تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : اعتقال كراديتش: انكشاف خيوط جديدة من المؤامرة..



Ghiath
07-27-2008, 05:21 PM
رجل بحياتين.. ووجهين

زملاء وأصدقاء كراديتش يروون لـ «الشرق الأوسط» خبايا شخصية الرجل الذي أدخل أوروبا جحيم العصور الوسطى

سراييفو: عبدالباقي خليفة

«كان يأتي إلينا في بيتنا ويأكل معنا طعامنا ويرافقنا في رحلاتنا كواحد منا، وكانت أمي تناديه بـ(ابني) ولم تكن تعلم أنه سيكون ألد أعداء من كانوا يعتقدون أنه صديق أو بمثابة الابن.. عندما نزلت أول قذيفة على سراييفو في أبريل (نيسان) عام 1992، وكان يوم عيد عندنا، قالت أمي: أعطني الهاتف وسوف اتصل بكراديتش، وبالفعل اتصلت به وهنأها بالعيد. زعم كراديتش خلال حديثه مع امي ان المسلمين يقصفون أنفسهم، فتركت أمي سماعة الهاتف وهي لا تكاد تصدق، ولم تفق من دهشتها إلا بعد فترة طويلة». هكذا يصف الدكتور عصمت تسيريتش صديق كراديتش لـ«الشرق الأوسط» كيف ان الكثيرين لم يصدقوا «ازدواجية شخصية» الرجل الذي لم يظهر من مسيرة حياته الاولى أنه سيكون الرجل الذي سيعيد اوروبا الى العصور الوسطى بارتكابه أعنف مذابح ارتكبت في تاريخ اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. استمر كراديتش في قصف سراييفو التي سقط فيها أكثر من 12 ألف قتيل، منهم 4 آلاف طفل، على وقع نشيده «الخطوات الثابتة» والذي ألفه سنة 1992. ويضيف تسيريتش «لم يكن يظهر تعصبه الفاشي، ولم يكن مبدأيا في مواقفه. البعض من الزملاء استغرب أن يكون لانسان وجهان، لاسيما إذا كان طبيبا، قصف المدن، وأحرق المستشفى الذي عملنا فيه جميعا، وقتل زملاءه في العمل والذين عاش بينهم لمدة 20 سنة». لم يكن رادوفان كراديتش المولود في 19 يونيو (حزيران) عام 1944 يتوقع المصير الذي آل إليه أبوه، عندما ترك قريته، بيتريتسا، في الجبل الأسود، وتوجه إلى سراييفو عام 1960 لدراسة الطب. وتخرج عام 1971 من كلية الطب. (كان «السرائليا» وهم سكان سراييفو، يلقبونه حتى اليوم بـ«التسرنو غوراتس» أي من سكان الجبل الأسود، وبالتالي فهو ليس بوسنيا مثله مثل العديد من سكان البوسنة الصرب والكروات. حتى الجنرال راتكو ملاديتش، المتهم هو الآخر بارتكاب جرائم حرب، ليس بوسنيا، ولم يولد في البوسنة). كان كراديتش في السادسة عشرة من عمره عندما وصل إلى العاصمة البوسنية، تاركا أباه في السجن بتهمة الانتماء إلى منظمة «التشتنيك» الصربية التي تدعو لعيش الصرب في دولة واحدة. واستطاع ذلك الوافد الجديد أن يكسب صداقات الكثير من المسلمين، ويصبح في فترة وجيزة صديقهم المفضل. وبعد تخرجه توجه إلى الولايات المتحدة لإكمال تخصصه في الطب النفسي، ثم عاد إلى سراييفو حيث عمل طبيبا في نادي سراييفو لكرة القدم. ثم عمل في عدد من المؤسسات الطبية منها مستشفى سراييفو حتى مارس (آذار) عام 1977. ثم انتقل في نهاية سنة 1983 وبداية 1984 للعمل في المركز الطبي ببلغراد، وفي نفس الوقت عمل طبيبا نفسيا لنادي «النجمة الحمراء» لكرة القدم هناك. لكن نجمه أفل في بلغراد بعد توجيه اتهامات له في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1984 باختلاس أموال وبناء استراحة له في بالي (15 كيلومترا شرق سراييفو) وحكم عليه بالسجن لمدة 11 شهرا.

لم يعد لكراديتش بعد تلك الفضيحة مقام في بلغراد، التي تعرف فيها على زوجته ليليانا زيلينا كراديتش، التي تعمل هي الأخرى كطبيبة نفسية، فعاد إلى سراييفو لكنه سرعان ما حكم عليه في 26 سبتمبر (ايلول) 1985 بالسجن لمدة 3 سنوات، بتهمة النصب والاحتيال، ثم أطلق سراحه بعد تدخلات من عناصر متنفذة داخل السلطة، وقيل إنها من عناصر التشتنيك التي اخترقت الحزب الشيوعي، ثم سيطرت على يوغسلافيا بعد موت جوزيف بروز تيتو. وعاد كراديتش مرة أخرى إلى بلغراد، التي سرعان ما تركها ليعود إلى سراييفو سنة 1987 . دخل كراديتش الميدان السياسي سنة 1989، وانضم، للحزب الديمقراطي الصربي، وفي يوليو (تموز) 1990 انتخب رئيسا للحزب، حيث رشحه للمنصب 221 عضوا من الجمعية العامة للحزب من أصل 222 عضوا.

كانت الصفات الحادة التي طبعت سلوك كراديتش منذ الستينات، حيث أقدم أثناء مظاهرات للطلبة سنة 1968 على اطلاق النار، وراء اختياره زعيما لصرب البوسنة. يقول البعض إن كراديتش لم يكن قوميا متطرفا إلا بعد أن أصبح سياسيا، فرئيسا للحزب الديمقراطي الصربي، سنة 1990، ثم رئيسا لما عرف باسم جمهورية صرب البوسنة طيلة فترة الحرب بين اعوام 1992 و1995 ، وقائدا أعلى للقوات المسلحة الصربية في نفس الوقت. لكن البعض الآخر يعتقد أن كراديتش ولد فاشيا، وزاد سجن والده من تطرفه الذي نما معه كالسرطان.

