تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تفاؤل في زمن اليأس



عزام
11-10-2008, 11:21 AM
قاسم بن محمد الزهراني
إن الناظر بعين البصيرة في التاريخ الإسلامي منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يرى أن الهجمات الشرسة على هذا الدين وأتباعه من قبل أعدائه من اليهود والنصارى والذين أشركوا لم تتوقف ، ولكنها تهدأ إذا عاد المسلمون إلى دينهم وتزداد شراستها إذا كثرت معاصيهم وابتعدوا عن ربهم.
لذلك يصاب كثير من المسلمين باليأس والإحباط إذا ظهر أعداؤهم عليهم ، وهذا من شأنه أن يزيد المسلمين ضعفاً إلى ضعفهم ، وهنا يكون مكمن الخلل وعين التقصير والنقص ، فإن النفس البشرية إذا تسرب إليها اليأس فقدت همتها وذابت هويتها وذهبت أدراج الرياح قوتها ، وإذا نسيت الأمة موعود الله تعالى الصادق بالنصر والتمكين والغلبة والظهور فقدت كل نهضة في العمل لنصرة دينها حتى يتحقق هذا النصر.
لذلك يجب بث روح الأمل بانتصار الدين وظهوره على العالمين خصوصاً عندما يسري في النفوس يأس قاتل من كثرة هزائم المسلمين واحتلال أعدائهم لبلدانهم ، الأمر الذي يجعلهم ييأسون ويتقاعسون عن العمل لنصرة دينهم. والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى كيف كان عليه الصلاة والسلام يعلم هذا الأمر علم اليقين ، لذلك كان يربي أصحابه رضوان الله عليهم ويغرس في نفوسهم مفهوم الإيمان بموعود الله تبارك وتعالى الصادق دون استعجاله أو القعود عنه ، وكان أكثر ما يفعل ذلك في ساعات الكرب وأوقات الشدة حتى يملأ نفوسهم بالتفاؤل فلا يجد اليأس إليها طريقاً.
البشرى بامتداد الاسلام
فقد اعتنق خباب بن الأرت رضي الله عنه الإسلام اقتناعاً بأنه دين الله تعالى الذي سيشرق على الأرض فيملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، ولكن المشركين لم يدعوه وشأنه ، فقد عذبوه عذاباً شديداً حتى سحبوه برجليه على الحجارة المحماة التي تركت أثراً بالغاً في ظهره ، كل ذلك ليصدوه عن دينه ويعود إلى الشرك ، ولكن هيهات هيهات لقلوب قد خالطتها بشاشة الإيمان أن ترتد عن دينها.
فجاء خباب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقال : يا رسول الله ؛ ألا تستنصر لنا.. ألا تدعو لنا!!؟ لقد قال خباب ذلك وهو يؤمن بصدق موعود الله تعالى بالنصر والتمكين لهذا الدين ولكنها النفس البشرية التي أمضها الألم فاستعجلت النصر من شدة ما أصابها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيُجعل فيها ، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ]أخرجه البخاري[.
الله أكبر ؛ إنها بشارة النبوة التي تنقدح فطنة وبعد نظر وإلهامات ربانية تحمل معها استشرافات المستقبل في عين الأمن والطمأنينة. لقد كان خباب وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم لا يستطيعون أن يسيروا في فجاج مكة آمنين ، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يبشرهم بأنهم سيسيرون في أطراف الجزيرة ما بين صنعاء وحضرموت لا يخافون إلا الله.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغذي النفوس ويربيها ويملأها بالتفاؤل والأمل والإيمان بأن ظهور هذا الأمر كائن لا محالة ، وهكذا يكون الإيمان الراسخ بصدق موعود الله تبارك وتعالى.
قال خباب : وقد وقع هذا الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم فقد دانت له الجزيرة العربية كلها بالإسلام ، وأمِن الناس فيها من أقصاها إلى أقصاها ، وكان تصور هذا الأمر ضربا من الخيال ، فقد كان القتل وقطع الطريق والإغارة والنهب والسلب في كل ركن من أركانها إلا المسجد الحرام فقط.
كنوز كسرى
وفي مشهد تربوي آخر قال عدي بن حاتم : بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل. فقال صلى الله عليه وسلم : يا عدي ؛ هل رأيتَ الحيرة ؟  قلت : لم أرها ، وقد أنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله.
قال عدي : فقلت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد ؟
وأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى  فقال عدي : كسرى بن هرمز !!؟ قال صلى الله عليه وسلم : كسرى بن هرمز ؛ ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه (أخرجه البخاري).
لقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم عدياً أن المرأة الحاجة ستخرج من الحيرة آمنة دون جوار حتى تصل إلى مكة لا يستطيع أن يؤذيها أحد ، وقد كانت أحياء طيء وغيرها من أحياء العرب تشتهر بالسلب والنهب وقطع الطريق.
وبشر عليه الصلاة والسلام بفتح كنوز كسرى حتى تكون غنيمة للمسلمين ، وبشر بأن الخير سينتشر والمال سيكثر حتى يخرج الرجل زكاته التي تملأ كفه فيقول هل من فقير هل من محتاج فلا يجد من يقبلها منه ، وقد كانت كل هذه الأخبار والبشائر في زمن فيه فقر وحاجة وضعف وخوف.
قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يخرج الرجل ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبل منه ، ووالله لتكونن الثالثة.
وقد كانت الثالثة في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله عام 100هـ ، فقد كان سعاته يطوفون بالأمصار باحثين عن فقير أو محتاج يقبل الزكاة فلم يجدوا من يقبلها منهم ، فقد فاض الخير حتى أغنى الله الناس فلم يجدوا بينهم مستحقاً للزكاة ، فأمر عمر سعاته أن يشتروا العبيد بأموال الصدقة ويحرروهم.
قصة سراقة وسواري كسرى
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة طريداً شريداً جعلت قـريش جائزة كبيرة مقـدارها مائة ناقة لمن يجيء به حياً أو ميتاً ، أخزاهم الله !! " يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ]لتوبة32[.

لقد كانوا يريدون أن يقتلوا من أرانا الله به النور.. أرادوا أن يقتلوا الهادي البشير والسراج المنير.. أرادوا أن يقتلوا من هدى الله به الإنسانية وأنار به عقول البشرية.. ولكن الله جعل كيدهم في نحرهم فقد عصمه سبحانه من الناس. فاشتد عليه الطلب طمعاً في الجائزة حتى لحق به سراقة بن مالك المدلجي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلى سراقة الذي اقترب منهما ولا يزيد على أن يقرأ القرآن، وأما أبو بكر الذي سماه الله تبارك وتعالى بالصاحب لأنه صحبه في الهجرة فقد كان يلتفت خلفه خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطلب ، فدنا منهما سراقة حتى سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فما لبث أن عثرت به فرسه فسقط عنها ، فأخذ كنانته وأخرج منها الأزلام يستقسم بها إن كان سيضرهم أم لا ، فخرج سهم عدم مضرتهم ولكنه عصا أزلامه وركب فرسه واستمر في المتابعة بُغية الجائزة ، فعثرت به فرسه مرة أخرى وسقط عنها ، فأخذ كنانته وأخرج منها الأزلام يستقسم بها إن كان سيضرهم أم لا ، فخرج سهم عدم مضرتهم مرة أخرى ، فعصا أزلامه مخالفاً ما خرجت به وركب فرسه واستمر في المتابعة ، وأخيراً ساخت يدا فرسه في أرض صلد فوثب عنها وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع وأن أمره سيظهر ، فنادى يريد الأمان ، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كتاب موادعة على أن لا يدل عليه أحد.
وعند ابن حجر وابن عبد البر منقطعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد سراقة بسواري كسرى.
وحدث أن فتح الله بلاد فارس في عهد الخليفة الراشد الملهم المبارك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجيء إليه بفروة كسرى وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ، فقال عمر : أين سراقة ؟ فأتي به أشعر الذراعين دقيقهما ، فأعطاه سواري كسرى وقال : ألبسهما وارفع يديك ، فقال : الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول : أنا رب الناس ، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج ، وذلك تصديقاً لما وعده به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
إن العجيب في ذلك هو أن يبشر رجلٌ رجلاً آخر بسواري ملك أعظم دولة في ذلك الوقت وهو نفسه طريدٌ شريدٌ على رأسه جائزة لمن أتى به حياً أو ميتاً ، ولكنها النبوة والإيمان بموعود الله تبارك وتعالى الصادق.
