تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الكيل بمكيالين



عزام
10-10-2008, 09:01 PM
مقال جميل ارجو ان يعجبكم للدكتور عبد الكريم بكار

عزام

تتيح مرونة الفواصل بين القضايا الإنسانية، وهشاشة الحدود التي تنتهي عندها الفضائل، لتبدأ أضدادها، وإستخدام (اللغة الكيفية) في التعبير عن الظواهر الإنسانية، يتيح كل أولئك لنا أن نكيل بمكيالين ـ إذا نحن شئنا ذلك ـ فإذا كنا آخذين كلنا بمكيال، وإذا كنا معطين، فللعطاء مكيال آخر، ولذا جاء القرآن الكريم محذراً ومتوعداً لأولئك الذين تعودوا ممارسة مثل هذا العمل، حيث حكى لنا موعظة شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه:
"فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا".
وقد قص علينا ذلك، ليعلمنا أن مسألة التطفيف في المكاييل قديمة، وأن معالجة الأنبياء لها أيضاً قديمة. وقال لنا القرآن الكريم نحواً مما قال شعيب لقومه:
"وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5}".
إن الهوى وحب الأثرة هما الدافع الأكبر إلى التطفيف، لذلك كان الخوف من العواقب هو الرادع عن ذلك. وهذا التنوع في إستخدام المكاييل والمعايير تساعد عليه ظروف متعددة، نود أن نسلط الضوء على ثلاثة نماذج منها بغية المزيد من الرشد في علاقاتنا وأحكامنا.
1- قضية النقد
قضية النقد من القضايا الخطيرة والحساسة، فوجودها ضروري للبقاء ضمن المسار الصحيح، ولرفع وتيرة العمل كلما أصابنا الكلل والملل، ولمحاصرة الأخطاء التي تحدث أثناء التطبيق.
ومبدأ وجوب النقد، وضرورة إستمراره نابع من أن الإنسان لا يستطيع القبض على كثير من الحقائق دفعة واحدة، وإنما على مراحل، وهذا مشاهد لا يحتاج إلى برهان، لكن المشكلة تكمن في تحسس الناس من النقد، وسبب هذا التحسس إما إعتقاد الكمال في النفس مع إعتقاد النقص في الناقد، وإما عدم القدرة على الفصل بين القضايا العلمية، والقضايا الشخصية، فصار الإنتقاد ـ في حسِّ الكثيرين ـ لفكرة من الأفكار تجريحاً شخصياً لصاحب الفكرة! وهذا خطأ كبير نرتكبه في جانب الحقيقة، إذ إن الفكرة حين نسمح لها بالذيوع والإنتشار فإنها سوف تؤثر في الآخرين إن إيجابياً، وإن سلبياً، وحينئذ فمن حق المجتمع أن يقوِّم تلك الفكرة التقويم البنائي الصحيح بتشجيع النافع، والتحذير من الضار، وإبداء وجهات النظر فيما هو موضع إجتهاد، وأخذ ورد. وعلى المنتقد ألا يقف كثيراً عند البحث عن نوايا الناقدين ودوافعهم، لأن هذا يتنافى مع الصدق في التعامل مع الحقائق، ومع الإخلاص للحق. نعم قد نثور حين يكون أسلوب النقد قاسياً، أو على الملأ، لكن إذا ما هدأت الخواطر وجب أن نتأمل فيما قيل لنا، وهل هو صحيح أو غير صحيح؟
ونتيجة للربط في أذهان الكثيرين بين القضايا العلمية والشخصية صارت أضواء النقد لدينا توجه بإستمرار نحو الخارج، فالشعوب لا تتحدث عن مثالبها، ولكن عن مثالب الآخرين والآخرون يقابلون ذلك بنظيره، والحزب أو الجماعة يوجه النقود للأحزاب الأخرى، ويدخر ألفاظ الثناء والتبجيل لمنهجه ورموزه وإنجازاته التاريخية وهكذا حتى عم الداء الجميع، ووصل إلى الأفراد، ليصبح خلقاً عاماً، ولنلقن ذلك للأجيال القادمة!! .
وكانت المحصلة النهائية لذلك هي: المزيد من التوترات الإجتماعية والمزيد من حوار الصم، والمزيد من إفرازات المناعة ضد أي نقد يأتي من الخارج ، فالنقد الذاتي معدوم والنقد الخارجي مرفوض! .
وهذا هو الكيل بمكيالين حقاً، فمعايير النقد تطبق على الآخرين أما نحن ففوق النقد! وأول الخاسرين من هذه الحالة هم المطففون أنفسهم حيث تتراكم الأخطاء، وتتفاقم، لتظهر في صورة إنفجار بعد ذلك، وتصبح مادة دسمة مكشوفة لتناول الآخرين المتربصين خارج الوسط!.
2- غياب الحدود الفاصلة بين الايجابيات والسلبيات
