تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : القرآن والسلطان ( القرآن أم السلطان)



منير الليل
08-12-2003, 10:22 AM
القرآن أم السلطان؟

من المسؤول عما وصل إليه حالنا: القرآن أم السلطان؟
و"حالنا" الذي أعنيه تعرفونه بكل تأكيد. وعلى من لم يبلغه النبأ أن يتفرس في عيون الناس في الشارع العربي. يقرأ أي صحيفة صباحية. يدير مؤشر المذياع مرورا بعواصم المشرق والمغرب. يتطلع الى المرآة. يختلس نظره الى أعماقه. عندئذ، سيجدها كلمة منقوشة في كل العيون، مكتوبة بكل الأحرف، منطوقة بكل لهجات أمة العرب: الهزيمة!

مهزومون نحن ومشهور إفلاسنا في كل الأسواق وعلى كل الجبهات، رغم ما نزعمه من انتصارات هنا وهناك، ورغم ما نكدسه من أرصدة هنا وهناك، ورغم ما نملكه من ثروة مدفونة أو مكتشفة.

مهزومون ـ هكذا صرنا وسنظل ـ منذ هزم الإنسان في بلادنا، وتحول من كائن حي الى "شسء". منذ سحب منه دوره كفاعل، وبات صفة أو مفعولا به! ومنذ وقعت تلك الواقعة، خرج المسلمون من التاريخ وصاروا جزءا من الجغرافيا!.

لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم، ولأنه سبحانه يدافع ـ فقط ـ عن الذين آمنوا، ولأن سنن الله في الكون ماضية بغير محاباة ولا مجاملة.. ولأن التاريخ لا ينتظر أحدا، لأجل هذا كله، نحيّ المسلمون عن مقعد قيادة البشرية، يوم أن فقدوا مؤهلات هذه الصدارة.
ومنذ ذلك الحين سلمت عجلة القيادة لغير المسلمين، وخرج عالم الإسلام من "القمرة" وتحولنا جميعا الى "رقعة" في خريطة العالم، مكدسة بالبشر، ومزينة ببعض المال والنفط!
وكما أن التاجر عندما يفلس يعود الى أمواله القديمة، يفتش وينقب، فإن البعض منا يفعل الشيء ذاته. يقلب الأوراق والأضابير، ويردد: القرآن هو المسؤول!
حتى يبرئ نفسه والآخرين، وحتى لا يقع في محظور المواجهة مع أحد من البشر، يشير بأصابع الاتهام الى القرآن، ويحمله المسؤولية من البداية الى النهاية. البعض يقولها تلميحا وعن استحياء، وهناك من يقولها صراحة ليريح نفسه، وليزيح المسؤولية عن كاهله.
سمعت من الاستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب البارز ورئيس تحرير الأهرام الأسبق أنه شهد حوارا قريبا من هذا السياق بين الرئيس الباكستاني الراحل أيوب خان وبين الرئيس جمال عبدالناصر، بدأ بتساؤل طرحه الرئيس الباكستاني حول سبب تخلف الشعوب الاسلامية. وكان رد الرئيس عبدالناصر أن التخلف له أسبابه المعروفة، ومن سوء توزيع للثروة، وسوء استغلال الموارد، ونهب استعماري دام عشرات السنين.
لكن الرئيس الباكستاني عاد يسأل: لماذا الشعوب الاسلامية بوجه أخص؟ وعندما مضى الرئيس عبدالناصر يشرح الأسباب التي ذكرها، سارع الرئيس الباكستاني الى القول: لا يا سيادة الرئيس، إن هناك خطأ ما عند المسلمين: خطأ في الإسلام ذاته.. خطأ في الكتاب ( يقصد القرآن الكريم)!!
هكذا يزعمون!

نحن متخلفون والقرآن بيننا. مهزومون والقرآن بيننا. مشتتون والقرآن بيننا. سلبيون متواكلون. عاجزون. متنابذون. متقاتلون. إلى آخر مفردات قاموس النقائص والمعايب التي يرددونها!
مبهورون بالغرب، مشدودة أبصارهم الى "القبلة" الجديدة، يقولون: انظروا وتأملوا ماذا فعل الذين يعيشون بغير قرآن؟؟
وهي مدرسة الهزيمة في التفكير " الإسلامي" والعربي، لا تتردد في أن تنقض على كل قيمة إيجابية. تهدمها بل تنسفها نسفا، عندما نجد ثغرة في التطبيق، أو سيئة في الدعاة والمعتنقين. منبتة الجذور عن التربة، منصرفة قلوب أصحابها قبل أعينهم الى عالم غير عالمنا، في تعلق أبله بالغرب، وتبعية عمياء لقيمه.
عندما ينتكس العرب، يلعنون العروبة ويطالبونا بتغيير هويتنا. وعندما ننهزم في معركة ضد عدو، يلعنون القتال ويسفهون النضال، ويطالبونا بالركوع والتسليم لأننا لا نملك مقومات التصدي ولا أوراق اللعبة.. وعندما نفشل في السباق الحضاري، يطالبوننا بالخروج من الحلبة، والاكتفاء بتقليد الغرب كالقرود ومحاكاتهم كالببغاوات.

