تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ثقافة الإستهلاك واستنزاف الموارد



عزام
11-02-2008, 09:21 AM
مقال طويل ولكنه مهم

عزام

ثقافة الإستهلاك واستنزاف الموارد

(هدايت سالم)

ما إن تنته الإمتحانات عندنا، حتى ترى الطلبة يعمدون بنزق إلى تمزيق كتبهم ونثر قصاصاتها في الخواء، لتعود فتفرش أرض الشارع على باب كل مدرسة. فإذا سألت أحدهم عن مغزى فعلته هذه، أجابك بلهجة ساخرة: إنها أبسط تعبير عن فرحي بزوال كابوس الإمتحان. هكذا يُداس الحرف الذي كرمه الله تعالى فأقسم به معظماً إياه وما يتصل به * ن والقلم وما يسطرون * الآية 1 من سورة القلم. ويستهتر به جيل فقد قدسية الكلمة لأنه لم ينشأ عليها.
وتعود بي الذاكرة إلى سن اليفاعة ، حين كنت أرى وأنا في طريقي إلى المدرسة الرجل الوقور والمرأة المسنة ينحنيان إلى الأرض لالتقاط كسرة خبز أو ورقة مكتوبة وقعا عليها، يقبلانها بخشوع بعد أن يميطا عنها الأذى، ثم يضعانها حيث أمر الله، إجلالاً لنعمائه، أو تقديساً للحرف الذي منه تتشكل كلماتها.
وتستحوذ على مشاعري مشاهد أخرى لا زالت تتمثل لي بالصوت وبالصورة حين كان سوق المسكية – وهو السوق العريق الذي ينتهي إليه المار في سوق الحميدية قبل أن يفضي به إلى الجامع الأموي في دمشق – يكتظ عند انتهاء كل سنة دراسية أو في بدايتها بالطلبة من كل الفصول الدراسية وقد حملوا إليه كتبهم التي حافظوا عليها نظيفة أنيقة طيلة العام .. يتبادلونها بينهم .. يرجع الى أذني صدى أصواتهم وقد اختلطت بين ندية تنطلق بها حناجر أطفال سنوات الإبتدائية ومخشوشنة لمن تجاوزها إلى الإعدادية والثانوية، يبيع كل منهم ما انتهت حاجته إليه من الكتب، ويشتري بثمنها ما هو بحاجة إليه في سنته الدراسية المقبلة، يعود بها إلى أهله وقد أضاف إلى معلوماته التي حصّلها من الكتاب علماً بأصول التجارة وأهمية المحافظة على كتبه التي سوف يبيعها بسعر أعلى كلما استطاع أن يحافظ عليها على وجه أفضل. هكذا كانت الكتب المدرسية يتداولها جيل كامل ينتفع بها ويتعلم منها وقد يحتفظ بها في مكتبته الغضة مرجعاً يعود إليه عند الحاجة.
لكن سوق المسكية قد طمست معالمه مع ما طمس من معالمنا الحضارية وخصوصياتنا وهجرة أهله وتحوّل رواده من الطلبة الذين كانوا يعدونه مدرستهم الثانية التي تعلمهم فن الحياة .. تحولوا عنه إلى دكاكين المشروبات الغازية وشطائر الشاورما والهمبرغر تعتصرهم ثقافة الإستهلاك، فتفسد عليهم فطرتهم وأذواهم وتجتث ما بقي لهم من قيم .
" إن مجتمعنا فقد القداسة منذ أن لم يعد يقيم لكسرة الخبز الملقاة على قارعة الطريق وزناً ولا قيمة " هذا ما قاله مالك بن نبي رحمه الله قبل أن يرى الأطعمة تملأ حاويات النفايات، وأرغفة الخبز ملقاة مع القمامة على قارعة الطريق.
