تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دستور التابعين ؛ للشيخ عطية الله -حفظه الله-



أبو هاشم
10-30-2008, 03:25 PM
بسم الله الرحمن الرحيم




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فهذه تذكرة قليلة الكلمات كثيرة الفائدة إن شاء الله، أقدّمها إلى شباب الإسلام وحاملي راية التوحيد، الذين هم أمل أمتنا وغدنا المنتظر، إلى المجاهدين والعاملين للإسلام حيثما كانوا وإينما حلّوا، لعل الله ينفع بها ويصلح، ويكتبنا في زمرة الهداة المصلحين، ولا يحرمنا أجرهم.

وسميتها "دستور التابعين" وأردتُ بالتابعين المعنى اللغوي للكلمة، وهي جمع تابِع، فهي بمعنى الأتْباع، وهم جمهور شبابنا ورجالنا العاملين للإسلام الذين يتبعون قياداتهم ويتجنّدون في جماعاتهم في سبيل الله لخدمة هذا الدين، وسعياً لرفع رايته، واستعادة مجد أمتنا وعزّها وكرامتها.

قال الله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}الكهف28
في هذه الآية الكريمة -مع آيات أخر في كتاب الله سنذكر طرفاً مهمّا منها- دستورٌ لكل تابع مع متبوعه؛ مأموراً مع أميره، أو تلميذاً مع شيخه، أو ما شابه ذلك. كما هي أيضا دستورٌ للمتبوع في اختيار أتباعه.

وهي وإن كانت خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنها خطابٌ وأمرٌ لأتباعه من أمته، لما تقرر عند العلماء أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته وأتباعه ما لم يمنع مانع ويدلّ دليلٌ على الخصوصية، والله عز وجل يخاطب الأمة في شخص رسولها وأمينها وقائدها وإمامها لما في ذلك من البلاغة التي تستوعبها قلوب الأتباع، فلله الحجة البالغة.
(واصبر نفسك) أي احبسها واحملها على الكون مع هؤلاء وامنعها من الانصراف عنهم.
(مع الذين يدعون ربهم) يوحّدونه ويعبدونه وحده لا شريك له، ويخلصون له سبحانه، ولا يدعون أحداً سواه ولا يرجون غيره.
(بالغداة والعشي) وفي كل حين، وإنما خصّ هذين الوقتين اللذين هما طرفا النهار لما لهما وللذكر فيهما من المزية كما جاء في غير ما آيةٍ من القرآن.
(يريدون وجهه) وهذه جملة حالية، أي يدعون اللهَ ربَّهم في الأوقات المذكورة وفي كل وقتٍ مريدين وجه الله وحده أي مخلصين له تعالى.
(ولا تعدُ عيناك عنهم) وهذا نهيٌ، أي ولا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم ممن ليسوا كذلك.
(تريدُ زينة الحياة الدنيا) الجملة حالية أيضا، أي لا تعدُ عيناك عن أولئك الذين وصفناهم لك مريداً زينةَ الحياة الدنيا.
فعلم أن مما يدخل في إرادة زينة الحياة الدنيا أن تلتفتَ إلى الأشراف المترفين وترغب فيهم على حساب أولئك الضعفاء.
ويحتمل أن المراد بقوله (زينة الحياة الدنيا) هم أولئك الأشراف المترفون الذين طمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم وحرَصَ عليه، على طريقة الاستعارة التصريحية، وحئنئذٍ فيكون التعبير عنهم بـزينة الحياة الدنيا فيه معنى بديع جداً وهو أنه سمّاهم زينة الحياة الدنيا وكأنهم زخرفٌ ومتاعٌ وتزويقٌ! ففيه إشارة إلى ذم أحوالهم وتنفيرٌ عن طلبهم والحرص عليهم. والله أعلم

