تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : هل يكفر الجاهل قبل تبيين الحق له؟



عزام
10-25-2008, 05:47 PM
مقال طويل لكنه مهم

ما رأي الشيخ طرابلسي فيه؟
عزام

هل يكفر الجاهل قبل تبيين الحق له؟

حسن الهضيبي
'لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم'. صدق الله العظيم.
ذهبت طائفة إلى من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو العبادات أو الأحكام أو الفتيا فهو كافر. وذهبت طائفة أخرى إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافرا ولا فاسقا، ولكنه مجتهد معذور أن أخطأ مأجور بنيته.
وذهبت طائفة إلى أنه إذا كان الخلاف أو الجهل واقعا في صفات الله عز وجل فمن خالفهم في ذلك أو جهل ذلك فهو كافر وان كان فيما دون ذلك فهو فاسق.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقوله في اعتقاد أو عبادات أو أحكام أو بجهله شيئا من ذلك وأن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق مأجور على كل حال: ان أصاب الحق فأجران، وان أخطأ فأجر. وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان والثوري وداود بن علي وابن حزم رضي الله عنهم جميعا وهو أيضا قول كل من عرف له قول في هذه المسألة من الصحابة رضوان الله عليهم لا يعرف عنهم خلاف في ذلك أصلا ولا في مسألة من هذه المسائل أبدا الا اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمدا حتى يخرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك الصيام في رمضان أو شرب الخمر بعد أن حد ثلاثا.
والحق أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه الا بنص أو إجماع أما بالدعوى والافتراء فلا.
فوجب الا يكفر أحد بقول قاله الا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله صلى الله عليه وسلم. وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا. وسواء كان ما صح عنده من ذلك عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولا نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد. الا أن من خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره باتفاق الجميع على معرفة الإجماع وتكفير مخالفه.
وبرهان صحة قولنا هذا قول الله عز وجل: 'فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما'.
وهذا النص لا يحتمل تأويلا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
فمن استجاز الحكم على خلاف الله ورسوله فقد انتفى عنه الإيمان بنص الآية الكريمة. والحكم في الدين: تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار.
ولا عبرة بما إذا كانت استجازة خلاف الله ورسوله في مسائل الاعتقاد أو العبادات أو الأحكام أو الفتيا.
وأما من لم تقم الحجة عليه ولم يقطع باستجازته خلاف الله ورسوله فيما بلغه من الحق وقامت عليه الحجة به، فلا يكون كافرا إلا أن يأتي نص بتكفيره. فيوقف عند النص. كمن بلغه وهو في أقاصي البلاد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عن البحث عن خبره ولم يصدق به، فانه كافر.



فان شهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. وقال: لا أدري أحي هو أم ميت. ولا أدري لعله الرجل الحاضر أمامي أم غيره، وقال: لا أدري أقرشي هو أم تميمي أم فارسي، ولا: هل كان بالحجاز أو بخراسان – أن كان قائل هذا جاهلا لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير، لم يضره ذلك شيئا. ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فان عاند فهو كافر محكوم عليه بحكم المرتد.
ونقول لمن كفر إنسانا بنفس مقالته – دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في نفسه الحرج مما أتى به عليه السلام – أو بجهله. نقول لمن فعل ذلك: أخبرنا، هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به أو لا يصح إسلام من جهله الا وقد بينه عليه السلام ودعا إليه الناس كافة؟ فلا بد من: نعم.
ومن أنكر ذلك فهو كافر بلا خلاف.
فإذا ذلك هو اليقين، فهل جاء قط عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبد أو مرأة الا حتى سأله عن مفهوم الشهادتين ومعاني كلمات 'الاله والرب والعبادة والدين' ومعنى التوحيد ومواطن الوقوع في الشرك ومعنى الربوبية وما إذا كان مقتضاه حاكمية الله تعالى ومدى قدرته عز وجل وما ماثل ذلك من القضايا مثل، هل الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعا وبصرا وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء؟
فان ادعى أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا يسلم الا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض، وقال ما يدري أنه فيه كاذب، وادعى أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام. وهذا محال ممتنع في الطبيعة. إذ المحال الممتنع في الطبيعة أن يتواطأ المئات بل الآلاف من أكرم أهل الأرض على الكذب وكتمان أمر هام ثم لا يعرف ذلك عنهم ولا يفتضح كذبهم. ثم ان الادعاء بهذا القول فيه نسبة الكفر إلى الصحابة رضوان الله عليهم. إذ تواطئوا على كتمان ما لا يتم إسلام أحد إلا به.
فان قال: انه صلى الله عليه وسلم. لم يدع قط أحدا إلى شيء من هذا، ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه صلى الله عليه وسلم. قيل له: صدقت. وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفرا لما ضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة. ومن جوز هذا فقد قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ كما أمر، وانه عليه الصلاة والسلام حكم بإسلام من لا يجوز الحكم بإسلامه.
وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
ولا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره، ويقبل ممن آمن به، ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية، والراعي والراعية، والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين الا حتى تعرف مفهوم الشهادتين، ومعنى الربوبية والحاكمية وصفات الله عز وجل وأسماءه وقدراته... الخ.



ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه الصلاة والسلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام الا به أو تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام. فان زعم زاعم أن الناس على عهده عليه الصلاة والسلام كان كل فرد منهم على وجه القطع والتحديد يعلم جميع ذلك من مجرد نطقه بالشهادة: أن لا اله الا الله، فقد ادعى الكذب وقال ما لا برهان على صحته، وقال بخلاف ما وردت به الأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخلاف الواقع المحسوس.
فان الثابت في الصحيح من الأخبار أن من كانوا بنجد والحجاز وما حولهما في حياته عليه الصلاة والسلام لم يكونوا كلهم عربا خلصا. بل كان فيهم المستعرب والحبشي والرومي والفارسي وغير ذلك من الأجناس.
والثابت الصحيح في الأخبار أن من العرب الخلص من كان يجهل الكثير من معاني كلمات 'الاله والرب والعبادة والدين' ومعاني التوحيد، وقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك. ووقع الوهم والخطأ في ذلك من الناس بحضرته عليه الصلاة والسلام.
وما اجتمع قط قوم بلغ عددهم عشرات الألوف وهم على حد واحد من الفهم والذكاء والعلم وقوة التمييز وسعة الإدراك ونفاذ البصيرة. بل ما أجمع قط قوم في عدد دون ذلك بكثير الا وكان فيهم المفرط في الذكاء والمفرط في الغباء وما بين ذلك، وقوى التمييز وضعفيه وما بين ذلك، والعالم المتسع الأفق النافذ البصيرة ذو التجربة والخبرة والجاهل قليل الإدراك، وما بين ذلك.
ومن كابر في ذلك وعاند فإنما يحاول عبثا أن يجحد الواقع الملموس في كافة المجتمعات بين كافة الناس في كافة الأجناس في كافة الأقطار والجهات والأزمان.


وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

فصح ضرورة أن الجهل بكل ما سبق أن ذكرنا لا يضر الناطق بالشهادتين شيئا، ولا يمنع الحكم بإسلامه.
والفرض على الطائفة العالمة الواجب عليها النذارة التي من الله عليها بالتفقه في الدين أن تعلم الجاهل ما جهله مما هو لازم له وما هو في حاجة إليه لا يقع في مهاوي الشرك والضلال وأما ما زاد على حد الحاجة واللزوم فإنما هو من فضول الكلام الذي يثيره الشيطان ليوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ويفرق صفهم ويشتت جمعهم، ولا يلزم الكلام فيه إلا إذا خاض الناس فيه، فيلزم حينئذ بيان وجه الحق فيه من القرآن والسنة، لقول الله عز وجل: 'كونوا قوامين لله شهداء بالقسط'.
فمن عاند بعد بيان الحق وقيام الحجة اللائحة فهو كافر إذ لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا سلم بما قضي به عليه الصلاة والسلام.
وإنه لجدير بنا أن نمعن النظر في ذلك البرهان الذي قدمناه وأن نقدره حق قدره. فهو برهان من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله في مقام لا يختلف مسلمان أو غير مسلمين انه بيان للشرع وشريعة لازمة. وهو برهان منقول إلينا نقل الكافة عن الكافة الذي هو أقوى أنواع التواتر وأظهر أوجه الإجماع.

