تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كيفية التعامل مع الحقائق



عزام
09-15-2008, 07:59 PM
من اجمل ما قرأت للدكتور عبد الكريم بكار

عزام

كيفية التعامل مع الحقائق

يمثل التعامل مع الحقائق جزءاً هاماً من الموضوعية، بل إنه يمثل الجزء الأهم، لأن إدراك الحقائق على ما هي عليه قد يكون ميسوراً في كثير من الأحيان؛ لكن التعامل مع الحقائق بموضوعية لا يكون إلا معقداً ، حيث إنه يحتاج إلى علم وخبرة ، ويحتاج إلى مرونة وتجرد عن الهوى ، ويتطلب في بعض الأحيان تجاوز القشور والغوص نحو الجوهر ، كما يتطلب ترتيباً للأولويات وفقهاً للموازنات ؛ وكل ذلك ضروري لنا حتى نكون موضوعيين ، وحتى نوجد لأنفسنا مجالات للحركة مهما كانت الظروف قاسية وقاهرة . وإليك ما يوضح هذه المفردات :
1- النفاذ من المظهر الى الجوهر
أ ـ يوجهنا الإسلام إلى عدم الوقوف عند الصور والأسماء والأوصاف غير المؤثرة في النتائج ؛ وذلك لأن عدم تجاوز ذلك سيعني خروجاً عن الموضوعية المطلوبة ، كما سيعني السطحية والشكلية المضللة ؛ فلون قميص الطالب ، أو إتجاهه نحو جهة معينة أثناء أداء الإمتحان أو إنتسابه إلى حي معين كل أولئك لا يؤثر في الدرجة التي حازها في الإمتحان؛ ومن هنا وجب أن تُحيَّد عند الحديث عن الأسباب المؤثرة في نجاح الطالب أو رسوبه .
وهذه بدهية لدى العقلاء إلا أننا عند التطبيقات الدقيقة قد تزيغ أبصارنا . ولذا فإن الإسلام وضع لنا المقدمات النظرية العاصمة من ذلك ؛ وفي هذا يقول الله ـ سبحانه ـ في المنافقين :
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn1) .
قد كان كثير من المنافقين من ذوي الهيئات فإذا ما رآهم الناظر أعجب بحسنهم ونضارتهم ، وكان رئيسهم إبن سلول جسيماً فصيحاً ذلق اللسان ؛ فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ، وكذلك كان أصحابه إذا حضروا مجلس النبي أعجب الناس بهياكلهم2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn2) . لكن قضية الإسلام ليست منوطة بذلاقة لسان ، ولا جمال مظهر ؛ ومن ثم فإن على السامع أن يتريَّث قبل أن يؤخذ ببريق الألفاظ ؛ ومن هنا جاء الحديث الشريف : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn3) .
إن جوهر المسلم كامن في قلبه وسلوكه وما عدا ذلك فلا كسب للمرء فيه ، ومن ثم فلا وزن له عند الله عز وجل . وورد في الحديث : ((ليستحلن طائفة من أمتي الخمر بإسم يسمونها إياه))4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn4) .
إن تسمية الخمر بالشراب ، أو الأشربة الروحية ، أو المكيفات كل أولئك لا يغير من واقع الأمر شيئاً ما دام التحريم ليس من أجل الإسم! إن النفاذ إلى الجوهر نوع من إحترام الحقيقة ، ونوع من الإلتصاق بها . وجاء في الحديث الصحيح : ((يسب بنو آدم الدهر ؛ وأنا الدهر بيدي الليل والنهار))5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn5) .
إن سب الدهر لا معنى له ؛ لأنه عبارة عن ظرف زمني ، ونسبة شيء من الأفعال إلى الزمان كفر ؛ إن الله خالق الزمان والمكان ، وإن على المؤمن ألا يلقي باللوم على الأيام والليالي ؛ لكن بدلاً من ذلك يستغفر من المعائب ، ويصبر على المصائب ، فإذا فعل ذلك يكون قد وضع الأمور في نصابها .
وبسبب الغفلة عن هذه الحقيقة سفهت في أيامنا هذه جماعات وحركات ومذاهب ، وعُدَّ كل ما عندها باطلاً من إسمها ، أو مؤاخذة لها ببعض أعمال من ينتسب إليها . وليس هذا من الموضوعية ؛ لأن التقويم لا يتم بناءً على الأسماء والمصطلحات ، لكن بالنفاذ إلى الحقائق وتحكيم المعايير الشرعية والعقلية .
2- الانتباه الى معنى المظاهر الحقيقي
ب ـ كما يأمرنا القرآن الكريم ونحن نتعامل مع الحقائق أن نتجاوز الظاهر إلى ما وراءه فإنه يأمرنا في بعض المواقف أن نصحح النظر إلى الظاهر نفسه حيث يكون في بعض الأحيان خادعاً ، أو يكون بحاجة إلى مزيد تأمل ؛ حتى لا نخرج بإنطباعات خاطئة ؛ وفي هذا يقول القرآن الكريم :
(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {24})6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn6) .