دعوت ذات يوم إلى مائدتي سيدة أمريكية وقدمت لها بعض الأطعمة الشعبية التي تعلمت طهوها من جيل الأمهات الذي كان يحسب حساباً لكل شيء، فأعجبت بما قدمت لها، و سألتني عن المكونات، فدهشت لما عرفت أن بعضها قد تم إعداده بعدة أشكال من لب الكوسا، الذي تناولته محشياً، و أن طبق الفتوش الشهير وطبقاً آخر من الفتة قد استخدمت فيهما كسر الخبز اليابس ... قالت أننا نعد هذه الأشياء كلها من فضلات نرميها في سلة القمامة والنفايات.
ولقد ذكرني قولها بما كنت قرأته في أحد التقارير من أن فائض الأطعمة الذي ترميه أمريكا في نفاياتها، يكفي لإشباع جياع العالم، لو أحسن حفظه واستخدامه .. كما ذكرني بما كانت والدتي رحمها الله توصينا به من ضرورة مسح أطباقنا بعناية وعدم ترك شيء فيها حتى لا ندع للشيطان فرصة مشاركتنا في طعامنا، ولأن البركة قد تكون في هذه اللقيمات الأخيرة المتبقية في الطبق.
ومع تداعي الذكريات عن ممارسات جيل ما قبل ثقافة الإستهلاك، تمر في مخيلتي مشاهد رجال كانوا يطوفون على البيوت منادين بأعلى أصواتهم على من كان عنده خبز يابس أو بذر مشمش أو قشر رمان أو زجاج مكسر أو ألبسة مهملة، ليشتروها ويتوجهوا بها إلى حيث يعاد تصنيعها ويستفاد منها .. أليس هذا فرزاً أكثر دقة وأعم نفعاً وأقدم سلوكاً من صيحة فرز النفايات التي تطل علينا الآن من العالم المتقدم، بعد أن أهملناها في جملة ما أهملناه من قيمنا وعاداتنا.
والفرق كبير بين سلوك اعتيادي كانت تقوم به ربات المنازل فيعود عليهن وعلى المجتمع بالنفع والبركة وبين تمنيات على المواطن قد يقوم بها أو لا يقوم لعدم وجود منفعة مباشرة له فيها .
وتحضرني من قيم الآباء التي أهملناها بعد أن اندمجنا في ثقافة الإستهلاك: تلك الأمثال الشعبية التي كانت تنطلق على الألسنة بعفوية فطرية "لا تسرف ولو كنت على نهر جار" و "أطفىء المصباح قبل طلوع الشمس حتى يدرك صلاة الفجر" وتلك الحكاية التي كانت تروى للأولاد عن سيدة غنية كانت توبخ خادمتها في عود ثقاب أشعلته دون حاجة، فطرق بابها سائل محتاج وكاد ينصرف يائساً بسبب ما سمعه من تأنيبها لخادمتها في عود ثقاب .. فنادته وأعطته عطية أدهشته وقالت لخادمتها : فرق كبير بين التبذير وتبديد المال وبين الإنفاق في وجوه الخير، ولولا اقتصادي وصيانة مالي عن التبذير ما استطعت أن أساعد هذا السائل المحتاج .
إن ذاكرتنا ما تزال تحتفظ بالكثير من الصور والعادات والأمثال التي كانت لنا قبل شيوع ثقافة الإستهلاك فينا، ذلك أن عهدنا بهذه الثقافة قريب، ومن الضروري جداً لنا أن نراجع أنفسنا قبل أن نغرق في طوفان هذه الثقافة، وأن نتعرف على أسبابها ودوافعها، وكيفية غزوها لنا والطريقة التي تسللت بها إلينا عسى أن نعود إلى قيمنا ومبادئنا فنتشبث بها.
إن ثقافة الإستهلاك قد تستحوذ على الأمم التي أدلت بقسط وافر من الإنتاج والتحضر والعمران، وهي مرحلة وسيطة في دورة الحضارة كما رآها ابن خلدون، ومن بعده مالك بن نبي وعلماء الإجتماع، حيث تبدأ الحضارة بجيل التضحيات والعطاء والإنتاج، ثم تسترخي في أيدي الجيل الوسيط الذي يستهلك ما ينتجه، ثم تبدأ بالسقوط كلما رجحت كفة استهلاكها على كفة إنتاجها .
