تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب "أثر الحج في الثقافة الأندلسية ورحلة أبي مروان الباجي"



من هناك
09-09-2008, 02:08 PM
كتاب "أثر الحج في الثقافة الأندلسية ورحلة أبي مروان الباجي"


تأليف: أ. د. محمود علي مكي
أستاذ التاريخ ـ جامعة القاهرة ـ جمهورية مصر العربية.
منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1428هـ/2007م

http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/Toroq%20Al%20hajj/p4.php


الفهرس
مقدمة
ينقسم هذا البحث إلى قسمين :
ـ الأول أثر الحج في نمو الثقافة الأندلسية وازدهارها.
ـ والثاني في نموذج من نماذج طرق حج الأندلسيين متمثل في رحلة الفقيه الإشبيلي أبي مروان الباجي في سنة 633 هـ ـ 1236م.

1- الحج وأثره في الثقافة الأندلسية
خلال النصف الأول من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وهي الفترة التي توافق حكم الولاة التابعين لخلافة بني أمية لم تكن الظروف مهيئة لكي يقوم أهل الأندلس بأداء فريضة الحج، وذلك لاشتغال فاتحي هذه البلاد بمهام الاستقرار في أنحاء شبه الجزيرة وكذلك بسبب مانشب من الفتن والحروب الأهلية التي أعقبت فتح الأندلس بين العرب والبربر والعرب أنفسهم، هذا على الرغم من الانتشار السريع للإسلام في البلاد.
على أن الأمر تغير بعد أن تمكن عبد الرحمن بن معاوية الداخل من تجديد ملك بني أمية في الأندلس وإنشاء إمارته المستقلة واستقرار الحكم في البيت الأموي منذ سنة 138هـ (756) حتى سقوط الخلافة الأموية في سنة 422 هـ (1031م)، أي على مدى نحو ثلاثة قرون. فقد كان على مسلمي الأندلس أن يؤدوا فيرضة الحج باعتبارها ركنا من أركان الإسلام وباعتبار ذلك فرضاً على كل من يستطيع إليه سبيلاً.
وكانت الأندلس منذ فتحها المسلمون قد أصبحت آخر ثغور الإسلام في أقصى الغرب، غير أنه على الرغم من طول المسافة بين شبه الجزيرة والبقاع المقدسة ومن مشاق السفر فإن الأندلسيين لم يقصروا أبداً في تجشم تلك المشقات في سبيل أداء تلك الفريضة منذ منتصف القرن الثاني حتى نهاية دولة الإسلام في سنة 897 هـ (1492م). فرأينا جموعهم تتوجه كل عام إلى الحرمين الشريفين سواء عن طريق البحر أو عبر الطرق البرية مروراً ببلاد الشمال الإفريقي ومصر والشام حتى شبه الجزيرة العربية.
على أن هناك من أنكر هذه الحقيقة. والغريب أن هذا الإنكار صدر عن شيخ المؤرخين المسلمين وفيلسوف التاريخ ابن خلدون الذي يقول في مقدمة تاريخه إن ملوك بني أمية في الأندلس منعوا رعاياهم من السفر لفريضة الحج > فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف ويسوق لذلك سببين أحدهما سياسي وهو العداء التقليدي بين البيت الأموي الحاكم في الأندلس وخلافة بني العباس، والآخر اقتصادي وهو خوفهم بمصادرة ولاة الخلافة لأموال الرعايا الأندلسيين.
ولا يسعنا إلا رفض هذا الرأي، فالعداء السياسي لم يحل أبداً بين الأندلسيين وأداء فريضة الحج والتنقل في أنحاء الولايات الخاضعة للخلافة العباسية في شمال أفريقيا وفي المشرق، ولم يحدث أبداً أن صودرت أموال الأندلسيين الذين رحلوا لأداء الفريضة.
