالىَ ذلك في بلاد آياسى (16) وسيس (17)..
واستحوذوا على بلاد آمد والرُّها ورأس العين وبلاد شَتَّى، وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله ، وسَبَوا من ذراري المسلمين من النساء والولدان مالاً يُحَدُّ ولا يوصَفُ ، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمَّها برعايته، وحين زالت أيامهم وانتفض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كُلَّها على أهلها من السادة المسلمين، ورد الله الكفرة خائبين، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا ويوم الدين (18) .
سادساً : القضاء على محاولة انقلابية لإعادة الدولة الفاطمية :
كانت الدولة والمجتمع في مصر في ذلك الوقت في فترة التحول الكبرى في تاريخها من خلافة ونظم ومؤسسات ورجال حكموا البلاد قرنين من الزمان ، وأثَّرُوا في كل جوانب حياة مجتمعها، إلى حكم جديد ودولة جديدة لها نظمها ومؤسساتها ورجالها ، والتي بدأت بإجراء التغيير بالتدريج، وحاول صلاح الدين اكتساب عامة الناس إلى جانبه ، ونجح إلى درجة كبيرة، لكنّ بعض مفكري الدولة الفاطمّية ورجالها وبعض الجماعات التي فقدت نفوذها وامتيازاتها ظلت على ولائها لما كانت تمثله الدّولة السابقة من أفكار وامتيازات (19) ، فعملت تلك القوى الموالية للفاطميين من جنود وأمراء وكتاب وموظفي دواوين، ومن عائلات الوزراء السابقين مثل بني رزيك وبني شاور على القضاء على حكم صلاح الدين ، وإعادة الدولة الفاطمية (20) ..
وقد وصفهم عماد الدين الأصفهاني بقوله : واجتمع جماعة من دعاة الدولة المتعصّبة المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خفية وخفية ، واعتقدوا أمنية عادت بالعقبى عليهم منيّة، وعينّوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيّتوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل (21) ..
ويبدو أن مؤامرتهم كانت في غاية التنظيم إذ عينوا خليفة ووزيراً ، ثم كاتبوا الفرنج أكثر من مّرة يدعونهم في إحداها إلى الهجوم على مصر، في وقت كان صلاح الدين غائباً في الكرك، والتفّ هؤلاء حول عمارة اليمني، الفقيه والأديب السنيّ المذهب الفاطمي الولاء الذي تولى مهمة المراسلة مع الفرنج ، وظنّ المتآمرون أن سيريتهم التامة ستقودهم إلى النجاح، ولكنهم لم يعلموا أن القاضي الفاضل عن طريق ديوان الإنشاء كان يراقبهم مراقبة تامة حتى تحين الفرصة المواتية لكشف سرهم، وتذكر المصادر في كشف مؤامراتهم قصتين تختلفان بعض الاختلاف في التفصيلات ، أولاهما أن أحد الكتاب في الديوان وهو عبد الصمد الكاتب كان يلقى الفاضل بخضوع زائد، يخدمه ويتقرب إليه ويبالغ في التواضع إليه، فلقيه يوماً فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل : ما هذا إلا لسبب ، وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين، فأحضر ابن نجا الواعظ وأخبره الحال، وطلب منه كشف الأمر، فلم يجد من جانب صلاح الدين شيئاً، فقصد الجانب الآخر فكشف الحال إليه، فأرسله القاضي الفاضل إلى صلاح الدين ، وقال له : تحضر الساعة عند صلاح الدين ، وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع وذكر الحال، عندئذ استدعاهم صلاح الدين وقرّرهم فأقروا بمؤامرتهم، فاعتقلهم ثم أمر بصلبهم (22) ..
وتشير الرواية الثانية إلى أن المتآمرين أدخلوا الواعظ زين الدين بن نجا بينهم، فتظاهر بمساندته لهم في البداية ثم أعلم صلاح الدين بأمرهم، وطلب منه أن يعطيه ما لابن كامل من أملاك، فوافق وأمر بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بما يجّد من أمرهم، ثم وصل رسول من الفرنج إلى صلاح الدين بهدية ورسالة ظاهرية وبرسالة باطنية للمتآمرين، فوصل خبره إلى صلاح الدين (23) .