حين رأى قوم عاد السحاب معترضاً في افق السماء متجهاً نحو أوديتهم إستبشروا به ، وقالوا : هذا السحاب يأتينا بالمطر ، لكن نبيهم هوداً ـ عليه السلام ـ صحح لهم الرؤية ، وقال : ليس الأمر كما زعمتم ، بل هو ما إستعجلتم به من العذاب ريح تدمر كل شيء أتت عليه!! وقد أثمرت هذه العظة حالة من الحذر والتبصر عند نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ((كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه . قلتُ : يا رسول الله ، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟! فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟! عذب قوم بالريح ، ورأى قوم العذاب ، فقالوا : ((هذا عارض ممطرنا))7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn7) .
ونحو من هذا من تصحيح الرؤية قول الله ـ عز وجل ـ :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)8 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn8) .
إن كثيراً من الأعمال ظاهرها النفع لأصحابها ؛ لكنها في الحقيقة سراب ؛ لأنه لم يرد به وجه الله تعالى!
3- اعطاء الحقيقة ما يتناسب مع حجمها الحقيقي من الاهتمام
إعطاء الحقيقة ما يتناسب مع حجمها من الإهتمام والعناية ضرب من ضروب الموضوعية المعاشة على الصعيد العملي ؛ لكن بعض الغشاوة ينتاب مواقفنا في بعض الأحيان . وحين نتصفح الكتاب العزيز والسنّة المطهرة نجد أن هناك قضايا رئيسة إحتلت مساحات واسعة منهما كقضية التوحيد والإيمان باليوم الآخر ونعيم الجنة وعذاب النار وقصص الرسل في التبشير والإنذار . ونجد هناك من القضايا ما لم يذكر إلا مرة واحدة في القرآن الكريم كالغيبة مثلاً ، ونجد منها ما لم يذكر إلا مرات قليلة كالسرقة ؛ وبعض المحرمات لم يذكر في القرآن الكريم كلبس الرجال للذهب والحرير . ولا يعني هذا عدم إهتمام الإسلام بصيانة أموال الناس مثلاً ؛ وإنما كان ذلك ؛ لأن هذه السلوكيات تابعة لإيمان الإنسان ومعتقده ؛ والجرائم على إختلاف أنواعها إنما تنحسر في المجتمعات على مقدار ما يتمدد الإيمان في قلوب الناس ؛ ومن ثم كانت العناية بالأصل . ومما يشبه هذا القضاي الصريحة المحكمة التي عرض لها القرآن الكريم ، فإنها أصول ترد إليها المتشابهات ، كما قال ـ سبحانه ـ :
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {6})1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn9) .
فالآيات الدالة على عبودية عيسى ـ عليه السلام ـ وبشريته كثيرة في القرآن وصريحة ؛ لكن بعض النصارى أعرضوا عنها ، وإحتجوا بقوله ـ سبحانه ـ :
(وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn10) .
للإستدلال على أن عيسى إبن الله ، أو هو جزء منه .
إن ردّ الفروع إلى الأصول ، والمعميّات إلى الواضحات هو ما يفعله العقلاء في كل زمان ومكان ؛ لكن إذا تهيأ التجرد عن الهوى!
4- ضرورة مواجهة الحقيقة المرة
قد تكون الحقيقة مرة ، وحينئذٍ فإن الإنسان قد يصرف التفكير عنها، أو قد يتجاهلها لكن ذلك لا يغير من طبيعتها، وهو قد يؤجل مواجهتها، لكنه لا يستطيع إلغاءها أو التخفيف من وطأتها؛ ومن ثم فإن القرآن الكريم يغرس في حسِّ المسلم ضرورة مواجهة الحقائق بشجاعة وثبات؛ فذاك جزء من الموضوعية التي لا يليق بالمسلم الإنحراف عنها ، وفي هذا يقول ـ سبحانه ـ :
(قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn11) .
فبين سبحانه لأولئك الذين تخلفوا عن الحديبية أنهم سيدعون لملاقاة أقوام أشداء ـ وهم بنو حنيفة ـ ؛ وذلك حتى لا تتكون لديهم رؤية عمشاء للمعركة المقبلة ، ويظنوا أن ما يطمعون فيه من الغنائم قريب المأخذ رخيص الثمن . ويبين الله لأولئك الذين دخلوا في دينه ، وحملوا إسم (المؤمنين) أن الإبتلاء سنّة الله في المؤمنين حتى تتمايز صفوف الصادقين من الكاذبين ، وحتى يعلم المسلمون ما سيلاقيهم من المصائب والمحن ؛ فيوطنوا أنفسهم له ؛ يقول ـ سبحانه ـ :
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3})4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn12) .