ثم نهى عن طاعة صنفٍ من الناس اتصفوا بصفاتٍ بيّنها فانتبهوا لها :
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) وهو من أغفل اللهُ قلبَـه عن ذكر الله، فهو لا يذكر الله إلا قليلاً، إن ذكر.
(واتبع هواه) وما اشتهته نفسه، قد أسلم نفسه لهواها وشهواتها الظاهرة والخفية.
(وكان أمره فُرُطاً) أي ضائعا، فهو غيرُ حازم في أمر دينه ولا في مصالح دنياه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره : "ودلت الآية على أن الذي ينبغي أن يطاع ويكون إماماً للناس من امتلأ قلبه بمحبةِ الله وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه فقدَّمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعالُه، ودعا الناس إلى ما منّ الله به عليه، فحقيقٌ بذلك أن يُتَّبع ويجعل إماماً"اهـ
وقال الشيخ الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله : "فإذا أراد العبدُ أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين، و هل الحاكم عليه الهوى أو الوحيُ، فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطاً، ومعنى الفرط قد فُسِّر بالتضييع أي : أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رشدُهُ وفلاحه ضائع قد فرّط فيه، وفُسّر بالإسراف أي : قد أفرط، وفُسّر بالإهلاك، وفسّر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة، والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة مَنْ جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غَـلَب عليه ذكرُ الله تعالى عزّ وجل واتباعُ السنة وأمرُهُ غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه"اهـ من كتاب "الوابل الصيب" له.

وقد تكرر في القرآن الكريم النهيُ عن طاعة الكفار والمنافقين والمفسدين والفجار.
قال تعالى : {ولا تطع الكافرين وجاهدهم به} أي بالقرآن {جهاداً كبيراً} الفرقان52
وقال تعالى : {يا أيها النبي اتقِ الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما} الأحزاب1
وقال : {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلاً} الأحزاب48
وهذا كله واضح ولله الحمد، نهى عن طاعة الكافرين والمنافقين، كما نهى عن اتباعهم واتباع أهوائهم في آيات كثيرة :
{ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} الجاثية18
{ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربّهم يعدلون} الأنعام150
{ولا تتبع آهواءهم عما جاءك من الحق} المائدة48
{ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} المائدة49
{ولا تتبع أهواءهم وقل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب} المائدة15
وقال تعالى : {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} الشعراء 151، 152
فنهى عن طاعة المسرفين وهم المجاوزون للحدود التي وضعها الله لكل شيء، ولما اتفقت عليه العقول السليمة والفطر المستقيمة من القيم. ووصفهم تبييناً لهم فقال : (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) وهذا واضح.

وقال تعالى : {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}القلم8-15
(فلا تطع المكذّبين) الذين كذّبوا الحق وعاندوه وردّوه ولم يقبلوه.
(ودّوا لو تدهِنُ فيدهنون) أي ودّ الكفّار لو تدهِن يا محمد أي تصانعهم وتوافقهم على بعض ما هم عليه إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعيّن الكلام فيه، فيدهِنون هم كذلك.
(ولا تطع كل حلاف) كثير الحلف في غير وجه حقّ، وهي من صفات الكاذبين والمنافقين، وتأمّل سورة التوبة الكاشفة المقشقشة تنبئكَ.
(مهين) خسيس النفس ناقص الهمة، ليس له رغبةٌ في الخير بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة.
(همّازٍ) كثير الهَمْز أي العيب للناس والطعن فيهم بالغيبة والاستهزاء وغير ذلك، فهو هُمَزَةٌ لُمَزَة.
(مشّاءٍ بنميم) كثير المشي بالنميمة، وهي نقل كلام الناس من بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد.
(منّاعٍ للخيرِ) كثير المنعِ للخير الذي يلزمُهُ القيامُ به معنويّاً كان أو مادّيّاً، بخيل.
(معتدٍ) على الخلقِ يظلمهم ويجور عليهم.
(أثيم) كثير الآثام والذنوب والعصيان.
(عتلٍّ بعد ذلك) أي وهو فوق ذلك كله عُتُلٌّ أي غليظٌ شرسُ الخُـلُقِ قاسٍ شديدُ الخصومة غيرُ منقادٍ للحق.
(زنيم) وفسّرها العلماء بوجهين :
الأول : الزنيم هو الدعيّ الذي ليس له أصلٌ، فهو خبيث المنبتِ لا يرجى منه خيرٌ، كولد الزنا، وكالدعيّ في القوم وليس منهم، ففيه إشارة إلى مراعاة شرف الأصل والمنبِت.
الثاني : الزنيم الذي له زَنَمَةٌ أي علامة يعرف بها، أي في الشرّ، كما تعرف الشاة بزنمتها وهي ما يتدلّى من عنق المعزى وهما زنَمتان.