عدم وضوح الحدود الفاصلة بين الإيجابيات والسلبيات في كثير من الأحيان يتيح للمطففين أن يكيلوا كيف شاؤوا، ذلك لأن الفارق بين الشجاعة والتهور قد لا يكون شديد الوضوح، وهو لذلك قد يكون موضع نزاع بحسب خلفية المقوِّم ، والزاوية التي ينظر منها ، ونحو من ذلك الفارق بين الفصاحة والفيهقة ، والإسراف والكرم ، والجدية والقسوة .. وتساعدنا اللغة في هذا مساعدة كبيرة ، فإذا كان الخطيب ممن نحب قلنا إنه بلغ أرقى درجات البيان ، وإذا كان من شيعة أخرى أمكننا أن نقول بسهولة : إنه يتفيهق ، ويتفلسف ، وما فائدة الكلام ، ونسأل الله العمل ... ومثل هذا نفعله مع الشجاعة، فإذا قام أحد ممن نشايع ، ونؤيد بعمل لقي فيه حتفه قلنا : هو شهيد ، وقد أخذ بالعزيمة ، وهكذا تكون الرجال .. وإذا قام به من لا نرتاح له أمكننا أن نقول : عاطفي متهور، لا يقدِّر عواقب الأمور ، ألقى بنفسه إلى التهلكة!! . إن إصدار الأحكام يحتاج إلى كثير من التريث والبصيرة والتجرد ، حتى لا نقع ضحية لسوء التقدير ، وحتى نقوم لله بالقسط . وهنا تحمد الأمة عاقبة معرفتها بالضوابط الشرعية المختلفة ، وصبرها على الحوار المثمر الدؤوب ، وتمتعها بنعمة التجانس الثقافي والقيمي! .
فن التبرير
من الكيل بمكيالين ما يمكن أن نسميه بـ (فن التبرير)1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn1) ، هذا الفن الذي تتقنه الأمم العاجزة المهزومة إتقاناً عجيباً ، فكل إنتكاساتنا الحضارية لها ما يسوغها ، فقد كانت التحديات فوق الطاقة ، أو كان التآمر فوق الوسع ، وكل أخطائنا القاتلة التي أستمرت قروناً دون إصلاح كانت عن إجتهاد، فنحن أبداً بين الأجر والأجرين! .
ولو أننا إتخذنا إلتماس الأعذار قاعدة عامة نسير عليها في التعامل مع أنفسنا ، ومع الآخرين لهان الخطب وقلنا : إننا نتمتع بفضيلة العدل ، ونسوي بيننا وبين غيرنا في الظلم ، لكن الآلية الثقافية التي دفعت إلى تسويغ كل ما نفعله لا يمكن إلا أن تأخذ أبعادها كاملة ، وذلك لا يكون إلا بتفنيد كل عذر به عن الخصوم ، وحينئذ فالخطأ غير المقصود هو أمر بيت بليل ، وطبخ على نار هادئة ، وما قصر فيه الخصم نتيجة ضعف إمكاناته كان كسلاً وتقاعساً ، والفتن والخلافات التي تقع عند الآخرين ليست عن إجتهاد ـ كما هو الشأن عندنا ـ وإنما هي بلاء وعذاب صبَّه الله ـ تعالى ـ عليهم لسوء مقاصدهم وأعمالهم .. وهكذا تنقلب الممكنات عندنا إلى مستحيلات عند غيرنا والمستحيلات إلى ممكنات!! وهذه العلة قديمة جداً ، فمن المعروف أن المجتمع حين يبدأ بالتراجع على صعيد من الصعد يكون تراجعه عاماً كالسفينة حين تغوص في الماء ، أو تغير إتجاهها فإن الجميع سيغوصون معها ، ويتجهون بإتجاهها ، وحين ينخفض مستوى القاعدة فإن ذلك سوف ينعكس قطعاً على القمة والدولة بشكل من الأشكال ، لكن الناس تعودوا الفرار من هذه الحقيقة على نحو ما يُروى عن جماعة أنهم قالوا لعلي ـ رضي الله عنه ـ : إنك لا تسير فينا سيرة الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ؟! فقال : نعم الشيخان كانا أميرين على أمثالي ، وأنا أمير على أمثالكم!! فعلَّمهم كيف يكيلون بمكيال واحد . ويُروى أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال لابنه يزيد : كيف ستسير في الناس بعدي؟ فقال : بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر!! .
قال معاوية : ((لقد حاولت أن أسير فيهم بسيرة عثمان فلم أستطع)) . لكن الناس يريدون من غيرهم الكمال ، ويتسامحون به مع أنفسهم! . والغريب أن كثيراً منا يتضايق من قادة المستعمرين إذا هم قاموا بخدمة بلادهم ، ويتضايقون من قادتهم إذا هم قصروا في خدمتهم ، وكأن الآخرين ليس لهم أمان وطنية ، وليس لهم شعوب تطالبهم بالعمل من أجل مصالحها! إننا إذا بقينا على هذه الحال فلن نستطيع أن ننصف أحداً ، ولا أن ننتصف من أنفسنا! .


1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref1) ـ المقصود : التسويغ ، وكلمة (برر) بمعنى سوغ محدثة ، ولكن سيروة الكلمة على الألسنة شفعت في إستعمالها .

سهل بن المبارك
10-23-2008, 03:54 PM
بارك الله فيك , ومن ثمار أو من عواقب الشخص او الجهة التي تكيل بمكيالين ان تفقد المصداقية , كما فقدها علمائنا اليوم , وذلك لكيلهم بمكيالين في إعطاء الفتاوى على حساب الدليل .

مشكور عزام