وهذه سنة الله تعالى التي بينها لنا في قوله * وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميرا * الإسراء 16 . أما أن تبدأ أمة بالاستهلاك قبل أن تستكمل عدتها في الإنتاج فتلك هي الطامة الكبرى وما مثلها إلا كمثل من يأخذ السلّم من أعلى درجاته ويمتطيه منتكساً إلى الحضيض .. ولعل هذا هو ما أراده الإستعمار لنا منذ أن لملم عساكره ورحل عن بلادنا ليدخلها من باب آخر، باب الإقتصاد، نتحول فيه إلى سوق يمد المستعمر بما تذخر به بلادنا من مواد أولية وخيرات بأبخس الأسعار ونتزود بمنتجاته وموارده المصنعة بأغلى الأسعار.
هكذا تسرب إلينا المستعمر من خلال ثقافة الإستهلاك فأغرقنا بمنتجاته وأوهمنا بحاجتنا إليها، فأقبلنا على استخدامها لدرجة الإدمان، نقود السيارة والطيارة ونستخدم الحاسبات، لكننا لا نفكر بصنعها .. وهذا عين ما أراده الصانع لنا، أن نتقن دور المستهلك ويقوم هو بدور المنتج وشتان ما بينهما .
وقديماً هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بشعر قال فيه :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي .
يقول ابن نبي: إن تكديس منتجات الحضارة لا يمكن أن يبني حضارة، ودلل على ذلك في محاضرة له بقوله : لذلك فإن الأسلحة التي تكدست في أيدينا عام 1967 م أبت أن تطيع غير صانعيها .ز ذلك أن منتجات الحضارة لا تلد الحضارة إنما الحضارة تلد منتجاتها .
لقد اجتهد الغرب في بث الجانب الإستهلاكي من ثقافته فينا فغير من عاداتنا وتقاليدنا وأنماط معيشتنا وسلوكنا، وحجب عنا ثقافة الإنتاج والعطاء، وعلمنا كيف نصرخ مطالبين بالحقوق، ونسكت عن الواجبات، فاعتمدنا كلياً على منتجاته، وشكرناه على إراحتنا من عناء إنتاجها، دون أن ندرك الأبعاد الخطيرة لما حدث ويحدث، ولا أن نحلل المقاصد الخبيثة التي تنطوي عليها خططه لإطالة أمد تخلفنا فتنطلي علينا أحابيله .
تارة يدغدغنا لنغط في نومنا العميق يضرب على آذاننا مثلما يفعل الشيطان بالمؤمن لكي يلهيه عن الاستيقاظ للفجر : عليك ليل طويل فارقد ... وأخرى يدللنا لنستمر في طفولة مزمنة يشغلنا بأصناف من المعجنات والشوكولا تقعد بنا عن طلب المعالي .
هكذا تدمرنا ثقافة الاستهلاك .. لقد استنفد الغرب مواردنا في تمويل ما نستهلكه من منتجاته حتى الثمالة، فلجأنا إلى الاقتراض ولا إنتاج لدينا لكي نبادل به منتجاً بمنتج، على طريقة المقايضة.. فيسرع إلينا البنك الدولي ليزودنا بنصائحه وقروضه المشروطة، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب .. قروض توهمنا باستمرار قدرتنا على الشراء، فنمعن في ممارسة إدماننا على الإستهلاك ونرهن حاضرنا ومستقبلنا عنده ونحمّل أجيالنا عبء سفهنا، ويصيبنا ما يصيب مدمن المخدرات الذي يستدرجه التاجر إلى جرعات بسيطة، حتى إذا أدمن ووقع تحت سيطرة المخدر وظن أنه سيموت إن لم يتناوله، استعبده تاجر المخدرات واستذله ليستنزف ما بقي فيه من طاقة قبل أن يهلكه المخدر .