ونحن لم نعرف شيئا عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شيئا مما جاء به أو عمله الا عن طريق الصحابة الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم وما أجمعوا عليه من ذلك، أو نقل إلينا عنهم نقل الكافة عنه الكافة جيلا بعد جيل.
ومن استجاز التشكك في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو موضوع إجماع الصحابة رضوان الله عليهم المنقول إلينا نقل الكافة عن الكافة جيلا بعد جيل، فقد أسقط برهانه على صحة مبعث الرسول عليه السلام وجميع ما جاء به وصحة القرآن الكريم وانه كله حق نطق بكل حرف فيه الرسول عليه الصلاة والسلام لم يلحقه منذ ذلك الحين تغيير ولا تبديل.
وبرهان آخر:
فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا لم يعمل خيرا قط فلما حضره الموت قال لأهله. إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح. نصفه في البحر ونصفه في البر، فوالله لئن قدر على الله تعالى ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من خلقه. وان الله عز وجل جمع رماده فأحياه وسأله. ما حملك على ذلك؟ قال خوفك يا رب. وان الله تعالى غفر له لهذا القول.
فهذا إنسان جهل إلى أن مات ان الله عز وجل يقدر على جمع رماده وأحيائه وقد غفر الله تعالى له لإقراره وخوفه وجهله. فصح يقينا أن هذا الذي جهل قدرة الله تعالى معذور بجهله. غير كافر ولا مشرك. قال تعالى: 'ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء'.
ولقد حاول البعض الخروج من هذا الدليل فقال: أن معنى 'لئن قدر الله على' هو لأن ضيق الله على. كما قال الله تعالى: 'وأما إذا ما ابتلاه، فقدر عليه رزقه'.
وهذا تأويل باطل إذ لا برهان عليه. ولو صح التأويل لما كان لأمر ذلك الإنسان بأن يحرق ويذر رماده معنى. والذي لا شك فيه أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله فقد توهم أن الله تعالى لا يقدر على جمعه واحيائه إذا فعل ذلك.
برهان ثالث:
هو أبين وأوضح وهو قوله تعالى: 'إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء...' الى قوله تعالى: 'ونعلم أن قد صدقتنا' فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عليهم قد قالوا بجهل لعيسى عليه السلام: 'هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء' ولم يبطل بذلك إيمانهم.
وقد رام البعض الخلاص من هذا الدليل فقالوا أن الآية وارد فيها قراءة أخرى 'هل تستطيع' بالتاء 'ربك' بفتح الباء بمعنى هل يطيعك ربك إن سألته.
ومع التسليم بصحة هذه القراءة الأخيرة فان القاعدة الأصولية الواجبة الإتباع أنه إذا كانت للآية أكثر من قراءة فإن الواجب اعمال كل قراءة صحيحة ثابتة. والأخذ واعتبار المعنى الذي تدل عليه كل قراءة. إذ ما دامت القراءات كلها ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكلها قرآن موحى به من الله عز وجل.
وليس قرآن بأولى من قرآن.
ومؤدى الأخذ بمعنى قراءة دون قراءة أخرى إبطال إحدى القراءتين وفي ذلك إبطال لبعض القرآن. وإذ القراءة الأولى صحيحة بالاتفاق وهي المكتوبة في المصاحف المتداولة بين أيدي الناس، فواجب الأخذ بموجبها واعتبار دلالة معناها.
وقد ذهب بعض آخر إلى أن السؤال إنما وقع من أناس كانوا مع الحواريين لا مع الحواريين أنفسهم. ويكفي لإبطال هذا القول أن الله تعالى قد نص في الآية الكريمة على أن السؤال وقع من الحواريين أنفسهم. قال الله تعالى: 'إذ قال الحواريون'.
وبرهان رابع:
أخرج البخاري رضي الله تعالى عنه عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: كسرت الربيعة (وهي عمة أنس بن مالك) ثنية جارية من الأنصار فطلب القوم القصاص. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي بالقصاص. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: لا والله لا تكسر سنها يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'يا أنس. كتاب الله القصاص' فرضي القوم وقبلوا الأرش (الدية) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'ان من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره' فهذا أنس بن النضر يعترض بجهل على قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن ذكره بما جهل.
برهان خامس:
قال تعالى: 'وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة'.
فؤلاء قوم موسى جهلوا قدر الله عز وجل وما يجب أن ينزه عنه تعالى من المثيل والشريك ولسنا نحن الذين نقول بجهلهم هذا، وإنما هو قول موسى عليه السلام لهم: 'قال. إنكم قوم تجهلون'.
وبرهان سادس:
ما سبق أن رويناه عن الشاطبي وهو أيضا ما رواه ابن حزم والقرطبي وابن كثير من أن جهال العرب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال عليه الصلاة والسلام: 'قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم'.
وهذا برهان يدحض الزعم بأن جميع من قبل عليه الصلاة والسلام إسلامهم كانوا فردا فردا على علم كامل بجميع معاني الألوهية والربوبية والتوحيد.
وهو برهان كسابقه دال على أن الجاهل معذور بجهله حتى تقوم عليه الحجة.
وبرهان سابع:
أخرج أحمد والطبري رضي الله تعالى عنهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 'يأيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل' فقال له من شاء الله تعالى أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل. قال: 'قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه'.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الشرك نوعان: ما هو معلوم لنا، وما خفي علينا. وأمرنا عليه السلام أن نستغفر الله عز وجل مما قد نقع فيه من شرك نجهله أي نجهل أنه شرك وبالضرورة ندري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمرنا أن نطلب من الله أن يغفر لنا الا ما أجاز الله أن يغفره لنا. فصح أن ذلك الشرك الذي يجهله المرء ليس هو المعنى بقوله عز وجل 'ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء'. والذي يسمى المتصف به في الشريعة مشركا. وصح أن الجاهل معذور بجهله، إذ لا اختلاف بين أحد من الأمة أن أي نوع من الشرك إذا ما ظهر وعلمه الشخص فهو ليس بخاف عليه بل هو معلوم له حين ذلك فإذا وقع فيه وقارفه وهو عالم به فهو كافر مشرك محكوم بردته.



