تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : روسيا والقوة العسكرية.. هل من تحول جيو-استراتيجي؟



مقاوم
08-24-2008, 07:25 AM
روسيا والقوة العسكرية.. هل من تحول جيو-استراتيجي؟
علي حسين باكير

http://qawim.net/exq.gif للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي العام 1989، تعلن روسيا عن موقفها من التطورات الإقليمية والدولية الجارية لاسيما في مناطق نفوذها السابقة عبر استخدام القوة العسكرية بشكل صريح وواضح ضمن إطار صارم وتحديد لخطوط حمراء جديدة.

وفقا لسرعة انطلاق وتطور الأحداث، فمن الصعب القول إنّ روسيا لم تكن تعد للأمر بشكل مسبق. بمعنى آخر، لقد استغلت روسيا التوقيت المناسب للإعلان عن موقفها، وقد بدا جليا أنها لا تخشى أو تتوقع أي تدخل أمريكي أو أوروبي، في حين وقعت جورجيا ضحية عودة روسيا إلى إعلان المواقف الدولية عن طريق القوة العسكرية.

تشير بعض المعطيات إلى أنّ روسيا عملت على نصب فخ لجورجيا عبر "اوسيتيا الجنوبية"، لكنّ حقيقة إذا ما كان ذلك صحيحا أم لا، لا يهم في ظل التطورات التي حصلت لاحقا. ويبدو أنّ روسيا ردّت بالفعل على استقلال كوسوفو في جبهة القوقاز، وخصّصت هذه "الحفلة العسكرية" لرسم خطوط حمر جديدة ولإعلان سلسلة مواقف مستغلّة المعطيات الدولية المواتية لتقول إنّ منطقة القوقاز تقع ضمن إطار نفوذها الاستراتيجي الجيو-سياسي حاليا، وللإعلان رسميا عن أنّ ميزان القوى في المنطقة لصالح روسيا.

تسارع الأحداث:

لقد جاء التدخل الروسي سريعا بعد ساعات من الهجوم الجورجي الذي شن على "اوسيتيا الجنوبية" التي تطالب بالالتحاق بـالاستقلال او الالتحاق بـ"اوسيتيا الشمالية" التابعة لروسيا لاستعادة السيطرة عليها، وبدا انّ هذا الإقليم قد تحالف مع القوات الروسية التي ألحقت هزيمة بالقوات الجورجية دافعة إياها إلى التراجع، حيث انتقل الروس بعدها إلى الهجوم المضاد داخل الأراضي الجورجية من محورين أساسيين: اقليم "اوسيتيا الجنوبية" واقليم "ابخازيا" الانفصالي أيضا الموالي لروسيا، وفرضت حصارا بحريا في البحر الأسود وقصفت المطارات العسكرية لجورجيا وعطلت أنظمة الرادار في المطار الدولي واندفعت داخل الأراضي الجورجية حتى مسافة 60 كلم من العاصمة "تبليسي" منهية بذلك أي فكرة لإمكانية قدوم مساعدات أو تعزيزات عسكرية داخلية أو خارجة لصالح جورجيا وفارضة سياسة الأمر الواقع وشروطها بعد الغزو.

لقد كان توقيت التحرك الروسي غاية في الدقة من ناحية الاستغلال، اذ يبدو أنّ خطأ في الحسابات قد وقع في مكان ما لدى حلفاء جورجيا (الولايات المتّحدة والأوروبيين). فمن غير المنطقي انّ هؤلاء لم يكونوا يعلمون بحجم الحشد الروسي على الحدود مع جورجيا، ومن غير المعقول أيضا القول انّ التحرك الجورجي لاستعادة "اوسيتيا الجنوبية" كان بمعزل عن اطّلاعهم. امّا اذا كانوا يعلمون، فيبدو انّ رهانهم على عدم تحرك الجيش الروسي بناءا على سوابق حصلت في التسعينيات قد فشل. فروسيا كانت تعلم انّ ليس هناك من تداعيات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية لتحركها العسكري، بل هي أظهرت انّ باستطاعتها غزو بلد بالكامل دون أن يكون للولايات المتّحدة أو أوروبا أي رد فعل عملي.
فعلى الصعيد العسكري، كان ميزان القوى الاقليمي لصالح روسيا، وعلى الصعيد الاقتصادي يعلم الجميع انّ روسيا هي المزوّد الأساسي لأوروبا بما تحتاجه من الطاقة (نفط وغاز)، وعلى الصعيد السياسي، فقد كانت روسيا تحمل أوراقا عديدة ليس اقلها الورقة الإيرانية.