هكذا يتأله الدولار ويتربع على عرش الإقتصاد الدولي يأمر وينهى وتدور عجلة مطابعه لتطرح منه الملايين والبلايين بلا تغطية.. يلعب في الساحة وحيداً ويعزف منفرداً على الطريقة التي حكاها الشاعر :
خلا لك الجو فبيضي واصفري
وهكذا نستدرج إلى إدمان ثقافة الاستهلاك لتؤدي بنا إلى اغتراب داخلي نتخلى فيه عن قيمنا وعاداتنا وننسلخ من جلدنا ونغير أنماط سلوكنا ومعيشتنا ونبتعد عن أصالتنا وجذورنا. نلهث وراء السعادة والرفاه يخيل إلينا أننا نتقدم باتجاههما ونحن نخلفهما وراء ظهورنا كالنعجة تقاد إلى حتفها وهي تظن أنها ماضية إلى مرتعها .
نفعل ذلك كله في الوقت الذي ملّه الغرب وبدأ يعافه ليعود أدراجه بحثاً عن جذور يرتكز عليها ولو كانت دعاوى متوهمة، وهجراً لزخارف الحياة الصناعية المصطنعة ابتغاء العودة إلى الحياة الطبيعية، وربما البدائية الأولى، برماً بما ألفوا على أنفسهم من ابتعاد عن مقاصد الخلق والفطرة .. يبحثون عن غذائهم فيما تخرجه الأرض من ثمراتها بعيداً عن الأسمدة الكيماوية والبيوت الزجاجية والمداجن الصناعية، وعن دوائهم في الأعشاب والزهور والرقى والطب البديل، وعن كسائهم فيما تمدهم به الطبيعة من أوبارها وأصوافها وخيوطها النباتية.
هل يتوجب علينا أن نخوض التجربة مثلما خاضوها، مع البون الشاسع والفارق الكبير بين تجربتهم الإبداعية وتجربتنا التي تقوم على المحاكاة والتقليد الأعمى في سفاسف الأمور ..
لقد كنا نعيش الحياة التي يتمنونها اليوم، في سعادة وطمأنينة ورغد، نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ونرتبط بعلاقات اجتماعية يسودها التكافل والتعاون والتراحم والمودة .. فكيف انتقلت إلينا هذه العدوى المدمرة. لعل ذلك كان عن طريق بعثاتنا التي ابتعثنا بها أبناءنا إلى الغرب ليعودوا إلينا بعلمه، فعاد منهم إلينا بما تفسخ من عاداته وقيمه مبهورين بها، مغسولي الدماغ مزودين بيقين راسخ بأن التقدم والتمدن لا يتمان إلا بالانسلاخ من الجذور وسائر الموروثات الفكرية والاجتماعية .. وذلك هو شأن الأمم المغلوبة تجاه الغالب تنبهر به وتقلده كما يقرر ابن خلدون في مقدمته .
ثم أعقب هذا الإنبهار شركات متعددة الجنسيات تعبر القارات في عصر العولمة، ويجتاز إعلامها الحدود ويكسر القيود، مسخراً الإقمار الصناعية وثورة الاتصالات ليهبط من الفضاء على أشد الدول محافظة، وأكثر البيوت التزاماً، فينتزع منها مهمتها التي كانت تقوم بها في توجيه أبنائها وتربيتهم على قيمها، وتتولى هي تنشئتهم على قيمها البديلة. فتصبح فتاة الإعلان شبه العارية مثلاً أعلى للشبان وللفتيات، وتتردد أغنية الإعلان على شفاه الصبيان بكل ما تحمله من غثاثة وتفاهة أحياناً. ويستأثر الإعلان بالنصيب الأوفى من ميزانية الإنتاج والتسويق .. بل إن الإعلان ذاته يصبح السوق الأوسع في مجال التجارة والأعمال، ويسيطر – بحكم قوته المالية – على وسائل الإعلام، فيتحكم ببرامجها الترفيهية والثقافية، فيمولها ويرعاها ويفرض _ بحكم نفوذه وسطوته _ سلطانه ومعاييره عليها ، فلا تجد وسائل الإعلام هذه حرجاً من أن تقطع حديث الشيخ الوقور وهو يتحدث عن أمور الآخرة والحساب ، أو حوار كبار المفكرين في ندوة يعالجون خلالها سبل دعم الإنتفاضة الفلسطينية وتحرير الأرض المغتصبة ، تستمهلهم ريثما تقوم غانية بدعايتها إلى منتج، أو تؤدي مجموعة مجموعة دورها في الدعوة إلى حفلة ساهرة .. ولن تهتم وسائل الإعلام بما ينتاب المشاهد من ضجر وحنق لقطع تسلسل الأحداث عليه، فسيتولى الإعلان – بزخرفه وقدرته على اجتذاب نظر المشاهد – تنفيس غضبه وكظم غيظه.