وبرهان ثامن:
أخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه في شأن ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل من امتحنهم للإيمان – وهو ما أخرجه الإمام مالك في الموطأ رواه مسلم وأبو داود والنسائي أيضا – أن معاوية بن الحكم قال: أتيت رسول الله بجارية. فقلت: يا رسول الله علي رقبة، أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أين الله؟' فقالت: في السماء. فقال: 'ومن أنا؟' قالت: أنت رسول الله. قال: 'فأعتقها'.
وبرهان تاسع:
وهو برهان ضروري لا خلاف فيه. ذلك أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم على أن من بدل آية من القرآن عامدا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك أو أسقط منها كلمة أو زاد فيها كلمة عامدا فإنه كافر بإجماع الأمة كلها.
ثم ان المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلام الله عز وجل جاهلا مقدرا أنه مصيب وإذا عارضه أخر كابره وناظره قبل أن يبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا أو فاسقا أو آثما.
فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإنه ان تمادى على مكابرته فهو عند الله كافر بذلك لا محالة.
وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة:
وقد احتج البعض لقولهم بتكفير من خالفهم في شيء من المعتقدات بحديث منسوب لرسول الله صلى ,الله عليه وسلم أن القدرية المرجئة مجوس هذه الأمة. وبحديث آخر فيه أنه تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار، حاشا واحدة فهي في الجنة.
وهذان حديثان لا يصحان من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة.
ومما احتج به أيضا القائلون بتكفير من خالفهم في شيء من المعتقدات أو جهلها قول الله تعالى: 'قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا'.
وآخر هذه الآية مبطل لاحتجاج من احتج بها لأن الله تعالى وصل قوله تعالى 'يحسنون صنعا' بقوله تعالى: 'أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا' فدل ذلك على أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة.
فإن قال قائل: ان عذرتم المجتهدين إذا أخطأوا والجاهلين إذا جهلوا فاعذروا اليهود والنصارى وسائر الملل فإنهم مجتهدون قاصدون الخير.
فنقول بعون الله: إننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا. كما أننا لا نحكم بكفر أحد بظننا وهوانا، ولكن من عذره الله تعالى وقبل عذره وعفا عن جهله وخطئه وأجره على اجتهاده وان أخطأ وحكم الله تعالى بإسلامه وإيمانه وان جهل أو أخطأ حكمنا نحن بإسلامه وإيمانه وقلنا بحكم الله فيه.
ومن لم يعذره ربه وحكم تعالى بأنه قد قامت عليه الحجة البالغة الدامغة التي لا تقبل عذرا أو جهلا أو خطأ. وقضى تعالى بأنه كافر مشرك. حكمنا نحن بأنه كافر مشرك، وقلنا بحكم الله تعالى فيه وليس أحد يدخل الجنة أو النار، ولكن الله تعالى هو الذي يدخل فيهما من يشاء.



