تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : القرآن والسلطان (المقدمة)



منير الليل
08-11-2003, 08:16 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم
هذا الكتاب

هذا الكتاب ينبغي ألا يصنّف تحت أي من العناوين المبتدعة في زماننا هذا، سواء كانت الإسلام الجديد أم الإسلام المستنير أم الإسلام التقدمي، أم ما شابه تلك الصياغات التي لقيت رواجا، وازدحمت بها الساحة الفكرية خلال السنوات الأخيرة.

إنما غاية ما أتمناه أن يظل كل حوار أو رأي ـ وإن أخطأ ـ محكوما دائما بلافتة واحدة، ومدرجا دائما تحت كلمة واحدة، هي الإسلام، وكفى!
ذلك أنه منذ أن أطلت علينا ظاهرة ما يسمى بالصحوة الاسلامية، وبالأخص منذ حققت الثورة الاسلامية في إيران انتصارها الباهر على الشاه السابق بجبروته وأجهزته العاتية والقوى العظمى التي كانت تسانده. منذ ذلك الحين، ظهرت على السطح شريحة جديدة من المفكرين والكتاب العرب " المعجبين" بالإسلام، الذين استهوتهم بعض جوانب فيه، ولجأوا الى تنظير موقفهم وصياغته. فاقتطع كل منهم الجزء الذي أعجبه، وأقام عليه منبرا ولافتة إسلامية، ومضى يحدثنا من تحتها عن ذلك "الاكتشاف المدهش"!

وعن هؤلاء قرأنا ـ ولا زلنا ـ الكثير عن "الإسلام السياسي" و"الاجتماعي" و"الإسلام الثوري"، لا شيء عن الإسلام الدين والرسالة، لا شيء عن الإسلام العقيدة والشريعة، ولكنهم اختاروا فقط " لقطات" فريدة وجذابة من المشهد كله.
بعين السائح ومنطقه مروا على الاسلام "وتعاطفوا" معه. ذلك أن السائح عندما يتعلق بشيء ما في بلد ما، فإن وقفته أمامه قد تطول، وإعجابه به قد يملأ عليه قلبه وعقله، ومعرفته به قد تتعدد وتزداد عمقا، لكن انتماءه الحقيقي يظل لشيء آخر، وفي بلد آخر!
وهكذا فعل بعض مفكرينا من "الاسلاميين بالسياحة"، تعاطوا الاسلام كمعجبين، فأسمعونا إطراءً وكلاما حلوا وحماسيا أحيانا، لكن انتماءاتهم ظلت الى شيء آخر.. وربما الى عالم آخر!
ولا اعتراض لنا على ذلك، إلا من باب واحد، عندما يحاول هؤلاء أن يشكلوا من بيننا "وفودا سياحية" تطوف بأجنحة الاسلام، لكي نشاركهم الاعجاب بتلك اللقطات والأركان الفريدة والجذابة التي اكتشفوها فيه.
ذلك أن المطلوب ليس ان نحول المنتمين الى معجبين، فتلك خطوة الى الوراء بكل تأكيد. إنما المطلوب أن نخطو الى الأمام، فنحول المعجبين الى منتمين.
وإذا كان يرضي كثيرين أن يتزايد ـ مثلا ـ عدد الذين تستهويهم حيوية الاسلام السياسي أو فاعلية الاسلام الثوري، إلا انه يسعدهم أكثر ان تتسع العلاقة وتتطور من الاعجاب الى الاعتقاد، أو من الحب الى الزواج إذا جاز التعبير!
ثم فريق آخر من الكتاب والمفكرين انتهج خطاً مختلفا. فهم في مناخ "الصحوة" صعدوا الى المسرح. لا لكي يستظلوا بمظلة الاسلام، وإنما لكي يسحبوا بتلك المظلة الى مسرح مختلف، في موقع مختلف.
هم هنا لم يلتحقوا بالعربة ليطوفوا مع السائحين ويشاركوهم الاعجاب بالإسلام، ولكنهم حاولوا أن يقفزوا الى مقعد القيادة ليذهبوا بالعربة كلها الى مكان آخر، في اتجاه آخر!
لقد عهدنا منذ زمن طويل أن يسعى الحكام والكهنة الى توظيف الدين لصالحهم وفي خدمة سلطانهم وأطماعهم، وهو سعي لم يتوقف حتى يومنا هذا. لكننا نشهد في الأونة الأخيرة إضافة جديدة الى فرق المستثمرين للدين، تضم بعض المثقفين الذين شرعوا في انتقاء ما تصوروه "مفيدا" و" إيجابيا" في الإسلام، تمهيدا لاجتزاء تلك المساحات وإقامة أبينة أخرى فوقها، مطعمة بالإسلام استجابة للمناخ العام، لكنها ليست من الاسلام في شيء!
وأكاد أقول إننا أمام "ظاهرة" جديدة، فبعد أن كان اليمين ممثلا في أولئك الحكام والكهنة هو الذي يسعى جاهدا لاستخدام الدين وتوظيفه، فإن بعضا من أهل اليسار يحاول الآن استخدام السلاح ذاته، مع تقليمه وتطويعه باسم التجديد والمعاصرة والتقدم، وتحت لا فتات لا تخلو من بريق مثل الاسلام الجديد والتقدمي والمستنير.