" بهذه الطريقة السهلة، يتم تغيير الثقافة المحلية، أي تغيير علاقاتنا مع الطبيعة والبشر والمادة ومع ماضينا وحاضرنا بل مستقبلنا، من دون أن يدرك أحد منا أنه أصبح سلعة يتجر بها، يباع ويشترى من شركة إلى أخرى وتضيع خصوصيته بين أيدي أخطبوط وكلاء الشركات المحليين ومؤسسات الإعلان، ومراكز التسوق الكبرى (السوبر ماركت ) التي تبيع كل الحاجات التي لا حاجة للإنسان إليها، وبوسعه الاستغناء عنها _ كما يقول غارودي .
لقد استقر في وجدان معظم الشعوب ما تردد على ألسنة مفكريها من أن النموذج الغربي قد أصبح المثل الأعلى لإنسان القرن الواحد والعشرين، وما ذلك بمستغرب بعد أن حقق ذلك النموذج انتصاراته الباهرة على المستويين العلمي والمادي، وتمت ترجمة ذلك في وعي الإنسان الغربي إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس، ويقين بأن رؤيته للأمور تمثل أرقى ما وصل إليه التاريخ البشري وأن التاريخ قد انتهى إليه بكل إفرازاته وأصبح صالحاً لكل إنسان في كل زمان ومكان .
وما ذلك الإنسان الذي أنتجته الحضارة الغربية ويمثله النموذج الأميركي أصدق تمثيل، غير ذلك الإنسان المادي الذي ليس له من القسمات والملامح غير العنف والاستكبار واستخدام القوة العضلية، والقدرة على الاستهلاك المتواصل.
ولربما أن الحضارة الغربية قد استغلت لإنتاج هذا الإنسان رغبة طفولية جامحة لديه في التحرر من الضوابط والانطلاق خارج الحدود التي تقررها الشرائع السماوية والأعراف الاجتماعية، فتنكّر لكل مثله وقيمه حتى لمجتمعه ووطنه، وأنكر ذاته وهويته، ليتحرك خارج جميع المنظومات حسب المواصفات والمقاييس اللازمة لمتطلبات السوق: إنسان مصنّع، ينتج ليستهلك ويستهلم لينتج، متجاوزاً جميع القيم والغايات الإنسانية وسائر الأخلاقيات والثوابت والمطلقات.
وفي هذه الحضارة المادية ، تم تسليع كل شيء حتى العلاقات الاجتماعية أصبح لها أشكالها المحايدة التي تفرض على من يتبناها أن ينسلخ من كل خصوصياته ومميزاته، ويندمج في منتجاتها المصنعة شبه العالمية، عديمة اللون والانتماء، عديمة الطعم والرائحة، يأكل من همبرغر يتم إعداده بالطريقة ذاتها في كل زمان ومكان، من دون أية فرصة لإبداع شخصي، ولا نكهة مميزة .. يأكله بمفرده وربما في طريقه إلى مقر عمله، مستعيضاً به عن مائدة الأسرة العامرة بالأطباق، وبالوجوه الودود التي تنتظره كل يوم، ولا بد أن يكون قد ارتدى بنطال الجينز ذلك اللباس الموحد للرجال والنساء الذي يصلح لكل المناسبات، تحت قميص قطني كتب عليه ( أنا أحب أمريكا ) ( أنا أشرب الكوكا كولا) هكذا يكون الجميع مثل الجميع: لباس واحد، طعام واحد وربما تسريحة شعر واحدة، ويغدو الإنسان مصنفاً على نمط واحد على طريقة الاستنساخ .