معطيات الموقف الأمريكي والأوروبي:

الأوروبيون كانوا قد رفضوا مرارا إرسال قوات حفظ سلام لاستبدال القوات الروسية الموجودة في المناطق العازلة على الحدود بين الطرفين، ولا مصلحة حالية لهم في التدخل بكل تأكيد، فهم لا يريدون أن يضحوا بالعلاقات مع روسيا في ظل سيف "إمدادات الطاقة الروسية" المسلطة على رؤوسهم من جهة، كما انّهم لا يريدون أن يستفزوا الدب الروسي وينعكس ذلك تصعيدا عسكريا دون أن يكون لديهم أي قدرة على اجتراح الحلول أو المواجهة، لذلك فالتحرك الديبلوماسي للملمة الأمور كان الخيار الوحيد الموجود على الطاولة لديهم.

امّا بالنسبة للولايات المتّحدة الأمريكية، فقد كانت روسيا تعي انها غارقة حتى أذنيها في العراق وأفغانستان، ويعاني جيشها استنزافا ماديا ومعنويا وهو متمدد عالميا بشكل يحد من قدرته على التحرك العسكري كما انّه فاقد لقدرته الردعية، وتعاني الولايات المتحدة من وضع اقتصادي سيء وانخفاض كبير في قيمة الدولار، كما أنها بحاجة إلى روسيا في العديد من الملفات الإقليمية والدولية ليس اقلها الملف النووي الإيراني، والاهم من ذلك أنها لن تخاطر بتحرك لاستعادة جورجيا في حين انّ تركيزها الاستراتيجي والحيوي في الخليج العربي.

لكنّ أي مس روسي بخط الأنابيب الاستراتيجي النفطي "باكو-تبليسي" كان ليغيّر المعادلة دافعا إياه باتجاه رد فعل أصلب من الولايات المتّحدة وتحرك عملي مباشر في استعادة لمشهد الحرب الباردة، ولعلّ ذلك ما دفع القيادة الروسية على ما يبدو إلى التأكيد على انّها لا تستهدف خط النفط الاستراتيجي هذا خلال تواجد قواتها في العمق الجورجي.

دوافع التدخل العسكري الروسي:

على الصعيد الاقليمي تريد روسيا القول انّها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام انضمام منظمة دول الاتحاد السوفيتي السابقة الى حلف الناتو بشكل يؤدي الى تهديد المجال الحيوي الروسي، لقد توسع حلف الناتو في مناطق دول الاتحاد السوفيتي السابقة وأصبح يشكّل تهديدا رئيسيا لروسيا، وكانت أوكرانيا الدول الأولى التي تنضم إلى الحلف تبعها انضمام كل من بولندا، تشيكيا وهنغاريا (المجر) في العام 1998، ثم توسع الحلف من جديد ليضم باقي دول الاتحاد السوفيتي السابقة ليس في أوروبا الوسطى فحسب بل في دول البلطيق ، فكان من الطبيعي ان تكون الساحة الجورجية المكان الأفضل لإعلان الموقف الروسي لكونها على الحدود الروسية أولا، ولوقوعها في منطقة القوقاز ثانيا، ولوجود جهود لدى الحكومة بالانضمام إلى حلف الناتو. ولا شك انّ التدخل العسكري الروسي قد أحدث صدمة سيكولوجية لدى دول البلقان والدول السوفيتية السابقة، في الوقت الذي بدا فيه انّ أوكرانيا قادرة على التحدي بعدما أصدرت أوامرها بفرض قيود على الأسطول الروسي الموجود لديها في ميناء "سيفاستوبول" الأوكراني.

امّا الدافع الثاني، فهو الرد العملي على استقلال كوسوفو. فقد عارضت روسيا هذا الاستقلال بشكل قوي لكنّ الولايات المتحدة وأوروبا لم تصغيا جيدا إلى الحنق الروسي، وفي حين كان البعض يراهن على تدخل روسي فاشل كرد على استقلال كوسوفو، جاء الرد قويا وفي المكان والزمان الذي تمتلك فيه روسيا أوراقا رابحة، ولعلها تريد القول انّه إذا كان بالامكان إعلان استقلال كوسوفو بدعم امريكي وأوروبي دون أن يكون لروسيا القدرة على التدخل، فانه سيكون هناك قدرة عاجلا ام آجلا على إعلان استقلال إقليمي "اوسيتيا الجنوبية" و"ابخازيا" وانضمامها إلى روسيا دون أن يكون هناك أي قدرة للولايات المتّحدة وأوروبا على التدخل.

اما الدافع الثالث فهو الاثبات لحلف الناتو انّ خيارات روسيا ستكون مفتوحة حينما يتعلّق الأمر بأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، وانّها مستعدة لخوض معارك عسكرية مع محيطها الاقليمي وحسمها عسكريا اذا تطلّب الأمر ذلك.