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة ورّى بغيرها حتى لا تطير أخباره إلى العدو ؛ لكن في غزوة تبوك كان الأمر مختلفاً ، فالطريق طويلة وعرة ، والحر شديد ، والعدو جموع هائلة من الرومان ، وذلك كله يقتضي إعلام الناس بما هم قادمون عليه ، ولو كان شاقاً ؛ حتى يأخذوا أهبتهم ، ولا يتكون لديهم إنطباع خاطىء ؛ فيقعوا في التلاوم والندامة . إن مواجهة الحقائق بشجاعة ووضوح أصبح اليوم احد أمارات التقدم والرقي ، كما أن تجاهلها وطمسها صار أمارة على التخلف والخمول!
5- فقه الموازنات
تشتبك المصالح والمفاسد في واقع الإنسان ، ويجد المسلم في كثير من الأحيان قلة الخيارات المتاحة ، وصعوبتها ؛ وهنا لا بد من موازنة دقيقة ، كيما يدفع شر الشرين ، ويحقق خير الخيرين5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn13) .
وحين يمتلك المسلم هذا النوع من الفقه فإن هذا يعني أنه قادر على التكيف والحركة مهما كانت المساحات التي أمامه ضيقة . إن من الموضوعية ألا نقف مكتوفي الأيدي كلما واجهتنا مشكلة ؛ لأن ذلك سيعني ألا نتقدم ، بل ألا نملك القدرة على الإستمرار! ومن هنا جاء بناء فقه الموازنات الذي أثمر مئات الأحكام التفصيلية على يد علماء المسلمين فيما بعد . وفي هذا يقول الله ـ تعالى ـ :
(مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn14) .
فقد أكره المشركون عمار بن ياسر على قول كلمة الكفر ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئناً بالإيمان . قال : فإن عادوا فعد7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn15) .
قد نزلت الآية الكريمة في رجل وجد نفسه مخيَّراً بين أن يُقتل ، وبين أن يقول كلمة شنيعة لا يؤمن بها ، فإختار الثانية، فقال له النبي : فإن عادوا فعد . فأشعر أن ذلك ناموس عام ، وليس خاصاً بشخص بعينه ، أو حادثة معينة.
وذكر الله تعالى لنا في موضع آخر أن في الخمر والميسر شيئاً من النفع ، فقال :
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn16) .
فحرم الخمر والميسر ترجيحاً للضرر الكبير الذي فيهما على النفع اليسر لبعض الناس . ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn17) .
إن الله تعالى لم يأذن للمسلمين بدخول مكة ، ولم يسلطهم على المشركين ؛ لأن فيها مسلمين مختلطين بالمشركين ، لا يعرفهم المسلمون ، وهذا يؤدي إلى قتل المسلمين . ولا يخفى أن في فتح مكة آنذاك مصلحة ظاهرة ، فقدم دفع الضرر على جلب المصلحة ، ولم يأذن الله بدخول مكة .
ونجد فقه الموازنات ظاهراً في مسلكه صلى الله عليه وسلم وهو يرسي قواعد الحركة للدعاة ، وقواعد الدولة للأمة ، حيث المتغيرات الكثيرة الناتجة عن إختلاف الزمان والمكان والأفهام ، والتي تتطلب الموازنة بصورة دائمة . ومن ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعائشة : ((لولا حداثة قومكِ بالكفر لنقضت البيت ، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام))3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn18) .
لقد إمتنع من إدخال الحِجْر في البيت ، وإعادة بنائه على قواعد إبراهيم خوفاً من تغير قلوب قريش ؛ لإنفراد النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المفخرة دونهم ، وإيمانهم ما زال غضاً . وهذا من أدلة القاعدة الفقهية : ((درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح)) .
وكان من خلقه صلى الله عليه وسلم إكرام بعض من لا يستحق الإكرام لمكانته في قومه ؛ فيحسن إليه ، ويبشُّ له تألفاً لقومه ؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : ((كيف ترى جُعيلاً؟ قال : فقلت : مسكين كشكله من الناس! قال : فكيف ترى فلاناً؟ قلت : فسيد من السادات! قال : فجعيل خير من ملء الأرض من فلان! قال : قلت : يا رسول الله ففلان هكذا ، وأنت تصنع به ما تصنع؟! فقال : إنه رأس قومه ؛ فأنا أتألفهم به))4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn19) . ولو أردنا أن نستقصي ما ورد في هذا لسودنا صفحات كثيرة .
6- فقه الاولويات