لقد أصبح بالامكان اختزال الثقافة الاستهلاكية التي سادت العالم في بضع قواعد : كل ما نصنعه وألبس ما ننسجه وأشرب ما نعبئه، واترك عقلك وعواطفك وانتماءك الفطري إلى وطنك الحبيب، وحنينك إلى ملاعب طفولتك، وشوقك إلى خبز أمك، ورائحة قهوتها ..نريدك مسطحاً أملس، لا تهزه كارثة، ولا يحركه خطب جلل، تشتري لتستمتع بلذة لشراء من غير أن تكون مالكاً للثمن، فالبنك جاهز لإقراضك، ويمكنك الشراء بالتقسيط، تُرتهن مواردك القادمة لسنوات مقابل سلع لست بحاجة إليها .. بذلك تصبح عصرياً وأكثر تقدماً، فالانفاق معيار التقدم مهما أدى بك إلى القلق وفقدان التوازن المادي والمعنوي.
أليس ذلك هو الموت البطيء الذي يقتل الروح وحرارة الإيمان والشعور بالأمان؟ لقد لبى الإنتاج الواسع كل الرغبات فهل حقق للإنسان السعادة ؟
لا يمكن لأحد أن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب وهو يرى الإحصاءات حول مرض الاكتئاب وحالات الإنتحار وإدمان المخدرات تأتيه بأرقام ومعدلات مذهلة لم يسبق لها مثيل.
يسلط كتاب ( صناعة الجوع ) الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة في الكويت، الأضواء على أن مشكلة الجوع في العالم الثالث إنما هي من صنع الشركات الكبرى، التي شرعت في ترويج بضائعها بحماسة تبشيرية، جعلت العالم يعتقد أن الحياة لا تحلو من دون المأكولات الجاهزة، ومطاعم ( ماكدونالدز ) التي ملأت فروعها أرجاء الأرض .. وبعد أن كسدت سوق الأطعمة المصنعة في الدول المتقدمة، نتيجة عودة الناس إلى الطهو المنزلي، والأغذية الطبيعية مما تنتجه الأرض من الخضار والفواكه، اتجهت أنظار صناع الدعاية إلى العالم الثالث ليجعلوا منه سوقاً لفائض الإنتاج من جميع السلع، بدءاً بالغذاء والكساء وانتهاءً بالسلاح والدواء.
ويذكر مؤلفو كتاب ( صناعة الجوع ) أن أرباب الدعاية قد تفتقت أذهانهم عن طريقة سهلة لملء جيوبهم وجيوب عملائهم من الصناعيين من دون كلفة تذكر، سوى الماء مضافاً إليه بعض السكر وشيء من الملونات ومكونات النكهة والمذاق وتعبئة مغرية وإسم يدندن به ليل نهار، ليلفت إليه الأنظار، تحل به المشروبات الغازية محل الأشربة الطبيعية المحلية النافعة.
لقد حملت الدعاية المركزة الجميع على تقديس هذه المشروبات والإقبال عليها، بوصفها رمزاً من رموز الحياة المترفة التي يعيشها الأغنياء، مما حدا بالفقراء والمحرومين إلى التخلي عن ضروريات وجودهم للحصول على زجاجة كوكا كولا أجنبية، ولو بضعف ثمن مشروب محلي، محاكاة للأغنياء ... وفي تقرير لأحد مديري التسويق في البلدان النامية، يذكر أنه في هذه البلدان كلما ازداد الوضع الاقتصادي سوءاً وتردياً ازداد الإقبال على الترف المتواضع لمشروب غازي مستورد من بلدان التقدم. وكلما اشتد فقر سيء التغذية، زاد احتمال إنفاقه القليل من المال المتبقي لديه على بعض مظاهر الترف، وبذلك تزداد تغذيته سوءاً وصحته تدهوراً .