ويكفي أن نتصفح معاجم تراجم أهل الأندلس لكي نرى كيف كان هؤلاء أكثر شعوب الأمة الإسلامية إقبالاً على الحج وتجشماً لمشاق الرحلة من أجل أداء الفريضة، بل إننا نرى أن بعض كبار رجال الدولة الأندلسية يستعفون أحيانا من مناصبهم من أجل أداء الفريضة والعودة في أمان إلى وطنهم، ومن بينهم وزراء وقضاة وغيرهم من أصحاب الخطط. واستمر الحال على هذا النحو حتى حينما قامت في بعض بلاد الشمال الإفريقي وفي مصر دول أشد عداءً لبني أمية من العباسيين مثل الدولة العبيدية الفاطمية منذ أواخر القرن الثالث الهجري حتى أواخر السادس. إذ إن الحجاج الأندلسيين لم يتعرضوا أبداً لمكروه في أنفسهم ولا في أموالهم خلال رحلاتهم إلى البقاع المقدسة.
/820) ويحيى إبن يحيى الليثي (234/848). وقد شارك ثلاثتهم في رواية " الموطـأ" للإمام مالك وهو الكتاب الذي أصبح أساساً للتشريع في الغرب الإسلامي كله حتى اليوم.
وذلك أن الرحلات التي كان يقوم بها أهل المغرب ـ بمعناه الواسع ـ وإن كانت في المبدأ من أجل أداء فريضة الحج فقد كانت في الوقت نفسه تتيح الفرصة لطلبة العلم من أجل التزود بالثقافة الإسلامية في مختلف أمصار المشرق. ولم تقتصر أن نعتبر رحلات الحج هي العامل الأساسي في نهضة الثقافة الأندلسية ومابلغت من ازدهار كبير ولاسيما في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حينما بلغت هذه البلاد مرحلة كما يمكن أن نسميه > الاكتفاء الذاتي< فلم يعد الأندلسيون يحتاجون إلى التلمذة على الشيوخ المشارقة، إذ برز في صفوفهم علماء يعدون أنداداً لأمثالهم في بلاد الشرق، ومع ذلك فإن رحلاتهم إلى هذه البلاد لم تنقطع، ففريضة الحج ظلت دائما حلقة الصلة التي تربطهم بها، ثم إن طموحهم إلى تعرف كل ما يظهر في المشرق من جديد جعلهم يواصلون رحلاتهم على الرغم من اعتدادهم بشخصيتهم الثقافية المستقلة.
وإذا كانت الأجيال الأولى من حجاج الأندلس قد تجنبوا العراق بحكم العداوة بين أمرائهم الأمويين وبني العباس فإن الأندلسيين من الأجيال التالية منذ أوائل القرن الثالث الهجري لم يروا بأساً في التردد على بغداد والحواضر العراقية مثل البصرة والكوفة ومدن فارس وخراسان ومايليها شرقاَ، إذ كانت هذه الحواضر مراكز ثقافية على أكبر جانب من التألق. ولهذا فما أكثرما رأينا من طلبة العلم الأندلسيين من يواصلون رحلاتهم بعد أداء فريضة الحج إلى الإمعان في السفر حتى يصلوا إلى الهند وبلاد ماوراء النهر وتخوم الصين. ويعود بعض هؤلاء إلى وطنهم على حين أن بعضهم الآخر يستقرون في مهاجرهم وينتصبون شيوخاً لأهل المشرق بحكم تميزهم فيما حصلوه من معارف.
أما الطرق التي كان يسلكها الحجاج الأندلسيون إلى البقاع المقدسة فقد أتخذت أساليب مختلفة منها ما هو بحري وماهو بري ومنها ما يجمع بين الأسلوبين.
وكانت هذه الطرق آمنة إلى حد بعيد خلال القرون الأربعة الأولى من حياة الأندلس، أي حتى قرب نهاية القرن الخامس الهجري. أما الطريق البحري فقد عرفه الأندلسيون منذ الفتح الإسلامي، إذ إن هذا الفتح إنما تم بفضل السفن التي اجتاز بها طارق بن زياد وموسى بن نصير مضيق جبل طارق من مرسى سبتة في أقصى شمال المغرب. ونعرف بعد ذلك أن الأميرة القوطية سارة بنت ألمند ـ وكان أبوها ممن أعان المسلمين في قتالهم للذريق أخر ملوك القوط ـ حينما عزمت على التظلُّم من عمها الذي غصب بعض ضياعها قررت التوجه إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، فجهزت مركباً توجه بها من إشبيلية إلى ميناء عسقلان في فلسطين، ومنها توجهت إلى دمشق لعرض ظلامتها على الخليفة. وكان الأمويون في المشرق يولون عناية كبيرة لقواهم البحرية، وخلال القرن الثالث الهجري استولى المسلمون على معظم جزر البحر المتوسط، فقد كانت لهم جزر البليار : ميورقة ومنورقة ويابسة تابعة للأندلس، وفتح الأغالبة في إفريقية جزيرة صقلية وقلورية (كالابريا) في جنوبي إيطاليا. هذا في غربي حوض المتوسط. أما في الشرق فقد فتح الأمويون في فترة مبكرة جزيرتي قبرص ورودس. وفي أوائل القرن الثالث الهجري استولى الأندلسيون المهاجرون بعد ثورة الربض على جزيرة إقريطش (كريت) وأنشأوا فيها إمارة إسلامية.