وقد أشار القاضي الفاضل بنفسه إلى تفصيلات هذه المؤامرة في رسالة كتبها عن صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق، وتنّم عن اطّلاعه الدقيق على المؤامرة، بل اشتراكه في إحباطها، فلعلّه هو الذي دسّ من أعلمه بتفصيلات المؤامرة، كما يشير في رسالته إلى عيون لديوان الإنشاء المصري من الفرنج، وآخرين بينهم على اتصال بالديوان (24)..
وجاء في الكتاب الذي كتب بقلم القاضي الفاضل من صلاح الدين إلى نور الدين بعدما تّم التحقيقات التي أجراها صلاح الدين، ولخص الكاتب بتركيز وشمول بدايات المؤامرة وتطوراتها، وكيفيّة كشفها، وصلب رءوس المتآمرين أمام بيوتهم (25).
إن صلاح الدين كان لا يزال بعد قضائه على الخلافة الفاطمية يعتبر " جند مصر .. وأهل القصر" الفاطمي أعداء لدولته وضد وجوده ، ويتوقع منهم القيام بعمل ضّده ، ولذلك فقد كان متحرزاً منهم، ووضع عليهم من عيونه ورجاله الموثوقين من يراقبهم باستمرار ، ومع ذلك فقد استمر عملهم سرياً بمختلف الوسائل التي كانت متاحة لهم.
وأنهم كانوا، من إعلان الخطبة العبّاسية وحتى القبض عليهم لا يمر عليهم شهر ولا سنة إلا وهم يُدبَّرون المكائد ، ويعقدون الاجتماعات ، ويبعثون الرُّسل إلى الصليبيين لموافقتهم على ما يريدون " وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج ، يوسعون لهم فيها سُبُل المطامع .. ويزينون لهم الإقدام والقدوم (26) .
لكن الفرنج لم يستجيبوا بداية لخوفهم من صلاح الدين، وفي ذات الوقت يؤمَّلونهم بالمساعدة في الوقت المناسب.
ووصل الأمر إلى أنّهم كاتبوا ملك الصليبيين عندما قام صلاح الدين بحملته الثانية على بلاد الكرك والشوبك في قسم كبير من قّواته يطلبون منه القيام بالدور المتفق عليه ، وقالوا في كتبهم : إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا تقدم عموري بقواته إلى صَدْر أو أيلة، فإنه سيقطع الطريق على صلاح الدين ، ويمنعه من العودة ، وعند ذلك تثور في القاهرة " حاشية القصر، وكافة الجند (الفاطمي السابق في مصر) وطائفة السودان، وجموع الأرمن، وعامة الإسماعيلية، وتفتك بأهل صلاح الدين ومعاونيه ورجال دولته في العاصمة (27) .
لكنّ يقظة صلاح الدين والتكتيكات والمناورات التي قام بها أدركت عموري الذي كان يحاول جاهداً معرفة حركات صلاح الدين في النقب جنوبي الأردن، وجمدته عند مياه الكرمل في جبال الخليل لخوفه من أن يستغل صلاح الدين فرصة حركة الملك الخاطئة، فيتوجه إلى المناطق غربي نهر الأردن والبحر الميت.
ولم ييأس المتآمرون فعندما وصل المدعو جِرْج (جورج أو جورجيوس)، كاتب الملك عموري إلى القاهرة في مراسلة إلى صلاح الدين ( ويبدو أن الرسائل كانت متصلة في أوقات السلم، اتصلوا به، وأرسلوا معه كتاباً إلى الملك عموري : أنّ العساكر متباعدة في نواحي إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم علاّتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولاً إلى بعض الثغور ففعلنا ما تقدم ذكره في الثورة (28).
وهذا دليل آخر على محاولة استغلالهم لكل الظروف المناسبة، ذلك أن وقت جمع الغلات من الحقول هو الوقت الذي يذهب فيه الأمراء المقطعين وأجنادهم إلى إقطاعاتهم لأخذ حصتهم من الناتج وتوزيعه، وهذه كانت حالة عادية معروفة في تاريخ المنطقة في العصور الوسطى (29).