ويقول الكاتب ماركو فيشوفيتش لـ«الشرق الأوسط»: «أذكر جيدا ما قاله بعض عناصر الشرطة في بداية الحرب لكراديتش من أن بعض القادة المسلمين لا يرغبون في حمل العناصر الصربية للسلاح، فرد عليهم: اقتلوهم جميعا». وتابع: «كراديتش كان مسؤولا عن كل شيء». فقد كان الرجل الاول في الحزب الديمقرطي الصربي، والمسؤول عن الاذاعة والتلفزيون، وجمعية الصليب الاحمر، لدى صرب البوسنة، والقوات المسلحة الصربية. عندما هدد في أبريل (نيسان) سنة 1991 بإبادة المسلمين إذا اندلعت الحرب في البوسنة، لم يصدقه الكثيرون. كان البوشناق واضحين في موقفهم «إما أن تعود يوغسلافيا موحدة أو نصبح دولة مستقلة مثل بقية الجمهوريات» ولم يكن قرارا منفردا بل بعد استفتاء أيده أكثر من 60 في المائة من سكان البوسنة. سالت دماء كثيرة في البوسنة، في سراييفو، وفي جوراجدة، وفي بيهاتش، وفي موستار، وفي توزلا ، وبريتشكو، وبريدور، وزفورنيك، وسريبرينتسا، وفي كل البلاد. وبلغ عديد الضحايا في السنة الاولى للحرب عشرات الآلاف وهجر نحو مليون ولاسيما من شرق البوسنة، وقتل في سريبرينتسا قبل مجزرة يوليو (تموز) 1995 أكثر من ثلاثة ألف نسمة. في سنة 1993 أقيمت محكمة جرائم الحرب في لاهاي ووجهت تهما لـ 161 شخصا على رأسهم كراديتش، لكن المذابح استمرت على يد كراديتش، وكان أكبرها مجزرة سريبرينتسا في 11 يوليو (تموز) 1995 والتي سقط فيها أكثر من 10 آلاف نسمة. وفي 25 يوليو (تموز) 1995 وجهت محكمة جرائم الحرب في لاهاي، أول الاتهامات لرادوفان كراديتش بارتكاب جرائم إبادة، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم حرب، قسمتها على 16 نقطة أو اتهاما. ثم وجهت محكمة لاهاي إلى كراديتش في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 اتهامات جديدة، من 20 نقطة، عندها بلغ عديد ضحايا كراديتش أكثر من 200 ألف نسمة، ودمرت آلياته العسكرية نحو 90 في المائة من البنية التحتية للبوسنة، واغتصبت ميليشياته أكثر من 30 ألف امرأة. وفي 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 تم توقيع اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب، كما أنهت النفوذ السياسي لكراديتش. لقد كان ذلك بمثابة النهاية السياسية لكراديتش فقد اختفى عن الانظار وكانت آخر صورة التقطت له في هان بياسكا، في يوليو سنة 1996. وكان لتنازل رادوفان كراديتش، أو إجباره بالأحرى على الاستقالة، مدعاة لإثارة الكثير من التخمينات الصحافية والشعبية وحتى السياسية، والتي اتخذت طابع اليقينيات لدى البعض، ومن ذلك ما سبق ذكره، وهو أن كراديتش، عقد صفقة مع السفير الأميركي الأسبق في الأمم المتحدة ريتشارد هلبروك. بل أن شقيق كراديتش، فوك، ردد مرارا أن ردوفان وقع مع هلبروك على وثيقة تقضي بمقايضة السلطة والعمل السياسي بعدم تتبعه قضائيا. وزاد اختفاء كراديتش وعدم القبض عليه من قبل قوات حلف شمال الأطلسي سنتي 1995 و 1996 رغم مرور موكبه قرب ثكناتهم ودورياتهم العسكرية من تلك الشكوك التي اتخذت طابع الحقائق لدى البعض. وهناك من أكد إلى جانب فوك كراديتش وجود اتفاق بين زعيم صرب البوسنة السابق وهلبروك، ومن بينهم السفير الصربي السابق في موسكو تودور دودينا، لكن المسؤولين الاميركيين نفوا بشدة وجود مثل هذا الاتفاق.

والحقيقة هي أن ريتشارد هلبروك ساهم من حيث يدري أو لا يدري، في رسم ذلك الانطباع، ففي 19 يوليو (تموز) 1996 صرح لوسائل الاعلام بأن ردوفان كراديتش، قبل ترك وظيفته كرئيس لصرب البوسنة وكذلك ترك العمل السياسي وقال «من المؤكد أن كراديتش أنهى حياته السياسية». والسؤال الذي ظل بدون إجابة حتى إلقاء القبض على كراديتش يوم الاثنين 21 يوليو (تموز) 2008، هو ما الثمن الذي قبضه كراديتش مقابل تنازله عن السلطة بل العمل السياسي برمته ؟! الجواب جاء على وجه السرعة من البوشناق المسلمين الذين أكد الكثير منهم لـ «الشرق الأوسط» من بينهم الدكتور أسعد دوراكوفيتش عميد كلية الفلسفة في سراييفو، وهو أن إبعاد كراديتش كان «يهدف لمحاولة إلصاق جرائم الحرب بأشخاص معدودين، والتبرئ من تهمة جرائم الإبادة التي كانت مشروعا شاملا، اشترك فيه الساسة والخبراء والعسكريون والمنظمات التشتنيكية». وبالفعل فقد قام «الحزب الديمقراطي الصربي» في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2001 بشطب عضوية جميع المتهمين بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك رادوفان كراديتش، وكانت تلك خطوة ، كما يقول المراقبون، شكلية، لان كراديتش استقال من الحزب قبل ذلك. لم ينه اختباء كراديتش المشكلة، فقد ظلت تهم ارتكاب جرائم حرب تلاحقه في مخابئه، وظلت محكمة جرائم الحرب في لاهاي تطالب باعتقاله، وأدت الضغوط القانونية والاعلامية على السياسيين في الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، إلى قيام قوات حلف شمال الأطلسي، سي فور، ومن ثم القوات الاوروبية، يوفور، بمداهمات وعمليات تفتيش واسعة، وصفت بـ( الاعلامية ) بحثا عن كراديتش وبقية المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن جائزة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود لاعتقال كراديتش. وذلك لتبديد الشائعات التي تحدثت عن وجود صفقة بين كراديتش وهلبروك تقضي باختباء كراديتش مقابل عدم اعتقاله ومحاكمته. كما تزامن ذلك مع وجود دلائل تفيد بأن حكومة الحكم الذاتي في بنيالوكا والتي يهيمن عليها الصرب ويشترك فيها البوشناق والكروات تقدم الدعم المادي واللوجستي لكراديتش، إضافة للاحزاب الصربية وفي مقدمتها «الحزب الديمقراطي الصربي»، مما حدا بالمبعوث الدولي الأسبق إلى البوسنة بيدي اشداون إلى وضع نصف أعضاء حكومة صرب البوسنة في القائمة السوداء. لكن ذلك لم يفض إلى شيء، بل أن أنباء صدور رواية لكراديتش، وكتاب للأطفال، كانت تغطي على كل الحراك السياسي والأمني الهادف لاعتقال كراديتش. وأخيرا كشف اللثام وبعد اعتقال كراديتش في بلغراد يوم الاثنين الماضي، عن الحركة المضادة التي قامت بها الاستخبارات الصربية لعرقلة اعتقال كراديتش والالتفاف على الجائزة الاميركية. وتبين أن الاستخبارات الصربية، زودت كراديتش في نفس السنة (1998) بهوية مزورة تحمل اسم دراغن دافيد دابيتش. وكان عندما يسأل عن شهادته يقول بقيت عند مطلقتي في أميركا. ولم يكن يرغب في الحديث عن تفاصيل حياته ومكان دراسته أو عمله السابق.