وهكذا تحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية. ومن هنا كانت الرحلة البحرية آمنة إلى حد بعيد، بالإضافة إلى توفيرها كثيراً من الوقت، فقد كانت المركب في الغالب لاتستغرق منذ إقلاعها من أحد الموانى الأندلسية : دانية أوبلنسية أو قرطاجنة أو المرية إلى الإسكندرية أكثر من شهر واحد، وقد تستغرق الرحلة وقتاً أطول إذا توقفت السفينة في بعض موانىء الشاطيء الإفريقي مثل تونس أو طرابلس الغرب. أما الرحلة البرية التي تستخدمها القوافل فقد كانت تستغرق وقتا أطول قد يمتد إلى سنة، لاسيما وأن الركب كان يتوقف أياماً وربما شهوراً في المدن التي تمربها القافلة. وكان كثير من المسافرين يفضلون قضاء أوقات تطول أو تكثر من أجل إتمام صفقات تجارية أو التردد على مجالس العلماء. وتسجل لنا المصادر الجغرافية مثل كتب المقدسي والعذري والإدريسي مراحل تلك الطرق والمسافات بين كل مرحلة والتالية لها، أمامعاجم التراجم فإنها تكتفي بذكر تلك المراحل بغير بيان ما يستغرقه السفر من موضع إلى موضع إلا فيما ندر. ومن ذلك ما ورد عن رحلة أبي مروان الباجي التي سوف نفرد لها القسم الثاني من هذا البحث.
ظل البحر المتوسط بحيرة إسلامية تمخره مراكب المسلمين من مرافيء الأندلس والمغرب إلى المشرق حتى قرب نهاية القرن الخامس الهجري. ولكن الأحوال بدأت في التغير خلال هذا القرن، إذ شرعت موازين القوى في الاختلال، فرأينا القوى المسيحية تزاحم المسلمين بقوة في المشرق والمغرب على سواء. أما في الشرق فإن الضعف المتزايد للخلافة العباسية مكن الدولة البيزنطية من استعادة زمام المبادرة، فإذا بها تستولى على كثير من الثغور الإسلامية في شمال الشام والجزيرة، وتسترد الجزر التي كانت بأيدي المسلمين في شرقي حوض البحر المتوسط مثل قبرص ورودس وإقريطش (كريت)، ثم لانصل إلى آخر القرن الخامس حتى تطالعنا حملات الصليبيين منذ سنة 494هـ (1099م) تستولى على السواحل الشامية وتقيم فيها إمارات مسيحية، وأما في الغرب فإن القوى البحرية الإسلامية يداخلها الضعف بالتدريج، نرى مظاهر لذلك في فشل الأسطول القوى الذي أنشأه مجاهد العامري صاحب دانية وجزر البليار في حملته على جزيرة سردانية سنة 406هـ (1014م)، وبين منتصف هذا القرن وأواخره تستولى مملكتا قشتالة وأرغون المسيحيتان على طليطلة (478هـ/1085م) وسرقطة (512هـ/1118م) وهما من كبريات الحواضر الأندلسية. صحيح أن المرابطين الذين خلعوا ملوك الطوائف بنوا أسطولاً قويا أوجدوا به نوعاً من التوازن في غرب البحر المتوسط، غير أن هذا التوازن لم يلبث أن اختل بدوره بعد انهيار دولة المرابطين في منتصف القرن السادس الهجري، واستيلاء النورمنديين على جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا ابتداء من سنة 464هـ (1072م)، وقيام جمهوريات في عدد من المواني الإيطالية مثل جنوة وبيشة (بيزا) والبندقية أصبحت أساطيلها التجارية والحربية هي المهيمنة على الحوض الغربي للبحر المتوسط.