ابعد من الحدث:

أما الأهداف البعيدة لهذا التدخل العسكري، فهي تتلخص بإعادة روسيا رسم مجالها الحيوي الجيو-استراتيجي وللقيام بذلك كان عليها القيام بامرين:

اولا: إعادة الاعتبار إلى قوة الجيش الروسي في منطقة نفوذه على الأقل وفي المدى الذي يشكّل تهديدا على امن روسيا القومي. وليس هناك من احد ممكن تحقيق ذلك على حسابه بشكل ممتاز باستثناء جورجيا التي ينظر لها على انها في طور الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، لها دعم أمريكي مباشر، مساعدات أمريكية، مستشارين عسكرين ومدنيين أمريكيين، احتضان أوروبي...الخ، باختصار كانت جورجيا هدفا مثاليا لاستعادة هيبة الجيش الروسي وقدرته العسكرية دون الاضطرار إلى مواجهة خصم من الوزن الثقيل.

ثانيا: انّ الضمانات الأمنية التي تعطيها أمريكا لدول الاتحاد السوفيتي السابقة ليست الاّ كلاما لا يمكن ترجمته على ارض الواضع، ولذلك فقد سعت روسيا إلى ان تفهم هذه الدول الرسالة بشكل قوي لاسيما أوكرانيا وبولند وتشيكيا حيث من المفترض ان تنصب الولايات المتّحدة درعها الصاروخي والذي تنظر روسيا إليه على انه تهديد مباشر لأمنها القومي ويشكل خطرا على امن الدول التي تستضيفه أيضا.

ولا شك أنّ روسيا كانت تضع أيضا أوكرانيا التي تعد أقوى دول الاتحاد السوفيتي السابقة المنضمة إلى حلف الناتو تحت مجهر مراقبة انعكاسات تحركها عليها، فـ 50% من تعداد الشعب الأوكراني يتكلمون اللغة الروسية كلغة أولى، ومن الناحية الاثنية يشكّل الروسي خمس تعداد الاوكرانيين، وهناك جزء من هؤلاء يعارضون منذ زمن انضمام بلادهم إلى حلف الناتو.

تداعيات محتملة:

لا شكّ انه وباندفاع القوات الروسية إلى داخل جورجيا دون تعرضها لأي ردّة فعل قوية أمريكية أو أوروبية، نكون بذلك قد تخطينا التداعيات المباشرة القصيرة الأمد، لكنّ التداعيات المتوسطة والبعيدة الأمد ستكون الأهم ضمن هذا الإطار.

1- تسريع نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في دول الاتحاد السوفيتي السابقة. ويبدو انّ أولى ثمار التدخل العسكري الروسي توصلّ كل من بولندا وأمريكا الى اتّفاق أولي في 14/8/2008 بخصوص الدرع الصاروخي الأمريكي المضاد للصواريخ، رغم انكار كل منهما ان يكون ذلك قد تم نتيجة للتحرك الروسي الاخير. ويقضي الاتفاق بنشر 10 صواريخ اعتراضية مبدئيا، مع العلم انّ بولندا كانت رفضت الاتفاق على ذلك في الشهر السابق، مشترطة المزيد من الضمانات الأمنية على الولايات المتّحدة التي تريد أن تستتبع هذه الخطوة باقامة رادار ضمن المنظومة الدفاعية وذلك في الأراضي التشيكية.

2- الخوف من انه في حال السماح لمثل هذه العملية بأن تتكرر دون ان يكون لها عواقب، فسيكون هناك إطاحة بدول وإنشاء لدول واستعادة عملية لأجواء الحرب الباردة، وتأجيج للتحالفات والانقسامات الاقليمية والدولية.

2- الرد على التحرك الروسي بعزلها اقتصاديا وحرمانها من عضويتها في التجمعات الدولية كمجموعة "الثماني الكبار"، او الرد عمليات بتبني مطالب المجموعات التي تريد الانفصال عن دولة روسيا الاتحادية وهو ما سيكون له تداعيات على المستوى العالمي بأسره.

المؤكد في كل هذا الأمر، انّ هذه الخطوة الروسية العسكرية ضمن الإطار الجيو-استراتيجي، سيتم إعادة تقييمها من قبل مراكز القوة في العالم ولاسيما في الولايات المتّحدة الأمريكية حيث لا تزال مجموعة من المفكرين تعتبر روسيا خطرا على الولايات المتّحدة لا يقل عن خطر الاتحاد السوفيتي وتحدّيا يجب عدم الاكتفاء باحتوائه وإنما الاستعداد لمواجهته في حال تطلّب الأمر ذلك.

http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=3384&Itemid=1