في تلك الأثناء تواصلت مطالبات المحكمة الدولية باعتقال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي مقدمتهم كراديتش وملاديتش، وفي 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2002 أكدت محكمة لاهاي التهم الموجهة إلى كراديتش. ووصفت المدعية العامة السابقة لدى محكمة لاهاي كارلا ديل بونتي ، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2005 ، كراديتش وبقية المتهمين الفارين بالفئران « 10 سنوات ونحن نلعب معهم لعبة القط والفأر ، القط هو المجتمع الدولي الذي يفرك عينيه هنا وهناك والفئران هم المتهمون بارتكاب جرائم حرب وهم يتنقلون بين هذا الجحر وذاك».

وقد بلغت الضغوط أوجها في يوليو (تموز) 2005 عندما قامت القوات الدولية باعتقال نجل زعيم صرب البوسنة سابقا، ساشا كراديتش، حيث ظل مسجونا لمدة 10 أيام، قال إنه تعرض لضغوط نفسية كبيرة وللتعذيب. ورد كراديتش على ذلك في أبريل (نيسان) 2006 بطبع كتاب في بلغراد يضم الحوارات التي أجريت معه أثناء الحرب عندما كان رئيسا لصرب البوسنة وقائدا أعلى لميليشياتهم المسلحة المدعومة من بلغراد والتي ستكون ضمن ملفات الاتهام في محكمة لاهاي. في 2007 وعلى إثر ازدياد الضغوط على صرب البوسنة ولاسيما أسرته في بالي، بدأ الحديث في الكواليس ووسائل الاعلام وعبر تصريحات المسؤولين في محكمة لاهاي بأن كراديتش موجود في صربيا، وتقوم بمساعدته شخصيات متنفذة في بنيالوكا البوسنية وبلغراد. وهناك كان زعيم صرب البوسنة سابقا رادوفان يمارس عمله كطبيب فيما يعرف بالطب البديل، متواريا خلف لحية بيضاء كثة، وهوية مزيفة تحمل اسم دراغن دافيد دابيتش، وزوجة أجمل من زوجته ليليانا، وأصغر سنا، عاش معها 13 عاما. وتبين أن زوجته ليليانا كانت تعلم بذلك، مما حملها على توجيه نداء له للاستسلام في 28 يوليو (تموز) سنة 2005، فسجن الزوج أحب إليها من ضرة في ظل ثقافة النفاق الاجتماعي وما هو أبعد من ذلك. كان كراديتش يعمل في وضح النهار في كلينيك، ويلتقي بالناس، ويتواصل معهم عبر شبكة الانترنت، حيث له موقع على الشبكة. وقد فوجئ رواد مقهى «لودا كوتشا» وتعني «البيت المجنون» كيف عاشوا مع متهم بارتكاب جرائم حرب لمدة 13 سنة بدون أن يكشفوا هويته الحقيقية. وقال ميروسلاف أحد رواد المقهى لـ«الشرق الأوسط»: «كان كراديتش هادئا، ويعلق على الأحداث بمنطق المطلع، وغالبا ما كان يعزف لرواد المقهى بدون أن يعرفه أحد». وحول عمله كطبيب قال «لم يكن معه ما يثبت ذلك سوى خبرته، وكان يقول إن شهاداته بقيت مع زوجته في أميركا وأنه مطلق، كما كان يذكر أن له ابنا وبنتا لكنه لم يكن يذكر اسميهما ولم يكن يحب الخوض في تفاصيل حياته».

زوجته الثانية تدعى ميلا، في الثلاثينات من عمرها، جميلة ودائمة الابتسام، قالت إنها هي التي كانت تؤمن حركة سير كراديتش، وليست ميليشيات أو قوات خاصة كما كانت وسائل الاعلام تتحدث وتثرثر طيلة 13 سنة، على حد قولها «بعد عشرات الآلاف من المقاتلين وعشرات الوزراء وموظفي البروتوكول، والخدم، لم يبق حول كراديتش سوى إمرأة».