وترتب على انقلاب الأوضاع على هذا النحو أن البحر المتوسط لم يعد آمناً لرحلات حجاج المغرب والأندلس إلى البقاع المقدسة، مما جعل الكثيرين منهم يؤثرون الطريق البرى على الرغم من البطء الذي تتسم به الرحلات عبره، ومن الأخطار التي يتعرض لها المسافرون من غارات قطاع الطرق عليهم حينما تعجز الحكومات عن الحفاظ على الأمن عبر تلك الطرق. وقد أدى ذلك إلى ظاهرة قد تبدو غريبة لأول وهلة، غير أنها أصبحت مقبولة لدى المسلمين، وهي أن يستخدم الحجيج مراكب مسيحية في رحلاتهم بين المشرق والمغرب، وكثيراً ما كانت هذه المراكب تتوقف في طريقها في مواني مسيحية أو إسلامية استولى عليها الصليبيون، فالواقع أن العلاقات بين أهل المغرب والأندلس والمسيحيين التي استولى عليها الصليبيون لم تكن دائما علاقات حرب وعداء، بل كانت هناك اتفاقات مبرمة لانعرف تفاصيلها بين الجابين، وكانت تكفل أمن المسافرين وسلامتهم في هذه الرحلات، فالرحالة ابن جبير (ت 613هـ/1217م) يعترف في رحلته التي قام بها في عودته من الحج بأنه أقلع في سنة 579هـ (1184م) من ميناء عكا ـ وكانت سواحل الشام في قبضة الصليبيين ـ على متن سفينة مسيحية أوصلته إلى الساحل الأندلسي مارة في طريقها بصقلية، وفي هذه المناسبة يشيد بسياسة ملكها النورمندي الذي كان يكفل الأمن للحجاج المسلمين النازلين بمدن الجزيرة. وسنرى مثل ذلك أيضا في رحلة أبى مروان الباجي بعد نحو نصف قرن بين سنتي 634 و 635 (1236 أ ـ 1237م).
على أن هذا التطور الذي طرأ على الأوضاع السياسية والأمنية أدى إلى أن عدداً من علماء المسلمين شعروا بضرورة إعادة النظر في أولوية الفريضة نفسها، وذلك في المفاضلة بين الحج والجهاد، ولعل أول من طرح هذه المسألة هما إثنان متعاصران أحدهما أندلسي مهاجر إلى المشرق هو أبوبكر الطرطوشي (ت 520هـ/ 1126م) والآخر هو قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد ابن رشد الجد المتوفي في نفس السنة. أما الأول فقد كان صريحاً في قوله إن " الحج حرام على أهل المغرب، فمن خاطر وحج فقد سقط فرضه، ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر< وأما ابن رشد فيبدو أن فتواه كانت في عقب الحملة الجريئة التي قام بها ألفونسو الأول الملقب بالمحارب مَلَكَ أرغون واخترق فيها أرض المسلمين من سرقسطة إلى ساحل بلش مالقة في أقصى الجنوب في سنة 519 هـ (1125م) إزاء التخاذل الغريب من جانب المسلمين، وقد حملت هذه الواقعة القاضي ابن رشد على التوجه بنفسه إلى مراكش لكي يشرح للسلطان المرابطي على بن يوسف خطورة الوضع في الأندلس، وقد سئل ابن رشد بهذه المناسبة عمن لم يحج من أهل الأندلس في هذا الوقت : هل الحج أفضل له أو الجهاد، فكان جوابه بأن >فرض الحج ساقط في زماننا هذا عن الأندلس لعدم الاستطاعة، وهي القدرة على الوصول مع الأمن على النفس والمال. وإذا سقط الفرض صار نفلاً مكروهاً للضرر، فبان أن الجهاد الذي لاتحصى فضائله أفضل ... وأما غير أهل الأندلس كالعدوتين فإن خافوا على أنفسهم وأموالهم فهم كالأولين، وإن لم يخافوا فالجهاد عندي لهم أفضل من تعجيل الحج<. ويعلق الفقيه ابن طلحة في كتاب المدخل على ذلك بقوله : > ولقد لقيت في بلاد المغرب وأنا قاصد الحج من المغرب ما اعتقدت معه أن الحج ساقط عن أهل المغرب بل حرام، لما يركبونه من المخاطرات<.