بالمثل يكررون المنهج ذاته مع الإسلام. عندما يسقط المسلمون ضحية التخلف والفقر، يحاكمون القرآن، ويبحثون عن وسيلة للتحلل منه، بل والنيل منه كلما أمكن!
وفي تاريخنا الحديث، فإن المدرسة "الكمالية" كانت هي النموذج الذي طبق هذا المنهج بكل التزام وشدة. عندما حمّل كمال أتاتورك كل رذائل مرحلة السقوط في الخلافة العثمانية على الاسلام والعروبة. وقرر ـ فيما تصوره خروجا من المأزق ـ أن يشطب من قاموس الحياة التركية كل ما هو إسلامي وعروبي، من حروف اللغة العربية الى أذان الصلاة. وأن يدفع تركيا دفعا الى تقليد الغرب، كما توهم أتاتورك، من ناحية أخرى. حتى باتت لا هي شرقية ولا هي غربية، ودفعت الثمن باهظا، ولا زالت، من جراء تلك الخطيئة الكبرى.

* * *

هل القرآن حقا هو المسؤول عما أصابنا؟
هل الإسلام هو المسؤول عن تخلف المسلمين؟
في ظل القرآن انتصر المسلمون على الروم والفرس، وهما القوتان الأعظم في الزمن القديم.
وفي ظله عبرت طلائعهم الى أوروبا، وطرقوا أبواب روما وفيينا. وحملوا مشاعل النور والمعرفة الى ذلك العالم "المتخلف". ولن نطيل في قراءة صفحات المجد الغابر والتباكي على الأيام الخوالي. ولكننا فقط سنقف عند مرحلة تاريخية محددة، ونلقي نظرة على جانبي الساحة، حيث كان يقف أبناء القرآن في ناحية، والآخرون الذين تصرعنا الآن قيمهم ويسيل لعابنا على كل ما يصدر منهم، في ناحية أخرى. سنلقي نظرة لنستدل ونحاول أن نفهم.
لنقف عند القرن العاشر الميلادي، سنة ألف على وجه التحديد. " أنظر بحث الدكتور شاكر مصطفى: أثر العرب في حضارة الغرب والعالم".
في ذلك الوقت كانت أوروبا مقطوعة الأنفاس من الهلع، ظنا منها أن القيامة ستقوم في هذا العام. وكان الناس يندفعون في لهفة الى الكنائس والأديرة، يصلون ويطلبون التوبة. وكان الإمبراطور أوتو الثالث، وهو في العشرين من عمره، يقضي أيامه يمشي حافيا الى الحج بين روما وجبل جرجانوس بناء على أوامر القديس روسولادوس، لأن المسيح سوف يأتي ليقتص من الناس.. بينما كان هذا هو "حال" أوروبا، طان واحد من أبناء القرآن هو ابن سينا يعلن في خراسان، وهو لم يتجاوز بعد العشرين من عمره، أنه فرغ من العلوم كلها لم يتجدد له بعدها شيء. وكان البيروني يعلن النظرية التي قال بها كوبرنيك من بعد: أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس .وكان الحسن بن الهيثم يكتب للناس قوانين الضوء ويجري التجارب على المرايا والعدسات المخروطية والكروية والأسطوانية، وعلى آلة التصوير.
ليس هذا فقط..
كان في دكان نساخ واحد في قرطبة 170 جارية تعمل بالنسخ. وفي مكتبة بني عمار بطرابلس كان يعمل 80 نساخا ليل نهار، لإثراء المكتبة وإغنائها. وكان ابن النديم ينشر في بغداد كتاب الفهرس يجمع به أسماء خمسة آلاف مجلد مما ألف أبناء القرآن، في الفلسفة والفلك والطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتاريخ والأدب والدين. في وقت أصدرت فيه هيئة الدومينيكان بأوروبا قرار يحرم على الأعضاء دراسة الفلسفة أو تعاطي الفنون والعلوم. وبينما نبلاء أوروبا يتحايلون على التهرب من هذا الفن العسير: القراءة والكتابة. وبينما دير القديس جالان لم يكن قد عرف في عمره الذي يمتد قرونا راهبا واحدا يقرأ ويكتب.
وفي ذلك الزمان أيضا، زار واحد من أبناء القرآن، هو الرحالة الطرطوشي، بلاد الفرنج، وهو المسلم الذي يتوضأ خمس مرات في اليوم، فدهش للقذارة التي رآها عندهم. حيث لم يكن الواحد منهم يستحم إلا مرة أو مرتين في السنة، ولا تغسل الملابس حتى لا تتمزق. حتى روت إحدى قصصهم أن فتاة كانت تباهي حبيبها بأنها استحمت في السنة الماضية!
كان أبناء القرآن يحفظون أن النظافة من الإيمان، وكان الآخرون يقولون إن العناية بالجسد خطيئة وأن القذارة مظهر العفاف والتقوى.
هكذا كان أبناء القرآن، وهكذا كان الآخرون.
الآن هم على سطح القمر، وأقدامنا مغروسة في قاع المستنقع!
والقرآن هو هو لم يتغير ولم يتبدل!!
في القرآن "المتهم" نقرأ":
" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ( الرعد:11) "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" ( الهود:11).
ونقرأ أيضا:" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" ( الشورى: 30) ونقرأ:" وإن ليس للإنسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يرى" ( النجم: 39). و.. "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" ( الأعراف: 147).