وفي ردها على سؤال حول أسباب ارتداد كراديتش لمقهى «لودا كوتشا» وليس أي مقهى آخر قالت «لأن صاحبها من عناصر الميليشيات السابقة، ذهب من بلغراد إلى البوسنة للقتال في صفوف القوات الصربية، ويعلق صورة الجنرال ملاديتش عند الاستقبال». وقالت إنها كانت مثل صديقة أو مساعدة أكثر منها زوجة. وذكرت أن «كراديتش كان يشكو من كوابيس فظيعة، أثرت عليه كثيرا، وأنه غالبا ما يقوم من الفراش مذعورا، وهو يتصبب عرقا» وحول كوابيس كراديتش أفادت بأنه «يرى أناسا يحملون فؤسا يريدون قطع رأسه» وعن حياتها معه وأهم ما لاحظته في سلوكه قالت «كان كثيرا ما يعاني من شرود الذهن، وأكلمه فلا يسمع». وقال صاحب بقالة قريبة من منزل كراديتش لـ«الشرق الأوسط» امتنع عن ذكر اسمه «لم يكن دراغن دافيد دبيتش (كراديتش) يسرف في الشراء، بيد أنه يشتري يوميا 5 ليترات من الماء والفواكه وبعض الخضار. وعند سؤاله عن سر اللحية والشعر الطويل كان يجيب إنها تعطيني قوة للاستمرار».
وفي 21 يوليو (تموز) أعلن مكتب الرئيس الصربي بوريس طاديتش عن اعتقال ردوفان كراديتش، وهو نبأ هز الجميع وأحدث ردود أفعال كثيرة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية، وتنفس الكثيرون الصعداء ولا سيما أهالي الضحايا، بينما حبس الكثير من الصرب أنفاسهم لسماع الخبر، ووصف بعضهم عملية الاعتقال بـ«التراجيديا». وقال أحد صرب شرق سراييفو ويدعى فويكو لـ«الشرق الأوسط» ان «كراديتش في قلب كل صربي» لكنه لم يجب عما إذا كان في قلب من اعتقلوه. وكان من بين الذين أطربهم النبأ ريتشارد هلبروك الذي مثل اعتقال كراديتش صك براءته من تهمة عقد صفقة معه حيث قال «اعتقال كراديتش مهم لصربيا ولعلاقتها مع الغرب، وهذه خطوة كبيرة لتقدم صربيا وتحقيق رغبتها في الاندماج في الشراكة الأوروأطلسية». وأشار هلبروك الذي نفى في وقت سابق وتحديدا في الذكرى العاشرة لمذبحة سريبرينتسا سنة 2005 عقده صفقة مع كراديتش يتم بموجبها اعتزال كراديتش السياسة مقابل عدم تتبعه قضائيا «الجنرال راتكو ملاديتش لا يزال حرا ولكن اعتقال كراديتش أحد أهم مطلوبين مهم جدا». ووصف «كراديتش بأنه أسامة بن لادن أوروبا» الذي «ظل هاربا لمدة 13 سنة» واعتبر كراديتش أخطر من ميلوشيفيتش «في رأيي كراديتش أخطر من ميلوسيفيتش، وهو بمثابة روبن هود بالنسبة لصرب البوسنة» ووصف الرئيس الصربي بالشجاع «فقد قتل رئيس وزراء صربيا الاسبق زوران دجنجيتش لانه سلم الرئيس الاسبق سلوبودن ميلوشيفيتش».

ولا يعرف تحديدا السبب الحقيقي وراء اعتقال كراديتش، هل هي الرغبة في الانضمام للاتحاد الاوروبي، أم تصفية صراعات داخلية لاضعاف الراديكاليين، وتوجيه رسالة لصرب البوسنة تحذرهم من نفس المصير، أم كل ذلك جميعا، لاسيما أن هناك أنباء تحدثت عن أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية كشفت هوية كراديتش وطلبت اعتقاله بينما قالت مصادر الاستخبارات الصربية إن الجهات الامنية سجلت مكالمة لكراديتش مع ابنه ساش قبل شهرين، حيث تحدث إليه باسم دراغن دافيد دابيتش، وإنها تابعت الخيط حتى تمكنت من اعتقاله. أعتقل كراديتش لكن هذا ليس إلا بداية لفصل آخر من الرواية الطويلة السوداء، ففي محكمة لاهاي ستتكشف جوانب أخرى من هذه الفترة المظلمة في تاريخ اوروبا، وجوانب مظلمة من شخصية الرجل الذي حير بتناقضاته الجميع.

Ghiath
07-27-2008, 05:24 PM
اعتقال كاراديتش والتطهير العرقي في البوسنة





( وأخيرا وقع في الفخ)..لعل هذا القول قد تردد كثيرًا في جميع أنحاء العالم، بعد إعلان الرئاسة الصربية القبض على زعيم حرب البوسنة رادوفان كاراديتش بعد أكثر من عشرة أعوام من المطاردة من قِبَلِ قوات حلف الناتو والعديد من أجهزة استخبارات العالم والشرطة الصربية، منذ مغادرته السلطة كزعيم لصرب البوسنة بين عامي 95:92، وهي سنوات شهدت أبشع جرائم التطهير العرقي في تاريخ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ارتكبها كاراديتش والقائد العسكري الجنرال رانكو ميلاديتش في معظم مدن البوسنة والهرسك، وفي مقدمتها سربنيتسا. عملية إلقاء القبض على زعيم صرب البوسنة السابق بعد سنوات من الاختفاء صاحبها تداعيات عديدة، أهمها- للوهلة الأولى- أنها أعادت إلى الأذهان صورة أسر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بذقنه الطويلة، وهيئته الرثة، إبان قيام طبيب المارينز بالكشف الطبي عليه، وهو المشهد الذي تكرر بنفس السيناريو مع كاراديتش، والذي أمعن في التخفي بتغيير هيئته وإطلاق لحيته بشكل يصعب معه اكتشافه بحسب الرواية الرسمية لبيان الرئاسة الصربية .
وأيًّا كانت الظروف التي تم فيها إلقاء القبض على كاراديتش، فإن هناك يقينًا لدى عدد من المراقبين أنها تمت قبل مدة، ولم تكن عمليةً صربيةً خالصةً، بل شاركت فيها أجهزة استخبارات غربية تنشط في صربيا، وأغلب بلدان منطقة البلقان لاسيما وأن القبض على زعيم صرب البوسنة السابق جاءت بعد فترة من تشكيل حكومة صربية يهيمن عليها الموالون للغرب، والتقارب منه، ومن ثَمّ الانضمام للاتحاد الأوروبي، وكسر طوق العزلة الدولية على صربيا منذ انهيار يوغوسلافيا السابقة عام 1992، وهى العزلة التي خسرت بسببها صربيا الكثير سياسيًّا واقتصاديًّا.