ولم يكن هذا رأي ابن رشد ومن تبعه وحدهم، بل شاركه في أيضا الفقيه الصقلي المازري (ت 536 هـ/1142م) وكان قد سئل عن سقوط فرض الحج، فأجاب بأن الحاج" إن كان يخاف على نفسه الهلاك أو لايصل إلى ذلك إلا ببذل الكثير من ماله لظلمة في الطريق والغرامة تجحف بماله وتضرُّ به ضرراً شديداً فإن الحج ساقط في هذه الحال<.
وقد سبق المازري إلى هذا الرأي أستاذه الفقيه القيرواني أبو الحسن على بن محمد اللخمى (ت 498هـ/1105م) وقد سئل عمن أراد الحركة إلى الحج مع تعذر طريق البر لما يتعرض له من قطاع الطرق، والخطر في طريق البحر بسبب غلبة الروم وما يخشى منهم على المراكب، فأجاب : > الطريق اليوم من إسكندرية ومابعد ذلك إلى مكة على صفة لايلزم معها فرض الحج، ولا يأثم من تأخر لهذه الأحوال<.
وعلى الرغم من هذه الفتاوى فإنها لم تمنع مسلمي الأندلس والمغرب من تجشم مخاطر السفر لأداء هذه الفريضة. وتواصلت هذه الرحلات من أجل أداء مناسك الحج منذ هذا التاريخ حتى اليوم، وستظل إلى ماشاء الله، إذ إن أداء هذه الشعيرة يعد أوثق صلة تربط بين المسلمين في أنحاء العالم كله من مشارق الأرض إلى مغاربها.

2- رحلة أبي مروان الباجي :
سبق أن ذكرنا أن معاجم التراجم التي سجلت لنا رحلات آلاف الحجاج من أقصى المغرب إلى البقاع المقدسة لم تفصل لنا كيفية القيام بهذه الرحلات وطرق سيرها والمحطات التي كانوا يتوقفون فيها إلا في حالات نادرة أو في المذكرات التي كتبها بعض الرحالة مثل ابن جبير وابن رشيد السبتي والعبدري.
وقد كان من بين الحالات النادرة التي احتفظ لنا فيها أحد كتب التراجم برحلة للحج مع تفصيل لمراحلها وتأريخ دقيق لهذه المراحل ـ نقول إن من بين هذه الحالات مانجده في ترجمة الفقيه أبي مروان الباجي التي أثبتها ابن عبد الملك المراكشي في كتابه >الذيل والتكملة<.
والفقيه أبو مروان ينتمي إلى أسرة عريقة توارث أفرادها أرفع خطط العلم منذ القرن الرابع الهجري حتى السابع على الأقل. وأول من عرف منها هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة اللخمي الباجي (المتوفى سنة 378هـ/ 988م) وأصل هذه الأسرة من مدينة باجة الإفريقية (في تونس) تمييزاً لها عن باجة الواقعة في غرب الأندلس (في البرتغال الحالية) وكان انتقال جدهم الأعلى في فترة مبكرة إلى إشبيلية. وقد أعقب عبد الله المذكور خلفاً عرف أفرادهم بالعلم والفقه وتولى بعضهم أعلى المناصب، بل إن آخر من نعرف منهم وهو أبو مروان أحمد بن محمد حكم مدينة إشبيلية وتلقب بالمعتضد بالله في سنة 631هـ (1234م) قبل أن تسقط هذه الحاضرة الأندلسية في أيدي المسيحيين في سنة 646هـ (1248م)، غير أنه قتل بيد محمد بن يوسف بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة بعد تنصيبه أميراً على المدينة بشهور.