ولا يختلف اثنان من أهل الأرض ولا نقول من المسلمين فقط بل نقول من كل ملة. في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذي تبرأ أهله من كل ملة حاشا التي أتاهم بها عليه الصلاة والسلام فقط. فوقفنا عند ذلك وقلنا وحكمنا به.
ولا يختلف اثنان أيضا في أنه عليه الصلاة والسلام قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك. فوقفنا عند ذلك ولا نزيد.
فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لم يجمع. وكذلك من أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك.
أما مالا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له، ولا إجماع في خروجه عنه، فلا يجوز إخراجه عما صح يقينا حصوله فيه بظن أو بدعوى بلا برهان.
نوجز ما قدمنا فنقول بعون الله:
قال تعالى: 'وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا' وقال تعالى: 'لأنذركم به ومن بلغ' وقال تعالى 'فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما' فهذه الآيات بها حكم جميع ما قدمناه. فصح أن من بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر.
فإن آمن ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده من نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو ما عمل أو ما قال – فلا شيء عليه أصلا – حتى يبلغه حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن بلغه حكم النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنده، فإن خالفه مجتهدا، فما لم يبن له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه الصلاة والسلام: 'إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران' وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء.
فإن خالفه بعمله معاندا الحق معتقدا بخلاف ما عمل فهو مؤمن فاسق.
وان خالفه معاندا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك لأنه لم يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يسلم بما قضى به.
كل ذلك سواء في المعتقدات أو الأحكام أو العبادات أو الفتيا.
ونختم هذا الفصل فنقول بعون الله تعالى:
ان من علم بهذه الآيات البينات من كتاب الله تعالى والثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضح له الحق، ثم علم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما' وتذكر قول الله تعالى: 'ولا تقف ما ليس لك به علم' وقوله تعالى: 'ان الظن لا يغني من الحق شيئا'. وقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: 'إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث' لحري به أن يمسك لسانه قبل أن يلقي على غيره بأعظم وأشنع وأسقط ما يتهم به إنسان، وهو الكفر والشرك بخالقه دون أن تقوم على ذلك البينة الشرعية القاطعة والأدلة التي لا شك ولا ظن فيها، أو أن يتبع ظنه فلا يحكم عليه بما أمره الله تعالى أن يحكم به عليه من الإسلام.



روي ابن حزم في جوامع السيرة أن العباس رضي الله تعالى عنه أتى بأبي سفيان يوم الفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان: 'ألم يأن لك؟ ألم تعلم أنه لا اله الا الله؟' فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان معه اله غيره لقد أغنى. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك؟ ألم تعلم أني رسول الله؟' فقال أبو سفيان بأبي أنت وأمي: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فأن في نفسي منها شيئا حتى الآن. فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك فأسلم. فقال العباس: يا رسول الله. ان أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن'.
وهذا هو الحكم بالإسلام على الظاهر الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول للذين قالوا ان البيعة ولزوم الجماعة من شروط الإيمان:
ان كل من نطق بالشهادتين فهو مسلم مؤمن ولو جهل لزوم البيعة ووجوب التزام الجماعة حتى يبلغه الأمر بذلك، وتقوم عليه الحجة اللائحة بثبوته. ثم انه ان اعتقد خلاف ما رآه غيره في معنى البيعة والجماعة والإمامة الحقة مجتهدا في ذلك ما وسعه من اجتهاد أو مسترشدا بأقوال الفقهاء المشهود لها والمشهود لهم بالعلم والورع – وهم قد اختلفوا في ذلك اختلافات كثيرة وذهبوا مذاهب شتى – فإنه وان أخطأ واعتقدنا بخطئه فهو معذور بخطئه مأجور على نيته، محكوم بإسلامه وإيمانه.
وقد أجمع المسلمون عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على بيعة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حاشا الزبير بن العوام وعلى به أبي طالب، وقد استبان الحق للزبير بن العوام فرجع وبايع سريعا. أما علي فمكث ستة أشهر حتى ظهر له الحق فرجع وبايع. وبقي خلال تلك الأشهر الستة حرا طليقا لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس وما زعم أحد أنه رضوان الله عليه قد كفر، وما تشكك أحد في إسلامه عليه رضوان الله.
والله نسأل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

مقاوم
10-25-2008, 06:48 PM
كنت سأجيب لكن بما أن السؤال كان موجها للطرابلسي فسأترك الإجابة له!!