شكوك وصفقات

ومما يزيد من الشكوك حول تورط أجهزة استخبارات غربية في عملية اعتقال كاراديتش مواكبتها لتشكيل حكومة صربية موالية بقوة للغرب- رغم مشاركة الحزب الذي أسسه الزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش- تخلو من مشاركة القوميين أو الاتجاه الراديكالي، وهو ما يكشف أن عملية اعتقال كاراديتش قد تمت بعد رفع الحماية عنه من قِبَلِ أجهزة الأمن الصربية، والتي يبدو أنها كانت على علم بتحركاته منذ فترة طويلة.
(وبحسب المعلومات الواردة فإن هناك تَوَافُقًا مُؤَكَّدًا بين الحزبين الْمُشَارِكَيْنِ في حكومة بلجراد الائتلافية على العملية الأخيرة، وربما أُبْرِمَتْ صفقة يعود بموجبها حزب ميلوسوفيتش الاشتراكي إلى واجهة المشهد السياسي الصربي بعد سنوات الملاحقة والتهميش منذ الإطاحة بزعيمهم عام 2000؛ لذا فمن البديهي التأكيد على أن رفع حزب ميلوسوفيتش الحماية عن حليفهم السابق قد مَهَّدَ الطريق لاعتقاله في أحد ضواحي بلجراد عندما كان متخفيا، ويقوم بدور متخصص في الطب البديل -حسب الرواية الرسمية-، لاسيما مع شغل زعيم الحزب الاشتراكي منصب وزير الداخلية، وسيطرته على الأجهزة الأمنية المختلفة التي نَجَحَتْ فيما أخفقت فيه قوات الناتو لسنوات .

قلب الطاولة

ويعزز من هذا الطرح أن حكومة الرئيس بوريس تاديتش ما كانت تجرؤ على القيام بهذه العملية دون إبرام صفقة مع حزب ميلوسوفيتش الذي كان يمكنه قلب الطاولة وخلق أزمة سياسية شديدة قد تفتح الباب أمام تشكيل حكومة يسيطر عليها القوميون والراديكاليون الصرب، يعيد خلط الأوراق- ومعها احتمالات انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي- للمربع الأول.
وإذا كانت تداعيات الحادث قد أكّدت وجود صفقةٍ ذات أبعاد داخلية معقدة، فإن البعد الخارجي واضح جدا، فحكام بلجراد سعوا لتحقيق عديد من الأهداف منذ عملية اعتقال كاراديتش، من بينها تأكيد التزامهم بالوعود التي قدموها، بالتعاون غير المشروط مع محكمة الجزاء الدولية في هولندا، والتي يُحَاكَمُ أمامها العديد من زعماء الصرب والكروات ومسلمي البوسنة، وهو التزام يفتح الأبواب المغلقة لتفعيل اتفاقية التعاون والشراكة المبرمة بين بلجراد وبروكسل من ناحية، وصولًا إلى انضمام صربيا الكامل للاتحاد الأوروبي.

خطب ود أوروبا
وطبقا لهذه القراءة فإن ساسة صربيا حاليا غير مستعدين للدخول في مواجهة مع واشنطن والاتحاد الأوروبي من خلال حمايتهم لكاراديتش، والذي تحول إلى كارت محروق منذ سنوات، ومن ثَمَّ فإن من المفيد لصربيا التخلص منه، والحصول على ثمن مناسب له- لن يكون بحسب تحليلات عديدة الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي تحتاج صربيا لتنازلات عديدة من أجل دخوله- لن تكون أقلّ من الإقرار باستقلال كوسوفو، والعمل على تسريع عملية اعتقال القائد العسكري السابق لصرب البوسنة راتكوملاديتش، وقوران هازيتش المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد الكروات في مدينة قوكافار، وقبل حصول هذه التطورات فإن بلجراد بعيدة كثيرًا عن بروكسل، رغم وسائل الإطراء والإشادة التي حصلت عليها.
أهداف صربيا من اعتقال زعيم حرب البوسنة للاهاي لن تقف عند الدخول للاتحاد الأوروبي بعد سعي صربيا لتخفيف هذه الضغوط الدولية الخاصة بإقليم كوسوفا، والراغبة في تخفيف بلجراد من معارضتها لاستقلاله، والكف عن محاولاتها مطالبة دول العالم بعدم الاعتراف باستقلاله، بدعم لا محدود من حليفتها موسكو، لذا فقد سعت بلجراد للتنصل من هذه الضغوط -ولو مُؤَقَّتًا- وكسر طوق العزلة الدولية، وتمهيد الأجواء لتلقيها معونات دولية لإنقاذ اقتصادها المتداعي، والذي يُعَدُّ الأكثر تَخَلُّفًا بين الاقتصاديات الأوروبية. وإذا كان خبر اعتقال كاراديتش قد حظي بارتياح شديد بين مسلمي البوسنة والهرسك الذين خرجوا في تظاهرات احتفالية بهذه المناسبة، فإن تداعيات اعتقال عراب مذبحة سربرنيتسا والمسئول عن مقتل آلاف المدنين البوسنويين خلال الحرب لن تكون ذات قيمة؛ فكاراديتش، ومن قبله حليفه ميلوسوفيتش- رغم غيابهما عن الساحة منذ سنوات- إلا أن مشروعهما حول سياسة التطهير العرقي في البوسنة مازال مستمرا، ويحظى بإجماع بين ساسة بلجراد وأجهزتها الأمنية، والتي تضع العراقيل أمام تنفيذ البند الثامن عشر من اتفاق دايتون، والخاص بعودة اللاجئين البوسنويين إلى قراهم، والاحتفاظ بحق التعويض .