أما أبومروان محمد بن أحمد الذي ترجم به ابن عبد الملك فهو عم هذا الأمير، إلا أنه كان منقطعاً للعلم زاهداً في المناصب إلا منصب قاضي الجماعة الذي كان يتفق مع مكانته من العلم بالفقه والحديث. وكان مولده في سنة 564هـ (1167م)، وتلقى العلم على شيوخ بلده، ثم ولى القضاء، وكان معظماً من أهل بلده لعلمه وزهده وورعه. وعلى الرغم من أنه لم يتلبس بما انتشب فيه ابن أخيه أبو مروان أحمد فإنه حينما قرر السفر لأداء فريضة الحج كان قد استقر عزمه على الهجرة من وطنه بشكل نهائي، إذ إنه باع كل أملاكه في إشبيلية، وكان ذا ثروة طائلة، فتصدق بجزء كبير من ماله قبل أن ينوي السفر.
أما رحلته فقد بدأها من إشبيلية في الثاني من ربيع الآخر سنة 633 هـ (21 ديسمبر 1235م) متوجها إلى ميناء سبتة. ويسجل لنا إبن عبد الملك طريق رحلته إلى المشرق مع ذكر المواضع التي مربها في طريقه على النحو التالي :
ـ كان توجهه من سبتة عائداً إلى الأندلس في السابع من محرم 634هـ (10 سبتمبر 1236م) فنزل بمالقة Malaga، ومنها إلى المنكب Almunecar، في إلى المرية Almerià، إلى قرطاجة Cartagena، إلى لقنت Alicante، ومن هذا الميناء إلى جزيرة يابسة Ibiza وهي صغرى الجزائر الشرقية (جزر البليار Islas Baleares)، ومنها إلى ميورقة Mallorcaكبرى هذه الجزر، واستغرقت هذه الرحلة ستة عشر يوماً. والملاحظ أن جزيرتي ميورقة ويابسة كانتا قد زال عنهما سلطان المسلمين في تلك الآونة إذا ستولى عليهما ملك أرغون خايمي الفاتح مابين سنتي 626 هـ و633هـ (1229م ـ 1235).
ويتوجه أبو مروان بعد ذلك بطريق البحر أيضاً من ميورقة إلى جزيرة قبريرة Cabrera في 23 محرم سنة 634هـ (26 سبتمبر 1236م)، وهي جزيرة صخرية من أصغر جزر البليار، إذ تبلغ مساحتها20 كيلومتراً مربعاً، فلايبقى بها إلا يوماً واحداً يستقل بعده سفينة مسيحية تتوجه به إلى مرسى سردانية Cerdagne الفرنسية الذي يصل إليه في الرابع من صفر، ثم يقلع منه في السادس من هذا الشهر (9 أكتوبر) إلى جزيرة صقلية، وتمضي به السفينة من ساحلها، غير أن الريح ردته مرة أخرى إليها، فترسى به في ميناء سرقوسة Siracusa في جنوب الجزيرة في 12 من صفر (15 أكتوبر)، ويظل في هذا المرسى حتى السابع من ربيع الأول (8 نوفمبر ) في انتظار مواتاة الجو لمواصلة الرحلة، ويبدو أن ذلك لم يتهيأ له، فيقرر النزول إلى المدينة في اليوم التالي، ويطول به المقام في هذه المدينة حتى الثامن عشر من جمادى الثانية (17 يناير1237م)، ويقضي في هذا المرفأ الصقلي شهرين وعشرة أيام، ويقرر في اليوم التالي الانتقال إلى المركب للمبيت فيه على مدى يومين، في انتظار مواتاة الريح لاستئناف السفر، ويواصل الرحلة إلى إقريطش (كريت) فيصل إليها بعد ثمانية أيام، ونلاحظ أن جزيرة صقلية كانت آنذاك تحت حكم الملك النورمندي فريدريك الثاني الذي تدعوه مصادرنا العربية >الإنبرور< (أي الإمبراطور)، إذ كان ملكا على ألمانيا وأجزاء كبيرة من إيطاليا، وكان يحسن معاملة رعاياه المسلمين على نحو ما كان عليه أسلافه، ونعرف عنه أنه كان صديقا لملك مصر الأيوني محمد الكامل، وأنه كان متشبعاً بالثقافة العربية، بل كان يحسن هذه اللغة إذ كان معلمه هو قاضي الجزيرة المسلم. ولعل هذا هو السبب في طول إقامة أبي مروان في الجزيرة التي كان كثير من أهلها لا يزالون على ملة الإسلام، أما أقريطش التي وصل إليها في 28 من جمادى الثانية (25 فبراير) فقد كان المسيحيون قد استولوا عليها منذ سنة 350هـ (961م) بعد أن بقيت تحت حكم المسلمين على مدى نحو قرن ونصف قرن منذ أن فتحها الثوار الأندلسيون المطرودون من قرطبة.