إن من جملة التعامل مع الحقائق ترتيب الأولويات في القضايا التي تحتاج إلى معالجة، وهذا الترتيب نابع من إدراك عميق لطبيعة القضايا وإمكانات المعالجين والظرف العام الذي تجري فيه المعالجة؛ فإذا ما إختل فهم واحد من هذه العناصر حرم المعالجون من بركات فقه الأولويات! وإن هناك كثيراً من الكلام الذي يمكن أن يقال ، لكننا لا نعرض هنا إلا لما يبني الفضاء النظري للموضوعية. وإن من النصوص التي أرست قواعد هذا الأصل قوله ـ تعالى ـ :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {105})5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn20) .
قد كادت نفوس بعض المسلمين تذهب حسرةً على الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم: عليكم أنفسكم بإصلاحها والمشي بها في طرق الهداية ، ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn21) .
إن البداية الصحيحة في عملية الهداية هي الإهتمام بالنفس من أجل تشكيل نواة للقدوة في الإحسان والإصلاح ، فإذا ما تحقق للإنسان ذلك ، أو جله نهض ؛ ليبشر ، وينذر ، ويصلح من يلوذ به من الأقرباء والجوار . وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك حين قال :
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ {214})7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn22) .
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم إمتثالاً لذلك بدعوة بني عبد مناف ، ودعا عمه العباس وعمته صفية وإبنته فاطمة إلى أن يشتروا أنفسهم ، وأعلمهم أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً8 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn23) .
وحين جاء رجل إلى النبي يسأل عن أحق الناس بصحبته ومودته قال له : ((أمك . قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك . قال : ثم من؟ قال : أبوك))9 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn24) .
وحين إستشاره أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ فيمن يرى التصدق عليه ببيرحاء كانت له قال له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((إني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه10 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn25) .
هذا وإن كثيراً من الأولويات لا يأخذ صفة الثبات والجمود ، فلكل شخص أولوياته ، كما أن لكل بلد ، وكل أمة أولوياتها ؛ وقد جاء أشخاص كثيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أحب الأعمال إلى الله ، أو عن الصفات التي تجعل المسلم أكثر خيراً ، وكان الجواب مختلفاً في كثير من الأحيان بحسب حال السائل ؛ فقد قال لرجل حين سأله أي الإسلام خير؟ : ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ، وعلى من لم تعرف))1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn26) .
وسأله آخر : أي الإسلام أفضل؟ فقال : ((من سلم المسلمون من لسانه ويده))2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn27) .
وقال لثالث حين سأله عن أفضل الأعمال : ((إيمان بالله ورسوله قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قيل : ثم ماذا؟ قال : حج مبرور))3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn28) .
وفي سياق آخر يأتيه رجل يستأذنه في الجهاد ، فقال : ألك أبوان؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn29) .
إن هذه الأولويات تكون على مختلف المستويات ؛ فحين يغزو الأعداء أرض قوم فإن دفعهم يكون هو أفضل الأعمال ، وحين تجتاح الناس مجاعة مهلكة فإن إطعام الطعام يكون أفضل من نوافل الحج والعمرة والصيام وهكذا5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftn30) ...
إن ترتيب الأولويات على مستوى الأمة ليس بالأمر الهيِّن لا سيما حين يشعر الناس أنهم يدورون في حلقة مفرغة ، لا يرون فيها منفذاً للخروج ؛ لكن أهل الخبرة التاريخية والحس الشرعي والوعي الإجتماعي يستطيعون وضع كثير من النقاط على الحروف ، وإن كنا نسلم أن بعض الحروف ليس له نقاط !!
ولعلنا نكون بهذا قد أعطينا فكرة واضحة عن المنطلقات النظرية للتفكير الموضوعي ، وهذه المنطلقات ما زالت فعّالة حية تؤتي أكلها كلما وجد العقل الناضج والقلب المتجرد عن الهوى! وعلى الله قصد السبيل .