نسأل الله السلامة والعافية.
قال الشيخ السعدي رحمه الله : "وحاصل هذا أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذّاب خسيس النفس سيء الأخلاق، خصوصاً الأخلاق المتضمّنة للإعجاب بالنفس والتكبر على الحق وعلى الخلق، والاحتقار للناس بالغيبة والنميمة والطعن فيهم وكثرة المعاصي"اهـ


ثم قال تعالى : {أن كان ذا مالٍ وبنين} وهذه الجملة هل هي متعلقة بما قبلها أو بما بعدها؟ وجهان للعلماء.
الوجه الأول : أنها متعلّقة بقوله "فلا تطع" أي لا تطع من هذه صفاته لأجل أن كان ذا مالٍ وبنين، وفي هذا تحذير من الاغترار بأصحاب الأموال والبنين وزينة الحياة الدنيا واتباعهم لمجرّد ذلك، ويؤخذ منه إشارة إلى التحذير من الاغترار بأصحاب المواهب والقدرات ما لم يكونوا على الصفات المطلوبة فيمن يُتَّبَع.!
وكم رأينا من أصحاب مواهبَ وقداراتٍ وإمكانياتٍ علميّة أو فكرية أو نفسية وغيرها يتصدّرون للقيادة ويغترّ بهم كثيرون ويتّبعونهم من دون أن يفتّشوا عما وراء ذلك من صفات الإمامة والقيادة التي بيّنها الله، ثم لا يلبثون أن يكتشفوا أنهم أخطأوا الطريق وربما بعد أن يفوت كثير من الوقت والفرص. والله المستعان.
والوجه الثاني : أنها متعلّقة بقوله بعدها إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين، أي لأجل أن كان ذا مالٍ وبنين طغى وكذّب بآيات الله وإذا تليتْ عليه زعم أنها أساطير الأولين.


وأمر الله تعالى في مقابل ذلك باتباع سبيل المؤمنين المهتدين.
قال تعالى : {واتبع سبيل مَن أنابَ إليّ} لقمان15
وهو سبيل المؤمنين الذين قال الله فيهم : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غيرَ سبيل المؤمنين نوّله ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً} النساء115
وقال تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة24
وقال : {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعلَ الخيراتِ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} الأنبياء73
قال الشيخ السعدي رحمه الله : "(يهدون بأمرنا) أي يهدون الناس بديننا لا يأمرون بأهواء أنفسهم بل بأمر الله ودينه واتباع مرضاته، ولا يكون العبدُ إماماً حتى يدعو إلى أمر الله"اهـ


وقال تعالى : {اتبعوا مَن لا يسألكم أجراً وهم مهتدون} يس21
فبيّن أن من علامات الداعية الصادق الذي حقيقٌ أن يُتَّبَع أنه لا يسأل الناسَ أجراً على دعوته، ولا يريدُ منهم مالاً ولا دنيا، وأنه مهتدٍ في نفسه، فهو قبل أن يدعوَ الناس متّصفٌ بالهداية قدوةٌ لما يدعو إليه.
وقال تعالى : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَنِ اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} يوسف108


أخي المسلم، خصوصاً أنت أخي الشاب المسلم المتوقّد غيرةً على الدين والحرمات وحُرقةً لنصرة الإسلام والنهوض بأمتك، تأمّل يرحمك الله هذا الدستور القرآني وما في معناه مما لم نذكره مما لا يخفى على من قرأ وطالع وتعلّم، من أحاديث نبيّنا صلى الله عليه وسلم وسنّته وسيرته، وسيرة أصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ الذين هم خير القرون، ومن سيرة قيادات المسلمين الأوّلين وأئمتهم الذين اجتمعت الأمة على خيريّتهم وصلاحهم، وانظر انطباقها على من تريد أن تتّبعه وتلحق به في تنظيم أو جماعةٍ تدعو إلى الله، أو تجاهد في سبيل الله، أو تأمر بمعروف وتنهى عن منكر ونحو ذلك من أعمال البر والخير.
واجعل هذا ميزانك، ومعيار انتخابك واختيارك، وتوكل على الله فهو حسبك
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطنا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبه.



عطية الله
الجمعة 15 صفر 1426هـ