في الإسلام، ليس الإنسان أسير قبضة "الكارما" التي تسلبه إرادته، كما كان يقول الهنود القدماء. وليس هو العاجز الذي تسلط الآلهة رسولها "تمسيس" لينتقم منه إذا اختار، كما كان يقول اليونان. وليس هو ضحية "الطالع" كما كان يقول البابليون. إذا ولد تحت واحد من نجوم السعد كتبت له السلامة، وإذا ولد تحت أحد نجوم النحس فهو ماض الى النهاية على طريق الندامة.

الإنسان في القرآن الكريم "مخلوق مكرم". وهو في فقه المسلمين "مخلوق مكلف"، أو " مخلوق على صورة الخالق". حتى قال المعتزلة إن البشر هم الذين يصنعون مصائرهم، واختلف معهم "الجبرية" الذين اعتبروا أن الانسان مسير وليس مخيرا، وهو ما اعتبره الامام محمد عبده بمثابة " هدم للشريعة ومحو للتكاليف، وإبطال لحكم العقل البديهي".
وها هو واحد من أعلان الصويفية تبلغ به الثقة في نفسه وفي الله حدا يدفعه الى القول: بأنه يقاوم الأقدار بالأقدار!، بل يذهب الحديث القدسي الى القول بأن:" لله عبادا إذا أرادوا أراد".

لعلنا نستطيع الآن أن نجيب عن السؤال: ما الذي جرى إذن. لماذا كان الصعود ولماذا كان السقوط؟
باختصار وتبسيط شديدين: كان بيدنا سلاح، استخدمناه مرة للانتصار، ثم ألقيناه فمضينا على طريق الهزيمة والاندثار.. ثم جاء زمن لم يملك فيه أحد شجاعة محاسبة الذين ألقوا السلاح، فكان المخرج أن يحاكم السلاح ذاته!
وقد تتعدد الآراء في رصد الأسباب وقد تختلف، لكن ما لا خلاف حوله هو أن القرآن بريء مما هو منسوب إليه في هذه القضية على وجه التحديد.
ولا بد هنا أن نتأمل جيدا ماذا فعل الإسرائيليون بالتوراة. من حصاد أساطيره وخرافاته، وكل ما فيه من فكر عنصري متخلف. كيف شهروه في وجه الجميع، وتحصنوا به، ثم حولوا خرافاته الى دولة، وطوعوا أساطيره لتخدم التوسع في كل اتجاه.
لو أنها مسألة "كبت"، وفعل الاسرائيليون ما فعلوه بالتوراة، بكل ما فيه. ماذا كان ينبغي أن نفعل نحن والقرآن بين أيدينا؟
لقد صدق أمير المؤمنين عثمان بن عفان عندما قال:" إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وفي قوله الكفاية والخلاصة.
وإن كان لي أن أضيف هنا فإنني أقول بغير تردد أن "حالنا" الذي بلغناه هو من مسؤولية السلطان لا القرآن. وإننا نستطيع فعلا أن ننتصر بالقرآن، كما اننا نستطيع أن ننتحر بالقرآن. المهم هو ما نختاره نحن ونقرره نحن. ما نعد أنفسنا من أجله. ما نسعى جادّين لتحقيقه.
وتلك مسؤولية "السلطان" بالدرجة الأولى، ليس فردا واحدا أعني، ولكنه كل من يمارس "سلطانا" سياسيا أو فكريا في الأمة. كل الذين بيدهم مفاتيح الحل والعقد. كل أولي الأمر، الذين لم يكفوا عبر القرون عن مطالبتنا "بالسمع والطاعة" فيما نحب ونكره.
ولا عجب والأمر كذلك إذا كان السلف من المسلمين قد ثار بينهم جدل طويل واحد حول هذا "السلطان"، حتى ذهب بعضهم الى اعتبار الأمامة أهم من التوحيد في عقيدة المسلم! وأفتى آخرون بأن السلطان الكافر العادل أفضل من الجائر.
ثم اسمحوا لي أخيرا بان أسأل: هل القرآن موجود فعلا بيننا؟.. أعني بأي قدر يساهم في صنع حياتنا الآن؟
وإذا أذن لي أن أجيب، فإنني أقول: أن القرآن محبوس فعلا في قفص حديدي يحيط به رجال غلاظ شداد، وأن المعتمد منه فقط هو بعض الصفحات، بل بعض الكلمات، التي توظف وتطوع لخدمة أوضاع قائمة، وأكثرها علينا وليس لنا.
الذين يرفضونه يريدون أن يحاكموه، والذي يخشونه سعداء لبقائه في قفص الاتهام. وعندما يطلق سراح القرآن، سوف يطلق سراح هذه الأمة!!

فهمي هويدي