ولابد أن جالية من المسلمين كانت لا تزال تقيم في هذه الجزيرة حتى هذا التاريخ. وفي الرابع من رجب (2 مارس) تصل سفينة أبي مروان إلى جزيرة قبرص التي أصبحت معقلاً من معاقل الصليبين. وفي الثامن من رجب يتوجه إلى عكا ميناء فلسطين الذي كان الصليبيون قد استولوا عليه، فيصل إلى هذا المرفأ في الثالث عشر من رجب (12 مارس). ثم يرحل بطريق البر إلى دمشق فيصل إليها في السابع من رمضان (3 مايو)، ولسنا ندري لماذا طالت هذه الرحلة من عكا إلى دمشق حتى استغرقت شهراً وعشرين يوماً مع أن المسافة بين المدينتين لا تتطلب مثل هذه المدة، ولعل أبا مروان توقف قبل وصوله إلى دمشق في مدن أخرى لم يرصدها ابن عبد الملك.
ويقضي أبو مروان في العاصمة الشامية نحو شهر وأسبوع في انتظار الخروج للحج مع الركب الحجيج الشامي، ويتأتى له ذلك في الخامس عشر من شوال (10 يونيه)، فيصل مع هؤلاء الحجاج إلى بصرى، ومنها إلى تيماء، ثم خيبر، وفي المدينة المنورة يقضي يومين قبل مواصلة الرحلة إلى وادي العقيق، فبير علي، فذي الحليفة، وهي تقع على 7 أميال من المدنية، ومنها ميقات أهل المدينة المتأهبين للحج، فيرتدي فيها ملابس الإحرام، ويتوجه منها إلى شعب علي، ثم إلى بدر حيث كان أول انتصار للإسلام على مشركي قريش، ثم إلى رابغ ومنها إلى الجحفة ثم إلى بطن مُرّ من نواحي مكة، ويصل الركب إلى الحرم المكي في الرابع من ذي الحجة (28 يوليه) فينزل بالأبطح بين مكة ومنى، وبعد قضاء فريضة الحج ينزل ضيفاً على إمام المالكية عند باب العمرة.
وكان أبو مروان ينوي العودة عن طريق العراق مع ركب الحجيج العراقي، فإذا بهذا الركب لا يصل في هذه السنة إلى مكة خوفاً من عادية التتار الذين كانت جحافلهم قد اجتاحت العراق قبل ذلك بسنوات وهكذا يقرر التوجه إلى مصر فيخرج من مكة في المحرم 635هـ (أواخر أغسطس 1237م).
ومن مكة يتوجه إلى جدة، ومنها يركب البحر من جديد، فيقطع البحر الأحمر، إلا أن الريح تميل به إلى سُلَق في يوم وليلة، ومنها يسير مصعداً إلى دبادب. وهذان موضعان لم نستطع معرفة موقعهما اليوم من ساحل البحر الأحمر، فيسير مع رفقة العائدين من الحج إلى مرفأ عيذاب عبر صحراء البجاة الذين يصفهم ابن عبد الملك بأنهم نصارى سود. ويقول ياقوت عن عيذاب إنها >بليدة على ضفة بحر القلزم (البحر الأحمر) هي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد<.