ويتساءل بعض من يحب فلسفة الأمور أحياناً : هل أن الناس تأكل ما تحب أو أنها تحب ما تأكل؟ لكن هذا التساؤل لم يعد له – في عصر الدعاية – معنى فقد علّم الإعلان الجميع أن يأكلوا ويشربوا ما يقوله الإعلان لهم، وإنما يقاس نجاح الإعلان بقدرته على التغلغل في حنايا الشعور، حتى يندفع الإنسان إلى المنتج المعلن عنه باللاشعور.
كان أحد الكبار يشاهد ندوة تلفزيونية تدعو إلى مقاطعة الأطعمة والأشربة الأمريكية الصنع دعماً لانتفاضة الأقصى، بعد برنامج ديني تحدث عن فضل صيام رمضان تخلله إعلان من وكيل البيبسي كولا عن إنتاج تعبئة ذات حجم كبير يكفي العائلة كلها، أعدت إكراماً لشهر رمضان المبارك، فصاح الرجل مستنكراً دعوة المقاطعة، ماذا سنشرب إن نحن قاطعنا البيبسي والكولا؟ وحقق الإعلان غرضه بجدارة فقد كان تأثيره أبلغ من دعوة المقاطعة .
هكذا استطاعت ثقافة الإعلان الإستهلاكي أن تفتك بقيمنا ، وتفعل ما فعلت في تفكيك مجتمعاتنا :
1 – فتتراجع المسؤوليات الجماعية لصالح أنانية الفرد.
2- ويتفاقم التفاوت الطبقي بين قلة قادرة على تحصيل ما تشتهي وكثرة محرومة من تحصيل أبسط الضروريات .
3- وينشغل الناس بتدبير أمور الحاضر، عن التفكير بتخطيط المستقبل.
4- ويصرفهم الاهتمام بالوسائل عن المقاصد والأهداف والغايات.
5- وتضيع الهوية والشخصية وسائر الخصوصيات، في غمار العولمة وثقافة الكبار .
وتنهار العلاقات الاجتماعية ، وقيم التراحم والتكافل الاجتماعي وينتشر الفساد في الأرض .
ما أردت بهذا أن أبرىء نفسي فقد أكون أنا الأخرى متورطة في ثقافة الاستهلاك من حيث أشعر أو لا أشعر، وما أريد أن أقف على منبر الوعظ، فأملي على الناس ما يجب عليهم فعله وتركه، فقد سئم الناس ذلك. غير أني أكره فكرة المؤامرة التي تشل فاعلية الإنسان، فيقف أمام المشكلات مكتوف اليدين بلا حول ولا قوة .
وأنا أؤمن بصدق قول الله تعالى : * ولمّا أصابتكم مصيبة فقد أصبتم مثلها قلتم أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم * آل عمران 165 . فكل شياطين الدعاية والإعلان لا سلطان لها على إنسان واع لقيمه مسيطر على سلوكه، إنما هي تملك التزيين والإغراء، تقتحم بهما على الإنسان في لحظات ضعفه وغفلته، شأنها شأن الجراثيم لا تستطيع أن تفتك إلا بالأبدان الضعيفة ، فاقدة المناعة ذات القابلية للمرض.
ولكي نتخلص من قابليتنا للذوبان وندعم مناعتنا في مواجهة الغزو الوافد من الخارج، علينا أن نكبح جماح عواطفنا الاستهلاكية، ونحد من شهواتنا التكديسية، ونسترد أنفاسنا المنقطعة لهثاً وراء أشياء الحضارة، وما لم نفعل ذلك فسنكون – كما قال مالك بن نبي رحمه الله – قد دخلنا سوق الحضارة زبائن داشمين لأشيائها، ولم ندخلها تلاميذ نتعلم صنعها فضلاً عن حسن استخدامها.
نحن بحاجة إلى وقفة صدق مع الذات لنتساءل :
كيف انجرفنا إلى ما نحن فيه من سفه الاستهلاك ، وحق السفيه أن يحجر عليه فلا يمكّن من تبديد أمواله ، بحسب قوله تعالى: * ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً* النساء 5 .