إن الملك عموري كان كلما أراد التعرف على الأوضاع في مصر والاتصال بالمتآمرين والتفاوض معهم كان يبعث بـ "جِرْج" رسولاً إلى صلاح الدين : ظاهراً إلينا، وباطنا إليهم، عارضاً علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشتمل عليه علمنا، ولأهل القصر والمصريين "الجند" في أثناء هذه المُدَد رُسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد (30) .
كانت سياسة صلاح الدين أثناء هذه الفترة إذا شك أعوانه بأحد من الجماعات المذكورة وقام باعتقاله ، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة ضده أطلق سراحهم، وخّلّى سبيلهم ، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة (31) .
واتصل المتآمرون في ذات الوقت بـ " شيخ الجبل" سنان (32)، زعيم الإسماعيلية النزارية في بلاد الشام، طالبين مساعدته محتجين بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأنّ ما بين أهلها خلاف إلا فيما يفترق به كلمة ، ولا يجب به قعود عن نُصرة (33) .
وطلبوا منه بصورة خاصة اغتيال " الملوك " كما كانت عادتهم أو نصب المكائد لهم ، وكان الرسول إليهم خال ابن قرجلة (34) أحد الدولة الفاطمية السابقين، ويبدو أن الاثنين كانوا عند صاحب الجبل عند اكتشاف المؤامرة ، فالتجئوا إلى الصليبيين (35).
ولا نعرف إذا كان المتآمرون اتصلوا بملك صقليّة لإرسال الأسطول مباشرة أم عن طريق ملك الصليبيين ، لكنّ الأسطول قدم بعد فشل المؤامرة إلى الإسكندرية، وكان مكوناً من 200 سفينة ، ويحمل أعداداً كبيرة من الخيالة والرجالة، فمُّني بخسائر كبيرة ، خاصة وأن الملك عموري لم يتقدم في البرّ كما كان الاتفاق بسبب القضاء على المتآمرين بحزم (36).
وفي المّرة الأخيرة التي قدم فيها "جِرْج" برسالة إلى ديوان صلاح الدين وصل كتاب إلى الديوان "ممن لا نرتاب به من قومه "الصليبيون" يذكرون أنه رسول مخاتلة (خداع) لا رسول مجاملة ، فاتخذ رجال صلاح الدين الاحتياطات المناسبة لمراقبته دون أن يشعر، ولم يظهروا له أي شكٍ فيه ، وقام "جرج" بالاتصال بجماعة القصر الفاطمي، ومدبري المؤامرة، وأمراء الجند الفاطمي السابقين، وجماعة من النصارى واليهود ، عند ذلك توصل رجال دولة صلاح الدين إلى إدخال أحد العيون إليهم من جماعته "فَدَسْته إليهم من طائفتهم من داخلهم (37) ، فصار ينقل إلينا أخبارهم ، ويرفع إلينا أحوالهم (38) .
وبدأت تنتشر الإشاعات والأقاويل بين الناس حول المؤامرة، وخاف رجال دولة صلاح الدين من انكشاف الأمر ، وهرب رؤساء الفتنة، فقرروا اعتقالهم، ثم أحضروا واحداً واحداً أمام صلاح الدين : وقَرَّرَهم على هذه الحالة فأقروا واعترفوا ، واعتذروا بكونهم قُطِعت أرزاقهم وأخذت أموالهم (39).
تبين من التحقيقات والإقرارات أنهم عَيّنوا خليفة ووزيراً، وأنه وقع خلاف بينهم حول الخليفة وحول الوزير (آل رُزّيك أو آل شاور).
استفتى صلاح الدين العلماء في أمرهم فأفتوا بقتلهم، وعندما تردد صلاح الدين في التنفيذ، طالب أهل الفتوى وأهل المشورة بالإسراع في التنفيذ، فصَدَر الأمر بقتلهم وصلبهم : وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم (40) .
وكان المشهورون الذين شنقوا : الشاعر عمارة بن علي اليمني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، ودِاعي الدعاة ابن عبد القوي.
وقد حاول القاضي الفاضل ـ صادقاً ـ الشفاعة لدى صلاح الدين في عمارة على الرغم من العداوة القديمة بينهما، إلا أن عمارة اعتقد أنها خدعة فرفض قبولها، فتم صلبه مثل غيره (41).