أما اليوم فإننا لم نعد نعرف موقع هذا المرسى الذي كان له قدر من الازدهار في ذلك العصر لوقوعه في طريق الحجيج، وفي عيذاب أقام أبو مروان ثمانية وعشرين يوماً، ثم قطع تلك الصحراء في عشرين يوماً متوجها إلى قنا التي كانت ـ كما هي اليوم ـ حاضرة لإحدى كور الصعيد. ونسجل بهذه المناسبة أن مدينة قنا كانت قد شهدت قبل مقدم الشيخ الباجي إليها بنحو نصف قرن وفود أحد الشيوخ المغاربة واستطابته للمقام فيها، ونعني به الرجل الصالح عبد الرحيم بن على بن حجُّون السبتي الذي توفى بها سنة 592هـ (1196م)، وأصبح المسجد المقام على ضريحه أكبر مساجدها. على أن الرحلة من عيذاب إلى قنا لم تخل من أحداث سيئة، فقد تعرضت القافلة التي انتظم فيها أبو مروان لهجوم قوم من النوبة اعترضوا طريقها فسلبوا الرفقة، غير أنهم لم يصابوا بسوء، ومن قنا توجه أبو مروان إلى قوص التي كانت آنذاك عاصمة الصعيد، ومحطة التجار القادمين من عدن واليمن.
و كان الملك الكامل بن محمد العادل الأيوبي سلطان مصر قد توجه إلى دمشق، فوافاه وهو في الطريق الخبر بأنه وصل للحج رجل مغربي فاضل يعرف بالباجي وأثنوا عليه خيراً. وكان شيخ المدرسة الكاملية التي أنشأها السلطان الأيوبي بين القصرين وهو الأندلسي أبو الخطاب عمر بن الحسن ابن دحية الكلبي قد توفي في سنة633هـ، وتلاه أخوه في جمادى الأولى سنة 634هـ (ديسمبر 1236م). وأنه قد تولى مشيخة هذه المدرسة من لا يصلح لها. فأراد الملك الكامل صرف هذه المدرسة وسائر مدارس مصر إلى هذا الرجل الذي سمع من جلة شيوخ دمشق الثناء عليه، فأمر بالبحث عنه في جميع بلاده، وأوصى بالإحسان إليه، وطيَّر الحمام في تقصى أخباره من بلد إلى بلد.
فلم يكد أبو مروان يصل إلى قوص حتى سأل عنه والي المدينة واسمه ابن زغبوش من كان في صحبته من القافلة، وعرف أنه هو المقصود بسؤال الملك الكامل، فسار إليه وبالغ في إكرامه والحفاوة به، وأبلغه برغبة الملك في توليته رياسة مدرسة الحديث بالقاهرة، ودفع إليه خمسين ديناراً مصرية وأثواباً من لباس أهل البلاد من الحرير، فأبى أبو مروان قبول شيء من ذلك، وبعد لأي ومراجعة رد الثياب وقيل الدنانير على كره، فدفعها إلى بعض من كانوا يقومون بخدمته. ويذكر أحد من كانوا في معيته وهو أبو الحجاج الأُبَّدى وكان ممن رافقوه في الحج أنه كان يدعوا الله بأن يقبضه إليه قبل الاجتماع بالملك.
ثم توجه من قو ص في النيل إلى إخميم. ولعل ما حدا به لزيارة هذه المدينة ذكرى ذي النون الإخميمي المصري، ذلك الصوفي الذي كان له تأثير كبير في التصوف الأندلسي. ومن إخميم سار في النيل أيضاً إلى منية ابن الخصيب (المنيا الحالية). ولنذكر أن هذه المدينة هي التي أصبح فيها بعد ذلك بسنوات قليلة مستقر عالم أندلسي آخر هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن فرح القرطبي صاحب التفسير الكبير " الجامع لأحكام القرآن< والمتوفى سنة 671 هـ (1273م). ونزل أبو مروان المدينة قائلا لرفقته إنه كان قد سمع بمسجدها الجامع وإنه يريد الصلاة فيه، وأدى فيه الصلوات. ولما سمع به من كانوا في المسجد أقبلوا عليه محتفين بن وطلبوا إليه أن يبيت عندهم.
فاستجاب لرغبتهم وانصرف في اليوم التالي إلى السفينة وكان قد شعر بالمرض. ثم أقلع من منية ابن الخصيب إلى فسطاط مصر فقطع المسافة في سبعة أيام وقد تزايد به المرض، ولما ورد الفسطاط أراد دخولها خفية حتى لا يشعربه أحد، فدخلها وقت العشاء ونزل منها بخان يدعى خان الملاحين أوخان ابن الرصاص ولم يعلم أحداً بوصوله فأقام به ليلته تلك ويومها. ثم توفى في الليلة التالية.