وهنا أحب أن أسارع بإيضاح أمرين:

الأول: أنني في هذا السياق لا أسجل موقفا ضد تلك التيارات، وان اختلفت معها، كما أني لا أحاول أن أستعدي عليهم أحدا، بل أذهب الى الظن بأن المؤمنين بالله وكتبه من أهل اليسار هم أقرب الى الفهم الصحيح للإسلام من كثيرين غيرهم، من حيث وعيهم المفترض بقضية العدل الاجتماعي. ولكني فقط أسجل موقفا ضد محاولة الانتقاء من الاسلام وتفصيل بعض أجزائه على قياسات بذاتها، ضد تفتيت الاسلام وتقطيع أوصاله، وإن تم ذلك بحسن نية ولأهدافق يجدها أصحابها شريفة ونبيلة.

الثاني: أنه من التبسيط الشديد للأمور، وربما من السذاجة الشديدة، أن يتصور أحد أنني ضد التجديد والمعاصرة والتقدم، لأن العكس هو الصحيح تماما. فموقفي، الذي أرجو ألا يكون بحاجة الى إعلان، وهو على طول الخط مع المخلصين الواقفين تحت تلك الشعارات المضيئة، شريطة أن نظل ثابتين على أرضية الاسلام وتحت رايته ومظلته.

ليس هناك إسلام تقدمي وآخر رجعي، وليس هناك إيلام ثوري وآخر استسلامي، وليس هناك اسلام سياسي وآخر اجتماعي، إو إسلام للسلاطين وآخر للجماهير.. هناك إسلام واحد، كتاب واحد أنزله الله على رسوله، وبلغه رسوله الى الناس.

وبعد " البلاغ" صارت " الأمانة" في أعناق الناس ومن مسؤولياتهم.

فإذا تعددت الاجتهادات يمينا ويسارا، وإذا تراوحت الممارسات صعودا وهبوطا أو سقوطا، وإذا أحسن البعض فهم الاسلام أو أساء، فذلك شأن المسلمين أولا وأخيرا، وينبغي ألا يحمّل بأي حال على الاسلام.
وإذا كان التحفظ ضروريا على ما يقوله البعض من خارج الدائرة الاسلامية، فإن التحفظ يضبح أوجب إزاء ما يردده البعض من داخل البيت الاسلامي! ذلك انه إذا كنا قد عرفنا فريقا يرى الاسلام بعين السائح، وفريقا آخر يحاول أن يجر مركبة المعجبين بالاسلام وغيرهم في اتجاهات أخرى بعيدة عن الإسلام، فإن هذا الفريق الثالث يرتكب ما هو أفدح. انه بنتهازيته حينا، وضيق صدره حينا، وضيق أفقه أحيانا، يكاد يقود المركبة كلها الى الغرق!

فالذين يحاولون تلبيس عمامة الاسلام وعباءته لكل شيء، كالذين يضيقون من الدين حتى يكادون يمسكون بخناق الناس، كالذين يسخرون النصوص لخدمة السلاطين وتجار الدنيا.. وهؤلاء جميعا يقفون في مربع واحد، من حيث انهم يحملون الاسلام بما لا يحتمل ، ويعبثون بالدين ـ وإن حسنت نواياهمـ توسيعا وتضييقا!

إن هؤلاء الذين يتقدمون الصفوف باعتبارهم نماذج للفكرة. ويعتلون المنابر باعتبارهم أصحابا شرعيين لها، ويخاطبون الناس كأنما بأيديهم مفاتيح السماء، فيحرمون ويحللون ويزكون ويكفرون، ويكادون يوزعون صكوك الغفران وبراءات الذمة في الآخرة. هؤلاء أشد اضرارا بالاسلام من غيرهم لأن إساءات هؤلاء وحماقاتهم يحملها البغض على الاسلام، وهنا الخطر الجسيم.
وغير هؤلاء وأولئك، هناك الذين يحاولون شق الطريق وسط الزحام، ساعين الى تقديم فهم صحيح للاسلام، وقراءة رشيدة لنصوصه، تنطلق من وعي بالأصول ووعي بالواقع، ونتعامل مع "الكتاب والحكمة" جنبا الى جنب، وسبيلهم الى ذلك كلمة طيبة يقولونها لوجه الله، ولأجل هذا الدين المتين، بعيدا عن الالتواء والافتراء والافتعال.

وإذا كان لهذا الكتاب من طموح، فإنه لا يتجاوز هذه الدائرة. دائرة الساعين الى فهم صحيح للاسلام، ورؤية صحيحة لهموم المسلمين في شؤون الدين والدنيا.
ولا أحسب أنه قال، ولا كان بمقدوره أن يقول، " كلمة أخيرة" في شيء مما طرحه للبحث والمناقشة. ولكنه فقط حاول أن يقول "كلمة واحدة" لا أكثر، أملا في أن يسهم آخرون في الحوار، من أجل بلوغ تلك الغاية.