عزام
10-25-2008, 06:56 PM
بامكانك ان تجيب اخي مقاوم
فالموضوع مطروح للنقاش امام الكل
لكن كأنك مخفف هذه الايام مشاركات
لذا سألت طرابلسي
عزام

عزام
10-26-2008, 11:04 AM
عذرا

اضعت اسم المفتي فهذه الفتوى من دفاتري القديمة

عزام

العذر بالجهل في أصول الدين

أنا حديث عهد بمعرفة مذهب السلف الصالح في كثير من مسائل العقيدة و منها ما يتعلّق بأسماء الله تعالى و صفاته ، و سؤالي عن أبويّ و من في منزلتهما من التقدم في السن و التأخر في العلم ، حيث أفضى بعضهم إلى ما قدم و هو جاهل بمذهب السلف في مسائل الإيمان و الصفات و نحوها من دقائق مسائل المعتقد ، فهل هم معذرون بجهلهم في ذلك أم لا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من المعلوم ضرورةً أن النبي صلى الله عليه و سلَّم قد بلَّغ الرسالة و أدى الأمانة ، و كان ممّا بلَّغه لأمته مسائل الإيمان و الكفر ، و إن كان ذلك على سبيل الإجمال في بيان المكفِّرات ، دون تعداد آحاد المسائل القولية و الفعلية التي يكفر صاحبها ، و على هذا الأساس ساغ اختلاف الأمَّة في التكفير ببعض الذنوب كترك الصلاة ، و تعاطي السحر ، و اتِّخاذ سبِّ الصحابة و تكفيرهم ديناً ؛ و إن كان الحقُّ فيها واحداً لا يتعدد و إن خفي على بعض أهل العلم .
غير أن عدم بيان المكفرات على سبيل الإفراد و التعداد منه صلى الله عليه و سلم لمن يدخل الإسلام من آحاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، لا يلزم منه أنَّها غير معلومة لمن تتبع نصوص الشريعة كتاباً و سنَّة ، بل هي معلومة على وجه الإجمال ، و إن تعدَّدت صورها ، و جدَّت صور من المكفِّرات اللفظية و الفعلية في العصور المتأخرة ، كسبّ الصحابة و اتِّخاذه ديناً ، و ردِّ التحاكم إلى ما أنزل الله جملةً و استبداله بزبالات الأذهان ، و أهواء بني الإنسان ، فهذا كله لم يكن له و جود في الصدر الأوَّل ، و ربَّما لم يكن يخطر ببال أحدٍ من السلف أن يوجد في يوم من الأيام .
قال أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله : مَن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدَع أحداً يُسلم حتى يوقِفَه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض ، و قال ما يدري أنه فيه كاذب ، و ادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام ، و هذا المحال ممتنع في الطبيعة ، ثم فيه نسبة الكفر إليهم ؛ إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به . و إن قال : إنه صلى الله عليه و سلم لم يدع قط أحد إلى شيء من هذا ، و لكنه مودع في القرآن ، و في كلامه صلى الله عليه و سلم قيل له : صدقت ) [الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ].
قلت : و بناءً على هذا الأصل وقع الخلاف بين أهل العلم في مسألة العذر بالجهل في أصول الدين ، أو عدَمه ، فذهب جلُّهُم إلى اعتبار العذر بالجهل ممن لم تُقَم عليه الحجَّة ، و ذهب آخرون إلى عدم اعتباره .
و الأدلَّة الشرعية تشهد لمذهب الجمهور ، و هم القائلون : يُعذَر الجاهل بجهله في أصول الدين ما لم تبلغه الحجَّة ، و هذا فيما إذا كان مِثْلُه يجهلها لبُعده عن ديار الإسلام ، أو عدَم من يُعلِّمه ، أو نحو ذلك ، و قد قرر هذا عدد من الأئمة الأعلام ، كالإمام الشافعي رحمه الله ، فقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى ، قال : سمعت الشافعي يقول: ( لله أسماء و صفات لا يسع أحدا ردها ، و من خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، و أما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل و لا الرؤية و الفكر )
و قال ابن عبد البر رحمه الله : ( من جهل بعض الصفات وآمن بسائرها لم يكن بجهل البعض كافرا لأن الكافر من عاند لا من جهل ، و هذا قول المتقدمين من العلماء و من سلك سبيلهم من المتأخرين ) [ التمهيد : 18/42 ] .
و إلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري ، الذي أفاض في تقرير عُذر الجاهل ما لم يبلُغه الحقُّ فيعاند ، و سنذكر بعض قوله في هذا لاحقاً إن شاء الله .
و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : ( فإنه بعد معرفة ماجاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الأموات و لا الصالحين و لا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة و لا بغيرها و لا بلفظ الاستعاذة و لا بغيرها ، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت و لا إلى ميت و نحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور و أن ذلك من الشرك الذي حرمه الله و رسوله ، لكن لغلبة الجهل و قلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه [ مختصراً من : الاستغاثة الكبرى : 1/629 و ما بعدها ] .