وأما أهل القصر فقد اعتقلوا بداية، ثُم نُقلوا إلى أماكن مختلفة ، وأعطى القصر إلى أخيه العادل، ذلك أن صلاح الدين رأى أنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه "القصر" حبالة للضلال منصوب، وبيعة "مقامٌ" للبدع محجوبة (42).
وشُرَّدت طائفة الإسماعيلية من بلاد مصر ونُفُوا ، أما البقية فقد أعلن في القاهرة بأن يرحل كافة الأجناد ، وحاشية القصر ، ورجال السُّودان إلى أقصى بلاد الصعيد (43).
وكشفت التحريات والبحث في هذه القضيّة عن وجود داعية يُسَمّى "قُديد القَفّاص" في الإسكندرية، التي كان غالبية أهلها من أهل السنة، وأن دعوته انتشرت في بلاد الشام ومصر، وأن أرباب المعايش (الحرب والصناعات) في ثغر الإسكندرية يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطراً وافياً من أموالهن (44) كما وجُد لديه كتب ورقاع تدل على الكفر الصريح (45) ...
وهكذا فقد تمكن صلاح الدين بفضل الله ثم بصبره وقيادته الحازمة من القضاء على هذه المؤامرة الفتنة التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ القرار الحاسم بالنسبة لكل بقايا الدولة الفاطمية من بيت الخلافة، وكبار رجالها، والحاشية، والجند والسودان (46) .
ــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 ـ كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 209.
2 ـ الجهاد والتجديد ص 215.
3 ـ كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 215.
4 ـ المصدر نفسه ص 215.
5 ـ المقريزي " اتعاظ " (3/317) القاضي الفاضل ص 137.
6 ـ القاضي الفاضل ص 137.
7 ـ الخطط للمقريزي نقلاً عن صلاح الدين الأيوبي لقلعجي ص 161.
8 ـ صلاح الدين الأيوبي، قدري قلعجي ص 162.
9 ـ المصدر نفسه ص 162.
10 ـ القاضي الفاضل ص 137.
11ـ تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب ص 59.
12 ـ القاضي الفاضل ص 139.
13ـ القاضي الفاضل ص 139.
14 ـ المصدر نفسه ص 139.
15 ـ المصدر نفسه (16/450).
16ـ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/195).
16 ـ أياس : مدينة من بلاد الأرمن على الساحل البحر.
17 ـ سيس : قاعدة بلاد الأرمن صبح الأعشى (4/134).
18 ـ البداية والنهاية (16/457).
19 ـ صلاح الدين القائد وعصره د. مصطفى الحياري ص 168.
20 ـ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/282).
21ـ المصدر نفسه .
22 ـ القاضي الفاضل ص 146.
23 ـ المصدر نفسه ص146 مفرج الكروب (1/244، 245).
24 ـ القاضي الفاضل ص 146.
25ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 169.
26 ـ كتاب الروضتين (2/287).
27 ـ كتاب الروضتين (2/288).
28 ـ المصدر نفسه (2/288).
29 ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 170.
30 ـ كتاب الروضتين (2/287).
31 ـ المصدر نفسه (2/287).
32ـ المصدر نفسه (2/288).
33ـ المصدر نفسه (2/289).
34 ـ المصدر نفسه (2/289).
35 ـ المصدر نفسه (2/289).
36 ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 172.
37 ـ صلاح الدين القائد وعصره نقلاً عن كتاب الروضتين ص 172.
38 ـ المصدر نفسه ص 172.
39 ـ المصدر نفسه ص 172.
40 ـ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (2/289).
41ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 173.
42 ـ كتاب الروضتين (2/290).
43 ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 173.
44 ـ كتاب الروضتين (2/290).
45 ـ المصدر نفسه (2/290).
46 ـ صلاح الدين القائد وعصره ص 173.
المصدر : موقع التاريخ

شيركوه
11-11-2008, 07:11 AM
السلسلة غنية بالموارد التاريخية والتحليل
جزى الله كاتبها خير الجزاء
السلام عليكم