وربما كانت ظروف إعداد الكتاب تلقي المزيد من الضوء على طموحاته.. وللأمانة أقول إن فكرة الكتاب لم تكن واردة في البداية. فقد كان شاغلي الأول أن أناقش على صفحات مجلة "العربي" الكويتية تلك الهموم الحياتية التي يعاني منها المسلمون في الفكر والتطبيق. كنت أستشعر بعضا من تلك الهموم كمعايش لها وواحد من أبنائها. وكنت أقرأ بعضها في سطور الصحف وتصريحات "أولي الأمر"، وفي ممارسات وخطابات الشباب الصاعد الحائر.
وخلال السنوات من 77 الى 80، كانت صفحات مجلة العربي هي المنبر الذي أتيح لي أن أشارك من خلاله بكلمتي في تلك الهموم، معترضا ومحتجا، أو مدافعا ومتعما، أو شارحا ومذكرا.
وهو موقف لا بد أن يحسب "للعربي"، حيث فتحت لي صفحاتها بعد أن ضاقت بي صفحات أخرى، واحتملت كتاباتي، حيث لم تحتملها منابر أخرى. وخلال تلك الفترة كانت الخطابات تتوالى حاملة سؤالا واحدا من قراء واخوة أعتز بثقتهم. وكان السؤال هو: لماذا لا تجمع هذه المقالات والأبحاث في كتاب؟ وظن قارئ كريم من حلب أنني لم أجد ناشرا مستعدا لاصدار الكتاب، فعرض عليّ في خطاب "شخصي جدا"، أن يقوم هو بتمويل المشروع، وتحمّل أعبائه المالية!
لكن فكرة الكتاب ظلت مؤجلة لا لسبب ما ظنه أخي الحلبي، ولكن لسبب آخر يدركه جيدا الذين عملوا بمهنة الصحافة وأصيبوا بآفاتها!
ذلك أن من آفات العمل بالصحافة ـ التي تشرفت بالانتماء إليها طوال فترة تكاد تصل الى ربع قرن ـ أنها زرعت في أعماقنا حس الاهتمام بالجديد دائما، بما سينشر في الغد لا بما نشر بالأمس. لأن ما تم نشره هو في أصول المهنة في حكم "الخبر القديم" الذي ينبغيأن تطوى صفحته، كما ينبغي ألا يتوقف عنده الصحفي الجيد والمخلص لعمله، لأنه مطالب كل صباح بالركض بحثا عن الجديد للغد.. كأنما اختار أن يظلّ راكضا أبدا، كلما ظل هناك غد!

بهذا المنطق تعاملت مع تلك المناقشات والأبحاث التي نشرتها في مجلة العربي. ورغم أن ما تم نشره ليس هو كل ما كتب، إذ كثيرا ما تعرضت المقالات لاختصار وضغط لتناسب الحيز المحدد لها على صفحات العربي، أقول إنه رغم ذلك، فإنني ظللت أسير فكرة رفض العودة الى "الخبر القديم"، والركض كلما أمكن وراء الجديد.
متوهما أنني بذلك أظل ملتزما بأصول المهنة، وسائلاا على درب الصحفيين المخلصين، بقيت على هذه الحال خلال السنوات التي انقضت، حتى اكتشفت مؤخرا أنني خسرت على الجبهتين: الصحافة والكتابة.
ذلك أن قضية الخبر الجديد القديم، لم تكن واردة في مجلة ثقافية، فضلا عن كونها شهرية، الأمر الذي حال بين وبين فرصة تحقيق الإضافة التي توهمتها الى عالم الصحافة.
وفي الوقت ذاته، ظلّ الكتاب تائها في المجهول، وأصوله حبيسة أدراج مغلقة، الأمر الذي حال بيني وبين تحقيق فرصة تمنيتها "لتسريبه" الى عالم الكتب! وقد حفزني اكتشاف هذه النتيجة المؤسفة للمسارعة الى تدارك مافات، ومحاولة تهيئة تلك المقالات والأبحاث لتصدر في كتاب، إذا لم يكن مفيدا في طرح هوم الضمير المسلم، فقد يكون مفيدا كشهادة تسجل نوعية تلك الهموم في الزمن الرديء الذي نعيشه. وشجعني على المضي في المحاولة، تلك المبادرة المشكورة من جانب دار الشروق.. حتى جاء الكتاب أخيرا على هذا النحو الذي نحن بصدده.

فإذا كنت قد أصبت فيما سعيت إليه، فإنني أسجد لله حمدا وشكرا، وإذا كنت قد أخطأت، فإنني أسجد له سبحانه، ملتمسا العفو والمغفرة.
وحسبي أجر واحد، وعد الرسول به المسلم إذا اجتهد وأخطأ..
وإن كنت لا أخفي أنني بذلت غاية جهدي، لعلي أفوز بثواب من اجتهد وأصاب..
وهل يلام المسلم إذا بات طامعا في أجرين؟؟
فهمي هويدي

يتبع إن شاء الله