و قد صرَّح في مقام آخر باشتراط قيام الحجة على الجاهل قبل الحكم بكفره ، فقال رحمه الله : ( و الاستغاثة بالرسول ؛ بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أن يطلب منه ما يليق به ، و من نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به و إما مخطئ ضال و أما بالمعنى الذي نفاه الرسول عليه الصلاة و السلام فهي أيضاً مما يجب نفيها ، و من أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ) [ الاستغاثة الكبرى : 1 / 298 ] .
و لولا الإطالة لتتبعت و جمعت الكثير من أقوال السلف و الخلف في تقرير العذر بالجهل في أصول الدين فضلاً عن فروعه ، و لكن بشرطه ، و حسبنا في هذا المقام ما قدَّمنا ، و هو المذهب الصحيح الذي تشهد له الأدلة النقلية و العقلية ، و منها :
1- ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ – أي رزقه - اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ : أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرَ أَبٍ . قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ؛ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ ) . في رواية عند مسلم ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَىَ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَىَ بَنِيهِ فَقَالَ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ، ثُمَّ اسْحَقُونِي ، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ، لَيُعَذِّبُنِي عَذَاباً مَا عَذَّبَهُ أَحَداً ، قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ ، فَقَالَ لِلأَرْضِ : أَدِّ مَا أَخَذْتِ ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ . فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ : خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ ! أَوْ قَالَ : مَخَافَتُكَ ! فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ ) . قال الحافظ في الفتح : ( قال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال : كيف يغفر له و هو منكر للبعث و القدرة على إحياء الموتى ؟ و الجواب : أنه لم ينكر البعث و إنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ، و قد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . قال ابن قتيبة : قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ) .
قال أبو محمد بن حزم : ( فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز و جلّ يقدر على جمع رماده و إحيائه ، و قد غفر الله له لإقراره ، و خوفه ، و جهله ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ] .
قلت : و ذهب بعض شراح الحديث إلى تأويل قوله : ( لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ) فأبعد النجعة ، و صرف النص عن ظاهره بلا قرينة صارفة . قال ابن حجر : ... و قال ابن الجوزي : جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً، وإنما قيل : إن معنى قوله : ( لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ) أي ضَيَّقَ ، و هي قوله : ( و من قُدِر عليه رزقه ) أي ضيق ، و أما قوله – في رواية - : ( لعلي أضل الله ) فمعناه لعلي أفوته ، يقال : ضل الشيء إذا فات و ذهب ، و هو كقوله : ( لا يضل ربي و لا ينسى ) و لعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه و خوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي و أنا ربك ، و يكون قوله : ( لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي ) بتشديد الدال ؛ أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني ، أو على أنه كان مثبتاً للصانع و كان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان . و أظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته و غلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ، و لم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل و الذاهل و الناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه ، و أبعد الأقوال قول من قال : إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر .اهـ.
قلت : و هذه التأويلات لا وجه لصرف ظاهر النص إليها ، و لا قرينة تدل عليها ، و إنَّما صار إليها من قال بها تحرُّجاً من القول بالعُذر بالجهل في أصول الدين ، فلجأ إلى التأويل ، و أبعدَ في الطلب .
و قد شنَّع ابن حزم على من جاء بها – و إن لم يسمِّه - فقال رحمه الله : و قد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى قوله ( لئن قدر الله علي ) : إنما هو لَئِن ضيَّق الله علي ، كما قال تعالى : ( و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) ؛ و هذا تأويل باطل لا يمكن ؛ لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي ، و أيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق و يُذَرَّ رماده معنى ، و لا شك في أنه إنما أمره بذلك ليُفلت من عذاب الله تعالى .اهـ . [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ، 142 ] .