التطهير العرقي
ولكن المتتبع للأوضاع في البوسنة يلحظ أن مشروع كاراديتش في هذا المجال يُحَقِّق نجاحًا ساحقًا، فاللاجئون المسلمون الذين هربوا من جحيم التطهير العرقي لم يعودوا إلى قراهم ذات الأغلبية الصربية إلا بنسبة 8%، رغم أن زعيم صرب البوسنة المعتقل كان يرفع نسبة العودة لـ10%، وهو ما يقدم أبرز دليل على وجود إجماع بين ساسة الصرب سواء الموالين للغرب أو الراديكاليين والقوميين على هذا المشروع، ومن ثَمَّ فإن عملية اعتقال كاراديتش تبدو معنويةً أكثر منها ذات تأثير على أوضاع مسلمي البوسنة، فالجرائم التي وقعت قي صفوف المسلمين لم تُقَيَّدْ ضد مجهول، بل سيحاسب من اقترفوها أو شاركوا فيها أمام العدالة الدولية كتأكيد كذلك على أن دماء الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لتحرير البوسنة واستقلالها لم تذهب هباء، وبل سيتم معاقبة من اقترفوها، وفضح المخطط الغربي، وليس إغلاق ملف الحرب في البوسنة- كما تسعى لذلك بلجراد-، فالملف سيظل مفتوحًا ما دامت سياسة التطهير العرقي قائمة، وما دام الكيان البوسنوي هشًّا ومُعَرَّضًا للانهيار في أي لحظة.
وإذا كنا قد تطرقنا في السطور السابقة للتداعيات الخاصة باعتقال كاراديتش، فمن الضروري التأكيد على وجود أبعاد دولية، ولعبة مصالح وراء هذه العملية، فالتزامن الغريب بين عملية اعتقال كاراديتش والمُذَكِّرة التي تقدم بها المدعي العام للمحكمة الدولية أوكامبو لاعتقال الرئيس البشير ليس محض صدفة، رغم سعي الكثيرين للتقليل من أهمية ذلك، فواشنطن تسعي من خلال هذا الأمر لتوجيه رسالة لجميع قادة العالم، ولاسيما بعض الخارجين عن بيت الطاعة الأمريكي، مفادها: أن أحدًا ليس بعيدًا عن سيف العقاب، فضلًا عن التأكيد على أن الملاحقة القضائية لجرائم الحرب ليست قاصرة على العرب والمسلمين، بل تمتد أيضا إلى منطقة البلقان، وإلى زعاماتٍ تورطت في مذابح ضد المسلمين، كمن يرغب في ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يحسن صورته أمام العالم، ويطوق المعارضة لمحاكمة البشير، ومن ناحية يخفف الضغوط عليه وعلى فشله في العراق وأفغانستان.
وعلى أي الأحوال فإن كاراديتش مهما علت هامته أو ارتقى وزنه السياسي فإنه لا يزيد عن كونه شخصًا تم اعتقاله إلى لاهاي ليواجه مصيره، وهذا الاعتقال لن يؤثر كثيرا على الأوضاع في البلقان، ولن يزيد من لُحْمَة الدولة في البوسنة، ولن يُعِيد آلاف الشهداء الذين سحقتهم آلته العسكرية إلى الحياة مرة أخرى. وقد تقتصر المكاسب من وراء ذلك على حكومة بلجراد، والعديد من القوى الكبرى لتنفيذ أجندات بعينها، وبالتالي فإن مأساة مسلمي البوسنة ستستمر، ومعاناتهم ستستمر، طالما تَبَنَّتْ حكومات بلجراد المتعاقبة سياسة التطهير العرقي في البوسنة، وهي السياسة التي شرّدت مئات الآلاف من البوسنويين في الشتات،" وهو شتات لن تنهيه عملية اعتقال شخص، ولو كان في وزن كاراديتش!