1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref1) ـ سورة المنافقون : الآية 4 .

2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref2) ـ صفوة التفاسير : 3/385 .

3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref3) ـ رواه مسلم . أنظر : صحيحه : 4/1987 .

4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref4) ـ رواه ابن ماجه برقم 3385 ، والنسائي : 2/330 .

5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref5) ـ رواه البخاري في صحيحه . وأنظر : الفتح 10/78 .

6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref6) ـ سورة الأحقاف : الآية 24 .

7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref7) ـ رواه البخاري . أنظر : الفتح : 8/578 .

8 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref8) ـ سورة النور : الآية 39 .

1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref9) ـ سورة آل عمران : الآية 6 .

2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref10) ـ سورة النساء : الآية 171 .

3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref11) ـ سورة الفتح : الآية 16 .

4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref12) ـ سورة العنكبوت .

5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref13) ـ إن إقامة القصاص على الجاني فيه تكثير لعدد القتلى والأرامل والأيتام في النظرة العاجلة ؛ لكن ثبت أن إمضاء القصاص يقلل عدد الجنايات في المجتمع فكان في القصاص أخف الضررين . انظر : قواعد الأحكام : 1/12 .

6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref14) ـ سورة النحل : الآية 106 .

7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref15) ـ صفوة التفاسير : 2/144 .

1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref16) ـ سورة البقرة : الآية 219 .

2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref17) ـ سورة الفتح : الآية 25 .

3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref18) ـ صحيح البخاري : 2/287 .

4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref19) ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة : 3/32 .

5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref20) ـ سورة المائدة .

6 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref21) ـ أنظر : الكشاف : 1/368 .

7 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref22) ـ سورة الشعراء .

8 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref23) ـ أنظر : فتح الباري : 8/501 .

9 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref24) ـ صحيح البخاري : 8/2 .

10 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref25) ـ صحيح مسلم : 2/693 ، 694 .

1 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref26) ـ صحيح البخاري : 1/16 .

2 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref27) ـ السابق ...

3 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref28) ـ السابق : 1/23 .

4 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref29) ـ السابق : 8/3 .

5 (http://www.saowt.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=4#_ftnref30) ـ أنظر : مدارج السالكين : 1/85 ـ 90 .

أم ورقة
09-15-2008, 08:20 PM
حقاً الموضوع مميز
و التجرّد في تلقّي المعلومة و حتى في فهمها و ثم تكوين فكرة او انطباع عنها
ليس بالامر السهل و يحتاج الى تدريب للنفس

nawwar
09-15-2008, 08:56 PM
بارك الله بكم
وفقّهكم الله.......
هذا العلم الشرعي التحليلي يسهّل على طلبة الجامعات ومرتادي النت الباحثين عن المعرفة
الفهم العميق للمبادىء الإسلامية، بكلمات تحاكي نهجهم......