غزوة الاحزاب
وفي غزوة الأحزاب كان الخطر قد داهم الدولة الإسلامية الناشئة في مهدها، فقد اجتمت الأحزاب من قريش وغطفان وأسد وفزارة وأشجع وغيرها من القبائل العربية ورمت المسلمين عن قوس واحدة ، وقبل أن تصل الأحزاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لإبقاء الجموع خارج المدينة واتقاء للمواجهة غير المتكافئة. وأثناء حفر الخندق اعترضت للمسلمين صخرة كبيرة لا تأخذ فيها المعاول فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل عليه الصلاة والسلام في الخندق وأخذ المعول وقال : بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : الله أكبـر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصـر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصـر قصر المدائن أبيض ، ثم ضرب الثالثة وقال : بسم الله فقطع بقيّة الحجر ، فقال : الله أكبـر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصـر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة (أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي)
الله أكبر ؛ إنها روح الفتوح الإسلامية في ظلام الحصار والشدة ، لقد كانت نفوس الصحابة رضوان الله عليهم مشحونة بكثير من الآلام والمخاوف ، فتأتي هذه البشائر لتكون برداً وسلاماً على قلوبهم وشحذاً لهممهم وتقوية لإيمانهم. ولما وصل الأحزاب وضربوا حصارهم على شمال المدينة اتفقوا مع يهود بني قريظة وهم في جنوب المدينة على نقض العهد والميثاق مع المسلمين ، ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن اليهود قد نقضوا العهد والميثاق فأرسل من يتأكد من الخبر فجاء إليه الخبر بتصديق ما سمع.
لقد كانت لحظات عصيبة على المسلمين ، فقد كانوا مشغولين يصدون ذاك الزحف لجيوش الأحزاب الضاربة شمال الخندق فإذا بخطر آخر داهم من جهة الجنوب لم يتوقعوه يهدد نساءهم وذراريهم في الحصون ، وقد وصف الله تبارك وتعالى هـذا الخطر العظيم الجليل الـداهم بقـوله :
إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (الأحزاب 10و11)
لقد بلغ الخوف بالمسلمين منتهاه ، فقد ضُرب الحصار على المدينة من شمالها وجنوبها وانكشفت عورات المسلمين ، والذين ظنوا بالله الظنون هم المنافقين ، فقد قال بعضهم : محمد يعـدنـا بكنوز كسرى وقيصر وأحـدنـا لا يأمن على نفسـه أن يذهب لقضاء حاجته !.
لقد هُددت دولة الإسلام في مهدها واشتد الخطر عليها ودنت ساعة سقوطها لما يراه الناظر من موازين القوى غير المتكافئة ، الأمر الذي يصيب النفس بالإحباط والخور وقطع الأمل في النجاة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قلبه معلقاً بالله تعالى إيماناً وتصديقاً بالظهور والتمكين بالرغم من شدة ضعف المسلمين وخوفهم والبرد القارص الذي أضر بهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس ، لذلك نجده يستشرف المستقبل فيرى قصور الشام والمدائن واليمن التي ستفتح لأمته حتى عندما يحدق الخطر بدولة الإسلام ويهددها في مهدها.
فقد صمد المسلمون واتخذوا الوسائل الممكنة حتى أجلى الله هذا الحصار بقدرته سبحانه ، فرفرفت رايات الإسلام على المدائن ودمشق بعد عشر سنين من غزوة الأحزاب التي زلزل فيها المسلمون زلزالاً شديداً.
لقد تحقق الوعد الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم حتى رآه الصحابة بأعينهم ووطئت أرض الفرس والروم خيولهم وفتحوا تلك البلاد بأيديهم ، لم يساورهم الشك في لحظة بصدق موعود الله تبارك وتعالى ولا بصدق إخبار نبيه صلى الله عليه وسلم لهم ، فعملوا لذلك وأعدوا له عدته وشمروا عن سواعد الجد حتى حققوا ذلك الموعود ، ولم يقعدوا كما يفعل البعض منتظرين نصر الله أن يأتيهم من السماء دون أن يعدوا له عدته ويأخذوا بأسبابه.
الخلاصة: لا تيأس
وبمثل هذه الأسباب كانت التحولات العظمى في رحلة الإنجازات البشرية التي تحمل الإخلاص لله تعالى ، فقد تجلى التأييد الإلهي للجمع المؤمن المثابر الذي يحيط نفسه بالأهداف الربانية ، فأحدث على أيديهم التحولات الخارقة في عين التاريخ ، فلم يكن لهم شأن في تغيير ما جاور مكة من مدن أيام جاهليتهم ولكنهم بصدق إخلاصهم وحسن إيمانهم فتحوا الدنيا وغيروا العالم بأسره ، وهذا هو شأن التربية القرآنية التي تحول النفس البشرية من دنو إلى علو فتجعل العالم بأسره بستان سندسي آمن ومطمئن.
أيها القارئ الكريم ؛ لا تسمح لليأس أن يسري إلى قلبك فهو وليد ضعف الإيمان وتسلط الشيطان وبداية الخور والهوان ، وكيف تيأس والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر (أخرجه أحمد)
وكيف تيأس والنبي صلى الله عليه وسلم بشرك بقوله : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها (أخرجه مسلم)