Ghiath
07-27-2008, 05:26 PM
حصاد الإبادة في سريبرينتسا 2008

(شبكة الإسلام اليوم)
سراييفو/ عبد الباقي خليفة
18/7/1429 21/07/2008
تختلف جريمة الإبادة في سريبرينتسا التي ارتكبها همج القرن العشرين عن بقية جرائم الإبادة في التاريخ. فهي ليست ذكرى، كما هو الحال مع جرائم الإبادة الأخرى، وإنما واقع يعيشه الضحايا، الأحياء منهم و( الشهداء )، وأسر الشهداء المشتتة داخل البوسنة وخارجها بعد 13 سنة على المجزرة. وفي هذه الذكرى التي توافق 11 يوليو من كل عام، تم إعادة دفن 308 ضحية من ضحايا سريبرينتسا، في مقبرة الشهداء ببلوتتشاري، بعد أداء صلاة الجنازة على الضحايا. وبذلك يبلغ عَدَدُ مَنْ أعيد دفنهم حتى الآن 3215 ضحية. وقد دعا أهالي البوسنة للضحايا بالرحمة والقبول عند وَضْعِ توابيتهم في شاحنات يوم 10 يوليو لإعادة دفنها في بلوتتشاري القريبة من سريبرينتسا؛ حيث مَرّ موكب التوابيت الذي انطلق من فيسوكو (30كيلومتر جنوب سراييفو) بعدة مدن وقرى من بينها سراييفو التي اصطف الكثير من المسلمين على حافتي الطريق، بينهم الرئيس حارث سيلاجيتش، لإلقاء نظرة على الموكب، والدعاء للضحايا، وتذكر ما جرى للمسلمين في تسعينيات الإبادة. وكان المسلمون في البوسنة قد أحيوا يوم 31 مارس الماضي ذكرى مرور 5 سنوات على إعادة دفن أول ضحايا سريبرينتسا، والذين تجاوز عددهم 10 آلاف ضحية. وسيبلغ عدد من تمت إعادة دفنهم حتى 11 يوليو 2008 م 3215 ضحية؛ حيث يتم إعادة دفن مجموعات من الضحايا في ذكرى الإبادة الجماعية التي تعرّض لها سكان سريبرينتسا المسلمون على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي. وذلك بعد أن تم سحب أسلحة أهلها المتواضعة بذريعة إدخالها في المناطق التي أعلنتها الأمم المتحدة في ذلك الحين(آمنة)! مما عرّض الآلاف للقتل على أيدي القوات والمليشيات الصربية وهم عزل من السلاح. وكان البوشناق المسلمون قد أعادوا في 31 مارس 2003 م دفن 600 ضحية من ضحايا الإبادة في سريبرينتسا في الفترة ما بين 11 و 19 يوليو 1995 م. وقد عثر عليهم داخل مقابر جماعية لا تزال تظهر تِبَاعًا. وقالت إحدى أمهات الشهداء: "لا يزال طيف ابني يرافقني، ولا يزال القتلة ينكرون جريمتهم، ولا تزال سريبرينتسا ضمن اللعبة السياسية الدولية ".وقد خيمتْ أجواء الحزن على البوسنة في ذكرى أكبر مذبحة عرفتها أوربا بعد الحرب العالمية الثانية.
جديد الذكرى 13
بين عام وآخر يطرأ الجديد على قضية الإبادة التي تعرض لها المسلمون في سريبرينتسا؛ حيث لا تزال الحقائق تتكشف، والصراع مستمرًّا، فقد أعربت جمعية " أمهات سريبرينتسا " عن عدم رضاها على تولي "الشرطة الصربية "مهمة توفير الحماية لفعاليات إحياء الذكرى 13 " لان " الشرطة الصربية مشاركةً في جريمة الإبادة " وهو ما حدا بالجهات الرسمية لإدخال تعديلات على الإجرءات الأمنية، وهي توفير قوة أمنية تمثل الجهات الثلاث البوسنية والصربية والدولية، بحكم أن سريبرينتسا تقع في مناطق الحكم الذاتي التي يهيمن عليها صرب البوسنة. وكانت جمعية أمهات سريبرينتسا قد أعربت عن استغرابها لـ(منطق) تولي "القتلة حماية ضحاياهم ". ومن التقاليد التي دأب عليها المسلمون تنظيم "مسيرة الموت "التي انطلقت في موعدها يوم 8 يوليو، وهي تحاكي تلك المسيرة التي قطعها رجال وشباب سريبرينتسا عبر الغابات والأحراش في يوليو 1995 م وهم عزل، في محاولةٍ للنجاة من المجزرة التي تمت تحت أعين الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي! وقد كُتِبَتِ النجاة لأكثر من 2500 شخص تمكنوا من عبور غيابات الموت إلى الحياة، بعد وصولهم إلى الأراضي المحررة آنذاك. وكان ذلك بمثابة حياة جديدة كُتِبَتْ لهم، بينما قضى الآلاف نَحْبَهُمْ رَمْيًا بالرصاص أو الذبح على يد الهمج الصرب. كما تم تنظيم ماراثون درجات هوائية لمسافة 203 كيلومتر يوم 9 يوليو، وظل المشاركون في الماراثون ثلاثة أيام في سريبرينتسا. وتولت "مؤسسة المرحمة" الخيرية في سراييفو، وتوزلا، تكاليف الماراثون والمسيرة. لقد تزايد تأثير "جمعية أمهات سريبرينتسا "وغيرها من المؤسسات والشخصيات السريبرينتسية، نذكر على سبيل المثال تلك الرسالة التي بعثت بها الجمعية إلى نائب المبعوث الدولي، رافي غاريغوريان، بعد لَمْزِهِ المجاهدين وتوجيه اتهامات لهم، مذكرةً إياه بما اقترفته الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والدول الغربية من جرائم في البوسنة، ولاسيما في سريبرينتسا، وسكوته عن المرتزقة الروس واليونانيين والرومانيين الذين شاركوا الصرب في جريمة الإبادة في سريبرينتسا!
أكثر من سريبرينتسا
يحاول البعض، وكذلك جهات دولية معروفة، أن تختزل حرب الإبادة التي استهدفت المسلمين البوسنويين، في مجزرة سريبرينتسا، بينما الإبادة شملت مناطق كثيرة في البلاد، ولا سيما شرق البوسنة: -زفورنيك، ويقدر عديد الضحايا بـ 20 ألف ضحية. -فيشي غراد، ويبلغ عديد الضحايا 3 آلاف ضحية. وهو نفس الرقم في جوراجدة، وبريتشكو شمالا، ويزيد عن ذلك في بيهاتش، بالشمال الغربي، وما يزيد عن 12 ألف ضحية في سراييفو، منهم 4 آلاف طفل. وهكذا تنبع من شقوق كل إقليم هناك إبادة حقيقية، تتحدث عنها الأرقام والسجلات. وسر الاهتمام بسريبرينتسا يتمثل في الوقت القياسي الذي قُتِلَ فيه أكثر من 10 آلاف ضحية خلال 3 أيام! ولا تزال المقابر الجماعية في جميع مناطق البوسنة، ورفات وعظام الضحايا المستخرجة من المقابر الجماعية تروي فظائع تلك الإبادة التي لم تكن في سريبرينتسا لوحدها. فقبل أسابيع قليلة من الذكرى 13 لمجزرة سريبرينتسا، وتحديدًا في 1 يونيو الماضي، أدى مفتي توزلا الشيخ حسين كفازوفيتش صلاة الجنازة على 28 ضحية عُثِرَ عليهم في مقبرةٍ جماعيةٍ بزفورنيك، وكان أصغر الضحايا- ويُدْعَى أمير سليموفيتش- يبلغ من العمر 18 سنة، بينما كان أكبر الضحايا- وهو رامو توسكوفيتش- قد ناهز 86 سنة من عمره عندما قتل، لا لشيء سوى أنه مسلم! وفي 20 يونيو تم معرفة هوية 55 ضحية عُثِرَ عليهم في مقبرة جماعية، بينهم 10 أطفال، وجميعهم من ضحايا سريبرينتسا.وقد تزامن ذلك مع محاكمة مسئولين في الجبل الأسود قاموا بتسليم 16 مسلمًا إلى الصرب في البوسنة لقتلهم. وفي 5 يوليو تم إعادة دفن 47 ضحية من ضحايا الإبادة في بريتشكو. وقد أَمّ رئيس العلماء في البوسنة الدكتور مصطفى تسيريتش المصلين على الضحايا.
الأمم المتحدة وهولندا في قفص الاتهام
لم يكتفِ المسلمون في البوسنة بإدانة الدور المشبوه لكلٍّ من الأمم المتحدة والقوات الهولندية التي كانت تابعة لها في سريبرينتسا فحسب، بل تقدموا بشكوى ضدهما أمام محكمة لاهاي، وذلك لأول مرة، وبعد 13 سنة على جريمة الإبادة. فقد استمعت محكمة لاهاي إلى عددٍ من ضحايا سريبرينتسا الذين يُحمّلون القوات الهولندية التي كانت تعمل تحت راية الأمم المتحدة، مسئولية الإخلال بواجب حماية المدنيين الذين كانوا في عهدتها. وقال أحد مقدمي الدعوى في هذه القضية المرفوعة ضد الدولة الهولندية، ويُدْعَى حسن نوهانوفيتش: إن أمه ووالده وشقيقه وأفرادًا من عائلته طُرِدوا من القاعدة الهولندية، وسُلِّمُوا إلى الصرب من قِبَلِ جنود هولنديين؛ حيث تم قتلهم. حسن الذي كان حينها في السابعة والعشرين من العمر، وكان يعمل مترجمًا للكتيبة الهولندية المكلفة من قِبَل الأمم المتحدة بحماية سربرنيتشا عندما سقطت بيد الصرب. ويؤكد حسن على أن القوات الهولندية طلبت منه أن يخبر الضحايا المسلمين بضرورة مغادرة الجيب الذي لجئوا إليه أملًا بالحصول على حماية من جنود الأمم المتحدة الهولنديين. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت سريبرينتسا منطقة آمنة، وفي ظل تلك الوضعية استولى عليها الصرب. وأكد نوهانوفيتش بأن القوات الهولندية كانت تُدْرِك أن الأشخاص الذين تم طردهم سيتعرضون لخطر الموت، "لكنهم لم يأبهوا لذلك "، وتابع: " الهولنديون أنفسهم كانوا يريدون الرحيل بأسرع وقت ممكن ". وفي الفترة من بين 11 و19 يوليو تم قتل ما يزيد عن 10 آلاف مسلم في سريبرينتسا من قِبَلِ الصرب دون أن يَرِفَّ للغرب جفن. وفي تلك الفترة فُصِلَ الرجال- بما فيهم الأطفال- ( عكس ما رَوَّجَتْهُ بعض وسائل الاعلام الغربية) في منطقة بلوتتشاري أمام أعين الجنود الدوليين الهولنديين الذين لم يحركوا ساكنا. وفي 2002 م استقالت الحكومة الهولندية بعد تحقيقٍ أظهر أنها أرسلت جنودًا في إطار مهمة "مستحيلة" إلى سربرنيتشا. لكن الحكومة الهولندية رفضت تقديم اعتذاراتٍ، مؤكدةً أن قواتها كانت تحت قيادة الأمم المتحدة، وأن صرب البوسنة مسئولون عن المجزرة.. وبِدَوْرِها أقرّت الأمم المتحدة عام 1999 بأنها لم تنفذ مهمتها بحماية المدنيين، لكنها رفضت تحمل المسئولية. وقد اعتبرت محكمة جرائم الحرب في لاهاي ما حصل في سريبرينتسا بأنه مجازر إبادة.وقال سمير غوزين -وهو واحد من نحو 6000 آلاف شخص تقدموا بشكاوى-: " إذا لم تُصدر المحكمة حكمًا لصالحنا فسوف نستأنف الحكم، وإذا رفضت الشكوى ضد الأمم المتحدة فسنقتصر على هولندا ".
انتصار معنوي وفي الذكرى 13 للمجزرة تحقق نصرٌ تاريخي ومعنوي للضحايا؛ حيث برّأت محكمة جرائم الحرب في لاهاي يوم 7 يوليو القائد السابق للجيش البوسني في سريبرينتسا، ناصر أوريتش، من جميع التهم المتعلقة بارتكاب جرائم حرب ضد الصرب سنتي 1992 و 1993 م. وقال القاضي فولفغانغ تشومبورغ أنه " حصلت هناك اعتداءت، بيد أنه لا توجد أدلة على أن ناصر أوروتش كان مُتَوَرِّطًا في تلك الاعتداءت، أو كان قادرًا على منعها أومحاكمة مقترفيها ". وتابع: " الاعتداءات تتعلق بأسرى كانوا في سجنين في الفترة ما بين سبتمبر 1992 ومارس 1993 " وخلص القاضي إلى أن " ناصر أوروتش برئ من جميع التهم المنسوبة إليه وبإمكانه العودة إلى حياته الطبيعية " قال ناصر أورتشيفيتش بعد خروجه من المحكمة ( السجن ) أنه سعيد باطلاق سراحه، وبتأكيد المحكمة على أن " المسلمين في سريبرينتسا لم يرتكبوا أي جرائم حرب ". وأضاف: "كنت واثقا من براءتي، حتى بعد الحكم عليّ سنة 2006 بالسجن لمدة سنتين، وهذا ما دفعني إلى الاستئناف لتحقيق هذه النتيجة السعيدة التي توقعتها" . وحول الذكرى 13 لمذبحة سريبنتسا قال أوروتش: " التوقيت مُهِمٌّ جِدًّا "، وقد حضر أوريتش، كما وعد، الذكرى في سريبرينتس، " للتأكيد بأننا كنا الضحايا وليس الجناة، وأنه لا يمكن المساواة بين الطَّرَفَيْنِ ". وعن إدانة المسئولين الصرب لإطلاق سراحه قال: " عليهم أن يخجلوا من أنفسهم، ويتذكروا مجازر سريبرينتسا، فأيديهم ملوثة بالدماء، ولا يمكنهم رميي بالحجارة "! وبإطلاق سراح أورتشيفيتش يُسْدَلُ الستار على أكثر القضايا المثيرة للجدل في أروقة القضاء، وصفحات الجرائد، والمجالس الخاصة والعامة في يوغسلافيا السابقة؛ لأن المتهم هو قائد الضحايا في سريبرينتسا، وليس الجنرال راتكو ملاديتش، المسئول الأول عن تلك الفظائع، والذي لا يزال طليقا!