لمَ تجاهلنا تعاليم ديننا التي تأمرنا بالتوسط والاعتدال في الأنفاق : * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا* الإسراء 29 .
وتأمرنا أن نتزين ونأكل ونشرب من دون إسراف :* يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين* الإعراف* 31.
وتبين لنا مغبة التبذير * ولا تبذّر تبذيراً، إن المبذّرين كانوا أخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا* الإسراء 26-27.
وتنهانا عن الخيلاء والتفاخر * ولا تصعّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور * لقمان 18.
وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمنا الاعتدال في الطعام فيقول " ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" .
لقد جعلت ثقافة الإستهلاك من الطعام مشكلة أخلّت بتوازن المجتمعات وقسمتها إلى قلة تأكل إلى حد التخمة على حساب كثرة تقف على حافة الجوع، إن لم تكن قد تردت فيه. إذ تشير الإحصاءات إلى أن نهم المتخمين الذين لا تبلغ نسبتهم 20% من سكان الأرض، قد حرمت 80% منهم من مقومات الحياة، وأدت إلى انتشار المجاعات في العالم الذي غدا قرية صغيرة ، ينبغي أن يمكون تكافل أهلها وتضامنهم من أبسط سماتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم " .
ولا بد للمتخمين أن يعلموا أن تخمتهم مشكلة صخية مثل مشكلة الجوع، وأن جميع الأطباء يوصون – كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم – بالإقلال من الطعام ، وأن البطنة تذهب الفطنة ، وأن عاقبة البطر وخيمة* وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين * 58.
لكي نسترد عافيتنا ونتخلص من إدماننا الاستهلاكي، لا بد لنا من مراجعة لسلوكنا، نتخذ في ضوئها قرارات حازمة، نرشّد بها إنفاقنا، ونغلب المقاصد والغايات، على الوسائل وتكديس المنتجات، وننمي قيمنا الدينية والإنسانية السامية في مواجهة منطق السوق وإراءاته وابتزازه.. فليس من المعقول أن تكون الغاية من خلق الإنسان الذي كرمه ربه، واستخلفه على عمارة الأرض، هي هذا العبث الاستهلاكي الذي نعيشه ، والذي هو امتهان فاضح لكرامة الإنسان .
وعندما نسترد صحتنا العقلية والنفسية، ووعينا لذواتنا، سوف تنفطم نفوسنا تلقائياً عن إدمان مخدر الشاشات والإعلانات، ويزكو فينا الإبداع، لتدور عندنا عجلة الإنتاج من جديد، في الزراعة والصناعة وسائر المجالات، ونتأهل بجدارة لسباق الألفية الثالثة ، الذي لن يفوز فيه إلا من كان أنضج فكراً، وأحسن عملاً ، وأكثر إبداعاً وإنتاجاً ونفعاً للإنسانية .

سـمـاح
11-02-2008, 04:09 PM
جزاك الله خيراً

فعلاً هناك الكثير من المواد التي كنت اظن انه لا يمكن العيش بدونها ولكن بعد ان عشت خارج لبنان توقفت عن استهلاكها تماماً
ففي مجتمعنا من يبتعد عن هذه المظاهر ينظر اليه باستغراب وسيكون مجبراً على القيام بكثير من الامور حتى يجاري من حوله.

من بعد اذنك، سوف اضع نسخة عن المقال في قسم التنمية المستدامة.

عزام
11-02-2008, 04:47 PM
بارك الله فيك
لك ذلك طبعا..

خفقات قلب
11-03-2008, 10:15 AM
مقال جميل أستاذي..لكن أظنه أن لا زال فينا الخير، لسنا بهذه السوداوية 100%..ألا ترى ذلك معي؟؟ عن نفسي أحب الاستفادة من الخامات في أعمال فنية، وإن كنت الآن فقط أجمعها ولا أملك الوقت لصنع شيء منها..لكني كلما نظرت إليها أقول لها: لا بأس سنلتقي يوما ما!!