2- سؤال الحواريين نبي الله عيسى عليه و على نبيِّنا الصلاة و السلام ، و قولهم الذي حكاه الله عنهم في كتابه : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ ) [ المائدة : 5 / 112 ] . قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : ( فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ و لم يبطل بذلك إيمانهم ، و هذا ما لا مخلص منه ، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ]. و ممَّن خالف مذهب الجمهور في مسألة العذر بالجهل ، من لم يجد ما يمكن أن يؤوِّل به هذه الآية الكريمة ، فصار إلى إمرار الآية على ظاهرها ، و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة - وهي قراءة علي و عائشة و ابن عباس و مجاهد . [ انظر : تفسير القرطبي : 6/365 و الطبري : 7/129 و ابن كثير : 2/117 و فتح القدير : 2/93 ] . و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي : ( قال الزجاج : هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، و قيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف ) [ تفسير القرطبي : 6 / 365 ] . و روى رحمه الله في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها : ( كان القوم أعلم بالله عز و جل من أن يقولوا : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ). قالت : و لكن : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ). و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله ، و لا يكون ممَّا يُكفِّر ، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل ، فضلاً عن وقوعه. و لكن لا تقوم حجة بهذا التفسير في مقابل حجة الجمهور على القراءة المشهورة ، بل غاية ما يمكن أن يقال – تنزلاً – أن كلا القولين محتمل ، و لكن رأي الجمهور يؤيده الدليل السابق ، و ما سيأتي ، فيبقى عليه المعوَّل ، و به الفتيا ، و الله أعلم .
3- الاستدلال بالإجماع ، و قد ورد في كلام الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال : ( برهانٌ ضروريٌ لا خلاف فيه : و هو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، و هو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً ، و هو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، و أسقط كلمةً عمداً كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامداً ، فإنه كافر بإجماع الأمَّة كلِّها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة و ينقص أخرى ، و يبدل كلامه جاهلاً ، مقدراً أنه مصيب ، و يكابر في ذلك ، و يناظر قبل أن يتبين له الحق ، و لا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ، و لا فاسقاً و لا آثماً ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلِّها كافر بذلك لا محالة ، و هذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ]. قلتُ : و هذا الكلام على قوته فيه وجه آخر ، و هو قياس الأولى ؛ فإذا كان المخطئ في التلاوة معذوراً بجهله و إن أحال المعنى عن المراد بزيادة أو نقصان أو تصحيف ، مع أنَّه لا يتصور عجزه عن تعلُّم تلاوة آي الكتاب ، لكثرة المعتنين بتعليمه ، و نشر علومه ، و تفسيره في كل زمان و مكان ، و ندرة الخلاف في ذلك بين أبناء المذهب الواحد ، بل و بين الفرق الإسلامية ، على تعددها ، و تشعب مسالكها ، فمن الأولى أن يكون معذوراً بجهله في دقائق العلم ، و خفايا المسائل – بالنسبة لمن هو في مثل حاله – كمسائل الأسماء و الصفات التي قد لا يتسنى له من يعلمه إياها ، أو يرشده إلى مذهب أهل الحق و التحقيق فيها ، خاصة و أنَّ الخلاف فيها قائم على أشدِّه بين الفرق و الطوائف .
ملاحظة
و يحسن بنا و نحن نؤكد على مذهب الجمهور في العذر بالجهل في أصول الدين أن نؤكِّد على أنَّ العذر لا يقبل ممن يعيش بين ظهراني المسلمين و فيهم العلماء و الدعاء ، و لكن الجاهل المعذور بجهله هو حديث العهد بدين الإسلام ، أو من يعيش في منأى عن بلاد المسلمين ، أو حيث لا علم و لا علماء و لم يتسنَّ له من يعلمه ، أو يوقفه على ما يجب عليه اعتقاده من مسائل الأصول .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف ؛ فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ و التمكين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرُسل ) [ المنثور في القواعد ، للزركشي : 2 / 17 ] .
فلا يغيبن عنك يا يطلب الحق بدليله أن الأمر ليس على إطلاقه ، و لكنَّه مقيَّد مضبوط عن أهل العلم ، فخذه بقيده ، و اضبطه بضبطه ، و الله يتولاك .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .